شذرات من ذكرى العيطة
جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة عيط:
«عيط: العيط: طول العنق، رجل أَعْيَط وامرأة عَيْطاء طويلة العنق، وفي حديث المُتعة: فانطلقتُ إلى امرأة كأنها بَكْرة عَيطاء، العَيْطاء: الطويلة العنق في اعتدال، وناقة عَيْطاء كذلك، والذَّكَر أَعْيَط، والجمع عِيط.»
قد يسعفني القاموس لإنعاش الذاكرة وإن كنتُ موقنًا بالتجربة، أن الشجن هو الطاقة الولود في مثل هذا الحال، ما هجرني منذ عهد فكيف أسترجعه لأسترجع ذكراها، العيطاء من العيطة أقنع بها وإلا فإن موج السنابل في تلك الشاوية سيغطي الجهات الأربع، وأحذركم، فإن الفتنة، بفيض القلب، سترُجُّ الأرض رجًّا.
كانت «حادَّة» تمسك ذلك الطفل القديم بين يديها، وبالهُوَينَى تضمُّه إلى صدرها الثامر مثل كريمبوش، تعطيه صدرها وقد جاوَز الفطام، وفيما هي تلهث يَتحسَّس هو العنق الأملس المغمور بالسوالف. ثم تأخذُه ثانيةً، تذهب به وتجيء في لعبة الأرجوحة الطائرة، فتَعتريه رعشات غامضة في أطرافه، ودفء لا يعرف له اسمًا بين فخذيه، ولا يفهم شيئًا وهي بين فوق، تحت، هو فوقها وهي تزفر كالمنفاخ وتتأوه، بل يسمع أحأحاتها إلى أن ترميه بعيدًا وتنتشر بجسدها العريض على السداري كتلةً هامدة، هي نفسها تنتقل بعد هُنَيْهات إلى المراح، فأسمعه يهتز على وقْع القدم تحت القدم بإيقاع محسوب، صاعد هابط مع العيطة التي تَشرَّبتُها منذ تلك الطفولة الندية وصِرتُ مع الزمن كلما سمعتُها على استعداد، شأن كل أولاد حريز، رجال الزهو والإباء، أن «أحرق» موسم حصاد كامل في الأشواق: والعياشية! وفي شَتات أيامك يا حادَّة!
في تلك الزنقة التي كان يقع فيها بيتُ المرناني، من المالكين الأوائل للكيران في برشيد، وقريبًا من سينما كاميرا – يا حسرة! — في ذلك الزمان من منتصف الخمسينيَّات، في تلك الدار التي كانت تأوي حَفْلَ عُرْس أو ختان، لم أعُد أذكر، وماذا أذْكُر والقصبةُ وقْتَها كلُّها نشاط وخير عميم. رافقتُ خالي إلى الحفل و هو الذي أغواني خفيةً عن أبي: «سآخذُك معي أيها الشويطن الذي يموت على الشيخات من هذا العمر.» دخلنا إلى الدار تتقدَّمنا خنشة من السكر، ومن الباب سمعنا ترجيع الطعريجة يرافقه صوت يحسك القلب، ونساء فارعات عامرات، قيل هي فرقة من سطات، يغنين كالجَرِيحات وهنَّ فَرِحات، وبين الفينة والأخرى رأيتُهن يلتفِتْن إلى الخلف وهنَّ يُقدِّمن إلى الجوق شيئًا ثم يُعاوِدْن الكَرَّ والفَرَّ على جرة الكمنجة.
استَبْقاني خالي في المراح بين أقراني؛ أي نحن «البزاقيل» الذين كنا نتقردن في تقليد الشيخات ونستمع إلى ترجيعهن في غير فَهْم، هن اللواتي كُن يَفْتِكن بالمُهج أو كما تعلمتُ فيما بعد «يَصرَعْن ذا اللُّب حتى لا حراكَ به.» استَبْقاني عالق السمع والبصر بِعَيْطاء أخرى صورت لي في هيئة «حادَّة» فيما تَسلَّل هو إلى البيت الداخلاني مع عُصبة من رجال أشداء رأيتُ كأسًا واحدة تدور بينهم، بينما ضيوف الخارج كلٌّ بيده كأس اديال أتاي، هم فتية برشيد قلَّ أنْ يجود الزمان بمثلهم، كانوا يخرجون من خلوتهم وأيديهم مَدفوعة أمامهم كالسابحين فتَراهم وهم يَعزِفون يَغرَمون على الشيخة ورَقَة الألف ريال التي كانت تخلع في تلك الأيام، والخالُ يعلق الورقة تلو الأخرى وهو يَتكاتَف ويتفاخَذ مع وردة الشيخات، كان اسمها «الشعيبية» وعلمتُ في الكِبَر أنه كان مولعًا بها إلى حدٍّ … وفيما «هي هي جاية تَصفار وتخضار، هيشادة السالف عالیزار» جاء من يَحتَكُّ بها عَنوة، وهو سلوك مَمْجوح في هذا الطقس، وعند لحريزيين الذين يغتبطون بالنظر لا بالبطر، فرأيتُ الخال من بعيد وهو يصطبر ويُكوِّر قبضته كما يفعل في حال الغضب، ولا أعرف كيف خرج ولا كيف عاد، ولا أذكر إنْ كان هو بالذات أو غيره، وأستعيد الآن الطلقة، كأني أسمعها، صدرَت من مكحلة الصيد ورمَت بالمُستفِز جريحًا من ذراعه على الأرض، وأظنه تحامَل على نفسه وغادر الدار بمساعدة آخَرِين، دون أن يشفق أحد على مصيره بينما بقينا نحن الصغار فاغِرِي الأفواه مُرتعبِين، لا نفهم حقًّا لماذا سال الدم، وسمعتُ أن مَن يفسد العيطة وطقوس مجلسها يُعرِّض نفسه للهلاك، وأما التهلكة فهي لا محالةَ مآلُ العاشق الولهان.
أما خالي فهو في رحمة رب العالمين منذ أسلم الروح في رباط الفتح، تلك، قبل أعوام، ولا نفد حبه لهديل «الشعيبية» يُغرِّدان معًا هي وهو، ولد القاضي الحاج صالح، يا مَن لا يعرفه في ربوع الشاوية.
بعد أيام، بعد أعوام، بعد أن اشتعل الرأس شَيبًا، سمعتُها تَطرُق الباب أصبعًا بأصبع مع عبد الرحيم الجلدي ولد العلوة، قادمًا من قصبة بن أحمد إلى مرقدي الصالح عند نهر السين، عبورًا بسوق ثلاثاء الأولاد مُتحيِّرًا فيها «وجاية من فيني واشحال عجبتيني» وأنا (من أنا؟) أفتح لها باب الحنين بلا عتاب لسماع الشجن بعد طول غياب: «وأسير يا وليدي آ … آه! أجيني حمدون لهواوي آ … آه وكله يزهى مع قرينوا آ … آه ونوبة نوبة يهزني بالغمزة يسحابني نسيتو آ… آه».