بِرَسْم الختام: رماد سيرة

حين تسألني عن سر الغياب، أحسبك تفترض الحضور لازمة تَتردَّد مثل نبرة اللحن في كل حين. تلح في السؤال لماذا من وحي حضور قديم تغيب إلحاح فواته وانطواء ذلك الزمن الذي كان يجمعنا حول الألم؟

تمعن في طلب العودة مثل استجداء طويل ومرير، وكأنك تريد استحضار بداهة احتفظَت دائمًا بصفائها وخِفَّة حضورها. لا تفكر من أين وإلى أين، دَعْكَ من كيف، ولأجل ماذا ينبغي أن ندفع أجسادنا لتقف من جديد كأعمدة الكهرباء، فارعة على طول الشوارع وتُسَمَّى أنا وأنت وآخَر، سواء استَحَقَّت أو ابتَزَّت التسمية.

أحاول أن أسترجع هذا الصوت، صوتك، كمن يدفع يده لينبش في صرة تحتوي خليطًا من أشياء قديمة ليعثر، دون أمل يذكر، على حاجة ضاعت منه ولن يعثر. في هذا الوقت، مثل ما لم يحدث أبدًا، تباعدت يدي عن يدي. والصرة كالعمر، كحياةٍ عاثَ فيها التلف، واحتجت أن أكتب هذا:

أخرج مني كي أراني
أضرب صدري برأسي
كي أحس قليلًا بالوجود.
أو بانعدام الكثافة عمدًا
كيلا أراني.
ربما كنتُ سأُوجَد في هذا الافتراض
عندما أرسم وجهي بشكل الهلام.

ليس جسدي مني، ولا وجهي، لا يدي لتبحث في ضِياعها عمَّا ضاع، ونريده قسرًا أن يعود. هذه ليست صورة في بلاغة، ولا ضربًا آخر من مَساحيق الكلام. افترشناه أزمنة وتهَدَّلت من لحمنا خمائله. يجلس في داخلي من حيث أرى قفصي الصدري حاجزًا بقضبانه بيني وبينه. ليس فصامًا البتة، فهو حقًّا جسدي، على الأقل كما عرفتُه حين حَمَلني أو تَحَمَّلني في ماضٍ لا يستعاد. أنظر، فخلافًا لما تأمل لا استئناف عندي. أنظر فلا أحد يتبعني، ولا ظلي؛ لأن هاوية عميقة تفصلني دون خطوات القادمين.

بذا أنفرد بنفسي لنتواجه، وننظر Sans état d’âme إلى الهيكل العظمي لبعضينا، وقياس طول قامَتَيْنَا ونبصم معًا بهدوء وبرود شديدين على قرار التَّغْيِيب الاختياري لذاكِرَتَيْنا: نداؤك لن يصل، وقبله حروفك ستَتبَعْثر تَبَعثُر أشلاء أُمَّتِك، من حيث بدأت وإلى حيث لم تصل.

أراه مُستقِرًّا بثبات أمامي، في هيئة نحت صلب لرودان، برِقَّة خرساء، كمن يدفع عنه تهمة الوجود في المكان والزمان. لا يتكلم وينطق بإعلان الهَجْر، له أم لي؟ كِلانَا يراوح في اللايدري، فإن درَى آثَر البقاء مُعلِّقًا إلى شعار التَّرقُّب. لا نَكفُّ عن تبادُل النظرات حتى ما ندري أَيُّنا هو الآخَر.

أخشى أن أبوح له يا سليل هواي، وجنون طبعي وارتجاجي الصاعق في المسافات، فألجم لساني، مَعقودًا إلى مَهوى قلبي تهتك بالصبوات، ليتعتق في خمر لغاته — يقيني أنه لن يملك فصاحة هذا الهول العارم.

سأدعوك أنت لتأتي، أما أنا فواقِف أو مُقْعٍ ككلب تحت هذه الشمس العربية الفاضحة، المفضوحة. سأدعوك أنت لتخرق قفص صدرك وتتقدم نحوي فتتسع فسحة النظرة العاشقة، وتوجد كالأول، مثل ما لم يُوجَد بعدُ، مُحلِّقين فوق كل العقائد والمهالك، مُعلنين البدء، هكذا، خذ مثلًا …

لا تتكلم، ومِن صَمْتِك تهدر الألغاز، بينما الحروف ترميها عيناي على الأديم والجدران فأعجز، أعجز مُطلقًا عن تشكيل فسيفساء الخلق المرغوب/المرغوبة. أخشى أن تكون لغتي قد هرمت، فضاق تَنفُّسها في رئتي، وضعف نبضها في قلبي ولذا هجرتني، ستهجرني وتذهب إلى أبَدِها أو إلى سواي. نظرتي اليوم إلى الأشجار مُحايِدة. الألوان التي رأيتُ بالأمس صامتة الآن. الخريف فاتَ. الرَّبِيع حَل، ثم الخريف القادم آتٍ. ربيع هذا العام أخرس. سَمْعي مثله أصمُّ ولساني مَبتور. لغتي أيضًا حروفها متشابهة، ونَبراتُها مُتناظرة؛ ولذا فهي لا تعين ولا توحي. ربما أومأت إلى أوضاع ومَشاهد شاخصة في الفضاء وفي مَرمى البصر.

يقينًا، ربيع باريس لن يغفر لي سلوانه بعد أن عَوَّدته على الغزَل والمداعبة. كَلْبي الجميل والفَطِن «البروفيسور طانغو» لا يفهم ما يجري لنا معًا ونحن نَتجوَّل بِدعَةٍ في «حديقة مارس» كعادتنا كل صَبيحة. أَلِف مِنِّي مناجاة بعض الأغصان، وأن أهمس بكلمة حُنوٍّ إلى برعم سيتَفتَّح، تاركًا له إما التَّبوُّل برشاقة على عشب الحديقة، مُطارَدة حمام يتهادى، وهو يلتقط فتافيت منثورة من أصابع مُتقاعدِين ونساء وحيدات أَزْمَنَّ في التَّرمُّل. لا يرى «طانغو» شيئًا ممَّا أَلِف، فيفلتُ مني مُلاحِقًا زوج حَمَام ربَّما إلى قمة البرج؛ برج إيفل طار إليه بصري، بينما الشيطان قَوَّس عَجِيزته مباعدًا قائمتيه الخلفيتين ليفعلها «ساخنة» عند العمود الجنوبي الشرقي للبرج ويوقعني في ورطة، كالعادة، مع الحارسة المارتنيكية الشَّرِسة.

لا أستطيع أن أتذوق لا من أطاييب النهار، ولا من فاكهة الليل. تفاح سيزان وحده إفطار مناسب لشهية تَشِيخ، لكن ما أبدعه هناك في «المتروبوليتان» النيويوركي، وفتنتهن من الكمثرى والإجاص، الحسناوات، البيضاوات، السمراوات، المتجردات إلا من استدارة الهواء.

عجبًا، فجأةً. كل شيء تولَّى، والمسافة اتَّسعَت أو ضاقت سِيَّان. كل شيء تقريبًا إلا عَراقَة الألم يراودها حَفيف ورق شَجَري مُرَقَّط بما فاتَ مِن الندى، أو سيبقى غدًا من آه غبء عبورنا ما لا يقل ألف مَرَّة جسر IÉNA كي نحرق لحمنا في جهنم شهوتنا، وإثر تَجَمُّد أقدامنا فوق جسر الندم.

عجبًا. لا أقول نعم، لا، قد، أعتقد، لا سِيَّما، شخصيًّا سأهديك، القمر مَهرًا، يَحيا، يسقط، بعبارة أخرى، أُمَّة عربية واحدة، قِفَا نَبْكِ مِن، ذات رسالة، صحتي هي العجب؛ قبل أن يموت البَيَّاتي قرر أن تموت الأشجار واقفة؛ عمر بن جلون أشهد شهيد، في المغرب لا أعرف إلا شجرة توت واحدة وشجرة تِين أخرى في الجبل أعلى غفساي، عجبًا …

في مظاهرة الرباط، بالرباط، من أجل ماذا أو من؟ آه، إذا لم يَخُنِّي الغبن، كانت من أجل تلك … اﻟ… فلسطين. سِرتُ مع الناس، في الناس، كل الناس. لم أحمل لافتة، ولا أغطية، أدوية، أغذية مُهْدَاة من أمريكا إلى السيدة العربية الأولى، في الدولة العربية الأولى، لتهديها إلى أطفال غزة كي يَسمنوا جيدًا ثم تأتي الدبابات الإسرائيلية لتُفْنِيَهم جيدًا. اسمي أيضًا تركتُه في البيت، وحيث وُلِدتُ في صُقْع من أولاد حريز، أيام كان الذكور رجالًا. حريص جدًّا ألَّا أتذكر رغم وجود «المؤسس» إلى جانبي قادمًا للتَّوِّ من جبل ظهر المهراز، حاملًا في صدره بوخزار القديم. بالحنجرة يتوعد صهيون، وبالعينين، رغم الغبن الفاجر، يبكي عبد الناصر. لا أشم شيئًا، أرى فقط ما يكفي لأتَجنَّب العثور في الآخَرِين. هتافات صدئة مثل الصرير لا أسمعها. أنا قديم جدًّا لا أحد يبالي بي، وهذا شيء حسن. كِلانَا (أي مع اللغة العربية) لن يساومنا أحد في الجوطية؛ هذه اللغة إذا أخطأت اليوم في إملائها ونحوها وجهلت بلاغتها وعدمت حسها تصبح أفْحَل شاعر مَخْصِي للعقود القادمة.

في مُظاهرة أخرى قريبًا. ربما في ساحة الباستيل مشيتُ إلى جانب آخَرين، أظن أيضًا من أجل قضية «شمطاء» اسمها فلسطين. لا أسمع، لا أحس، وأعي بقدر الحاجة لركوب المترو. أمس الأول في ساحة «الأوبرا» جاء شباب الضواحي الباريسية، واعْتَلَوا منصَّات نصبوها بحماس، ثم علَّقوا أعلامًا لها ومكبرات صوت انعتق منها صوت فيروز: «بأيدينا سنعيد بهاء القدس …» وقذف زعيم الشباب «شارون» بأقذع الشتائم والأوصاف، والجمهور من جالية المهاجرين يعطي الصدى ويعيد.

جسدي ووجهي واقفان قُبالة هذا الحشد بلا حس ولا حركة. شمع أنا وجليد وهلام. سأذهب وأنا لا أعرف لماذا جئتُ، والأرجح أنني باقٍ معهم دون أن أعرف لماذا أتيت. بحكم العادة ربما بحكم الزمن. القتل المعتاد. النسيان وقد أزمن. الخيانة بعد أن شمخت، تاريخ الأمة في الغبار، لطخة دم واحدة لكي يصبح المحيط عارًا. بعد المبادرة السعودية مبادرتي أن نجمع آلاف الكلمترات من الأكفان لستر عورة الموتى (= الشهداء) القادمين. «… وبأيدينا للقدس سلام». طبعًا، ردَّدت هذا في سِرِّي وإلا لَضرَبوني بالمنجنيق وهم يزمجرون «الغضب الساطع آتٍ … آتٍ … آتٍ …!»

نتبادل النظرات كَرَّةً ثانية، أظنها مُتجدِّدةً بتفاوت. تنظر نحوي غاضبًا بهدوء. أُصوِّب إليك نظرةً وديعةً بغضب. إن لجسدينا المتعدد-الواحد إيقاع المفارَقة، ليس غير بها يحيا، ودون استمرارها لا مَحالة هالِك قبل الأوان.

يا لها الأحاسيس، ومعها الأشياء، تتشاسع أمامي ولا أفعل أي شيء لوقف فداحة ما يحدث، ومنه رؤيتي ناري تخبو وحدها بداخلي، ولا أتكلف دَفْع النَّفَس النَّزْر، للنفخ في جمرة المبتغى (= البقاء/الوهم المُبتغى). بلى، أحاول أحيانًا، أن أختلس النظر إلى شبابي لألمحه يرمقني، من بعيد، بنظرة ماكرة أو ساخرة فتطقطق أعواد خفيفة حولي لتدفئ مساء ندماني، أسقيهم رحيق عمر، وأرى الصبح ينبلج أمامي فأتركه يعبر إلى ضفة أخرى حيث يليق به المقام.

ضفة أخرى، إذن! ليس لي أن أَتعجَّب، فلقد أدمنت الغربة، وصرتُ صنو الرحيل، وإذا استمرَّ «البرابرة» في الهجوم فسأتَحوَّل، أيضًا، وبِصَمْت، مُحتَرِف مُظاهرات. أمس فقط، في فاتح مايو الجديد، كانت فرنسا عن بَكْرَة أبيها على موعد مع بَعْث تاريخها، مع نشيد المرسييز وصحوة الجمهورية. اليوم عُطلة؛ ولذا تَغدَّيْنا ظهيرة الأربعاء بِكَسَل وبلا عَجَل، وعلى شاشة التلفاز ذَكَّرَنا مذيع نهاية النشرة أن المظاهرة التي ستنطلق في الثالثة بعد الظهر من «الربوبليك» إلى ساحة «لانسيون» قد حَشدَت الآلاف منذ الثانية عشر. كنت بين خيارين: إما قيلولة لذيذة في يوم مُشتٍ بسماجة، أو مُرافَقة الروائي التركي أورهان باموك في مَسعاه الغريب داخل «الكتاب الأسود».

من الخَلْف هَمَس في أذني صوت مجهول: وهل نسيتَ الخيار الثالث؛ أي حُبك وموعدك مع الجمهورية، الجمهورية الفرنسية طبعًا؟ فاليوم فرنسا ستتظاهر بأكملها، ليس لعيد العمال وحده ولكن ضد الفاشية، وزعيمها الجديد جان ماري لوبين، وصمة عار الانتخابات الفرنسية الرئاسية لسنة ٢٠٠٢م.

كنت سأندم كثيرًا لو لم أحضر، وعُدتُ فنَدمتُ بعض الشيء لوجودي في هذا المَهْمَه البشري: عشرات الآلاف حقًّا من الشباب والكهول والشيوخ. البَشَر من كل الشعوب والجنسيات، مواطنون، المواطنون بكل النبرات يُدِينُون العنصرية والفاشية، ويَهْتِفون للأخوة، وضد أن يعبر لوبين Le Pen وفلول كراهيته العمياء. أنا مع هذا الهتاف كله، واحد بين الآلاف، ولا أحد معي، أبدًا لا أحد معنا.

جسدي الذي حسبته لِهُنَيْهَة استرجع جسده، ما لَبِث أن انفصل عني، فتَقاذفَتْني الأمواج وأنا أسمع أصداء الهتاف الاضطراري: «شيراك … شيراك!» وأردتُ بدوري أن أهتف من أَجْل الجمهورية فاستحيتُ، ومن أجل زعيم واحد منا فقط، فاحتبست أنفاسي، وتفَكَّكتْ أوصالي، وسحبني زعماؤنا الكبار في الاستهتار من عنقي إلى قرار استبدادهم العميق.

جرَّبْت طويلًا أن أبتعد من أجل أن أقترب أكثر، مني، ومن العالم الذي يغوي حنيني. جرَّبْت الهوى والحياة والموت، اللوعة والحرقة، المرارة والغبن، الشجاعة والغواية، الوطن وأضداده، الأمة وخصيانها، الانتصارات المُؤجَّلة دومًا والهزائم المتكررة باستمرار، الجمال حتى جُنون الألوان والأطياف، رحيق الصداقة العذب، تساقط العزائم في سوق المقايضة، تاريخ يُحوِّله حكام وزُعران إلى مباءة، فرسان تهافتوا في ذل السؤال.

جرَّبْت أن أحب وأحب حتى لا تتسع الأرض لمسافة الأحضان، وأن أرحل وأداوم الرحيل حتى لا بَلَد يَأويني، وأن أهتاج بالشوق ضِرامًا فكل الحرائق مني مُضْرَمة.

فإنْ وصلتَ إلى هذا الحد من القراءة ونَجَوتَ من كلام حسبته ذا لهب، فاعلم أنِّي صرتُ من رماد، فاجمعني وكَلِماتي واخْتَر موقعًا ينفسح فيه عبور نهر السين، وانْثُرنا هناك لنستجير بالماء، عَسانا نُخَصِّبه فينتقلنا أبدًا من ضفة إلى ضفاف.

باريس في ٢ / ٥ / ٢٠٠٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥