زعامة سعد وظهور مصطفى النحاس

حين نشبت الحرب العظمى في أغسطس سنة ١٩١٤، كانت وزارة رشدي باشا قائمة بالأمر، وكان الخديو غائبًا في الأستانة، فارتبكت البلاد، واضطربت الحكومة، إذ حالت إنجلترا بين الخديو وبين المآب إلى مصر، لصلته بتركيا المحالفة لألمانيا، ولم تلبث إنجلترا أن فرضت الحماية على البلاد، وغيرت الخديوية، فأبدلت بها سلطنة، وعين الأمير حسين كامل سلطانًا، وبقيت وزارة رشدي تتولى الأمر في تلك الفترة العصيبة، وراحت السلطة العسكرية البريطانية تعتقل خلقًا كثيرًا من مختلفي الطبقات اشتهروا بالحماسة لبلادهم، وعرفوا بنزعاتهم الوطنية فملأت بهم المنافي والمحابس والسجون.

وفي وسط تلك الزوبعة الهوجاء كان رجل عظيم يعيش في أكناف العزلة، مُخْلِدًا إلى الوحدة، وهو مع ذلك يتحرق لبلاده، ويترقب السانحة للوثوب، وإن رجلًا كسعد عاش طوال عمره على الدأب والجهاد لم يكن بلا ريب يستطيع أن يدع نفسه بلا عمل، أو يسكن إلى الفراغ؛ لأنه من معدن حساس لا يجلد على برودة السكون، ولا يعيش في ظلال العزلة فارغًا.

فلا عجب إذا رأينا ذلك الرجل العظيم الذي شهده الناس في المرحلة الرابعة من عمره يجلس إلى درس اللغة الفرنسية، ويتوفر على تَفَهُّم أسرارها ودقائقها، قد عاد وهو في الخامسة والخمسين يمسك بالكتاب متهجيًا في لغة جديدة لم يكن له بها عهد، وهي اللغة الألمانية؛ لكي ينقذ ذهنه الكبير من ألم العزلة وصدأة الفراغ، ولكي يعرف طرفًا من لغة ذلك الشعب الجبار الذي راح يومئذٍ يقذف بالعالم كله في شعلة نار عظيمة أحرقت جميع نشاط الدنيا، وهدمت الحضارات، وجاءت بأفكار جديدة، ودفعت آخر مراحلها برجل عظيم يحلم بالأمثلة العليا، وهو «ويلسون»، ويحمل رسالة جديدة إلى العالم، صائحًا مناديًا الإنسانية إلى مبادئ سامية تدعو إلى إنقاذ الشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها من ربقة الاستعباد وتقرير مصيرها واستعادة حريتها الضائعة، وإن كان قد خُدع عند التنفيذ، واستُغِلَّت مبادئه أسوأ الاستغلال، وجاء التطبيق مصطنعًا ملفقًا.

وحين وقفت رحى القتال، وخمدت نار الحرب، وتهادن الأعداء في سنة ١٩١٨؛ أدرك سعد الذي أوى إلى العزلة ولبث في الوحدة طويلًا، أن الفرصة قد حانت، وكان منها على مرتقب، وأن السانحة قد سنحت، وكان لسنوحها بالمرصاد.

لقد أحس سعد يومئذٍ أن أمته التي أُكرِهت على دخول الحرب في صفوف الحلفاء إكراهًا، وأُجبِرت على المساهمة فيها حتى ضد تركيا المسلمة إجبارًا، واستمعت إلى نداء الحلفاء بأنهم إنما يحاربون للحق والعدل والإنسانية وإنقاذ الحضارة … لقد أحس سعد يومئذٍ أن أمته التي استُنْزِفت خيراتها، واستنفدت مواردها وأقواتها وأنعامها وبَهْمُها وغلَّاتها، وسيق شبابها ورجالها وعمالها إلى ميادين القتال وسُوح المجزرة، واصطبرت على الألم طيلة السنين، وعانت أشد البلاء متجلدة متحملة — قد حان أن تظفر بأمانيها القومية، وتشترك مع الشعوب المطالبة بالاستقلال والحرية، وتستمتع بجزاء ما أبلت في الحرب وميادينها الرهيبة.

أحس سعد ذلك كله، يوم التنادي إلى الهدنة، فجعل يضع المذكرات والتقارير، ويجمع إليه الأعوان والأنصار، واستقر رأي القوم بعد البحث والمشاورة على أن يتألف منهم «وفد» يحضر مؤتمر السلام نائبًا عن الأمة، ومكافحًا لقضية مصر أمام الإنسانية المنتصرة الظافرة، وطاف الجمع بالشعب في المدائن والريف يجمعون التواقيع ليعطوا الوفد قوة التوكيل عن البلاد.

وفي الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة ١٩١٨ بدأ الجهاد الوطني، وظهرت بوادر الثورة، عقب ذهاب سعد مع بعض رفقائه إلى دار الوكالة البريطانية للقاء «المعتمد»، وكان يومئذٍ رجلًا عسكريًّا، وهو سير ونجت باشا، وطلب السماح لهم بالسفر إلى أوروبا لحضور المؤتمر، والذود عن قضية مصر في الخارج؛ فرفض المعتمد طلب «الوفد» تعنتًا وإصرارًا.

لقد كان ذلك الرفض بداية نشوب الثورة أو سببها المباشر، إذ كانت في الواقع من حيث معانيها تعبيرًا عن ألم وبيانًا لأمل؛ فقد احتمل المصريون فواجع الحرب وتكاليفها، وخاضوا أهوالها وحتوفها مكبُوتِي النفوس، مكبوحي الغرائز، مسلوبي الإرادة؛ فلما انتهت ولم يجدوا تعويضًا عن ذلك الألم، جاءت الثورة لتكون تعبيرًا بليغًا في تأدية معناه، كما أتى الأمل شرحًا لمبلغه ومداه ومرماه. واحتاجت الأمة في أملها إلى تجسيم هذا التعبير عنها، فكان سعد هو «الرمز» القومي له، والفرد الأوحد الذي يتمثل الشعور العام فيه، وتتحد كل العناصر في ظهوره، وترتسم كل الأماني في بلاغة منطقه، وروعة صدقه، وجذوة وجدانه، وسحر بيانه، وتتصور في مناسبته للمعنى الجليل الذي دل عليه، والغرض السامي البارز منه؛ فكانت مصر الوطنية ماثلة في سعد الوطني بكل روعة الرمز، وجلال الصورة، وجمال المثال.

وهكذا تناسبت الثورة ورسالتها، والزعامة وصورتها، والبطولة وآيتها، بل هكذا تناسب سعد وأمته؛ قادها فأطاعته، وسار بها فتبعته، ودعاها فلبته، وأراد توحيد كلمتها ونسيان عصبية عناصرها لطوائفها ومذاهبها وملتها، فاستحال الناس مصريين، وكانوا من قبل في التعريف أقباطًا ومسلمين.

وقد ظن الإنكليز بعد رفضهم السماح للوفد بالسفر أنهم بنفيهم سعدًا والذين معه يستطيعون أن يخمدوا الجذوة، ويشلوا الحركة، ويطفئوا نور الوطنية الذي انبثق وأشَعَّ على البلاد فقبضوا على سعد في داره يوم ٨ مارس سنة ١٩١٩، واعتقلوا معه صحبه وأنصاره، وأرسلوهم إلى «مالطة» في الخفاء.

ولم يكن سعد ورفاقه إذ حُمِلوا من ثكنات قصر النيل إثر اعتقالهم يعرفون وجهتهم حتى أُركِبوا الباخرة من بورسعيد، ولكن عند تمثال دلسبس جاء الضابط الموكل بحراستهم قائلًا لهم: إن طريقكم مالطة، فعرفوا يومئذٍ منفاهم.

وفي مالطة أقاموا لا يعلمون من أمر مصر شيئًا حتى بدأهم حارسهم بقوله: «لقد غادرتم مصر بعد أن صيرتموها شعلةً من نار!»

كان نفي سعد هو «الشرارة» التي دبت في الهشيم فأوقدت منه نارًا، وقد اندفعت البلاد في وقدة الحماسة وضرام الحمية تبتسم للمنايا، وشبابها ورجالها بل ولدانها يلهون بالموت لهوًا، ولا يخافون رهبًا ولا سطوة، واستحالت مصر في أيام قليلة أفقًا متكهربًا، ومسرح حوادث جسام متعاقبة، لم تقتصر على المدائن، ولكنها غمرت الأرض كلها، ريفها وصعيدها، إذ اشترك الفلاحون فيها اشتراكًا رهيبًا، فراحوا يدمرون المحطات، ويقتلعون القضبان، ويهدمون مراكز البوليس، ويخربون كل تخريب.

ولست مع الذين يحبون أن يتفلسفوا عند الحديث عن سر الثورة المصرية وتعليل دوافعها، فيذهبوا إلى أن قيامها كان يرجع في سنة ١٩١٩ إلى الطمأنينة الاقتصادية التي كنا ننعم بها يومئذٍ بسبب ارتفاع أسعار الحاصلات، وبخاصة ثمن قنطار القطن، وتدفق المال في أيدي الزراع من وفرته وكثرته؛ فإن هذا التعليل «المادي» لأمر روحي وانقلاب نفسيٌّ هو في الحق تصغير لمعناه، وتهوين من مبالغه.

ولكني أومن بأن الثورة كانت وليدة الأمل بأن مصر قد حان أن تتنفس في جو حُر، وتتمتع بحقها المقدس في الاستقلال؛ فلم تكد الشرارة تدب في الحطب اليابس حتى نهض أهل القرى غضابًا متسعري النفوس، بعد احتجاز غرائزهم أربعة أعوام سويًّا، والحمل عليهم بأقسى ضروب القهر والإعنات جميعًا، حتى لم يكن منهم أحد إلا وله دم مطلول، أو ولد ضاع في خدمة السلطة، أو جمل مأخوذ من حقله، أو أقوات انتزعت منه انتزاعًا، وهو لبيعها كاره؛ فإن السلطة العسكرية البريطانية استبدت تحت نظام الحماية بالبلاد استبدادًا شديد الوطأة، خانق النكاية، متناهيًا في الأذى والبلاء والعدوان.

والناس ينزعون إلى الثورة إذ يجوعون وتلح عليهم المَتْرَبة، ولكنهم إذا اطمأنوا وتكاثرت أموالهم، خشوا الثورة ولم يندفعوا نحوها، خيفةً على ما ملكوا، وحرصًا على ما جمعوا واقتنوا، واستمساكًا بما وقع لهم من اليسار ونضرة الحال ورغد العيش وطيب الحياة.

لقد كانت الثورة يومئذٍ ثورة نفوس، وهَبَّة أرواح، وانفجارًا رهيبًا بعد حبسة مستطيلة واختناقٍ أليمٍ، وغليان قِدْرٍ على نار مشبوبة لا ينطفئ لها لهب، ولا ينفد لها وقود؛ بل كانت ثورة الفلاح الصغير قبل الزارع الكبير، ثورة المتألم الكظيم إذ ينفجر ويغضب ويحتدم، ثورة المكبوح الذي يجد نفسه في سراح بعد طيلة كبت وقهر، وفترة ضغط واستعباد ومخاض عذاب طويل وآلام.

كان العنصر الروحي في الثورة بارزًا على أحسنه، متجليًا على أبدعه وأروعه، حتى لقد ساهم الولدان والأصبية في الأزقة في الثورة على أقدارهم، وبحسب مداركهم وقواهم؛ فكانوا يجمعون الأحجار لكبارهم، حتى يقيموا متاريس بأعراض الطرق في وجوه السيارات المسلحة التي تطارد الثوار وتتعقب المتظاهرين.

واشترك في الثورة البنات والفتيات والنساء، فلم تلبث الحماسة الوطنية أن انتزعت من قلوبهن الخوف الطبيعي فيهن؛ فرحن يبرزن جماعات في الشوارع، ويشيِّعن الجنازات، ويهتفن باسم الشهداء، ويرسلن بحياة الحرية النداء في أثر النداء، ولا يرهبن المدافع تحصد الناس حصدًا، أو تمزق الجسوم أشلاء.

لقد هبت الحياة بكل أعمارها، كما وثبت مصر بكلا جنسيها للدفاع عن ذاتها، والذياد عن كيانها وحاجاتها؛ فكانت الثورة نارًا مندلعة في كل مكان، من الإسكندرية إلى أسوان؛ وكانت كلما اشتد الإنكليز في محاولة قمعها تفاقمت، وكلما اقترفوا الفظائع في مغالبتها أو إخماد جذوتها، تناهت سعيرًا، وتعالت ذوائبَ، وتسامت فوق كل محاولة.
figure
سعد في ابتسامته الساحرة.

يومئذٍ اندفعت الحياة العامة كلها نحو الثورة، فتعطلت كل مواردها، ووقفت كل مرافقها، وماجت واضطربت، فلم تعد تجري على سياق منظم أو تسير على نحو معروف، وأضرب الطلاب عن الذهاب إلى المعاهد، وامتنعت جميع الطبقات عن أعمالها حتى الكنَّاسين، وتعطلت المواصلات في المدائن، وأقفرت الحواضر، وبدت الشوارع مرهوبة الصور، مخوفة المشاهد، مكفهرة الأفق، وتتالت الحوادث بسرعة عجيبة في غير تفكير سابق أو تدبير مُبَيَّت، ووقعت المذابح في الشوارع علانية، وقتل الضباط الإنكليز في القُطُر، ووقف العمل في المحاكم والبريد والسكة الحديد، وأصدرت السلطة العسكرية الأوامر بإحراق القرى المجاورة للمحطات التي أعمل فيها الفلاحون التخريب والتدمير؛ فأحرق الإنكليز كثيرًا منها، وأغاروا على قرية العزيزية وقرية الشوبك والبدرشين، فأعملوا فيها الحريق، واقترفوا فيها الشنائع النُّكْر والجرائم الرهيبة وأفظع العدوان.

وانقلب أكثر الناس خطباء، حتى من لم يكونوا من قبل قد صعدوا المنابر، أو وقفوا يتحدثون إلى الجماعات، ولكن أولئك كانوا خطباء البديهة المنبعثين بغرائزهم وسليقاتهم، حين يجيش الإحساس، وترهف المشاعر، وتستجيب الألسنة لوحي القلوب، وكان أبرز الخطباء يومئذٍ هم الشباب، إذ راحوا يقيمون الاجتماعات في المساجد وتتوافى ألوفهم وحشودهم إلى الأزهر، حيث ألفوا البقاء طيلة النهار وزُلَفًا من الليل، متحمسين للخطابة، مستبشري النفوس للتضحية والفداء.

وكانت لغة الخطب جديدة، لغة النفوس، قبل أن تكون لغة الألسنة ملأى بأعجب العبارات، مرسلة مع أروع الأخيلة، محتوية على أسمى التصوير، فكان أدب الثورة رهيبًا مثلها؛ شعرًا من أصدق نبعاته وأغزر رَوِيِّه وبحوره وأقنيته، ونثرًا بليغًا ينزل إلى أعماق القلوب وتتفاهم به العقول، حتى التي لم تكن من قبل تفهم، وتستحمي به الأرواح، ويصور الموت حلوًا بديعًا خليقًا بالإقبال عليه إذا لم يأت طائعًا، حريًّا بالاستباق إليه مع المستبقين.

وكان رأس خطباء الثورة في فناء الأزهر وباحاته هو المرحوم مصطفى القاياتي العضو بالوفد المصري عند تأليفه؛ فإن ذلك الشيخ العالم، والثوري الجليل، والخطيب الأزهري المتقد الأسلوب، الجيَّاش الصوت، كان البارز في الحشود، المُسمِع الألوف، المتغني بأناشيد الحتوف، وكان المزمار العميق الرنين.

وكان يشترك معه خلق كثير من طلبة المدارس العالية، وشباب الثورة الملتهبي الأرواح؛ كما كانوا إذا استوفوا الخطب، انبعثوا يوزعون المنشورات على الناس، وكانت هذه هي ناحية النثر الفني من لغة الثورة وآدابها، وكان نثرًا خطابيًّا كل العناية فيه بالموسيقى والنغم ورنين الألفاظ ونَاريَّة الأساليب.

وكان توزيع المنشورات السرية فنًّا أيضًا، برع فيه الشباب وأجادوه، حتى أحاروا السلطة العسكرية وعيونها المبثوثة في البلاد، فكان من أولئك الشباب من يتنكر في زي متسول خَلِقِ الثياب، وينطلق حاملًا فوق ظهره خُرْجًا لا يحوي غير كسرات يابسات من الخبز، أو غير قطع من قماش رَثٍّ أخْلَاق، متوكئًا على عصًا، عاري الرأس، حافي القدمين، مُيمِّمًا صوب الضَّاحيات القريبة لبث الدعوة إلى الثورة بين القرويين.

جرى ذلك كله، وسعد غائب في مالطة، ولكن المَثل الذي أقامه قبل معتقله كان جليلًا للغاية، فقد كان شيخًا يسند في حدود الستين، وقد وَجَبَت له الراحة، وحُقَّ له أن يستجم من متاعب الحياة، ويطلب الدعة والسكون، فنهض يومئذٍ للمطالبة بحقوق بلاده، ولم يكن شك عند قيامه في أنه مُلاَقٍ خطرًا عظيمًا، مستهدف لشر مستطير، وما كان يبعد أن يكون الشنق مصيره والإعدام نهايته؛ ولم يكن قد دبر شيئًا ولا أعد للغد المجهول عُدَّة، ولا رتب مع أحد ترتيبًا، ولا بيَّت مع الزملاء خطة؛ ولكنه انبعث بقوة الإحساس الذي جاش في صدره، واستجاب للظرف الملائم لظهوره، واعتمد على الله وحده هو معينه ونصيره؛ لأن قوة إيمانه بالحق كانت في نفسه أعظم من أن يخطر بخلده معها أن يفكر في الثورة، أو يحسب لها حسابها، مع وضوح حقه واستحالة الجرأة على إنكاره؛ بل لم يكن به أدنى حاجة إلى تنظيم معدات الثورة، وهي يومئذٍ قائمة في صدر الشعب، مختلجة في نفس الأمة، فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من إطلاق شرارة لتحيلها نارًا متلظية متأججة اللهيب.

لقد ظهر سعد، وكان ذلك وحده كافيًا؛ ظهر البطل المنتظر، والقائد الثوري المرتقب الذي ظلت الأقدار تهيئ الأسباب لظهوره، وتعد المناسبة لمُتَبَدَّاه ومطلعه. وكانت أول بوادر زعامته الشجاعة الأدبية التي يعطي بها القدوة ويقدم بها المثل؛ إذ لم تلبث السياسة الإنكليزية أن قابلت حركته الأولى بإنذار، وواجهت انبعاثه لأول وهلة بتهديد ووعيد، وكان ذلك ممكنًا أن يحمله على القبوع في داره، والانزواء بعد تقدمه، وحساب العواقب قبل معاودة الإقدام.

ولكن سعدًا الشيخ كان ينبغي أن يظهر حتى مع الشيخوخة؛ ليكون حافزًا الشباب، مستثيرًا الأقوياء، مستحميًا قلوب الصغار والكبار على السواء، وفي ظهور البطولة على الناس مفاجأة قوية تنسيهم المخاوف والحرص على الحياة، وتبعث فيهم أكبر الشجاعة، وتثير لديهم احتقار السلامة والأمن والسكون.

لقد جاء يومئذٍ البطل الذي أحس أن رفاهية وطنه تقتضي منه ألا يمضي في دعته، ويسكن إلى صفو عيشه ورغده، وتوحي إليه أنه ينبغي أن يضع حياته وكل ما أُوتيَ في هذه الدنيا من خير في راحة كفه، ويواجه بها غير هيَّاب ولا وَجِل قصفَ الرعود، ومجهولَ المصائب والخطوب، غير جازع ولا متردد.

إن هذه الجندية الخشنة التي تلبس النفس الإنسانية لمكاره الحياة لَبُوسَها وتشتمل بثيابها وأرديتها، هي البطولة، وأول مظاهرها احتقار الدعة والاستهانة بالراحة، وهما صفتان مستمدتان من الثقة بالنفس والاعتداد بالإرادة؛ لأن الثقة بالنفس إنما تركن إلى قوتها ونشاطها وكفايتها لاحتمال الأذى الذي قد يصيبها في سبيل غايتها، كما يستند الاعتداد بالإرادة إلى السخرية بالحياة التي لا تساوي في نظر العظيم العناية بالحرص عليها، ولا توازي هذا التشبث الذي يتشبثه سواد الناس بها، وإن البطل لينطلق في سبيله على أنغام الموسيقى التي تجيش في أعماقه، وتحدوه إلى التقدم، وهي تدق وتصدح في أطواء جوانحه، فيمضي طَرِبًا مطمئنًّا لا يأبه بمكروه، ولا يجزع من خطب، ولا يلقي بالًا إلى كيد أعدائه وخصومة خصامه ومناوئيه وإن كانوا عليه متكاثرين؛ لأنه يعرف أن إرادته أعلى من إرادة جميع من تخرج له الأرض من الخصوم والأقران والأعداء والمنافسين.

البطولة لا تستهدي بعض الناس ولا تسترشد برأيهم، وإنما تطيع حاسة خفية في كيانها، ولا يمكن أن تتراءى حكمتها للناس كما تتراءى لذات نفسها ونظرها؛ إذ كل إنسان منا أقدرُ على الإلمام بمعالم طريقه، وأخْبَرُ بسَنَنه وسبيله من أي مخلوق سواه لم يسلك ذلك الطريق ولم ينتهج ذلك السبيل؛ ولهذا السبب نرى العقلاء والبعيدي مطارح البصر يُقبِلُون على البطل، فيجلسون تحت ظلاله، ويسكنون إلى أعماله وأفعاله، ثم لا يلبثون بعد قليل أن يجدوا تلك الفعال متفقة مع آمالهم، والأماني المتغلغلة في صميم ذلك الزعيم مؤتلفة مع أمانيهم هم وعُلالاتهم. ولا يني الحريصون الحازمون يتبينون أن أعمال البطل مناقضة لموجبات الحرص ومطالب الحذر والحزم ومقتضيات السلامة والأمان؛ لأن كل فعلة تُقَاس بمبلغ سخريتها من الخير الظاهر والفائدة السطحية، ولكنها لا تلبث أن تبلغ ثنية الفوز آخر الأمر، فيخرج الحريصون والمتردِّدون من مكامنهم وملاجئ حرصهم ومفازع حزمهم وحذرهم لتحيتها والهتاف باسمها، والانضواء تحت علمها المرفرف الخفَّاق.

كذلك صَحِبَ ظهورَ سعد البطل المنتظر إقبالُ كثير من الشيوخ والوزراء السابقين والموظفين الكبار المتقاعدين والأعيان والسروات والأغنياء على الفكرة، والاشتراك معه في الحركة، والمساهمة بالمال والرأي، ولم يكن منتظرًا من أمثالهم الانضمام إليه، ولا كان مرتقبًا منهم المبادرة إلى تشجيعه والوقوف بجانبه؛ ولكن سعدًا كان رجلًا يكسب احترام الجميع ويثق الكل بشخصيته وقوته وأصالة رأيه وثقته بذاته؛ فأقبلوا عليه مطمئنين، وتساندوا في غير خوف ولا تردد ولا إحجام.

إن شخصية سعد، تلك الشخصية الجليلة التي تكونت في الأدوار الأولى من حياته العملية منذ خرج من الأزهر إلى الميدان فبلغ مكان الوزير، ثم برز في الجمعية التشريعية ممثلًا للأمة، نائبًا عنها، متحدثًا باسمها، مدافعًا عن سلطانها؛ بل تلك الشخصية التي تعهدتها الطبيعة وجهزتها بكل معدات النبوغ ومظاهر الفتنة ورهبة التأثير هي التي نفثت في جميع من حولها، واجتذبت كل المعارف إليها، وقربت البعيد، وآمنت الخائف، وأزالت هيبة المتردد؛ لأن صاحب الشخصية الجليلة مَثَلُه كمثَل المطر السَّحِّ المدرار يحيي مَوَات الأرض الجدباء، وكالعين الثرَّة النضَّاحة تدع الصحراء حديقة زهراء، وإن روحه المتدفقة لتعم وطنه، وتشمل جِوَاره، وتغمر ناديه، وتملأ محيطه؛ وتبرز للنهضات، فتكون العاملَ الأكبر في التعجيل بنضوجها، وسرعة نموها، وما خروجه يومئذٍ للناس إلا كتوافر الدفء المنعش، والجو الملائم، والمناخ المناسب، ينضِج الغِرَاس، ويزكي الزروعَ، وينبت الحَبَّ، ويخرِج الشطأ ويطلِع الثمر، ولن يؤدي مؤداه ولن يسد مسده جميع ما يُختَرع من الأسمدة، وكافة ما يصطنع من المخصبات؛ لأنه يبرز بسنا ضيائه في الطخية الظلماء، فيرسل من قَبَسه على القوى البليدة المتواكلة الفاترة، فيجعلها تحتدم وتتحفز، وما الناس قبل مطلع البطل المنتظر إلا كأكوام القش، أو أكداس الحطب؛ فهل ترون الأكداس مشتعلة بذاتها ولو انقضت عليها وهي في موضعها ألف عام؟! أما إذا أرسل الله عليها شرارة من ضيائه، وتلك الشرارة هي البطل أو الزعيم المنتظر، فإنها لا تلبث أن تشتعل وتتأجج، حتى يستطير لهيبها، وتستفيض شعلتها، وتندلع ألسنتها، وكذلك ترى الرجل العظيم بمثابة الشهاب يسقط من السموات، وترى الناس كأكداس الحطب في انتظار الشعلة؛ فما هو إلا أن يسقط عليها من السماء حتى تشب فيها النار، فإذا هي مستعرة محتدمة تملأ الدنيا أوارًا ووهجًا وسعيرًا.

لقد كنا نحن تلك الأكداس … وكان سعد تلك الشعلة المقدسة!

وقد نهض سعد فتحرك الناس، ونُفي من الوطن فثاروا، وغاب في المعتقل فكانت تلك الأحداث الرهيبة التي ندر أن يقع مثلها بين قوات عزلاء وقوات مدججة بالأسلحة، بل لقد شهدنا أكثر الثورات تنهض مسلحة من جانب الثوار والشعوب المغضبة والجماعات المائجة الحانقة، لولا الإيمان الذي يتسلح العُزَّل به، والثبات الذي يَدَّرعُ به الضعفاء، فيجدي عليهم أحسن الإجداء حيال الرصاص والنيران.

وإزاء غضبة الشعب الصادقة، اضطر الإنكليز إلى الإفراج عن سعد ورفقائه من منفاهم، وأذن لهم في السفر إلى حيث يشاءون.

وكان ذلك في ٧ أبريل سنة ١٩١٩، فكان يوم فرح عام وابتهاج عظيم، قامت فيه المظاهرات الهاتفة الداوية، وانتظمت جماعات وحشودًا حاشدة، وساهم فيها الرجال والنساء وكافة الطبقات، حتى لقد كانت العين تشهد خلال تلك المواكب المستطيلة الجرارة الحافلة عالِمًا أزهريًّا يأخذ بيد قسيس، وقسيسًا يعتنق شيخًا، ورجلًا يصافح شابًّا، والولدان من حول المواكب حافُّون، والبلاد كلها تموج من فرط الفرح وهجمة السرور.

ومن ذلك اليوم انتقل سعد من دور البطولة المنتظرة إلى دور العبقرية السياسية، والزعامة الوطنية، وقيادة الرأي العام.

وفي هذا الدور الخطير من حياة سعد تتجلى مقدرته، وتبرز شخصيته، وتتمثل عظمته، وكأن تلك الاستجابة له من الأمة والتفافها حوله وتفانيها فيه قد أنسته تقدم عمره، وضعف شيخوخته؛ بل أحالته شابًّا متجددًا قويًّا فياض الحس بالحماسة والحمية والنشاط، فقد ذهب يجاهد ويكافح، ويتحمل من المتاعب والأذى ما لم يكن منتظرًا من شيخ في مثل سنه أن يتحمله، وراح يجالد ويصطبر للبلاء كشابٍّ في مَيْعَة الشباب، وعنفوان الأعصاب، وقوة الحياة.

لقد برز سعد بعد سنة ١٩١٩ في دور الزعيم السياسي، حيال إنجلترا التي اشتهرت بالمكر والدهاء وبراعة السياسة، فاستطاع أن يحاربها بمثل سلاحها، ويكافحها بأشباه أساليبها، وكانت كلما أوشكت أن تنهزم في الميدان السياسي تعمد إلى مجرد القوة، وتلجأ إلى محض الغشم؛ فتقبض عليه وتنفيه، وتبعده من الأرض وتقصيه، حتى لقد ذهبت به إلى جزيرة نائية في المحيط غير مراعية أي اعتبار لشيخوخته، ولا حافلة تَقدُّم سِنِّه، ولا آبهة بأنه رجل متزوج تنزعه من أحضان زوجه وشريكته؛ فكان يسخر من هذه السياسة اليائسة، ويتهكم بهذه القوة الغاشمة، ويقول باسمًا بسمة الازدراء: «لتفعل القوة بنا ما تشاء!»

وعادت تنقله إلى جبل طارق وهي لا تدري ماذا تصنع به؛ فقد أحارها سعد في أمرها، وأفسد عليها كل سياستها ومكرها، وأحبط تجاريبها جميعًا واختباراتها، فإن شخصيته كانت بعض أسلحته، وقوة حب المصريين له درعه المسُرَّدَة وبعض خطوط دفاعه الحصين المكين، وبالشخصية الجليلة والحب الصادق العام، أوجد سعد من أشتات الناس أمة متحدة، وأقام رأيًا عامًّا، وألَّف للدفاع كيانًا ونظامًا، وكانت هذه كلها قوة معنوية استطاع سعد بعبقريته أن يجعلها في كفه يقودها حيث يشاء، ويتصرف بها كيف يريد.

ومنذ كان سعد في الجمعية التشريعية وكيلًا عن الأمة، وهو في دفاعه عن سلطتها، وتمثيله لإرادتها، يرتكز على الشعور الذي كان يكتسبه خارج جدران الجمعية وأسوارها بترديد صوته، وتأييد مواقفه؛ فكان ذلك هو النواة التي أنبتت فيما بعد وعلى مهاب الثورة، الرأي العام.

وكان من فضل الثورة أنها بظهور سعد أحالت هذا الرأي قويًّا ملموسًا واضحًا بارزًا، وبعد أن كانت أجزاؤه مختلفة منقسمة بسبب الدين، ومخافة الأقلية من الأكثرية، راح سعد يوحد بين العناصر، ويؤلف بين القلوب، وينسيها العصبية الدينية، ويجعلها تقبل العصبية الوطنية، ويتجه بوَحدتها الجديدة تحت ظل الهلال متفقًا مع الصليب، نحو الدستور والاستقلال.

ويكفي أن يكون سعد مؤلف هذه الوحدة بعد أن كان الإنكليز يظنون أن الخلاف الديني معوان لهم على نجاح سياستهم وتثبيت أقدامهم، يكفي أن يكون هذا التآلف الروحي في ظل الوطن من عمل سعد وسحر شخصيته؛ ليكون شهادة بأنه كان رجلًا سياسيًّا نادرًا، وزعيمًا عبقريًّا من أروع طراز؛ فقد أوجه بهذه الوحدة الروحية الوطنية صخرة النجاة، وخلع على النهضة المصرية لونًا من أبهى الألوان، وأبرزها في منعة وأمان من كل خطر، وترك للقضية الوطنية تراثًا فخمًا تشعر الأجيال بأن أول واجبها هو الحرص عليه؛ لأنه الحصانة الدائمة من كل شر وبلاء.
figure
سعد في تفكيره العميق.

وقد ظهر سعد في الثورة حكيمًا، بعيدَ مطارح البصر، وقائدًا وطنيًّا غزير الموارد، قوي السلطان، ملهم الروح، سديد الرأي، صائب الفكر؛ لأنه لم يقف عند إيجاد رأي عام، بل ذهب ينظمه أحكم تنظيم، فبدأ قبله معتقله في مالطة يحصل على تواقيع الأفراد على توكيله عن الأمة في السعي إلى استقلالها التام، فاستطاع سعد بذلك أن يجابه كل معترض، ويواجه كل خصم مكابر، ويثبت أنه وكيل الأمة المعبر عن مشيئتها، المتحدث باسمها، الناطق عن إرادتها ورغبتها الصادقة.

وأنشأ بعد ذلك ينظم الوفد، فجعل له لجنة مركزية في القاهرة، ولجانًا فرعية متعددة في عواصم الأقاليم والمراكز والجهات، كما جعل للسيدات لجانًا خاصة، وهذه اللجان جميعًا بمثابة برلمانات صغرى ووفد محليٍّ ومجامع شورى صغيرة، يتمثل فيها الشعب بكل طبقاته وهيئاته، ويبرز فيها الرأي العام واضحًا قويًّا متماثلًا مؤتلفًا في غير تخاذل ولا اختلاف.

وهذا هو الذي جعل للوفد قوة ظاهرة في البلاد، وحمل الإنكليز على الاعتراف بأن للوفد نظامًا لا يجاريه في العالم نظام، وحتى قال سير فالنتين تشيرول الصحفي السياسي الكبير الذي كتب طويلًا في القضية المصرية، حين قارن بين الحركة الوطنية في مصر وبين مثيلتها في تركيا: «إن الأولى تمتاز عن الأخرى بالتنظيم.»

وكان من فضل هذا النظام الدقيق أنه حين اعتُقِل سعد ورفاقه قامت في البلاد هيئة أخرى من الوفد تحمل عَلَم الجهاد، وتتولى الأمر في غيابه، وتشرف على هذا النظام المكين، وتوجه الروح المعنوي في السبيل الصالحة والطريق القويم، وحين قُبِضَ على أعضاء الوفد «الثاني»، وأُلقِي بهم في غيابة السجون وحوكموا أمام المحكمة العسكرية وحُكِم عليهم بالإعدام، ثم عدل الحكم اكتفاء بالسجن؛ لم تلبث أن نهضت هيئة أخرى حلت محلها، وتسلمت العَلَم منها، وأشرفت على حركة الجهاد؛ وكان ذلك كله بترتيب سابق من سعد قبل معتقله، وتنظيم دقيق عين فيه الأشخاص تعيينًا، وحدد الأسماء أدق تحديد.

ويكفي هذا للتدليل على أن سعدًا أوتي «فن القيادة»، وكان حاذقًا لكل أساليب الزعامة الوطنية؛ فإن قوة الرأي العام التي تعهدها سعد من مطالع الثورة ومبادئها وتوفر على تغذيتها، وحشد لها أكبر العناية بها، هي التي سندته في سائر مواقفه حيال السياسة البريطانية، وإزاء الوزارات المصرية التي كانت تصطنع لمحاربته، وتُحَرش بمقاومته؛ بل هذه القوة الإجماعية البارزة هي التي حملت الإنكليز على التراجع عدة مرات إزاءه، ورده إلى وطنه بعد المنفى في سيشل وجبل طارق؛ فكانت عودته يومئذٍ انتصارًا باهرًا له على خصومه واستقبلته البلاد استقبال الأمم للغزاة والفاتحين.
figure
سعد العظيم وهو يخطب ومصطفى النحاس يكتب الخطبة.

وكان من سعد السياسيَّ الذي يعرف كيف يخرج من أحرج المواقف ويعالج أدق المشكلات، ويستعين اللباقةَ والعبقرية السياسية وفنون القيادة على توجيه الرأي العام في أحكم الاتجاهات — كان من سعد السياسي سعدٌ الخطيب الذي بلغ القمة في خلابة المنطق وبلاغة التأثير وسحر البيان، ذلك الخطيب الذي أنشأته الطبيعة من الشباب، فأقامته في الأزهر يستمكن من اللغة، ثم عطفت به على ميدان المحاماة ليبرز استمكانه فيها، ويتدرب على سحر الخطابة وبواعثها وأفانينها، قد عاد في قيادة الشعب وزعامة الأمة يجد في الخطابة بعض أدوات تأثيره، ومظاهر سلطانه على النفوس واختلابه للألباب.

وقد عُدَّ سعد بحق من أكبر خطباء العالم في العصر الحديث، وقرنوه بلويد جورج وبريان ودي فاليرا وجوزف تشمبرلين وكثير غيرهم من الطراز ذاته، ولكنا نعتقد أن سعدًا يفضلهم جميعًا، ويجب أن يوضع على حِدَته؛ لأن عبقريته كخطيب لا تقف عند جلال حركاته وقوة بيانه وبلاغة عباراته، ولكنها تتجاوز ذلك كله إلى سحر شخصيته، وإلى فهمه الظروف، ونفسية الجماهير، ومواطن التأثير، ومستدق الخوالج، والدبيب إلى أعماق الشعور.

لقد كانت كلمات سعد دستورًا للوطنية، وخططًا للجهاد، وأساليب للكفاح، ووسائل دفاع وهجوم؛ إذا قال أصغت أمة بأسرها، وأنصتت بريطانيا وإمبراطوريتها، واستمع العالم بجملته.

وهو في ذلك كله ينماز عن الخطباء الآخرين من الساسة الكبار في الغرب؛ لأن هؤلاء إنما يخطبون في شئون سياسية أو استعمارية، ويرمون إلى أغراض خفية أو مقاصد يحبكها الدهاء والمكر السياسي، على حين يخطب سعد عن شعور ثجَّاج وإحساس مستفيض نَبَّاع، وخلجات نفس متقدة جياشة متسعرة؛ لأنه يتوجه بالكلام إلى مشاعر الجماهير، ويدق أوتارها الحساسة، وينفذ إلى مساربها الخفية، ويستمكن منها كل استمكان.

وكان سعد على قوة غير مألوفة في الجلد على الخطابة، حتى ليمكث الساعات الطوال، ولقد اعتمد سعد على هذه المقدرة الخارقة للعادة في مكافحة الوفد الرسمي الذي ذهب للمفاوضات الأولى برياسة المرحوم عدلي باشا. وكانت صحف سعد قد حوربت جميعًا، وبات ولم يكن له صحيفة ولا لسان حال، فكان يخطب الوفود تلو الوفود من الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء في غير كلال ولا تبرم ولا إعياء.

لقد كان سعد في الأدوار التي سبقت قيام الحياة النيابية وفي جلسات البرلمان وفي محاربة الخصوم وكفاح المستعمرين، بل كان إلى آخر خطبة له وهو يودع الحياة، مثالَ البطل الخطيب، والمنطيق المفوَّه العظيم، يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبةً نادرة كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، بل كان الخطيب الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم، وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن من قبل تجري في شرايينهم، وإذا رام غزو أذهان سامعيه نثر فيهم روحَه، فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة مغناطيس منطقه، وجاذبية نفسه، وجلال سلطانه.

وإن تاريخ محاربة سعد لخصومه — وقد أبى القدر إلا أن يكون له خصمان، وأن تنفتح أمامه للعداوة والمناوأة ناحيتان: ناحية الإنكليز، وناحية صنائعهم ومنفذي سياستهم — لهو تاريخ مستطيل، ليس يتسع هذا الكتاب لمثله، ولكنه — في إيجاز — تاريخ زعيم عبقري بالغ الذكاء، واسع الحيلة، مرن الأساليب، معتدٍّ بقوته، مستلهم وحيَ خاطره، عجيب التفكير في إيجاد الوسائل للخروج من المآزق، والنجاة من المحرجات، وتجنب الصدمات أو التعجيل بها إذا كانت في مصلحته، وخلق الأشكال لمرمى من مراميه، وغاية خفية من غرائب غاياته، ويوم يحاط به، حتى ليُظَنَّ أنه قد سَلَّم وأذعن، أو هو موشك على التسليم والمهادنة، انسرب ناجيًا ليقف عن كثب يلهو بمنظر الذين ظنوا أنهم قد حاصروه وقد راحوا مبهوتين من خدعته في خزي من غَلَبه على تلك الصورة الفجائية المستغربة.

وقد كان سعد بجانب عبقريته السياسية «الزعيم» الأول للديمقراطية في بلاده، هو الذي وضع نواتها، وهو الذي سقى شجرتها، ورواها وغذاها، وقام على حراستها، وكان البستانيَّ الحاذق الذي يتوخَّى لها أصلح العيدان، وينتقي لها أغرب وسائل اللقاح والتأبير، ويختار لها أحسن حقول التجاريب. وهو الذي أعمل المهماز في خاصرة النبوغ، فجعله يستبق ويطفر، بما تعهده في ظل الديمقراطية من رعاية وعناية وتشجيع، كلما وقع على كفايات فتية ومواهب مبشرة بخير، رفعها إلى المستوى الخليق بها، وأخذ بها إلى ميادينها الصالحة، ومستبقها المناسب، ومضمارها الفسيح.
figure
سعد قبيل وفاته.

ومن عجيب تصاريف القدر الرحيم الذي كان يلحظ سعدًا من النشأة ويرعاه من التكوين، أن البلاد أصابت الدستور وتصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ بثمن نفيه إلى سيشل، وأن ذلك الدستور الذي ظن الإنجليز وأعوانهم أنه سوف يروح أداة انقسام ومحل خلاف وباعث تشتت وتفكك، عاد بفضل سعد وقوة نفوذه في الرأي العام، وبعد ذلك المنفى الطويل الأليم في أسوأ أفق وأنأى جزيرة، هو المرجح الأوحد للإجماع، ومظهر مشيئة الأمة؛ فقد نخلت الحياة النيابية الأفراد الذين تقدموا ليحتلوا أماكن فيها، وغربلت الجماعات التي طمعت في التمثيل، فأبقت على الصالحين المخلصين، ونفت من لا خير فيهم ولا رجاء، فانقلب بذلك ما كان الإنكليز يحسبونه وسيلة حسنة لهم، أداة خطر عليهم؛ فجعلوا كلما اكتسح الوفد الانتخابات، يدسون على الدستور ويعملون على تعطيله، وقد عطلوه في أيام سعد ولم يقم غير بياض يوم واحد. ولكن محاربة الدستور جعلته عند الأمة يزداد قيمة ويرتفع قدرًا، وينمي الحرص عليه، ويزيد الشعب تمسكًا به؛ فبقي سلطان سعد قائمًا بارزًا يملأ المسرح السياسي من جميع جوانبه، إلى أن قضى نحبه في الثالث والعشرين من أغسطس سنة ١٩٢٧. وكانت مصر من فرط حبها له وسكونها إليه وإيمانها به، لم يَدُرْ في خلدها أن رجلًا مثله مقدور عليه الموت ككل حيٍّ، منتظر له الرحيل من هذا العالم في يوم من الأيام، فلما صُدِمت بنعيه كاد يذهب لبها من شدة الجزع، وكادت الأرض تميد بها من فرط الألم للكارثة وشدة الأسى من الخطب العظيم.

وفي الحق لقد كان سعد أمة للوطن قانتًا، وكان في الدفاع عن مصر طودًا ثابتًا، ولم يكن إنسانًا على ما ألِفَ من خلق الناس، ولكنه كان قطعة بارزة من التاريخ الحديث، بل كان سرًّا من الأسرار الإلهية لا ندري كيف جاءنا، وكيف ذهبنا به إلى مساكن الأبدية، وكان صورة رائعة حية ماثلة من صور البطولة والعظمة وجلال الشخصية، وكان عظيمًا في رأس العظماء، وقديمًا كانت الشعوب لجلال العظمة تذعن وتؤمن وتدين.

لقد طبع سعد العصر كله بطابعه، وأوحى إليه بخاطره، ولوَّن سائر أجزائه بلونه، بل كان الضمير الذي به يحس، والوجدان الذي به يشعر، والنبع الذي منه يفيض وينبجس، وقد مات تاركًا أمة حفيظة لتعاليمه، حريصة على مبادئه، مقدسة لذكراه، مجاهدة لاستكمال ما صنع، واستتمام ما بدأ، والمسير إلى الغاية التي كان يعمل لها بقوة اليقين ذاته وروعة ذلك الإيمان.

لقد قاد سعد الثورة موفقًا، وقاد السياسة بعد الثورة ناجحًا، وكان أكثر نجاحه عائدًا لسر شخصيته، وفعل عبقريته، وتعدد مزاياه ومواهبه؛ ولكن لا ريب في أن عوامل خارجية وظروفًا مساعدة مواتية اجتمعت له فكانت من أسباب توفيقه وبواعث نجاحه.

ومن هذه العوامل أن الله أتاح له الزوج الموافقة، وحباه بشريكة الحياة المناسبة، وليس من ريب في أن كثيرًا من عظماء التاريخ لم يصيبوا الخلود، ولم يظفروا بالمجد، ولم تتم لهم المقاصد، إلا كان بعض الفضل في أولئك جميعًا لأزواجهم، وإن كان التاريخ يخص بأكبر الفضل الرجال، وتروح أسماء النساء معلقة في أذيالهم، مجاورة لأسمائهم. وفي تاريخ البطولة عظماء كانت ستعتريهم برودة الحياة، وكانوا سيخسرون الصفحة الناصعة التي أعدت لهم في سِفْر الخالدين، لو لم تنهض لهم من جوف الغيب سيدات أو زوجات حملن معهم أعباءهم، وضَمَدْنَ بأيديهن جراحاتهم، وأعددنَ لهم الخلود مقامًا عليًّا.

كذلك هم العظماء بحاجة إلى أزواج نوابغ كرائم على خُلُق عظيم، فإن الزوج الذكية للرجل النابغة أو العظيم لهي اللازمة الأولى والمطلب الأكبر، وإن طائفة من العظماء لم تمنحهم الطبيعة هذه المنحة، ولم تَحبُهُمْ بهذه الهبة، بل رُزِقوا بنساء شريرات، وأزواج نساء سوء؛ فكن لهم الويل العظيم، والنقمة الكبرى، فلم يلبثوا أن فَسَدَتْ أذهانهم، وتكدر صفو عيشهم، وخسَرَت الإنسانيةُ شيئًا كثيرًا مما كانت به ظافرة لو أنهم نجَوْا من تلك النقمة الدائمة، والشقوة الملحة الملازمة، والحظ العاثر الأليم.

وحسبنا أن نذكِّر الناس بحديث امرأة سقراط، فقد كانت اللعنة التي لازمت حياته، وكان عيشه بها أسوأ العيش، وكانت مصيبته ونكبته وبلواه.

وكان سعد من صفوف العظماء الذين منحتهم القوة الإلهية الزوج الصالحة، فقد تزوج يوم كان قاضيًا في الاستئناف بسليلة بيت كريم، وسيدة من ربات الذكاء الراجح والعقل الخصيب والخلق الرفيع، رُبيت في نشأتها على خير ما يُربَّى البنات، وأُدِّبت أحسن التأديب، وتعلمت الفرنسية والعربية والتركية من الحداثة، فلا غرو إذا هي ظلت شريكة زوجها في عاطفته، وقرينته في مشاعره وإخلاصه لأمته، ومشاطِرته آماله وعلالاته، وملازمته في تعاليمه ومبادئه.

وقد كان أهل الغرب يرمون المرأة الشرقية بالجهل ويتهمونها بالجمود، ويتخذون من معنى «الحريم» معنى الموت في البيت، والقبر في الخِدْر، ويتفاخرون على نسائنا — نحن المشارقة — بأن المرأة عندهم تشارك الرجل في عواطفه، وتساهم في مطالب الحرية، وتشترك في مقتضيات العمران والاجتماع.

ولكن المرأة المصرية في الثورة لم تلبث أن راحت لا تقل عن نساء الغرب في مدى عاطفتها، ونبالة تعاليمها، وسمو أغراضها، وجلال غاياتها، وقد نهضت تشارك الرجل في أسمى حركات العالم، وأرفع مشاغل الحياة.

وقد نهضت شريكة سعد، السيدة الجليلة أم المصريين، في رأس النهضة النسوية في هذا البلد، روحًا عالية تجري وروحَ زوجها العظيم في منحى واحد، وتماشيها في سنَنٍ عالٍ شريف، بل لقد اعتُقِل زوجها، فظلت على ثبات عظيم ووفاء جليل، وظلت دارها مَعْبَدًا تخشع عنده النفوس، ومحجًّا للقاصدين، وبقيت هي منارة عالية ترسل خطوطها وأضواءها فتغمر الجهاد والمجاهدين.

وثَمَّ عامل آخر أتاح لسعد رائد التوفيق، وهو قيام صَحْب مخلصين من حوله، لم يتركوه يومًا مع التاركين، وإنما لازموه في السراء والضراء، وكانوا له أشد الأوفياء وأخلص الخلصاء، وكانوا موضع ثقته ومحل طمأنينته على الفكرة وسيرها، والحركة وتقدمها، والنظام الداخلي في الوفد واستتبابه، وكان أولئك الصحب والأولياء قد تغلغلوا في نفس سعد ونفذوا إلى قرارتها، واستمدوا من قواها وحرارتها، واكتسبوا من جوارها ورفقتها، وملازمتها وألفتها، فاجتمعت قواه مع قواهم في تنظيم الوفد على أعجب ترتيب، وتنسيق الجهاد أروع تنسيق، والإشراف على الحركة الوطنية لإحاطتها بنظام فريد في نوعه، بديع في سائر نواحيه، حتى كانت منه «أداة» مرتبة منسقة صالحة، تعمل في غيابه كما تعمل في حضوره، جارية على «أوتوماتيكية» دقيقة للغاية، كسير أجزاء الساعة ودقائقها. كما كان له أكبر الأثر في النجاح الذي صحب سعدًا وزملاءه في الانتخابات العامة، والمعارك السياسية العديدة، والمناورات المحكمة المضادة، وتنظيم الحياة الدستورية، والكفايات التي برزت وتجلت في البرلمان، كأن الحياة المصرية قديمة العهد به، وكأن المصريين عريقون في مجالس التشريع، وإن كانوا يومئذٍ فيه بادئين.
figure
مصطفى النحاس.

وكان من بين أصحابه رجل أراد الله أن يصحبه من البداية، ويلازمه في أكتف غبار المعركة، ويسايره في أشق مراحل الجهاد ليتدرب عليه، ويمزج حياته بحياته، ويأخذ عنه ما أرادت الأقدار أن يأخذه ليجمع إلى الدُّربة مواهبه، وينمي المواهب برياضتها في جواره، فكان ذلك من توفيق الله الذي اقترن بزعامة سعد ورعاها، وصحب قيادته وماشاها؛ لكي يترك التراث الفخم مطمئنًّا عليه، ويغادر المكان واثقًا من مآله، ويدعَ الزِّمام مستريحًا إلى الكف التي ستتولاه في حزم ومقدرة وقوة وإيمان.

وكان ذلك الرجل الذي أعدته الطبيعة لمثل ما أعدت سعدًا من نشأته وتكوينه هو «مصطفى النحاس»؛ فإن من توفيق الله الذي لازم سعدًا طيلة زعامته أنه وجد الشخصية الصالحة التي تتسلم تركته الروحية، وتتلقى تراثه الوطني العظيم، وأنه اهتدى إلى الرجل الخليق بالموضع قبل أن يَفْرَغَ له بوقت طويل، قدَّرته العناية الإلهية كافيًا للمرانة على مطالبه، والرياضة على واجباته ومشاهدة تجاريبه، ومعاينة وسائل تصرفه، ولكي يقاسم صاحبه الشدائد التي تقع في طريقه، والمتابع التي يقاسيها في مراحل جهاده، حتى ينضج قبل أن يتلقى مقاليد القيادة، ويكتمل من جميع الجهات قبل أن يستوي في الموضع المقدور له في خطة الكون ومهيآت الظروف وتدبير السماء.

وقد كان من حسن الحظ بالنسبة لسعد أنه جاء ليأخذ في يده زمام النهضة، ويتولى في الأمة أمر الزعامة، ولم يكن أحد قبله عليها، ولا وقعت لإنسان من قبله، ولم يسبقه نموذج من نماذجها، ولا ظهر لون من ألوانها، ولا قالب من قوالبها حتى يمكن أن يكون ثَمَّ محل لموازنة بينه وبين الآخر الذي تقدمه، ولا مجال للمقارنة بينه وبين الذي استبقه. ولم تكن الأذهان متأثرة بشخصية ماضية، أو عظمة ذاهبة، أو زعامة سالفة؛ فهي لا تزال تحت تأثيرها، مليئة الذاكرات بصورها، مزدحمة الخاطر بما ارتسم عليها من أفاعيل نفوذها وسلطانها، وإنما أتى سعد في الزعامة منقطع النظير أوحدَ، قائمًا بمفرده على جلاله، يَبْدَهُ العصر، وينفرد بإعجاب الجيل، ويستأثر بمحبة الملايين.

ولكن كان من المشقة على الرجل الذي هيأته الأقدار ليخلفه على الموضع ويشغل المكان من بعده أن زعيمًا كسعد تقدمه، وقائدًا وطنيًّا عظيمًا كسعد ظهر قبله، وأن ذلك قد يفتح على أبواب من المقابلة، ووجهات من الموازنة، قبل أن يستقر به موضعه، وتظهر فِعَاله، وتتجلى مزاياه، وتتكشف مواهبه، ويبدي ما عنده من جديد.

لقد كانت مصر في فجيعة المصاب بذهاب سعد ومواجع الأسى لفقده، وقد كانت من قبل تحسبه حيًّا أبدًا، ولا تتصور الموت يومًا مدركه، تتمثل زعيمها الراحل في كل لحظة من لحظاتها، وتتخيله في غدواتها وروحاتها، وتحِدُّ عليه أبلغ الحداد، وتتصور جميع فعال بطولته وأداتها، وسائر مزايا زعامته وصفاتها، ولكنها مع ذلك كله، إذ بويع بالزعامة بعده الرجل الأوحد الذي كان خليقًا بها، والشخص الذي اختارته الأقدار قبل اختيار الناس له، وقفت تتنفس الصُعَداء مستريحةً لهذا الاهتداء الموفق، مطمئنةً إلى هذا الاختيار الحكيم، وكانت قد نسيت لحظة حملت رفات سعد إلى مثواه وهي في جِنة الأسى وهِزَّة الصدمة ووَقْع المُصاب، أنَّ أحدًا خليق بمكانه حقيق بموضعه، وأن الأمر سينتقض من بعده، ومحل القيادة العامة سوف يظل شاغرًا، وأن الحركة الوطنية ستروح مُعدِمة من الرأس القائد، واليد القابضة، والقوة الدافعة، والمرشد الأمين.

ولكن لم تكد الصدمة تخف رويدًا حتى بدأت اللهفة تخف شيئًا فشيئًا، ومضت الحيرة تذهب قليلًا قليلًا، وإذا اسم «مصطفى النحاس» يتحير على الشفاه، وتجري به الألسنة، ويدور في المجامع، ويطوف الندوات، فيلاقي الرضا، ويجد القبول، ويشهد الإجماع عليه والاتفاق، ويبتسم الناس بمرارة عاجبين لأنفسهم، كيف كانوا لهذه الشخصية الصالحة الموافقة غير ذاكرين.

وكان مصطفى النحاس عن الديار غائبًا يوم وفاة سعد، فبوغت بالنبأ العظيم وهو في أوروبا أفجع المباغتة، ونزل منه الخبر الصاعق أرهب منزل؛ لأن المرض الذي أصاب سعدًا لم يَطُل عليه، والعلة التي عاجلته لم تستبق لها بوادر وسمات غير كلام سعد نفسه في ختام الدورة البرلمانية التي سبقت مرضه، فقد كان من خلف ألفاظه أو في تضاعيف كلماته إيذانٌ ببَينٍ، وإحساس سابق بوداع، وكلمة نوى بعيدة وفراق؛ حتى لقد عاد الناس حين وفاته يذكرونها، ويعجبون كيف لم يلتقطوا هذا المعنى الخفي فيها، وراحوا لتعزية أنفسهم يدعونها «خطبة الوداع»، وهي في الواقع خطبة النبوءة، وإلهام الروح، وسبق الشعور، واختلاج الغيب في الوجدان.

لقد ذهب سعد عقب انفضاض الدورة إلى «بساتين بركات» انتجاعًا للراحة، والتماس أيام صفاء مع خواصه والمحببين إليه، وكان ذلك في ١٥ أغسطس من ذلك العام، فلم يكد ينفرط أسبوع حتى كان سعد في الذاهبين.

وكان مصطفى النحاس بحاجة يومئذٍ إلى الراحة؛ فسافر إلى أوروبا مطمئنًّا على صاحبه العزيز الذي ظل السنين الطوال قريبًا منه، وموضع ثقته، ومحل رضاه واعتزازه، وما درى يومئذٍ أنه سوف يُرَوَّع وهو غائب بمنعاه، ويفاجأ بأن سعدًا قد فارق الحياة.

ولعل كلمة الأقدار في ترتيب الحوادث على هذا السياق الأليم أن يقر الناس مصطفى النحاس على خلافة سعد، وتجتمع نفوسهم على أنه بالزعامة من بعده الخليق الأوحد. وكما كان الأمر من شأن سعد ذاته، فقد نودي بزعامته وهو غائب في منفاه وغربته، وتوافت له شهادة الأمة ببطولته قبل أن يسألها، أو ينبعث إلى طلبها، أو يحتال بنفسه لها — كان أمر مصطفى كذلك بغير خلاف، فقد التفتت الأذهان إليه وهو في سفره، وتذكرته النفوس في منزحه، وأقرته القلوب في غيبته، فلم تكد قدمه تطأ أرض وطنه حتى تلقاه الناس مطمئنين إليه، معترفين بجدارته لذلك الموضع العظيم.

لقد كانت بيعة هذا القائد الوطني الجديد «طبيعية» لم يَشُبْها أدنى تكلف، ولم تجر من حولها أقل محاولة، وإنما اختارت العناية الإلهية فأمن الناس على اختيارها، وتقدمت الأقدار فانتخبت من أعدَّته لهذا اليوم وهيأته، فأقرت مصر هذا «الانتخاب الطبيعي» مستريحة إليه مطمئنة، واعتمدته اعتماد الثقة واليقين.

ونحن لا ينبغي لنا أن ننسى أن مطالع زعامة سعد كانت على شَرَف من الثورة، وكانت الثورة قد نضجت، فجاء هو فأخرجها من الأتون مستعرة متلظية، ولكن مطالع زعامة مصطفى بدت في أخطر أدوار السياسة وأرهب حلقاتها، واشتداد تدافعها وتجاذبها، وحَرِّ تطاحنها وضَرَاوة حزبيتها، وكانت مقدمة ظهور سعد حيال خصم واحد وهو الإنكليز، بينما هو وسط وَحْدة تامة، وأمة متراصة، وشعب مجتمع، وكتلة واحدة؛ بينما راحت مقدمة ظهور مصطفى على الزعامة وربوتها، وفي القيادة العامة وذروتها، حيال خصوم متكاثرين، وأعداء هم ألْبٌ واحد عليه، كما كان مُطَالَبًا من البداية في امتحان خطير من امتحانات الكفاية، وابتلاء من ابتلاءات المواهب؛ ليدلل على أنه الخليق بالرياسة التي جاءت تسعى إليه، الحريُّ بالزعامة التي تقدمت نحوه طائعة.

لقد كان موقف مصطفى النحاس حين بويع بخلافة سعد خطيرًا مرهوبًا؛ أمامه مثال سعد لا يزال في الأذهان مرتسمًا، وحياله الخصم الطبيعي — وهو الإنكليز — لا تزال حقيقة سياستهم بالنسبة للمفاوضات الجارية في لندن غير ظاهرة ولا واضحة، وقبالته خصوم الدستور يتربصون الدوائر به، ومنفذو التجارب الاستعمارية يترقبون السوانح للغلبة عليه — فكان من ثم طبيعيًّا أن يلقي مصطفى النحاس بنظره أمامه وفيما حوله؛ ليتأمل ما هو مُقدِم على اقتحامه، ويستشرف الساحة المترامية على مدى ناظره، فيحس عظم التبعة التي ألقيت عليه، وجسامة المسئوليات التي وسدت فيه، ورهبة الموضع الذي تبوأه.

فلا عجب إذا هو صارح يومئذٍ الناس بما في نفسه من ذلك كله؛ لأنه لم يكن بالرجل المزدهي صاحب الخيلاء، ليس له من ذلك غير الفرح به والتهافت عليه، ولكنه كان من بداية حياته العملية رجلًا متزنًا أريبًا قوي الفطنة، مواجهًا الحقائق، لا يمس عظمته مَسُّ غرور، ولا يخدعه شيء من الخارج عمَّا في دخيلة ذاته، وإنما يأبى إلا الصراحة والقول الحق والرأي الجهير.

ولا عجب إذا هو في يوم مقدمه من سفره قد ذهب رأسًا ليزور سعدًا في قبره؛ لتكون التحية من وراء الصفائح والجنادل، وبينهما برزخ لا يلتقيان، ولكنَّ روحيهما على بعد النَّوَى وطول الشقة تتجاوبان. وفي وسط سكون رهيب، وموقف حزن عميق، والأعين بالدموع سحاحة، والنفوس من جلال المشهد في خشوع، وقد خيَّم جلال الموت فوق جلال العظمة، وتماثل صمت الحياة بصمتة الأبد — وقف مصطفى بين نَوْحٍ يغالبه وبكاء يتغلب عليه، واصفًا نكبة مصر وأساها، مُشْفقًا من التبعة ووطأتها، قائلًا بين إجهاش ونحيب:

كان سعد يحمل العِبْء عنا جميعًا، وقد ألقاه الآن علينا جميعًا، إن سعدًا يريد منا العمل، إنه يريد من هذه الملايين أن يعملوا، فلنكن جميعًا ملتفِّين حول روحه، إن روحك يا سعد أمامنا … أنت الإمامُ دائمًا …

آه يا سعد! … لقد استرحت يا سعدُ وتركتنا نتعب، تركت الحِمْلَ لأبنائك كلهم، كنتَ زاهدًا في الدنيا، وها أنت الآن في الزهد الأخير، لم تتم بعدُ مهمتك، ولكن روحك ستتمها معنا. إننا جميعًا على عهدك حتى الممات، وإذا متنا فإن ذرارينا سيقتفون الأثر. سنعمل حتى نصل إلى ما كنت تصبو إليه لتستريح، وقد كنت تعمل ونحن مرتاحون، فإن نلنا المُبْتَغَى استرحنا واسترحت، وإن لم ننله واسترحنا، جاهد أبناؤنا من بعدنا …

سنكون جميعًا كتلة واحدة ويدًا واحدة؛ لنعمل مجتمعين عملَ سعد منفردًا، وسنلتف حول روح سعد ليستريح في مرقده، وسنجتمع كلنا، لا يشذ منا أحد، نجتمع حول مبادئك يا سعد ونسير على طريقك القويم، أما سحر بيانك وقوة حجتك التي كانت تبهر السامعين، فعزاء لنا فيها جميعًا، وصبرًا جميلًا على فقدها. إن قلوبنا قوية ومتجهة إلى مصر التي كنت تحبها وتهش لذكر استقلالها.

إن سعدًا لم يكن رئيسي، بل كان أبي، ولقد عاشرته في المنفى فرأيت فيه حنو الآباء على الأبناء. وما كان سعد ليهتز لخَطْبٍ أبدًا، لقد كانوا يأخذونه من بيننا، وينقلونه من منفى إلى منفى، وكانت الكلمات التي يقولها وداعًا لنا:

ستعودون أنتم إلى مصر لتتموا عملي، أما أنا فأحب أن أموت بعيدًا عن بلادي، حتى تتأجج الوطنية في قلوب بنيها»، ثم كان يقول:

«قد يجمعُ الله الشتِيتَيْنِ بعدما
يَظنَّانِ كلَّ الظنِّ أن لا تلاقِيَا»

سنجتمع معك يا سعد إن شاء الله في دار الخُلْد بعد العمل للاستقلال، وسنبذل جهدنا لتحقيق غايتك، ونعاهدك أمام قبرك الكريم على المضيِّ في الجهاد، ونرجو الله أن يثمر عملنا قريبًا، حتى تستقر روحك وتهدأ في عالمها الأعلى، فإننا نشعر أنها ستظل مشرفة علينا، ترقب جهودنا، وتغذي نفوسنا، حتى ننال الاستقلال التام …

figure
وقفة مصطفى النحاس بقبر سعد.

هذه كلمات صادقة حزينة، كل لفظة منها تقطر بكاءً، وهي في مجموعها تدل على قوة إيمان بالفكرة، وشدة يقين بثمرة الجهاد، مع تقدير صحيح للمسئوليات التي تقع على العاتق، والتبعات الجسام التي تقترن بالموضع الذي كان هو الرجل المطلوب له والحقيق به.

وقد وصف هذه التبعات ذاتها في أول خطبة له عقب القرار الذي اتخذه الوفد في السادس عشر من شهر سبتمبر سنة ١٩٢٧ بإجماع الآراء؛ وهو تعيين الأستاذ مصطفى النحاس باشا رئيسًا للوفد المصري خلفًا للزعيم الخالد سعد زغلول، فقال وسط صمت رهيب، وسكون غامر، وجلال سائد، وهو متأثر متهدج الصوت، يغالب فيض مشاعره:

إن فجيعتنا متعددة النواحي، متشعبة المرامي، ولكن عزاء نفوسنا الجريحة، وأكبادنا المقروحة أن سعدًا العظيم خالدٌ في نفوسنا ونفوس أبنائنا، خالدٌ في نفوس أحفادنا وذرارينا، وإن أكرم ما تطيب به نفسه في فِرْدَوسها أن نقوم على الصَّرْح المُمَجَّد الذي بناه، وأن نترسم خطاه، ثم نرخص نفوسنا، ونفني أشخاصنا، حتى يتخطفنا الموتُ واحدًا بعد واحد، وراية الشرف خفاقة تتلقاها الأيدي وتفديها النفوس …

لقد اختار وفد الأمة، وهو — كما قال رئيسنا المبرور — «تنزيلٌ منها، ووكيلٌ عنها، ولسانها الناطق، وترجمانها الصادق»، وشاء أن يندبني لحمل العَلَم السعدي، والقيام معكم على الميراث الوطني؛ فهالني الأمرُ، وأكبرتُ التبعات، وأحضرتُ نفسي على ما أعلمه عنها من عجز وقصور، وحادثتها ما لهذا العاجز أن يخلف سعدًا الذي أفاء الله عليه مواهب مجمعة، وسجايا مؤلَّفة، ونعمًا لا تحصى؛ فكان خلاصة أجيال، وكان تاريخًا للإنسانية السامية.

ولكنَّ سعدًا علمني احترام إرادتكم، والنزولَ على حكمكم؛ وقد تَسَمَّعْتُ ساعتَئذٍ من أعماق سريرتي نَجْوَى سعد وصوتَ مصر، فأسلمت نفسي للوطن المُفَدَّى، وأنا عالم أنها تنوء بهذا العبء الهائل العظيم.

ليس من اختاره وفدكم لرياسته بَخيْره ولا خَيْرِكم، وليس بأقْدَرِه ولا أقدركم؛ وإنما أنا ضعيف في نفسي، قويٌّ بكم، معتمد بعد الله عليكم. ولقد ظهرت أمتنا الكريمةُ جليلةً في أحزانها، رهيبة في وطنيتها، وها هي اليوم تغمرني بفضلها، وتحوطُني برعايتها، وتُحمِّلني أمانتها، وأرى شعوركم يبدو صريحًا ساميًا، وارتياحكم لقرار وفدكم يتجلى بينكم، ومناصرتكم لي ظاهرة في أقوال خطبائكم، وإقراركم لها، فأنطِقُوا مصطفاكم ببيانكم، وأوحُوا إليه بأفكاركم، واملَئُوا قلبه بما أفاضته قلوبكم.

كذلك كان شعور مصطفى النحاس حين أُلقِيَ زمامُ الحركة الوطنية في يده، وعهد بقضية أمته إلى ضميره وذمته؛ وكذلك كانت خوالج نفسه في تلك الفترة الدقيقة التي مرت بالبلاد، ووسط تلك المحنة العظيمة التي أصابتها؛ إذ لم يكن مصطفى يومئذٍ مبتدئًا عهدًا جديدًا منقطعًا عن الماضي وما جرى فيه، قادمًا على أمر لم تسبق فيه سابقة، ولكنه كان مطالبًا بحمل أمانة، والاضطلاع بوديعة، وأمام مبادئ وتعاليم تقتضيه الحرصَ عليها، والتزامَ إملائها، والمسير على حُدَائِها، وكان ذلك كله مما يجعل بدايته — كما قلت — شاقة تكتنفها أخطار، وتحيط بها مخاوف، ويترصدها الأعداء والخصوم من كل ناحية.

كان مصطفى النحاس مُطَالَبًا بأن يثبت استحقاقه لخلافة سعد أولًا، وجدارته ثانيًا بالزعامة في ذاته، ولكن الطبيعة التي اختارته لمكانه هذا ورسالته، لم تكن لتتخلى عنه، وما كانت لتخذله، ولو أنها أعانته على أن يدلل على جدارته بخلافة سعد وحدها — من ناحية سيره على تعاليمه، وحرصه على مبادئه، واحتفاظه بنظامه وبنيانه — لكان ذلك كافيًا، وكان به الغَنَاء. ولكن العناية الإلهية كانت تريد مصطفى للمعنى الأكبر، وتُهيِّئُهُ لما هو أسمى وأخطر؛ وهو أن تبرزه الأحداث القادمة زعيمًا طبيعيًّا، لا رئيس ضرورة، ولا قائد ظروف، وأن تجعله يلاقي في عهد زعامته من المكاره أكثر مما وقع لسعد ذاته، ويتحمل من الخطوب والكوارث وخصومة الأعداء وحقد الحاقدين ومكر المكرة، ما لم يترادف مثله ويَصْطَلِحْ على سعد نفسه؛ ليكون الزعيم الحقَّ الحريَّ بموضعه، الوفيَّ لوديعة سعد إذا ما ذُكِر الوفاء، البانيَ المنشئ إذا ما ذُكِرَتْ محامد الزعامة الصادقة بنايةً وتجديدًا وإنشاءً.

ولقد قطع مصطفى النحاس على نفسه عهدًا، وربط على نفسه أمام الأمة بميثاق في ذلك اليوم التاريخي العظيم؛ يوم أقرت الأمة مبايعته بخلافة سعد ورياسة الوفد، وهو في ذلك يقول:

… وإني أعاهدُ أمامكم رُوح سعد في رفيع عالمها، كما عاهدتُها أمام هيكلها، أن أكون للوطن خادمًا أمينًا، وأعمل مع زملائي ومعكم، مستوحين الحكمة والحزم من روح سعد ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، مستضيئين برشده كلما عميت الأمور، وأجلبت علينا الخطوب؛ وأن نحرص على الدستور بكل ما فينا من قوة، محافظين على ائتلاف الأحزاب بكل رغبة صادقة؛ وأن نسير في طريقنا المرسوم، حتى تنال البلاد غايتها من الاستقلال التام الصحيح والحرية الكاملة التي قُرِنَ اسم الفقيد العظيم بها وبمجد الوطن.

… لقد علَّمنا سعد أن الوطنية الصحيحة والحرية المقدسة لا تشوبها أحقاد ولا أضغان، فما كانت وطنيتنا عدوانًا، ولا حريتنا بهتانًا، فنحن نعرف ما لنا من الحقوق، وما علينا من الواجبات، ولا نحمل لأمة من الأمم بُغْضًا، ولا نضمر لها غدرًا، ولكنا نقدس عزتنا القومية، ونحمي كرامتنا المصرية، وننادي مَوَاطِنهَا في قلوب الأمم والشعوب.

هذا هو العهد الذي عاهد مصطفى الأمة عليه، يوم استوى في ذروة الزعامة، وهذا هو الموثق الذي ارتبط أمام الشعب به، حين أرادت العناية الإلهية له الظهور لتأدية رسالته، وآذنت بأن الحين قد حان لبداية مهمته، وإن الخاطر ليعود إليه بعد قرابة تسع سنين، مجتازًا في كَرَّته إلى الماضي آيات روائع على كفاية مصطفى لمكانته، وحشودًا من الحوادث الجسام المثبتة لمبالغ شجاعته وجَلَده وثباته وأصالة رأيه ووفرة حكمته، فيحس أن ذلك العهد المقدس كان ميثاقًا مع الله، وعهدًا مع القَدَر، وارتباطًا لم يخل في أية ناحية منه، ولم ينحرف به صاحبه عن قداسته، ولكنه صانه حتى وفَّاه، وحرص عليه حتى أدَّاه، ووقف به اليوم على أعلى قمم الزعامة الوطنية، مثلًا على البطولة من أندر الأمثال.

ويوم قام مصطفى في مكان الرياسة لم تلبث النفوس أن هدأت بعد جزع، والقلوب اطمأنت بعد قلق، والأذهان سكتت بعد لهفة، والأخلاد قَرَّتْ بعد اضطراب؛ فقد ظهر الرجل الذي احتاجت الحياة إليه، والزعيم الذي دفعت الأقدارُ به، ورب الشخصية ذات السلطان العظيم على كل مَنْ لم يرتفع رفعتها، ولم يبلغ مستوى أفقها، بل برز القائد الوطني، أو الضمير والعنصر الحسَّاس المتنبه الذي تحيا به الأمم وتعيش عليه الجماعات.

لقد كان ظهور مصطفى النحاس دورًا آخر من أدوار الثورة، ومرحلة جديدة من مراحلها؛ فإن الثورات بطبيعتها لا تستطيل، ولكن إذ تبلغ مداها وتفور أشد فورتها، تعود فتعيش في نتائجها، وتظل تحيا في أعقابها، ومن الخطر البالغ عليها أن تتلاشى بعد قيامها، وتتبدد عقب فورانها؛ لأن ذلك ينتهي إلى ردة مؤلمة، ويُعْقِب نكسة وخيمة. ولكن إذا هيأ الله لها في هذا الدور الدقيق القائدَ الحكيمَ الذي يتعهد معانيها الكامنة في النفوس، والسياسيَّ القويَّ الرصين الذي يعرف كيف يغذي مواردها القائمة في أعماق الصدور وأغوار الأرواح، ويمسك بالروح المعنوي العام فيوجهه أحسن توجيه، ويدفع به إلى خير مندفَع، فإن البلاد كذلك تعرف كيف تستجيب له وتتجه معه، وتمضي في أثره، مطمئنة النفس، هادئة الجأش، بالغة الإيمان.

وكان مصطفى النحاس هو ذلك القائد، وكان خليفة سعد هو ذلك السياسي، ولسنا ندري ماذا كانت تكون صورة الحركة الوطنية، وماذا كان يمكن أن تروح نتيجتها لو لم يأتِ مصطفى النحاس بعد سعد ليقودها، ويَنْبَرِ عقب سعد ليوجهها، وهو الذي جاء طبيعيًّا في مكانه؛ إذ كان أمام السياسي الذي يتولاها — في خطة الأقدار — دورٌ خطيرٌ، ومرحلة شاقة، وصعاب جمة. بل كانت منتظرة مقدمه، مرتقبة زعامته، سلسلةٌ مستطيلة من التجاريب الخطرة، والمحن المترادفة، والخطوب المتزاحمة، ووجوه عديدة من الخصومات، وألوان غرائبُ من الأذى والبلاء؛ إذا لم يكن باستعداده جلدًا لها صرعَتْه، أو صبورًا حطَّمته، أو قويًّا أضعفته، أو مؤمنًا أشد الإيمان بقوته نزعت به إلى اليأس، وأسلمته إلى القنوط، وأزاحته آخر المحاولة من طريقها، متغلبة فائزة، وهو المنهزم المدحور.

وقد شهد مصطفى النحاس بجانب سعد خطوبًا، واشترك مع سعد في محن، وتعرض معه للمعتقل والمنفى، واستهدف للآلام والحرمان. وكان مرتقبًا له بعد تلك المساهمة الأليمة أن يكتوي وحده بأشباهها أو أشد منها، مقدورًا عليه أن يخوض أشد حوالك السنين شقوة وعظم تجربة؛ لكي يتعذب مرتين، ويتحمل من الألم ضِعْفَين، ويذوق من الخطوب مذاقَيْن، وهو ما لم يقع للزعماء في تاريخ الزعامة الوطنية مثله فيما نعرف من سير الحوادث، وقضايا الاستقلال، إذ كان كل زعيم في الغالب يأتي في زمن معين، ويظهر في عصر بذاته، وكانت الزعامات تجيء على فترات انقطاع، ومهلات طوال، وانتظار فسيح المدى؛ فلا تقوم الصلة بينه وبين الزعيم الذي سبقه إلا من بعيد، ولا تتماثل التجاريب في عهدَيْهما، ولا تتشابه الحوادث في دورَيْهما، وإنما تتفاوت في ذلك كله، وتتباين في أشباهه وأمثاله؛ ليظل كل زعيم ممتَحنًا غير امتحان سواه، ويروح كل قائد أمام ظروف خاصة به، على قدر تناوله لها، ومكافحته إياها، ومقدار صبره عليها، بروح مبلغ استحقاقه لمكانه، ومُطْمأنِّه في موضعه، ونصيبه من الفوز، وسهمه من النجاح والتوفيق.

ولكن مصطفى النحاس جاء أولًا آخذًا عن سعد قبل أن يتولى الأمر بنفسه، ثم آخذًا ثانيًا عن نفسه، بعد أن وُكِلَ الشأن إليه، وهذا نادر في الزعامات؛ لأنها لا تتلاحق هكذا، أو لا يندمج بعضها في بعض على هذه الصورة، ثم تتقارب في المعالم، وتتشابه في الصفات واللوازم على هذا النحو الغريب، ولكن كذلك كانت تصاريف الأقدار الرحيمة الحانية على مصر، الناصرة لها، فقد أبت إلا أن ينشأ الزعيم الثاني على إيمان عظيم وثقة كبيرة بصاحبه، وولاء صادق له، وحماسة متقدة للغاية التي يعمل لها والقضية التي يدافع عنها، حتى لقد خشي الإنكليز حين بويع في موضعه من وقوع الرياسة له خيفةً مما وصفوه من أمر «تطرفه».

وقضت الأقدار كذلك أن يجعل نظره إلى الفكرة كأنها ممثلة للزعيم، وإلى الزعيم كأنه ممثل للفكرة، وأن يعمل على تعزيز سلطان صاحبه وتوطيد نفوذه بكل وسيلة وسبيل، كأن يتوسط بينه وبين خصومه، أو يجلب له جُدُدًا من أنصار، ومزيدًا من أعوان ومشايعين، أو يَتَسمَّعُ الأرض بأذنه؛ ليدرك الهمس المخافت، والكيد اللائذ بالخفاء، والدس المتسَربِل بالظلام، أو يدلي إليه برأيه في أصلح الأعضاء للمهام المعينة، وأنسب الأعوان للأعمال المطلوبة، أو يشير عليه بالأفكار الصالحة والمقترحات الملائمة لبعض الظروف والحالات والأزمات الطارئة.

وكذلك جعلته يوفر على زعيمه كثيرًا من وقته، ويقصد من مجهوده، ويغني عنه حمل كل صغيرة ودقيقة في ذاكرته، بأن ينوب عنه في عديد المناسبات والمقابلات والوفادات، ويعمل على تسهيل الأعمال على قدر الإمكان، وموافاته بكل المذكرات والمدونات، والملاحظات والمحاضر التي عني بقيدها، وحفل بتدوينها وإثباتها؛ لكي يكون كل شيء في كتاب مرقوم.

وكان الزعيم يرى منه ذلك فيفرح به ويرتضيه، ويبعثه على التزيُّد فيه وهو المطمئن إليه، الملمح في أحاديثه أمام الناس إلى مبالغ ثقته به واعتماده عليه؛ لكي يشعرهم بأنه قد وجد الرجل الذي يسلمه الزمام إذا حان الوقت لتسليمه، والشخصية القديرة الكافية لتتولى الأمر عنه إذا آذن الرحيل.

كذلك اندمج مصطفى في سعد قبل أن يحل دوره، فكان محل ثقته وموضع سرِّه، وقد اكتسب من هذا الاندماج أكثر ما عند سعد، فأضافه إلى ما اكتسب هو بطبيعته، فاستتم فيه الزعيم المطلوب للغد، واستكمل القائد الوطني المحتاج إليه في المستقبل، واستوفى سائر مطالب القيادة الصالحة التي قضى الله أن تتولى الجهاد في أحرج المواطن وأسوأ السنين.

وقد انفرطت تسع سنوات اليوم، ومصطفى النحاس في مكان الزعامة وقد عبرها خوَّاض أزمات، ومواجِهَ شدائد، وملاقيَ مكاره، مكافحًا أكثر من خصم، مقاومًا أكثر من عاصف، وهو الصبور الجَلْد الشجاع الجريء في كل موطن وموقف، حتى عرف كيف يسير بالسفينة وسط هذه التيارات الصاخبة، واللُّجج المتقاذفة، والأعاصير المترادفة نحو الساحل الآمن، والغاية الحسنة، وصخرة النجاة.

•••

ولعلنا في هذا الكتاب قد أطلنا في المقدمات، وترامى بنا البحث بعيدًا من موضوعه، ولكنا أردنا ذلك ليجيء الكلام دراسة صالحة في باب جديد لم يُعَالَج، وبحثًا حسنًا في ناحية خطيرة لم تُتَنَاول، وليكون الشطر الأول منه بسطًا وتقريرًا، والشطر الثاني تطبيقًا وتقديرًا، وليست النية فيه — كما أسلفنا — أن نضع تاريخًا أو نسوق الكتاب مساق المديح، فإن التاريخ لا يُكتَبُ بعدُ، والمديح لا يجدي شيئًا ولا يَرُدُّ، فقد أوفى مصطفى النحاس على الغاية التي يستوي عنده فيها الذم والمدح؛ لأن كل الذم أعْرَجُ لا يصعد إليه، وكل المديح زيادة لا خير فيها لديه، وإنما أردنا أن نسجل جهودًا صالحة أثمرت، ومعارك سياسية انتهت بفوز مبين.

لقد جاء هذا الكتاب «المتواضع» تحية لذلك الفوز وتقديرًا لبراعته، وقصًّا لظروفه وحوادثه، وسردًا لجملة حوافزه، فلم يكن غَنَاءٌ عن حديث الزعامة وأسرارها، والقيادة الوطنية وطرازها وغرارها، وبيان صفاتها ومزاياها، ولم يكن بد من حديث الزعيم الذي قاد الأمة إلى هذا النصر، ووجَّه الشعب هذا التوجيه، وسار بالسفينة وسط الأنواء هذا المسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤