سعد زغلول في دور التكوين

كان سعد ربيب الثورة من نشأتها وفتاها البِكْر وهي في شبابها وريعان قوتها، ورسولها عند إيذان نضجتها، وبطلها الأوحد لتأدية أبلغ جزء في سفر رسالتها، وقائدها المدرب الخبير بحاجتها حين هدأت بعد فورتها، ومنظمها يوم احتاجت إلى التنظيم، وحكيمها يوم استوجبت الحكمة، وما من مطلب لها إلا وجدته فيه وافيًا.

وفي الوقت الذي كانت الطبيعة تهيئ فيه البيئة لقبول الفكرة، وتعد الجماعة للنهضة والثورة، وتُنضِج شعورهم لها على هِينَةٍ، وتنمي في الخاطر عامةً إيمانه بها ويقينه، وتكفل لأدوارها التحضيرية المُمهِّدِين والمناسبين لها والموفين بحاجتها ولو راحوا يومئذٍ ضحيتها — في ذلك الوقت كانت الطبيعة أو القوة المحركة لهذا العالم، والعناية المشرفة على هذا الكون، لا تزال تصنع الرجل الأوحد المنتظر في حينه، المرتقب في أوانه، وقد ادَّخرته لأخطر مراحلها، وحرصت عليه لأكبر أهوالها، وقدرت في حسابها الذي لا يُخطِئ أن يكون هو قائد قوَّاتها، وبطل أبطالها، وأن يروح ضمان نجاحها به مواتيًا.

لقد جاءت به العناية الإلهية فَلَّاحًا من أهل القُرَى لتستكمل فيه لوازم المحيط، ويتناسب مع أغلبية البيئة، ويشب في أقوى أفق وأصح جو وأوفق وسط؛ ولكي ينشأ صُلْبَ العود من بدايته، قويَّ البدن من حداثته، متفتح الصدر للعواصف من طفولته، يمرح في الحقول، ويرتع في الغيطان، ويسبح في الجداول والأقنية، ويجالد الأقران في الصراع غاضبًا أو لاهيًا.

جاءت به فلَّاحًا قوي العصب، سليم النَّسب، منتظم حركة القلب، مفتول الذراع، ممشوق القَدِّ، شديد الجَلَد، مَضْمُور الجَسَد، في عينيه عمق، وفي وجهه أسد؛ لكي يخيف ويثير الرَّهَب إذا ما حان الدور وَوَجَب، وحتى يتحمل مطال المرانة، ومراحل التدرب، إذ جعلت في خطتها ألا تعجَل به شابًّا فتيًّا، ولا نحيلًا ضاويًا، وإنما قدرت أن يتولى الأمر وهو شيخ جاوز الكهولة، وعَدَّى الشباب؛ لتكون آيته أنه الشيخ الشاب، قويًّا على المحنة والمصاب، جَلْدًا على الصدمات والخطوب، لا حافلًا بالشدائد ولا مباليًا.

وقد جاءت به كذلك «أزهريًّا»؛ ليدرس القرآن، ويأخذ عنه قوة البيان، ويكتسب قوة التعبير، وجزالة اللفظ، ولغة الجهاد، وأسلوب الإغراء، وسحر الترغيب، وجلال الترهيب؛ بل ألقت به في صحن الأزهر على حرارة اللهفة على العلم؛ لكي ينضج أكمل نضوج، وينصهر فيه أحرَّ مُنْصَهَر، ويطيب كل مطاب، ويكب على الكتاب، ويتمرن على الجدل والمناظرة، والمعارضة والمحاورة، والنظرية والبرهان.

لقد كان الأزهر مَهْدَ الثورة الأولى، فيه جلس المعلم الأول السيد جمال الدين الأفغاني يلقي من علم الثورة مباديها، ويمهد لها ويغذِّيها، ويستبي بمنطقه شبابها وذويها، بل كان الأزهر هو يومئذٍ الثكنة العلمية، وساحة الجهاد وثقافته، ومعهد الدين ورسالته، والوطن وحماسته، وكان الحَقْلَ القويَّ التربة، العنيف الأرض، الصُّلب الطينة، السميك الأديم؛ فلا عجب إذا كان قد أطلع على أدوار الثورة أبطالًا، وأنبت على مَرِّ المراحل شخصيات جبارة ورجالًا، ونوابغ عظماء الأذهان.

لقد كان الأزهر مستنبَت النبوغ ومزرعة التفوق إذا كانت المَلَكات من ذاتها صالحة، والاستعدادات بالفطرة قوية مستجيبة؛ ولكنه كان مقبرة للضعفاء والعجزة وأهل الأذهان الجامدة. وهو إذا كان قد أخرج نوابغ آحادًا، فلَكَمْ ذوى فيه من زهر صغير صَوَّحَ قبل أن تتفتح منه الأكمام! ولَكَمْ ذبل فيه من عيدان قبل أن تُخْرِجَ شَطْأها وتستوي على سُوقِها تُعجِبُ الزُرَّاع!

في تربة الأزهر القوية العنيفة المُجْهِدة، نبغ عبر الأجيال نوابغُ عدة، كما تلاشت مصائر ألوف طحنتهم حياة الأزهر تحت أنيابها الحادة، فقد خرج منه قوم صالحون على قلة، وذوت فيه مئات على كثرة. ولا غرابة في أن يأتي النبوغ الأزهري إذن على هذه الصورة الخارقة للمألوف، وأن يبرُز النابهون «الأزهريون» فوق مستوى النبوغ المعروف، جبابرة العقول، أفذاذ الأذهان؛ حتى ليغزوَ النابغةُ الذي يجود الأزهرُ به الحياةَ كلها، ويغمر الجيل الذي يظهر فيه جميعًا، ويستبي بسحره العقول، ويَبْدَهُ الأذهان بما يضفي عليه الأزهر من النفوذ والقوة والجلال، ويحدث في زمنه من الأثر العظيم ما يبقى حديث الأجيال، ويظل به منفرد النظير منقطع المثال، حتى تخرج من التربة ذاتها من بعده أنبات أخرى وعيدان.

من الأزهر خرج في القرن الماضي آحاد معدودون من النوابغ، وأمثلة باهرة الضياء، من مصابيح الذكاء، وبرز أفذاذ من الزعماء والمصلحين، والهُدَاة والمعلمين: محمد عبده، وعلي مبارك، وعبد الله فكري، وسعد زغلول، وأمثالهم مئات لا سبيل هنا إلى حصر أسمائهم. والذين أخرجهم الأزهر أقوياء من قوة ترتبه، جبابرة العقول من جبروت بيئته، هم أولئك الذين ساقوا العصر أمامهم، ودفعوا في ظهر الجبل بحوافزهم، وفي خاصرة العصر بمهاميزهم، وأحدثوا نهضات مختلفة الأنواع متعددة الألوان.

كذلك جاء سعد «أزهريًّا»، تدرب في صحن الجامع الإسلامي الأكبر من الحداثة والصغر، على كل ما سوف يروح من مزاياه في الكهولة والكِبَر، وما سوف يَرُدُّ عليه في مسيرة الزمن ودَوْرة الدهر؛ بل لكأنما انحدر من «دسوق» بعد تجويد القرآن في خطة القدر لكي يتاح له الجلوس إلى أستاذ عظيم في الشرق كان قد نزح إلى مصر، ولكنه موشك على سَفَر، وهو السيد جمال الدين الأفغاني، وكان قد جاء قبل الثورة والمُنْفَجَر، يُعلِّم ويحاضر، ويبث جديد الفكر، ويتحدث عن الديمقراطية والحكومة النيابية، والدستور والإصلاح، والدين والدنيا، والخير والشر. وكان لا بد لهذا «الأزهريِّ» الناشئ في تدابير القدر، أن يسمع هذا كله ويتفكر فيه ويتدبر؛ لأنه جاء إلى هذا الجيل ليكون في غده زعيم ذلك جميعًا وسائق الجيل إليه والعصر، وقائد الجماعة في النهضة إليه على السنين.

وفي حلقات الأزهر، راح هذا الأزهريُّ «النظيف» الذي قَدِمَ إلى القاهرة من صميم الريف وهو في السادسة عشرة على الأكثر، يتلقى العلم الديني، ويَنْهل من العلم الدنيوي، ويصغي إلى أحاديث السياسة، ويعرف شئون البلاد من أفواه المعلمين والأساتذة، وتتوثق العلاقات بينه وبين مريدي الأفغاني وطُلَّابه، وهم يومئذٍ عديد من النوابغ، كمحمد عبده الذي كانت الأقدار تعده كذلك لناحية من الزعامة، وضرب من الإمامة، ووجه من وجوه الإصلاح والتجديد.

وأحسب سعدًا في الأزهر — وقد حدثتك عن نوع تربته وصفة بيئته — لم يحتج إلى طول زمن ورخيِّ آنٍ لكي يبرز ويظهر، فبينما كان أكثر الذين يدخلون لطلب العلم يشيخون فيه ولمَّا يكتملوا، ويذبلون في نواحيه، قبل أن يحين قطاف ما حَصَّلُوا، إذ رأينا سعدًا في ذلك الوسط الذي انتقته له الأقدار انتقاء، وهيَّأته له خير مُتَهَيَّأ، ينبغ وشيكًا، ولكن في أندر ما يطلع النبوغ من الأزهر، وفي الوقت ذاته أقوى ما يكون مطلعًا على ندرته، وأروع ما يروح مظهرًا على قلته، وهو ظهور الكاتب المفكر، وخروج الأديب الجديد الأسلوب؛ إذ كانت علوم الأدب يُنْظَرُ إليها في الأزهر كأن الطالب المَعْنِيَّ بها غير صالح، وكأن الذي ينزع إليها أكثر من منزعه إلى علوم الفقه والنحو والصرف، لا يُرجَى منه ولا أمل فيه، ومن ثَمَّ كان الذين ينبغون من الأزهر في هذه الناحية من الدراسة وهذا الوجه من النزوع والاستعداد عددًا قليلًا، ولكنهم مع هذه القلة يَتَبَدَّون أفذاذًا لا يُشَقُّ لهم فيه غُبَار.

كان سعد إذن من النشأة «أزهريًّا»، ولكن على غرار جديد، ومن طراز نادر؛ فهو لم يتمكث فيه، ولم يُطِل الاختلاف إليه، كأنما كانت مجاورته له مرورًا موقوتًا وسياحة قصيرة، وعارضًا له حكمته والغاية السريعة منه، وهو تخريج «الكاتب» الذي يلقي بذور الثورة في المحاولة الأولى من محاولاتها، ولا يتعرض كثيرًا لأذاها؛ لأنه موفور محتفظ به لمحاولة أخرى على دوران الزمن وسيرة السنين، يروح هو فيها الباعث الظاهر، والعلة المباشرة، والمشعل المُضرِم لنارها، والقائد الحامل للوائها وشعارها، والكاتب العريف بأقدارها وتغذية تيارها، والخطيب المعجز الساحر الذَّلِقَ الزارعَ اليقين النافث الإيمان.

لم يمكث سعد في صحن الأزهر غير بضع سنين، لا أظنها جاوزت خمسًا، وهي فترة بالغة القِصَر لا تكاد تخرج شيئًا بالنسبة لجمهرة المجاورين، والسواد الأعظم من طلابه الذين تطول بهم الآماد في تلك الثكنة العلمية قبل أن يصيبوا أول أشرطة الجنود المجاهدين في الدين، ولكنها في سعد كانت كافية لكي تخرج الكاتب الجديد، والمفكر المستبق جيله، وذا القلم الحامي الملتهب الذي يعد النفوس للثورة، ويهيئ الأذهان.

وهكذا بدأ سعد حياته العلمية وهو في الحادية والعشرين — أي سنة ١٨٨٠ — كاتبًا مفكرًا، بعد خمس سنوات فقط في صحن الأزهر، وهي بداية نادرة ومَطْلَع عجيب، ولكنها في حياة سعد وسياق حوادثها وحلقات سلسلتها متناسبة متوائمة مع الدور الذي قُدِّر له أن يلعبه في مصير أمته، والمركز الذي أعدته الطبيعة ليشغله فيما بعد من قومه وبني وطنه، بل هي الوظيفة نفسها التي قدرتها العناية الإلهية لغيره من عظماء العالم وأبطال النهضات وقواد الشعوب في الثورات والحركات العامة، وهي الناحية الوحيدة التي كانت خليقة بهذا الأزهريِّ الجديد أن يجنح إليها في ذلك العصر ووسط ذلك الأفق، حيث كل شيء ينذر يومئذٍ بسوء، ويتمخض عن ثورة، وينم عن وَشْك انقلاب.

في الحادية والعشرين أمسك سعد بالقلم ليكتب للناس، ولو أنه كان إنسانًا من عُرْض المجتمع، أو شابًّا اعتياديًّا يريد أن يسلك في الحياة سبيلًا ذُلُلًا، لجنح إلى ممالأة النظام القائم، ومشايعة السلطة الحاكمة، ولكنه كان مطبوعًا على الثورة، مخلوقًا لها، منتظرًا لأوانها، وكان عظيمًا وهو صغير، قوي الروح وهو شاب، مترفع النفس وهو مبتدئ؛ فكان أول ما كتب للثورة وفي الثورة، وأول ما أرسل قلمه فيه محاربًا مهاجمًا مكافحًا هو الاستبداد والظلم والانحطاط والجمود.

لقد راح سعد يبشر للثورة ويوطِّئ لها، ويجمع الوقود اللازم لنارها، فكتب كثيرًا في تأييد الشورى وحكم الدستور وسلطان الجماعة، ونقم كثيرًا على الحكم الفردي والنظام المطلق والنزوع إلى الاستعباد.

هذا هو كلُّ ما اشترك سعد به في الثورة الأولى؛ لأنه كان يومئذٍ حديث السن، قريب العهد بالقاهرة، بعيدًا من الطبقة الكبيرة التي باشرت الثورة، غير متصل بالذين تغلغلوا فيها وأعدوا عدتها، وعاشوا في صميمها وتحت حرارتها؛ حتى لقد اتُّهم بعد الثورة بأنَّه كان سرًّا أحد المشتركين فيها، ولكن التهمة لم تلبث أن بدت كاذبة، فلم يصب منها غير مقاساة السجن في بداية حياته، وتجربة شيء مما يتعرض له أبطال النهضات وزعماء الحركات العامة بسبيل ما ينادون الناس إليه، ويدعون الجماعات إلى اعتناقه من الأفكار الجديدة والمبادئ الحديثة والتعاليم.

كان سعد قُبَيل الثورة العرابية المزمار المتغني بألحانها، والمعزف الصادح بأنغامها، بل كان المصور الصَّنَع الراسم لمعانيها في أفخم ألوانها، وكان جَمَّاعَ الأحطاب الجزلة لنيرانها، ولكنه عند هذا الحد وقف؛ لأن دوره لم يكن قد حان، وأوان ظهوره في أحسنه وأروَعه لم يكن آن، وإنما كان حضوره تلك الحركة الأولى في معاني الثورات لحكمة من حِكَم القدر، وهي أن يشهد شيئًا كالثورة ليشاهد أساليبها، ويختبر مزاياها وعيوبها، ويعرف حسناتها وسيئاتها، ويبلو بنفسه وجوه صوابها ونواحي أغلاطها، ويعلم الصالحين لها والأوكال عليها، والخلقاء بالمساهمة فيها، وغير الأحرياء بالانضمام إلى هيئتها، وحتى يكون ذلك كله بمثابة دور تمرين، ومرحلة رياضية، وسياحة فرجة، وفرصة اختبار ومشاهدة؛ لأن الطبيعة كانت تمهد له دورًا آخر يكون هو فيه قطبه ومداره، ومظهرًا أكبر من ذلك يروح هو رمزه ومصباحه ومنارَه، فوفرته يومئذٍ حتى يستوفي حاجتها، وتركته حتى ينضج للظهور، ويستجمع أدوات الإعلان، ويبرز في الحين المناسب والأوان، فيغمر الساحة والمَيْدان، ويكون في القضية المصرية رسولَ عهد جديد.

جاء سعد مع الثورة الأولى أو التجربة الفاشلة لها، متفرجًا كما قلنا من ناحيتها؛ ولكنه جاء أيضًا مع بداية الاحتلال ليكون حاضرَ أمره من مقدمته، مشاهدًا لمناظر مُصَابِه ونكبته، حتى لا يتكلم عن الاحتلال إذا ما نهض محاربًا للاستقلال، عن طريق السماع ورواية الأقوال، فإن ذلك لا يعطي المتحدث القوة التي تهز القلوب وتضرب على الأوتار، بل لكي يتحدث عن مصاب كان هو أحد شهود رؤيته، وكاد يروح بعض فريسته، بشعور الحاضر الذي تألم، وإحساس الشاهد الذي ابتُلِيَ واختُبِر، واقتناع الذي لم يعد في نفسه أي خالجة ارتياب.

وانطفأت الشعلة التي التهبت قليلًا ثم خَبَت، فأين يذهب سعد وفيم يصح أن يكون؟ فكان جواب الأقدار أنه قد مر دور التجربة، وبدأ دور الاستعداد. وأول شيء يحتاج الرجل المخلوق للثورة هو الصوت الداوي، والجَرْسُ المِرْنان، واستكمال أفانين الكلام، ومعاني البيان؛ ليكون الخطيب المؤثر في العقول، المستحوذ على الآذان، الجياش الصوت يُسْمِعُ الصفوف، ويصغي إليه الزحام، ويقود الجماهير وفي يده الزمام، ويوحي إليهم اليقين ويُشْرِبُ أرواحهم الإيمان.

وكان سعد من الأزهر، ومع قوة الاستعداد قد تمكن في وقت قصير من اللغة وتَمَلَّك ناصية البيان، وقام بنصيبه من الثورة فمثل فيها دور «الكاتب»، وبقي بعد فشلها والاستعداد لغيرها أن يستكمل لوازم «الخطيب»، ولم يكن استعداده الأزهري يؤهله يومئذٍ لأكثر من أن يكون «معلمًا» في المدارس للصغار والناشئين، وهذا ما لم يُيَسَّر له، ولم يكن صالحًا لمثله؛ أو يكون «فقيهًا» على غرار الأزهريين والمجاورين أنفسهم، وهذا ما لم يتهيَّأ ليكونه؛ لأنه كان في الواقع «عصريًّا» حتى في ذلك الدور المحافظ، والبيئة المتشددة في الجمود، بل كان كل تفكيره يومئذٍ جديدًا، وكل منزعه إلى التجديد، وكل مجانحه نحو تهيئة الأذهان لقبول النظريات الحديثة في الحضارة والاجتماع.

أين كان يمكن أن يذهب سعد ليتهيَّأ لدوره القابل ويتجهز للغد المنتظر، ولم يعد يستطيع أن يواصل شأنه «ككاتب» بعد فشل الثورة ومنزل الاحتلال بالبلاد، إلا إذا كتب في الفشل ذاته وأرسل قلمه في مديح الخيبة نفسها؟ وهذا ما لم يكن شأن سعد، ولا من مثل سعد يكون، ولا هو على طباعه بالجائز، ولا وجد الاحتلال في بدايته أحدًا يتطوع له بمديح، أو يُسخِّر قلمه في خدمته، ولا كانت ثمَّ صحف مهيأة كأدواته إلا قليلًا، ولكن لغير المصريين.

لقد كان هناك طريق واحد يتناسب وأزهرية سعد وبيان سعد، ويصلح أن يكون مجالًا لتمرنه على الخطابة، وفسحة لرياضته على المنابر، وميدانًا لتجربة قوة الجدل فيه، ومظهر العارضة البادهة التي أوتيها، وبلاغة الأسلوب التي انماز يومئذٍ بها، ورصانة المنطق التي كانت بارزة فيه … وذلك أن يكون «محاميًا»؛ ليخرج منها بعد ذلك «خطيبًا»، ويكون له في الخطابة ذلك الشأو البعيد.

كذلك كان سعد في المطالع «محاميًا»، يدافع عن الحق بالنسبة للفرد، كتدريب له على الدفاع عنه فيما بعدُ بالنسبة للجماعة، وقد دخل يومئذٍ على المحاماة وهي صغيرة فكبرت به، قليلة الشأن فعظمت بنباغته وحسن مسلكه وطهارة تصرفه، ومنذ ذلك الحين والمحاماة مصدر النوابغ، ومَعين الشخصيات البارزة، ومنبت الصالحين للجهاد والدافعين إلى الثورة، وكبار المشتركين في الحركة الوطنية، والطريق إلى الوزارة، والمعوان على البروز في صفوف المدافعين عن بلادهم والمكافحين.

وقد مرت بسعد مرحلة من مراحل حياته كان فيها ذلك الأزهري القروي الجديد في الذِّرْوَة من هذه الصناعة، كما كان كثير من قواد الثورات وزعماء الحركات الفردية في التاريخ هم كذلك في طليعة المحامين.
figure
سعد زغلول.

وكان لا يزال ينقص سعدًا شيءٌ آخر من باب الاستعداد للدور الذي قُدِّر له القيام به وإن تقدمت سِنُّهُ وجاوز كهولته، وهو أن يتحدث عن سوء ما صنع الاحتلال ببلاده، ومبلغ تدخله في إدارة شئون الحكم في قومه، ومدى سيطرته، ونواحي الفساد الذي أحدثه في المصالح العامة، ووجوه الاستغلال الجشع السيئ الذي عمد إليه بالنسبة للمرافق وسائر أجزاء الدولة، حديث الخبرة والتجربة، والمباشرة الفعلية، وكان ذلك يقتضي أن يكون «موظفًا» قريبًا من ممثلي الاحتلال ورجاله، مشاهدًا عن كثب أساليبه ووسائله، مصطدمًا بمساويه ومفاسده، محتكًّا بجناياته وآثامه، مختبرًا لأسراره وأغراضه ومراميه؛ لكي يستعين بذلك كله في دور التمرين على جمع الحقائق، وفهم الخفايا وإدراك السياسة واتجاهاتها ومجاريها وتياراتها، فوق الأديم ومن المسارب الخافية.

كذلك أرادت الأقدار لسعد أن يدخل وظائف الحكومة، وأن يتقلب في مناصبها، ويتنقل في كبارها وخطيرها؛ حتى بلغ مكان «الوزير» فيها، فإذا ما تحدث بعد ذلك عن سيئات الاحتلال ومناكره وجرائمه وكُبَرِه، كان لكلامه قيمة، ولحديثه خطر، ولنقده أثر؛ لأنه كلام وزير جَرَّب واختبر، ومَثَلَت له العظات والعبر، وشهد كل ذلك السوء من قريب.

وكانت مباشرةُ سعد للوظائف مقتضيةً منه كذلك أن يستكمل ما نقصه، ويستوفي ما لم يكن أصابه، ويضيف إلى قوة أزهريته لوازم عصريته، وثقافة جيله وعلوم بيئته، فلما دخل القضاء الأهلي حيث المرجع فيه للقوانين الفرنسية، احتاج الأزهري الذي لم يدرس غير لغة دينه أن يدرس لغة قوانينه؛ فتعلم الفرنسية، وأعانه تعلمها والإكباب على دراستها والانكماش في استيعاب دقائقها ومطالبها على توسيع دائرة قراءته، إذ فتح أمامه آفاقًا جديدة من العلم، وكشف حياله عن أفكار بِكْرٍ من المعرفة وأفانين من الثقافة، ونُدْحات مترامية للبحث والاستخلاص، والاقتباس والاستقراء.

كان سعد جديدًا في كل ما سلك نفسه فيه، كان جديدًا كأزهري؛ لأنه نبغ كاتبًا، وأندر ما يكون الأزهريون كُتَّابًا. وكان جديدًا كمحامٍ؛ لأنه دخل هذه الصناعة وهي منحطة المستوى يومئذٍ قليلة الشأن سيئة السمعة فرفع مستواها، وعظّم شأنها وأحسن سمعتها، فلما عطف على القضاء زانه وسما به، وصان كرامته، وحرص على استقلاله، وله فيه أحكام جديدة ومواقف مشهودة، ليس هذا الكتاب مجال ذكرها، فكان ذلك كله جديدًا في القضاء، فانتبه العصر له، وأحسه الجيل الذي يعيش فيه، والتفتت الدولة نحوه لترى مَنْ هذا الرجل الجديد الذي برز على مسرح الحياة، واستحوذ على الاحترام في وسطه والإعجاب! فلم تستطع إلا أن تعجب هي أيضًا به، ولم تتمالك هي كذلك من احترامه؛ فرفعت وظيفته في القضاء، ثم لم يبق أمامه إلا كرسي الوزارة فبلغه بعد بضع سنين.

وكان سعد جديدًا كوزير، إذ عُهِدَ إلى «الأزهري» القديم بوزارة المعارف الحديثة، فإذا هو في العلم رجل عصري مجدد، ووزير مبتكر مستحدث، وإذا هو وطنيٌّ جديد كذلك، وسياسي من طراز آخر غير ما ألفت الدولة من قبله، فإن أزهريته القديمة لم تمنع أن ينادي بجانب جامعة الأزهر إلى تأسيس جامعة حديثة للعلم الجديد، حتى يتحول بالغرض الذي رمى إليه الاحتلال من التعليم بجعله أداةً للوظائف، وإقامة المدارس معامل لتفريخ الموظفين، إلى غرض جديد وهو التفوق في العلم للمنفعة العامة، والاستزادة من الدراسة لخير الشعب ومصلحة المجموع وخدمة البلاد.

كان سعد وزيرًا مرهوبًا، متكبرًا كبرياء المقدرة لا كبرياء الغرور، وطنيًّا حريصًا على حقوقه كوزير، محافظًا على مكانه كمصري، مستقل الإرادة كرئيس، ممسكًا بكرامته لا ينزل بها يومًا إلى الإنكليز، فرأى في المعارف دنلوب المستشار يريد أن يسير معه كمسيرته مع الذين من قبله وزراء، له هو السلطان الفعليُّ ولهم هم البصمة والإمضاء، وهو كل شيء وهم ليسوا شيئًا بجانبه، وعنده هو كل السلطان وعندهم هم الخور والتسليم والإذعان؛ فوقفه سعد حيث ينبغي أن يقف، واسترد منه المزيد من سلطانه، وقصره على ما ينبغي لمثله في حدود الاختصاص، ونطاق الواجب، ودائرة القانون.

وهكذا كان سعد في الوظائف جديدًا، أدخل عليها في شخصه ومسلكه وتصرفه العناصر الخليقة بها، والمطالب التي كانت تنقصها، فراع الإنكليز أن يروا فيه هذه الشخصية الجديدة، فقال قائلهم — وهو لورد كرومر — في خطاب وداعه بدار الأوبرا في سنة ١٩٠٧ كلمته المشهورة: «إني لأذكر — أيها السادة — اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، ولكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احترامًا عظيمًا، وإذا أصاب ظني ولم أخطئ، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعد زغلول باشا مستقبلٌ عظيمٌ في سبيل خدمة هذه البلاد؛ لأنه قد أُوتي جميع الصفات اللازمة لخدمتها، فهو رجل صادق، كفء، مستقيم، مقتدر، بل هو رجل شجاع فيما هو مقتنع به.»

لقد كانت تلك الكلمة اعترافًا ونبوءة من رجل سياسي يعرف أقدار الرجال حتى في خصومه، ويزن الناس بأدق الموازين حتى وإن كانوا أعداءه؛ بل تلك كلمة أكرهته شخصية سعد على النطق بها إكراهًا، وشهادة أجبره هذا الوزير الأزهري الجديد على المصارحة بها إجبارًا، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقد رأى كرومر حياله عنصرًا جديدًا في الوظائف العليا؛ عنصر شجاعة لم تكن للذين جربهم من أيام الثورة الماضية، شجاعة الرأي إذا ما اقتنع به صاحبه، فما هو بمردود عنه، بل عنصر احترام للذات وحرص على الكرامة، يأبى فيها التفريط، وينأى عن التساهل بسبيلها، وكبرياء وترفع لا يعرفان المَلَقَ ويكرهان الازدلاف، ويحتفظان بمركز الوزير في بلاده، فلا ينظران إلى الاحتلال إلا النظرة إلى الغاصب المستلب، لا السيد المالك صاحب السلطان.

لقد كان سعد يومئذٍ شجاعًا جديدًا، إذ كان العصر كله يومئذٍ في ناحية الوظائف والموظفين، عصر استسلام وتهيب، وعهد مصانعة ومخافة من السلطة غير الشرعية التي يَخْشَى الاستهداف لغضبها، وتُعْتَقَدُ السلامة في تحامي خطرها، واجتناب التعرض لما تملك من نقمة وعقاب.

وكان سعد يومئذٍ في الشجاعة جديدًا أيضًا إزاء السلطان الشرعي في البلاد، إذا اقتنع بفكرة فلا يبالي في تنفيذها أحدًا، حتى لقد وقفت شجاعته هذه بجانبه في ذات مرة إزاء الخديو، وكان هذا قد أراد رفض مشروع من مشروعات سعد بشأن الإصلاح في جلسة من جلسات مجلس الوزراء، فلم يمتثل سعد ولم يتهيب الاعتراض، ولم يُطِق صبرًا على هذا الموقف من جانب سموه، فضرب المنضدة بيده مغضبًا محتجًّا وهو يقول: «أنا الوزير المسئول، فلا بد من إقرار مشروعي.»

وقد بهت الوزراء في المجلس، واستولت الدهشة عليهم إذ نَكِروا هذه الجرأة من سعد، ولكن سعدًا لم يألف إيلافهم، ولم يكن ليخنع خنوعهم، ولا عرف الاستسلام معرفتهم، ولم يكن ليسكن إلى المواربة، أو يلقي بالًا إلى المجاملة في الحق، حتى لقد وقف في جمعية الاقتصاد والتشريع إزاء «سير برونيات» — وكان يتقلد منصب المستشار القضائي في ذلك الحين — موقفًا رفيعًا جليلًا، يدل على هذه الشجاعة الصادقة التي كانت أبدًا مظهرًا من مظاهر شخصيته الساحرة البارزة، فقد قدم سير برونيات يومئذٍ مشروعًا بتعديل قانون العقوبات، ودعا كبار الأساتذة والمحامين ليقولوا رأيهم فيه، فلم يكن من سعد إلا أن بادره قائلًا: «من الذي وكَّلكم عن الأمة المصرية لتسنوا لها القوانين، ومن حقها هي وحدها سن القوانين بنفسها؟» فكانت تلك مجابهة قوية تستحق الاحترام والإعجاب.

كذلك كان إعداد المقادير لسعد قبل الثورة: جاءت به من الأزهر صحن الثورة وميدانها، ثم ثنت به على القضاء فكان قاضيًا ثائرًا على كل ما يمس استقلال القضاء ونزاهته، ثم عطفت به على الوظائف فانتهى إلى مركز الوزارة ليختبر مساوي الاحتلال من قرب، ويجرب عيوبه وجناياته تجربةَ خبيرٍ، بل ليشترك أيضًا في تلك العيوب حينًا والجنايات بنفسية الموظف أو الممثل القائم بدوره فوق المسرح، لا بنفسية المتفرج المشاهد الذي تبدو له المعايب أوضح وأبرز مما تبدو للممثلين، حتى إذا حان الوقت لمحاربة تلك المساوئ ومقاومة تلك المفاسد، تحدث عنها حديث المُلامِس لها، البصير بها، المدرك لجميع نواحيها، النادم على ما كان قد ندَّ منه فيها وأخطأ فيه مرمى الصواب.

وبقي لاستكمال استعداده للغد القادم شيء آخر، وهو أن ينتقل من تجربة براعته الخطابية كمحامٍ بصدد قضايا الأفراد، إلى تجربتها كخطيب سياسي بصدد قضايا المجاميع.

وكان قد غادر الوزارة في سنة ١٩١٣، وهو العام الذي وضعت الحكومة فيه مجلسًا تشريعيًّا هيكليًّا، لا تتجاوز سلطته حد الاستشارة غير الملزمة، فوقف سعد حيال ذلك المشروع وقفة المحتج المستنكر، ونظر إليه نظرة الغاضب الساخر، ولكنه مع ذلك لم يستطع التحول عنه، وفتحت «الجمعية التشريعية» — كما سمي يومئذٍ ذلك المجلس — واشترك سعد في عضويتها منتخبًا عن الأمة وهو لا يزال نافرًا غير راضٍ عنها؛ لأن القانون الذي سن لها لم يكن سوى «مسخ» بالنسبة للدستور، وراح سعد في البداية عند انتخاب الوكيلين وتحديد أيهما يصح له رياسة الجلسة في غياب الرئيس، ينادي جهير الصوت رفيع الغضب بأن الوكيل المنتخب من جانب الأمة ينبغي أن يكون المقدم عن الوكيل المعين من جانب الحكومة؛ لأن إرادة الأمة مقدَّمة فوق إرادة الحكومة، وسلطان الأمة فوق كل سلطان.

وعلى ضآلة الجمعية التشريعية وصورية وجودها وفرط القيود المحدودة بها، كان صوت سعد يدوي في جنباتها، وكان منطق سعد يقد الباطل بفأسه قدًّا، وكأنما هيأت الأقدار لسعد ذلك المجلس الابتدائي كمجال تحضيري يجرب فيه براعته المعجزة كخطيب، ويختبر مبالغ برلمانيته كممثل للأمة، ويدرب ذلاقة لسانه، وحرَّ وجدانه، وقوة يقينه بحق الأمة وإيمانه، على مطالب الغد القادم، والغيب الوشيك الظهور.

في الجمعية التشريعية استكمل سعد كل معدات البطل المنتظر، واستوفى سعد سائر لوازم القائد الثائر، وإن له في جلساتها لكلمات جرت مجاري الأمثال، وآيات نواطق عن بطل الأبطال، وعبارات بلغت الذروة من الحكمة السياسية وقمة البلاغة والبيان.

لقد نضجت مشاعر سعد ومزاياه العقلية وجبروت ذهنه وزئبقية إحساسه، وجياش عاطفته، فأثمرت جميعًا ذلك الخطيب النادر الذي يهز القلوب من الأعماق، وينزل صوته الساحر المرنان إلى أغوار الشعور، ويثير في النفوس أبلغ الحماسة، وأشد لهب الحمية، ووقدة الوطنية، وأعلى حرارة الإيمان.

لقد مَثَل أمام الناس في الجمعية التشريعية الخطيب المتمكن، النَّفَّاذُ المُعجِزُ، الفاتنُ الحركات والإشارات، المطاوع صوتُهُ لخلجات شعوره وأدائه وتعبيره، المتفق جَرسه صعودًا وهبوطًا وحنينًا وترجيعًا وتدوية وجلجلة وتدويمًا، نبضات قلبه، وجلال وقفته، وروعة شخصيته، وموضوع خطبته؛ حتى لو أن أجنبيًّا حضر سعدًا وهو يخطب ولم يكن بلغته ملمًّا، لتأثَّر بسماعه، كأنه المدرك لما يسمعه، وهذا هو نهاية ما تسمو إليه الخطابة وعبقريتها الساحرة ونغمها الرفيع، فكأنما هي عند سعد قد استحالت مقطعات موسيقية ينشجي بها كل إنسان، وترهف لها الأسماع والآذان، وتتحرك لها المشاعر الوجدان.

وكذلك انتهى يومئذٍ دور الأزهري الكاتب، والأزهري الوزير، والخطيب السياسي، ليبتدئ دور الزعيم، قائد الثورة، وحامل لواء النهضة، ووكيل الأمة، والمتحدث باسم الشعب بعد أن تمهد الأقدار له الحوادث، وتسوق له السياق، وتفسح الميدان لظهوره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤