مصطفى النحاس في حياته العملية

رأينا كيف أبى مصطفى النحاس عقب تخرُّجه في الحقوق الوظيفة التي عرضت عليه، وكيف دافع عن حقوق الجماعة التي كان هو منها؛ فلما نجح في دفاعه لم يشترك فيها، وترك الزملاء — بفضل ذوده عنهم — يدخلون الوظائف فرحين راضين جذلين.

وقد كان ذلك منه في الحق شيئًا جديدًا على العصر، مخالفًا لروح الجل؛ ولكنه كان في أمر مصطفى النحاس طبيعيًّا، متناسبًا وخليقته، موائمًا لرفعة نفسه القوية، المستمِدَّة سموها من أعماقها، المستعينة على اقتحام الحياة الحرة بقوتها من داخلها واعتدادها بذاتها. وقد نجح مصطفى في أول قضية تناولها ووقف موقف الدفاع فيها، قبل أن يجتاز باب المدرسة لآخر مرة، تلك هي قضية الخريجين وظلامتهم؛ فقد كسبها لهم، ثم أبى أن يشاركهم الكسب الذي أحرزه، فكان ذلك النجاح علامة على الغد المنتظر لهذا الشاب الجديد على عصره، وبشيرًا بمصير هذا الفتى المنفرد عن جيله.

لقد كانت هذه البداية مقدمة جليلة صالحة للكتاب الضخم الحافل الذي سوف تكتبه الحياة في مسيرها لهذه الشخصية القوية من النشأة، المهذبة المجملة من الفطرة والتكوين.

وقد حفظت له الطبيعة مكان السبق من الطفولة، والموضع الأول في مجاز كل امتحان في الحداثة، وجاءت به من الصغر صبيًّا غير اعتيادي، ولا أمره في الدراسة بمألوف، وكان انتقاله من دور الإعداد والتهيئة، إلى دور الجد والعمل، منتظرًا أن يجيء متناسبًا والمطالعَ، متكافئًا والمقدمات، وإن كانت قد شوهدت أمثلة شذوذ في هذه الناحية؛ فقد قص التاريخ شواهد من حياة نوابغ كانوا في المدرسة وسط الغَمر، غير بارزين بين اللِّدات والأقران، ثم نضجوا بعد ذلك واستبقوا، وكانت براعتهم في فنونهم خلال حياتهم نادرة عجيبة المثال؛ كما رأينا خلقًا كثيرًا من الناس كانوا في الحياة المدرسية سابقين أوائل طلَّاعي القِمَم في مجتاز الامتحانات، ولكنهم إذ انتقلوا إلى الحياة العملية لم يلبثوا أن تخلَّقوا واحتوتهم لجة الحياة فلم يظهروا، وقضوا أعمارهم تُسلِمُهُم المعايش من فشل إلى فشل، وتهوي بهم الخُطى من إخفاق إلى إخفاق.

ولكن هذا الشذوذ في النبوغ، بين إبطاء تعقبه سرعة، وبين سرعة يعقبها تراخٍ وسوء مُنْقَلَب، لا يرتفع بطبيعة الحال إلى خطر النبوغ المنظم المستوي على نهجه، الذي تأتلف نتائجه مع البوادر والقرائن والمقدمات.

وقد كان أمر مصطفى النحاس من البداية في النبوغ منظمًا مستقيمًا على الطريق، وقد فرغ من دور المدرسة، ووجب أن تكون بداية الدور التالي بارزة بظاهرة عظيمة، وشأن كبير، وتناسب كامل رفيع.

لقد آثر مصطفى العمل الحر، واليوم، ونحن ننظر إلى ذلك بعد مدار السنين، ومشاهدة ما كان منه عَبْرَ الأعوام، لا نعجب لذلك الإيثار؛ لأنه جاء مطلعًا ملائمًا لحياة الرجل الذي أعدته الأقدار محاربًا في سبيل الحرية، مجاهدًا لها، مناديًا بها، باذلًا من أجلها عصارة النفس وخلاصة الروح، مدافعًا عنها بكل قُوَى الإيمان واليقين.

وكان موقف مصطفى بسبيل الدفاع عن حقوق حَمَلَة إجازة القانون والنتيجة الناجحة التي انتهى إليها، قد عُرِفا يومئذٍ في الأوساط القضائية وغيرها؛ فكان ذلك مبتدأ جميلًا لخبره، وفاتحة طيبة لمستهل عمله، فعرض عليه المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني العمل بمكتبه لقاء مرتب حسن؛ ولكنه أجاب بأنه على استعداد للتعاون معه، لا أن يعمل أجيرًا عنده، قائلًا إنه قد رفض التوظف في الحكومة حتى لا يقيد نفسه، فلا معنى إذن لتقييدها بالتوظف لديه.

كذلك كان مبلغ إباء مصطفى النحاس للقيد، ونفوره من الأغلال، ونزوعه إلى سراح الإرادة، وحرية العمل؛ بل هكذا بدأ الحياة العملية برفض الوظائف مرتين، والتأبي على التقيد في حادثتين متعاقبتين، فأثبت هذا النزوع فيه شدة حبه للحرية، وإيثاره للاستقلال؛ كما أثبت قوة الاعتداد بالذات، والاعتماد على النفس، أمام غد مجهول ومصير مُسدل الحُجُب.

ولم يلبث مصطفى النحاس أن اقتحم ميدان المحاماة اقتحامًا، يعمل فيه مستقلًّا، وينزله منفردًا، ولا يعتمد في الجولة خلاله إلا على إرادته، ولم يكن مضى على نيله شهادة الحقوق غير بضعة أشهر. وكان أول ظهوره في المنصورة، وهو الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين.

ولم يبدأ مصطفى عمله محاميًا ناشئًا، ولكنه بدأه جديدًا، بدأه محاميًا قادمًا بخليقة بادهة، وعنصر رفيع، ومبادئ سامية؛ بل بدأه محاميًا كبيرًا قبل أوانه ناضجًا قبل إبانه، مكتملًا وهو في نشوئه، فقد برزت مواهبه في ذلك الدور الباكر من حياته، وانكشفت صفاته ومنازعه ومزاياه التي كانت تبدو جواهر خامة غير مصقولة، وهو في الطفولة؛ واجتمعت من صفات الاستقامة، والصدق، واحترام الواجب، وإكبار الحق، ونصاعة الخلُقُ، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس، وحدَّة الذكاء، وقوة الحافظة — اجتمعت من أولئك كلها، الشخصية اللازمة للمحامي الجديد على جيله، المستبق فوق سنه، القدير وهو في بدايته.

وما عتم أن ذاع اسم مصطفى النحاس في المنصورة، واشتهر بنزاهته وعُرِف بكفاءته، وراح موضع احترام القضاة والمتقاضين، وعجب الناس لهذا الشاب المحامي وهو على غير ما ينتظر من المحامين الناشئين: يقدِّم قضاياه إلى المحكمة مؤيدًا لها بمراجع وأسانيد وموسوعات وأمهاتِ كتبٍ وفقه قانونيٍ يحملها غلام المكتب إلى الجلسة؛ ليبرزها بنصوصها من أسانيدها أمام القضاة إبراز المتمكن من موضوعه، الواسع الدراسة لقضاياه. فكان القضاة يستمعون إليه في إعجاب، وكان أصحاب القضايا يتقاطرون عليه من أقاصي الوجه البحري ومختلف نواحيه ليسلِّموه قضاياهم، وهم مطمئنون إلى نزاهته، ساكنون إلى مقدرته، معتقدون أنه المحامي الشاب الذي ارتفع بالمحاماة من اعتبارها كحرفة أو مهنة إلى فن رفيع، يشتغل به صارفًا كل نفسه إليه، واضعًا كل قلبه في مقتضياته ومطالبه.

لقد كان مصطفى النحاس في الحادية والعشرين محاميًا لا يقنع بأنه قد وجد في المحاماة «مرتزقًا» يكفل له العيش، ويدر عليه الكسب؛ ولكنه يأبى إلا أن يراه «فنًّا» وأن يكون صادقًا لفنه، أمينًا عليه، حفيظًا له، رافعًا من مستواه؛ فأقام بذلك المثل الحسن للمحامي، وأبرز القدوة المثلى للمشتغل بالقانون.

وكان مبدؤه من نشأته في هذا الفن الرفيع هو البحث عن الحق والعدل، مهما كان من صعوبة القضايا وتعقدها، ومهما كان الحق في بعض الأحيان متعارضًا مع القانون؛ فلم يكن ليتردد في الدفاع عن الحق والعدل حتى يغلِّبهما على القانون. وإذا كان بعض القضايا من جهة القانون مكسوبًا، ولكنه من جهة الحق يبدو خاسرًا غير رابح، ظل يكافح ويناضل حتى يرد الحق إلى نصابه؛ وإذا أعوزه صدق نية المتخاصمين، تخلى عن الدعوى، وأبى السير فيها، مضحيًا بما يجلبه عليه قبولها من وفير الربح، وجزيل الأتعاب، وضخم الجزاء.

هذا هو المثل الرفيع للمحامي الشريف، بل المحامي الذي لا ينظر إلى المحاماة كمهنة، ولكن ينظر إليها كفَنٍّ، ولا يمد عينيه منها لمجرد الكسب والانتفاع، ولكن يرتفع بها عن المادية إلى مستوى الواجب، وإملاء الضمير، والبحث عن الحق من أجل الحق، وإقامة العدالة؛ لأنه يجب أن تقوم العدالة.

يجب أن يكون المحامي بحَّاثًا عن الحق والعدل، فلا يترافع ضد ضميره، ولا يغلبه الطمع في الكسب على التطلع إلى الفوز بإزهاق الباطل، وجعل كلمة الحق هي الغالبة. ولا يصح أن يكون المحامي مُداجيًا، فيعمد إلى التعمية أو يلجأ إلى إخفاء الحقائق، كما أن بلاغته ولسَنَهُ وقوة منطقه وكفاءته وبراعته ينبغي أن تنصرف جميعًا لخدمة الحق والعدل دون أي اعتبار آخر، أو تفكير في شيء سواهما بأية حال من الأحوال.

وهذا لا يتعارض — بلا ريب — مع واجب الدفاع باعتباره حقًّا مقدسًا لكل متهم، وإنما يجب أن يُلبِس المحامي كل حالة ثوبها الحقيقي، ويصورها في صادق صورها، ويصرف همه وعنايته إلى شرح الظروف الصحية المحيطة بالقضية وملابساتها، فإن هذه قد تكون عوامل تقتضي الرحمة، أو ظروفًا توجب التخفيف.

على هذه المبادئ السامية جرى مصطفى النحاس في المحاماة، وهو يومئذٍ شاب مبتدئ يتطلع إلى النجاح في الحياة، وقد نجح فعلًا ذلك النجاح الوثيق المكين القائم على أمتن القواعد، الرفيع كأمتن البنيان، على حين يذهب كثير من الشباب غير ذلك في فهمهم لمطالب النجاح ووسائله، إذ يعتقدون أن الاستقامة على طريق الحق والصدق قلما تجدي على صاحبها في هذا المعترك الصاخب المزدحم العنيف، وأن على قدر ما يكون المرء مصانعًا كبير الحيلة أخا مداجاة ملتمسًا الكسب بكل وسيلة، يدنو من النجاح وشيكًا، ويوفي على الغاية منفرج الخطوات.

نجح مصطفى النحاس في بداية حياته العملية كمحامٍ من طراز بديع، أو محامٍ مثالٍ على النزاهة ورفعة المبادئ؛ حتى راحت القضايا تتدفق عليه، وكان يمرض من كثرة العمل وطول الدأب والانكماش في قضاياه.

وكان نجاحه في المحاماة سبيلًا في خطة الطبيعة إلى البروز في ميدان آخر غيرها، وكان هذا البروز مقدورًا أن يأتي سريعًا، فاقتضى ذلك أن يروح النجاح الأول عظيمًا بالغًا، مترامي الخبر في المجامع، متناقل الأحاديث مع الدهشة والإعجاب في مختلف الأوساط.

لقد أرادت العناية الإلهية أن يكون مصطفى النحاس قاضيًا ليحكم بالحق والعدل، بعد أن كان المدافع عنهما تحت المنصة وأمام السياج، ويكفي أن يكون محاميًا في الرابعة والعشرين أو قرابتها فيُختار لوظائف القضاء، يكفي هذا ليكون دليلًا على النبوغ السريع، والتفوق النادر، والنجاح الباده، من المطالع، بل لقد كان انتقال مصطفى من المحاماة إلى سلك القضاء ظاهرة جديدة في الوسط القضائيِّ لم يُشاهَد لها مثيل ولا شبيه؛ لأنه كان أول محام، أو المحامي الوحيد الذي عُيِّن قاضيًا ولم يكن قد مضى على إدراج اسمه في المحاماة أكثر من ثلاث سنين!

ولم يحاول مصطفى هذا التعيين، ولم يَسْعَ إليه بنفسه، ولا استعان فيه وساطة الوسطاء؛ بل لقد أباه واشتد في إبائه، ورفضه معتزًّا بمحاماته، قانعًا بحريته، معتدًّا بنجاحه في صناعته، لا يبتغي عنها تحويلًا؛ ولكن الحكومة هي التي سعت إليه، وهي التي طلبته للقضاء، مكبرة ما كان في المحاماة منه، وما زالت به تحاول إقناعه بالقبول من هاهنا وهاهنا حتى رضي أخيرًا، احترامًا لإرادة من لم يستطع لمشيئته عصيانًا، وهو والده، إذ خوطب في الأمر ليُستَعان به عليه.

كان ذلك في يناير سنة ١٩٠٤، ومدير الإدارة القضائية في وزارة الحقانية يومئذٍ هو المغفور له عبد الخالق ثروت باشا. وكانت الوزارة بحاجة إلى قاضٍ جديد، فكتب ثروت باشا إلى محامٍ قديم في المنصورة يدعوه إلى لقائه، فلما اجتمعا قال مدير الإدارة القضائية: «إننا نريد أن نعين أحد المحامين في سلك القضاء، وقد سمعت ثناءً كثيرًا على الأستاذ مصطفى النحاس، ولكني علمت كذلك أنه رجل صُلْبٌ يكره الوظائف، ويعتز بحريته، وقد دعوتك لتخاطبه في هذا الشأن، فلعلك مستطيع إقناعه بالقبول.» ولكن الزميل القديم أجاب بأنه يخشى ألا ينجح إذا هو سعى وحده في هذا السبيل، وأنه يرى أن يلجأ إلى والده ليحمله على الرضا؛ فاستصوب ثروت باشا الفكرة وحَسُنَتْ لديه.

وسافر الزميل إلى المنصورة، ثم قصد منها إلى سمنود لمقابلة الشيخ محمد النحاس، وقص عليه نبأ لقائه لثروت باشا والحديث الذي دار بينهما؛ فأرسل الوالد إلى ولده يستقدمه سريعًا إليه، فقدم مصطفى إلى سمنود ليرى ما الخبر، وما كاد يلتقي ووالدَه، حتى ابتدره هذا بقوله: «إنني أقسم يا مصطفى أنك لن ترفض ما سأطلبه إليك.» ثم راح ينبئه بما كان بين ثروت باشا وزميله. وسمع مصطفى القصة وهو في صمت، حتى إذا فرغ والده من الحديث، راح يظهر الرفض والتأبي، ولكن ما زال به والده يلح عليه حتى وَعَدَه القبول.

وجاء مصطفى إلى القاهرة وذهب لمقابلة ثروت باشا، فأراد أن يمتحن مبلغ خُلُقه وقوة نفسه، فقال له: «لقد دعوناك لكي نتحدث في أمر تعيينك إمَّا قاضيًا، أو وكيل نيابة.» فلم يكد مصطفى يسمع ذلك حتى استوى ناهضًا من مجلسه وهو يقول: «إنني لم أقبل المجيء هنا إلا بإلحاح شديد، وبعد أن قيل لي إن الاتفاق قد تم على دخول سلك القضاء، أما والأمر كما تقول، فإني أرفض بتاتًا الوظيفة التي تعرضونها، وإني راضٍ كل الرضا بحالتي في المحاماة، وبالحياة الحرة التي أدعو الله أن يديم عليَّ نعمتها.» فأعجب به ثروت باشا أشد الإعجاب، وقال له: «أقسم لك إنني إنما أردت بهذا امتحان أخلاقك.» ثم مد يده إلى درج مكتبه، فأخرج منه المرسوم القاضي بتعيينه، فدفع به إليه.

فهل رأيت مبلغ الخُلُق الرفيع الذي صحب مصطفى من النشأة والشباب، وكيف حَبَّب إليه الحرية فغاَلَى بها، وبغَّضَ إلى نفسه الوظائف متأبيًا على قيودها، حتى ليرفض وظيفة قاضٍ وهو لم يقضِ في المحاماة غير ثلاثة أعوام، يرفضها متشبثًا بنعمة الحرية ساكنًا إليها في وقت كانت فيه الوظائف غاية مطمح الشباب، وأزهرَ أحلام الصِّبا، ولم تكن الحكومة قد ازدحمت زحامها اليوم بالموظفين؟!
figure
الشيخ الجليل محمد النحاس والد مصطفى النحاس.

هل رأيت الشاب الذي يستعان بأبيه على إبائه، فلا يجد أبوه من حيلة غير القَسَم عليه؟ والذي يظهر الكراهية للوظيفة حتى ولو كانت وظيفة قاضٍ وهو لا يزال مبتدئًا لم يقطع في المحاماة شوطًا طويلًا، على حين نجد الذين يصيبون من المحاماة مراكز في القضاء لا يظفرون بها إلا بعد مضي آماد طوال عليهم وهم في صفوف المحامين.

هذا هو مصطفى النحاس الذي كان يومئذٍ مُعَدًّا لما هو أخطر من ذلك وأكبر شأنًا، وأعظم تبعة، وهو أن يكون زعيم أمة في ساحة الجهاد الوطني، وخليفة زعيم عظيم جاء من قبله فترك مجالًا للمقارنة رحيلُه، وغادر سبيلًا للموازنة ذهابُه من هذا العالم. وكان لا بد من أن تتماثل الصورتان في بعض المعالم، وتتقاربا في بعض النواحي والأجزاء؛ لكيلا تفقد الزعامة في الأمة هيبتها الجليلة، ويتناقص سلطانها الرهيب.
figure
مصطفى النحاس قبل الزعامة.

هذا هو مصطفى النحاس من بداية الشباب، وأول السلم الاجتماعي، ومطلع الحياة العملية: نفسًا نقية من الشوائب، مجملة بكرائم الأخلاق، وذهنًا خصيبًا حديد الذكاء، مرهف الذاكرة، ومنطقًا رصينًا قويًّا رائع التدليل، وقلبًا رحيمًا حانيًا غزير العاطفة يفيض على مَنْ حوله، فيملأ الأفق مودة وألفة ورفقًا وتفاهمًا ووفاءً.

وإلى هذا كله في تقسيم الصفات الحسنة، والمزايا الرائعة — نزاهة ناصعة، واستقامة جامعة، وقوة تصميم، ورفعة إباء، وصحة اعتزام، وحكمة اتجاه وأصالة رأي، وصفاء ذهن، وترفع عن «المادية» إلى حد احتقارها إذا هي تعارضت مع الواجب والضمير.

كذلك هو مصطفى النحاس المحامي حين دخل سلك القضاء في سنة ١٩٠٤، لتتجلى مواهبه النفسية ومزاياه الذهنية في كرسي القاضي لأول وهلة، وتبدو في أحكامه مدللة على أنه مثال القاضي الذي تطمئن العدالة في مجلسه، ويصان قُدْس الحق في مكانه، ويجد القانون عنده أقوى الحراس الثقات الحافظين.

وما نسي الناس إلى اليوم أنه كان في ماضيه قاضيًا، فإن مصطفى النحاس القاضي قد ترك أجمل الصفحات في تاريخ القضاء المصري واستقلاله، وضرب للناس أحسن الأمثلة على نزاهة القاضي واستقامته، وحرية ضميره، وقوة إرادته، حتى ليتنادروا إلى اليوم بأمثلة من أحكامه، ويتناقلوا في المجامع روايات متعددة عن مواقفه، ويضيفوا إلى ما عُرِف على الصحيح من حوادثه ضروبًا متخيَّلة من الحكايات والأمثال والوقائع ليس إلى تحقيقها من سبيل، فيصدقها المتسامعون بها؛ لأن الصحيح منها لا يقع دون المتخيل، والفعليَّ فيها ليس أقل في إثبات فضله من المنحول في ذلك والمصنوع، وهي على حد سواء في النتيجة منها، والمغزى المراد بها، وهو شخصية القاضي العَدْل، النزيه، المستقل، الحكيم …

لقد قضى مصطفى ثلاث سنين يدافع عن الحق والعدل خلف السياج، ووراء حَرَم القضاء، حتى رفعته قوة دفاعه عنهما من فوق السياج إلى الحرم ذاته، والجلوس فوق منصته ليحكم بالحق والعدل، وهو انتقال خطير وتحول بالغ الشأن بالنسبة لشاب في نحو الخامسة والعشرين.

ولكن مصطفى كان قبل أوانه، ناضجًا قبل حينه، قوي الخليقة في جيله، فذَّ المثال في زمنه، روحه أكبر من العهد الذي يعيش فيه، عهد الاحتلال بكل جرائمه وجناياته ومساويه، ونفسه أرفع من البيئة التي ظهر فيها لكي يرسل عليها من أشعة نفسه المنيرة، ويغمرها بتيار زاخر من شخصيته الصادقة، ومجموعة المزايا والمواهب النفسية العالية التي انتقتها الطبيعة لهذا الشاب المهيأ لأمر عظيم.

كان مصطفى النحاس مثال القاضي العادل إذا ما ذُكِرَت الأحكام، ومثال القاضي الجديد التفكير الصائب المرمى العميق القرار إذا ما ذُكِرَت المبادئ؛ على حين هو الشاب الحدث الذي لا يُنتَظر من مثله مع صغر سنه وفي مقتبل عمره، أكثرُ من مراعاة حرفية القانون، والرجوع إلى سوابق الأمثلة من مجموعة الأحكام الماضية.

ولكن مصطفى من بداية عمله في القضاء راح في كثير من أحكامه يضع مبادئ، ويسن قواعد، ويأتي بتفكير رائق جديد يقوم كالسابقة الصالحة المتخذة عند الآخرين.

وقد كان من بين المبادئ التي سنَّها في أحد أحكامه ما يدل على تأصل الروح الدستوري في نفسه من الشباب، ومبلغ احترام الفكرة النيابية عنده من البكور، قبل أن يوضع الدستور وتبتدئ الحياة النيابية في البلاد بعدة السنين؛ فقد كان أول قاضٍ يصدر حكمًا يقضي باعتبار مجالس المديريات هيئات ذات شخصية معنوية. وكان هذا الحكم خطيرًا في بابه، وجديدًا لا سابقة له، فضلًا عن أنه ينم على اتجاه نفسه، وتيار روحه، ومنصرف ذهنه، ويضع حجرًا أساسيًّا في بناء القواعد الدستورية التي كان القدر لا يزال يهيئ لها العوامل والأسباب.

وكان مصطفى النحاس القاضي في كثير من أحكامه واضع مبادئ، ومنشئ سابقات خطيرة، ومحدث حيثيات تصلح مَرَاشِدَ ومراجع في دور القضاء، وقد أصدر يومًا وهو في دائرة ابتدائية حكمًا في بعض القضايا عدلته محكمة الاستئناف، ولكنها أمام روعة ذلك الحكم وقوة تخريجه وعمقه لم يسع رئيسها — وهو يومئذٍ يحيى إبراهيم باشا — إلا أن يبعث إليه بكتاب شكر وتقدير وإعجاب.

ومن الأدلة البارزة على تعمُّقه في البحث وغوصه في الدراسة أنه أصدر حكمًا اعتُبِر فذًّا فريدًا في مسألة الوقف، وهو يقضي بأن الوقف لا يُمْلَك بمضي المدة قطعًا؛ لأن الوقف نظام شرعي، والشريعة لا تعرف التملك بمضي المدة، ولا يقاس هذا على ما قرره الفقهاء من عدم جواز سماع الدعوى بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة.

وكذلك لم يكن مصطفى النحاس قاضيًا من عُرْض القضاة، ولكنه كان قاضيًا من طراز نادر، قاضيًا غير مألوف، قاضيًا في الصدر من أساطين القضاء، في كل ما يجب للقاضي من الصفات والخواص، وما ينبغي أن يتجمل به من رفعة الشخصية، وجلال الخليقة، وسمو الإحساس، وقوة العارضة، وشدة الحرص على الحق والعدل، والنزاهة والاستقلال بالرأي، والاستجابة لإملاء الضمير، واحتقار جميع العوامل الأخرى والاعتبارات، ونصاعة الصفحة، وحسن السيرة، والإخلاد إلى استيعاب القضايا وتوفيتها كل الدراسة الواجبة.

وقد بلغ من حرصه على درس القضايا أن جعل يتناول ملفاتها جميعًا، فيكب على بحثها ودراستها وتلخيصها في كل دائرة يجلس فيها، وكان زميلاه يتركان له ذلك اعتمادًا عليه وثقة غالية به. وكان المُتَّبع من قبل أن يتقاسم القضاة الثلاثة في الدائرة القضايا بينهم درسًا وتلخيصًا قبل الجلوس لنظرها.

وليس أروع ولا أجَلَّ من قاضٍ يستدرك على نفسه حكمه عقب النطق به، حرصًا على الحق والعدل، ومخافة من إيذاء الناس فوق ما ينبغي أن يعاقبوا به، حتى وإن كانت القضية صغيرة، والمحكمة ابتدائية، والمجال أمام المحكوم عليه متسعًا للاستئناف والمنجاة من خطأ غير مقصود.

ولو أن قاضيًا آخر في موضع مصطفى النحاس، وأدرك هذا الخطأ لحظة الفراغ من إصداره، لما فعل أكثر من ترك الأمر لدور الاستئناف، حيث يتسع المجال إذا شاء للمتهم في التخلص من الحكم الابتدائي الذي جاوز القانون في الحدود والعقوبات.

ولكن مصطفى النحاس القاضي أبى إلا أن يستدرك ما فاته، ويذكر ما نسيه، ويلاحظ بنفسه على ما حكم هو به، إراحة لضميره، واستماعًا إلى صوت نزاهته، وانبعاثًا مع العدل الذي استمكن روحه من شغاف شعوره ودقة إحساسه.

فقد حدث أن كان من بين القضايا المعروضة عليه وهو قاضٍ ابتدائي «إصابة خطأ»، فأصدر في الجلسة الحكم على المتهم بالحبس مدة عينها في حكمه، ولكنه لم يكد ينطق به، حتى أحسَّ أنه قد جاوز الحد المقرر للعقوبة في القانون، فلم يكن منه إلا أن دار في الحال بعينه إلى كاتب الجلسة فقال: «أَثْبِت أيها الكاتب أن هذا الحكم خطأ، وأنه يجب على النيابة أن تستأنفه!»

وهذا — بلا ريب — تصرف كريم، وعمل عظيم، وموقف نادر، وانبعاث لم يسمع أحد بمثله، وهو يدل على «مروءة» متناهية، فإن المروءة هي في ذاتها مجموعة كل مكارم الخلق، وموجز سائر الفضائل والآداب، ويشف عن أمانة القاضي العادل النزيه الشجاع الصريح الذي لا يخشى أن يقول «أخطأت» إذا هو أخطأ، ولا ينزوي من قول الحق حتى على نفسه. وقد أوجب على النيابة الاستئناف ليستوثق من أن الحكم سوف يُنظَر من جديد؛ لأن النيابة قد تقتنع بالحكم لما فيه من تزيُّد أو تجاوز للعقوبة الصغيرة، ومخافة من أن يقنع المحكوم عليه بذلك الحكم فيرضاه ولا يعمد إلى استئنافه. ولكن مصطفى القاضي بهذه الوسيلة الكريمة وضع النيابة أمام الأمر الواقع، وأصلح ما أفسده عن غير عمد بنسيانه، ورفع قضاءه بهذا المسلك النبيل فوق كل مأخذ أو لائمة.

ولم يكن مصطفى النحاس إلى تلك المرحلة من حياته قد عرف سعدًا أو التقى به، ولكن القدر الذي كان مهيئًا لهما اللقاء عند أشرف الغايات والتعاهد على الجهاد في سبيل أعلى المطالب، والكفاح لتحقيق أسمى الأمثلة — كان في ذلك الحين يمهد للتعارف بين الزعيم وخليفته، والبطل وحامل رسالته، والقائد الوطني الأكبر ورافع رايته، فجعل مصطفى وهو في المحاماة يتتبع الأحكام التي كانت تصدر عن المستشار سعد زغلول بك، ويُعنَى بقراءتها، ويتوخى الاسترشاد بها، لما كان يحسه من حسن التقدير لها والإعجاب بها، وما كان يجد فيها من المبادئ الجديدة والمثل العالية.

واتفق أنْ عُيِّن مصطفى النحاس قاضيًا في ميت غمر في الوقت الذي كان فيه سعد وزيرًا للمعارف؛ فازداد إعجاب الأستاذ مصطفى النحاس بسعد، والإكبار له في أعماق نفسه؛ لأنه ما لبث أن رأى ذلك الوزير الجديد من طراز آخر غير طراز الوزراء «الصم البكم» — كما وصفهم الإمام محمد عبده في ذلك الحين.

ولم يمضِ على سعد في وزارة المعارف وقت طويل حتى شرع في حركته المعروفة يومئذٍ بنهضة الكتاتيب، فراح يطوف الأقاليم داعيًا الشعب إلى الإقبال على التعليم.

وشاءت الأقدار أن يزور سعد خلال طوفته مركز ميت غمر، فما كاد أهلها يعلمون بنبأ مقدمه حتى أعدوا مظاهر الحفاوة به، وتأهبوا لاستقباله. واشترك مصطفى النحاس في إعداد العدة لهذه المناسبة العارضة التي هيأت له لقاء ذلك الرجل الذي كان له في نفسه موضع إعجاب، ومحل تقدير قبل أن يتقلد الوزارة، ثم ارتفع مكانه عنده وسما موضعه من تقديره، إذ رآه وزيرًا جديدًا في خدمة بلاده.

وقدم سعد فاستقبله أهلها بتكريم وترحيب، وكان الأستاذ مصطفى النحاس في صدر مستقبليه؛ لأنه كان قاضي المدينة، ومن ثم أكبر الشخصيات فيها مكانًا، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تلاقى فيها الرجلان اللذان كانت العناية الإلهية تُعدُّهما للقاء آخر عند عمل خطير وكفاح شريف في سبيل غاية سامية.

وقد أُخِذت لسعد ومستقبليه يومئذٍ صورة شمسية، وقد جلس مصطفى بجانب سعد، ولا يزال لهذه الصورة التاريخية حافظًا.

ومرت الأيام، وتقلد سعد وزارة الحقانية، وكان القاضي مصطفى النحاس قد نقل إلى القاهرة، حيث عُيِّن عضوًا في إحدى دوائر المحكمة الأهلية؛ فحدث في ذات يوم أن اختلف مصطفى مع رئيس الدائرة — وكان المرحوم علي ثاقب بك — بشأن حكم في قضية كان رئيس المحكمة يريد الحكم فيها بالإدانة، ولم يكن هذا رأي مصطفى أحد عضويها، فأبى رئيس الدائرة إلا أن ينطق بالحكم في الجلسة قبل أن يناقش زميله في الخلاف بين الرأيين؛ فلم يكن من مصطفى النحاس إلا أن التفت إلى الكاتب في جرأة الشجاع وشجاعة الجريء النزيه، وأهاب به قائلًا: «أثْبِتْ أيها الكاتب أن رأيي لم يؤخذ في هذه القضية.»

وترامى نبأ هذا الخلاف إلى سعد وهو وزير للحقانية، فأمر بدعوة الأستاذ النحاس إلى لقائه، فذهب مصطفى فدخل على سعد مكتبه، فسأله عن تفصيل ما جرى بينه وبين رئيس الدائرة، فقال إنه قد اصطلح معه وزال ما كان من خلاف بينهما، ومن ثم لا يرى وجهًا لإثارة تلك المسألة من جديد، فقال له سعد: «إني كوزير للحقانية من حقي أن أطلب إليك بسط التفاصيل لي.» فلم ير مصطفى غير النزول على رغبته، فمضى يقص عليه ما جرى.

وحين فرغ من ذلك أخذ سعد يناقشه في المسلك الذي اختاره، ويسأله ألم يكن من سبيل أمامه غير ذلك السبيل الذي سلكه في هذا الخلاف صونًا لكرامة القضاء، وحرصًا على جلال سلطانه وهيبته بين الناس.

فراح مصطفى يشرح الموقف من جميع نواحيه، ويبين الظروف والملابسات التي أحاطت به، حتى سلم سعد أخيرًا بأن تلك الظروف لم تكن لتسمح بسلوك غير ذلك المسلك الذي لجأ مصطفى إليه كارهًا.

وعند ذلك حدق سعد بصره في هذا الشاب الجديد المستوى حياله في شجاعة الرأي، وقوة الاعتداد بالذات، والحرص على الكرامة، والثقة بالنفس في أرهب المواطن، وأنشأ يقول: «الآن، وقد انتهيت من البحث معك كوزير للحقانية، فإن لديَّ نصيحة أبوية أريد أن أسديها إليك، وهذه النصيحة هي ألا تكون شديدًا مع زملائك.» فأجابه مصطفى غير متردد: «إنني لا أستطيع أن ألين فيما أعتقد أنه حق وعدل!» فقال له سعد: «إني لا أنصح لك بأن تلين في الحق، فحاشا لله أن يكون هذا هو مرادي، ولكني إنما أطلب إليك ألا تكون شديدًا في معاملة زملائك، ولا تحسبن أنني أبرئ نفسي بهذا القول، فأنا مثلك شديد في معاملة زملائي، ولكم بلغت مني الحدة أحيانًا حتى لكدتُ أهمُّ بضرب زملائي المستشارين، ثم إذ أخلو إلى نفسي بعد ذلك وأفكر فيما بدر مني، لا ألبث أن أحس الندم على حدتي، والأسف على شدتي في معاملة الزملاء … فلا تكن مثلي.»

وقد ظل سعد يذكر ذلك اللقاء على كرة السنين، حافظًا في خاطره استقامة مصطفى النحاس، وشدة تمسكه بالحق، وحرصه على كرامة القاضي الشجاع الأبي العادل النزيه، ولسنا نرى شيئًا أجمل من هذا التماثل الخُلُقي بين هذين الرجلين اللذين اجتمعا في تلك المناسبة العجيبة: وزيرًا للقضاء، وقاضيًا شجاعًا شهمًا شديد الإباء؛ ليتحدثا فيما بينهما عن الحق والشدة فيه، والغضب له، والحرص عليه، وهما يومئذٍ لا يدريان أنهما على الأيام مجتمعان للحق ذاته ولكن في أتم معانيه، متلافيان عند التشدد فيه وبالغ الاستمساك به، ولكن تشدد المجاهد المكافح، واستمساك المناضل عن حق أمته كاملة، بقوة الإيمان وثبات اليقين.

وما أعجب حديث سعد وهو يومئذٍ أكبر من مصطفى سنًّا! إذ ينصح له بألا يشتد هكذا مع زملائه، وهو في الوقت ذاته معجب به، مكبر لموقفه، راضٍ عن مسلكه، بل ما أروع انتقال سعد من الكلام كوزير، إلى الحديث كصديق ذي نصيحة، ناسيًا الفارق الكبير بين الموضعين، غير ملقٍ بالًا إلى شيء غير موقف هذا القاضي المبتدئ الذي يسلك نفس مسلكه، ويعامل زملاءه في الحق عين معاملته، ناصحًا له بأن «لا يكون مثله»، وهو لا يعلم يومئذٍ أنه سوف يكون غدًا مثله حتمًا، بل سيروح أقرب شبهًا منه، وأدنى تماثلًا إليه، وأنه سوف يحل محله، ويخلفه على تراثه الوطني العظيم.

لقد تلاقى الرجلان يومئذٍ بالروح، واجتمعا يومئذٍ في أشرف معاني الفضيلة، وأجمل مكارم الخُلُق، وأبلغ مظاهر العظمة التي كانت الطبيعة قد هيأت لها أكبر فرص الظهور عند نضجة الحوادث، واكتمال الظروف، وقيام المناسبة الصالحة.

وقد اعترف سعد وهو وزير للحقانية بأنه لا يملك أن يكون «متسامحًا» مع زملائه في الحق، وأنه على هذه الخليقة باقٍ، ولهذه النزعة ملازم؛ ولكنه لا يحب أن تكون في مصطفى متمكنة منه، شديدة الأثر في نفسه، مقترنة بمعاملته وتصرفاته، كأنما هو لا يخشى على نفسه من نتائجها، ويشفق على القاضي المبتدئ منها، ولا تكون هذه الخشية السريعة عليه إلا وليدة الإعجاب، ونتيجة الغَيْرَة والحرص وحسن التقدير.

على أنه مع سياق الحوادث، وعلى مر السنين، بقي الرجلان على تلك الشدة المتناهية في الحق، هي سياج دفاعهما عن بلادهما، وموضع مناعتهما ضد كل فتون أو إغراء، وحيال كل إرهاب أو وعيد.

وقد تجلى حرص مصطفى على الحق وحفاظه للعدل وهو في مركز القضاء، في كثير من الحوادث، وعديد من القضايا، وكانت هناك اعتبارات كثيرة تحيط بتلك المسائل، حتى لو أن قاضيًا آخر يومئذٍ في موضعه لسلَّم على الأرجح بما أبى هو فيه التسليم.

ولا يزال الناس إلى اليوم كلما تذاكروا عهد مصطفى في القضاء يتناقلون حديث موقفه في قضية المرحوم محمد محب باشا، مثالًا على مبلغ حرص القاضي النزيه على استقلاله، والتمسك بوحي ضميره، والاعتداد الرفيع بقوته وسلطانه فوق منصته، في غير إشفاق ولا خوف من أكبر سلطان.

وكان مصطفى النحاس يومئذٍ قاضيًا في محكمة عابدين، وكان من بين القضايا التي عرضت عليه قضية رفعها أحد الأعيان على المرحوم محمد محب باشا مدير الغربية في ذلك الحين، بتهمة الاعتداء عليه، فلم يكد أنصار محب باشا يعرفون أن القضية سوف تعرض على مصطفى النحاس حتى أيقنوا أنه سوف يحكم فيها بروح العدل والإنصاف، وأنه سوف يكون شديدًا في الحق لا يعرف فيه أي اعتبار، ولا يبغي عنه أي حِوَل، فأرادوا أن يزحزحوه عن موضعه، فعمدوا إلى الدسيسة عليه، إذ أرجفوا بأنه من أشياع الحزب الوطني، وأنه سوف يُغَلِّب منزعه السياسي هذا ويستجيب له، فيحكم على محب باشا بالإدانة.

وعند ذلك سعت بعض الجماعات سعيها، فدعا المغفور له رشدي باشا — وكان وزيرًا للحقانية في ذلك الحين — الأستاذ مصطفى النحاس قاضي عابدين إلى لقائه، فلما تلاقيا أفهمه الوزير في سياق حديثه أن المطلوب منه في قضية محب باشا الحكم له، أو التنحي عن نظرها.

فكان جواب مصطفى: «أما من حيث الحكم فسيجيء مطابقًا لما يقضي به الحق وترضاه العدالة، فإذا كان محب باشا بريئًا برَّأْتُهُ، وإذا كان مُدَانًا عاقبتُه. وأما من ناحية التنحي عن نظر القضية فإن هذا لن يكون، ولكني مع ذلك لست أريد أن أُعرِّضكم لخطر يهددكم؛ ولهذا سأرفع إليكم استقالتي عقب إصداري الحكم في القضية مباشرة!»

فلم يكد رشدي باشا يسمع هذا القول الرائع الجليل من هذا القاضي الأبي الشهم النزيه الجريء في الحق — وكان رشدي رجلًا ذا عاطفة سريعة التوقد، وشيكة الاستحماء والانبعاث مع الحماسة والاستجابة للجرأة في الخير — حتى ذهب يقول: «امضِ في القضية كما يوحي إليك ضميرك، وثق أنك إذا استقلت فإنني مستقيل معك!»

وقد قيل إن رشدي باشا ذهب يومئذٍ إلى السلطان حسين فحدثه بما علم وبسط له ما جرى؛ فغضب السلطان غضبة شديدة للحق وانثنى قائلًا: «أنا أؤيدكما بكل قواي …»

وبعد أيام صدر الحكم في القضية بإدانة محب باشا وتغريمه، فأثار ذلك اهتمامًا كبيرًا عند الجمهور وراح حديث المجالس، وطافت أنباؤه الأندية والمجامع، وشغلت البلاد كلها بخبره، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي يُعامل فيها مدير إقليم بل حاكم مقاطعة، في ظل الاحتلال، هذا النحو من المعاملة، كأنه بعض أفراد الناس، وشخص لا حساب له في موازين الأخطار والأقدار.

وعقب صدور الحكم أنعم السلطان حسين برتبة «البكوية» على القاضي العادل النزيه مصطفى النحاس، دليل تقدير وبرهان رضوان.

وليس من ريب في أن هذا الحادث الذي ظهر في حياة مصطفى النحاس وهو في سلك القضاء، قد ظل معناه قائمًا في نفسه، متابعًا أبدًا مسالكه وتصرفاته، باديًا على أروعه في سياسته ووطنيته وزعامته، فقد فطره الله رجلًا لا يعرف في الحق أشخاصًا، ولا يعبأ من أجله أقدارًا، ولا يبالي في الحرص عليه أخطارًا، ولا يصانع فيه ابتغاء رضا أو مخافة إغضاب.

هكذا بَرَأَ الله مصطفى النحاس، وذلك هو طبعه ودأبه منذ بدأ حياته العملية، وقد صدمه هذا بحوادث كثيرة، وجلب عليه عداوات متعددة، وأفقده أصدقاء من أهل النفوذ وأصحاب السلطان؛ فآثر الصدمة في نفسه على قبول الصدمة للحق، وترك الحق ينتصر ويتغلب ولو على حساب راحته الشخصية، وأمانه من المخاوف، وسلامته من المكاره والأخطار.
figure
مصطفى النحاس.

ولقد نشأ مصطفى على احترام الواجب، وتقديمه على كل اعتبار سواه، مهما جل خطره، وعَظُم شأنه، وكَبُر حسابه، وإنَّ له في الحرص على الواجب مثل عقيدة «مازيني» واستمساكه، فلا يتردد في تأديته، ولا يُؤثِر عليه لوازم المجاملة، وتكاليف الآداب، وإملاءات التقاليد.

ولعل أبرز مثل على احترامه للواجب، وتقديمه على المجاملة، وعلو خلقه عن صَغَار الازدلاف، ومهانة النزوع إلى التقرب أو التماس الحظوة — ما حدث له في أسوان قبل أن يُنقَل إلى ميت غمر حيث تعارف بسعد كما أسلفنا عليك. فقد كان قاضيًا في أسوان، ومكلفًا بجانب ذلك نظر قضايا محكمة الدر؛ ففيما هو عائد ذات يوم منها، وآخذٌ طريقه إلى محكمة أسوان، إذ نُبِّئَ أن المستشار القضائي — وهو يومئذٍ سير أ. مكلريث — قد قدم بطريق النيل لزيارة المحكمة؛ فتلقى مصطفى النبأ بكل هدوء، وتابع سبيله إلى المحكمة دون أن يعطف على الشاطئ لتحية المستشار، وعقد الجلسة كعادته وكانت مدنية، وانكمش في نظر قضاياه.

وما لبث أن حضر المستشار ومعه محمد توفيق رفعت بك — الآن باشا — وكان يومئذٍ مفتشًا بالمراقبة القضائية، وكانت الجلسة منعقدة، فلم يفكر مصطفى في رفعها لاستقبال الزائرَيْن الكبيرَيْن، ولكنه ظل ينظر القضايا في هدأة وسكون كعادته.

وجاء الرجلان فجلسا وراء القاضي بعد استئذانه، وجلس معهما وكيل النيابة وكان يترجم للسير مكلريث ما يدور في الجلسة، حتى فرغ القاضي من نظر أربع قضايا أو خمس، فانسحب المستشار ومن معه إلى غرفة القاضي حيث لبثوا في انتظار فراغه من عمله.

لقد فعل ذلك القاضي مصطفى النحاس في لقاء المستشار القضائي، وهو ما لم يؤلف من القضاة في أمثال هذه المناسبات، إذ كان المتبع أن يرفع القاضي الجلسة في الحال، ويلحق بالمستشار أو المفتش لتأدية التحية له والترحاب به، وسماع أية تعاليم يروقه أن يصدرها، أو ملاحظات يطيب له أن يبديها.

ولكن القاضي مصطفى النحاس — كما رأيتَ — لم يفعل شيئًا من ذلك، بل لم يرفع الجلسة عقب انصراف المستشار، وإنما استمر على عمله حتى فرغ من القضايا المعروضة عليه جميعًا. وطال انتظار المستشار فانصرف إلى الباخرة التي أقلته، وكانت ملقية مراسيها بالشاطئ، وأسرع وكيل النيابة إلى مصطفى يقول له معاتبًا: «أهكذا تدع الرجل ينتظرك طويلًا حتى مل الانتظار فانصرف؟!»

ومن ثم رأى مصطفى أنه — وقد فرغ من تأدية واجبه — يصح أن يذهب لزيارة المستشار والسلام عليه، فانصرف إلى داره حيث تناول الغداء واستراح بعد الطعام، وقبيل المغيب ذهب إلى حيث ينزل المستشار على شاطئ النيل، فلما رآه استبق السلم للقائه، وتلطف غاية التلطف في تحيته واستقباله، وقدمه إلى جليسه، وكان هذا هو الطبيب الخاص لجلالة ملك إنجلترا، وقد جاء إلى مصر لزيارتها والطواف بها ومشاهدة ربوعها وآثارها، فجلس الثلاثة يتحدثون مليًّا، فأبدى المستشار إعجابه بمصطفى النحاس في عبارات إطراء لم يقتصد فيها، وكلمات مديح كثير.

وفي اليوم التالي دعاه لتناول الشاي معه، وتقابل توفيق رفعت بك مع مصطفى النحاس، فنبأه بأن المستشار كان قد قرر نقله من أسوان إلى الوجه البحري، إذ علم أنه قد قضى في أسوان عامًا ونصف عام، ولكنه سمع من السياح ثناءً عامًّا على محكمة أسوان وقاضيها الشاب، وعرف أن المحكمة أصبحت بين الأماكن التي يزورها السياح لمشاهدة سير القضاء المصري، وبلغه أن هيبة هذا القاضي الشاب في نفوس المتقاضين قد تركت أجمل الأثر في نفوس السائحين، فقرر لهذه الاعتبارات بقاءه في محكمة أسوان إلى آخر موسم السياحة؛ لأن في بقائه عنوانًا حسنًا للقضاء المصري، ومثالًا رائعًا على عدالته ونزاهته ورفعة مستواه.

وقد بر المستشار بوعده، فلم يكد ينتهي شهر مارس وتخف حركة السائحين حتى نقل مصطفى إلى محكمة ميت غمر — التي أسلفنا حديثها إليك — مكتسبًا احترام الإنكليز بجانب احترام مواطنيه، بارزًا في عالم القضاء بخليقته القوية، وشخصيته النزيهة، وكرامته العالية.

لقد لزم مصطفى من نشأته الحق والعدل والواجب، واجتمع له في نفسه اتحاد العقل والقلب؛ فكان ذا العزم القوي والخُلُق، وأخا الإرادة الثابتة التي تبلغ بصاحبها غايته فوق الأحداث ورغم المخاطر والمشاق والصعاب، لا يحول دون عزمه حائل، ولا يقع جاثيًا على ركبتيه أمام أكبر الخطر، وإنما يواجهه غير متراجع ولا متردد.

إن احتقار الخوف هو مبدأ القوة الأدبية في النفوس العظيمة والشخصيات القوية، وإذا لم يصل احترام الحق والعدل في النفس إلى هذا الحد، وكان الخوف مالكًا لها مستوليًا عليها، فلا أمل في بلوغ العظائم، ولا رجاء في الصعود إلى قمة الحياة.

نشأ مصطفى قويًّا، والقوة هي الشجاعة أو عظمة النفس، وهي فضيلة اجتياز العقبات التي تحول دون تحقيق الخير وتأييد النظام واحترام القانون. وليس الانحراف عن الحق والعدل، والخروج عن النظام والقانون إلا سقوطًا وضعفًا، وإنما أدلة القوة هي العمل في دائرة القانون، وملازمة الحق، واحترام الواجب، والاستماع أبدًا لإملائه.

ومن استسلم لغضبه زل، ومن ملك نفسه كان قويًّا معتدلًا، والاعتدال قوة وشجاعة، بل قوة منظمة مرتبة، على حين يروح التهور ضعفًا وعجزًا؛ لأنه قوة غير منظمة، لا ضابط لها، ولا حسيب عليها ولا رقيب.

وقد نشأ مصطفى يحس في أعماقه بقوة ضابطه لنفسه، تشتد لاجتياز العِقَاب والتغلب على الصعاب في غير عنف؛ لأنه قوة تندفع بغير رشد، وتنطلق مجاوزة الحد، وتحتد فيدركها الوهن والضعف، وما النشاط إلا القوة بمعناها الصحيح، ولكن العنف هو الذي يوهم أصحابه أنهم في أنفسهم أقوياء وما هم في الحق كذلك، وإنما هم يخلطون فلا يميزون بين المبادئ لدقتها على أفهامهم، وبعدها من مداركهم، فهم أناس ينقصهم ذوقُ الحياة …

إن المبادئ هي التي تملأ القلب قوة فيعمل مستضيئًا بنورها، سائرًا على هداها. وهذا هو أمر مصطفى النحاس من بدايته: نشأ أخا مبادئ، فاستضاء بمصباحها في طريقه المُصعد إلى الذروة، غير ضارب في بيداء مترامية، ولا مستمع لوساوس مخافتة منادية، ولا مستجيب إلى إغراء يتبعه أذى، وضلال يبعده عن الحق والعدل والواجب.
figure
مصطفى النحاس.

كان مصطفى النحاس من البداية قويًّا، وكانت قوته حيث لا تفريط ولا إفراط، بل حيث يقوم الاعتدال زينة للنفس، وحلية معنوية تأخذ بالأبصار، وحيث العدل والحق هما المسيطران على تلك القوة، وفي ذلك يقول أحد الفلاسفة: «إذا كان في يدي مطرقة مثلًا وأمامي طفل نائم وَسْنَان، فلا شك في أنني مستطيع إذا نمت إرادتي أن أهشم رأس ذلك الطفل بضربة واحدة، ولكني لا أفعل ذلك مهما بلغت قوتي؛ لأن أمام عيني خيالًا يردني ويحبسني عن إتيان ذلك أو محاولته، ولا قِبَل لي بدفعه؛ لأن قوته فوق قوتي، وسلطانه أعلى من سلطاني، فهو قادر على أن يجردني مما أشعر به من قوة وبطش. وما هذا السلطان القاهر الذي لا يعلمه الطفل نفسه، إلا حق ذلك المخلوق الذي هو من نوعي في الحياة، والعدل الذي يقر له بالوجود.»

ومن صفات الحق أن يكون عامًّا؛ أي أن يكون الناس جميعًا حياله سواء؛ يستوي في ذلك الغني والفقير، والعالم والجاهل، والرفيع والوضيع، وأن يكون مقدسًا كقدس القانون نفسه؛ لأنه ضرورة مفروضة مطلقة، تبقى ولو جحدها جاحد أو اعتدى عليها المعتدون.

على هذه المبادئ نشأ مصطفى النحاس، وبقوة الاستمساك بها نجح في المحاماة، وإن لم يطل مكثًا عليها، ولم تتراخَ السنون عليه فيها، وكأن شأنه السريع في مضمارها، كشأن سعد في دخولها، وهي يومئذٍ صناعة صغيرة فكبرت به، خاملة فأنقذها من خمولها، قبيحة السمعة فأضفى عليها من جمال سمعته.

وكان هذا التناسب بين الزعيمين في بداية الحياة العملية نادرًا في تاريخ الزعامات المجاهدة، ولكنه وقع في هذه الناحية على ندرته ليؤدي معنى جليلًا، وهو الاشتراك في التجربة ذاتها لمعرفة الحقائق المتصلة بالحياة نفسها، حتى يبلو كل منهما عند صاحبه ما يجده هو في ذات صدره وخاطره، فتتكون منهما وحدة فكرية يتفاهمان بها أحسن مما يتفاهم الناس وهم متماثلون متشابهون في الذهنية والاتجاه العقليِّ ومنحى النظر والتفكير.

وبهذه المبادئ نفسها دخل مصطفى النحاس دائرة القضاء كما دخلها سعد من قبله، لتحقيق المعنى ذاته، وتجربة الاستعدادات والملكات المشتركة بينهما، واستكمال التماثل الذهني بينهما قبل أن يتلاقيا في الثورة؛ فيجد سعد نفسه تهوِي إلى هذا الرجل أكثر من سواه، وتنجذب إليه أشد ما يكون الانجذاب بين النظائر والأشباه.

ولو لم تستبق الثورة، لكان من المرجح أن يروح مصطفى وزيرًا على دورة السنين، أو يبلغ في القضاء عليا مناصبه على أقل تقدير؛ ولكنه لبث في القضاء قرابة خمس عشرة سنة، ولم يتولَّ منصبًا سياسيًّا فيها، ولم يلجئه الارتباط بتكاليف المنصب السياسي والقيام في غمرة تيار الحياة الرسمية إلى الاشتراك في أغلاط الحكم يومئذٍ ومساويه تحت الاحتلال، وإنما لزم موضعه من القضاء مستقلًّا فيه، فإذا ما اصطدم بسلطان خصوم الاستقلال، احتمى بجلال القضاء وضرورة بقائه بمنجاة عن أي عبث أو تدخل، واعتمد على قوة خلقه وإبائه والتزامه جانب الحق والعدل والواجب في تنفيذ مشيئته، واحترام كلمته، وسلوك نهجه، في حزم دون تهور، وشجاعة دون حمق، واتزان بغير تسرع ولا إحجام، وثقة دائمة بالله اكتسبها من النشأة بالصلاة والعبادة والنزاهة والسير على صراط مستقيم.

لقد كان بُعْدُه من الوظائف وهو محامٍ، ثم سلوكه دائرة القضاء يوم أُكْرِهَ على الوظائف إكراهًا، مزيةً كبيرةً أنبتت في أعماق نفسه روح الاستقلال والتزامه والحرص عليه بكل شجاعته ونزاهته وإقدامه؛ لأنه سوف يوكل على السنين بأكبر قضية من قضاياه؛ قضية استقلال أمة صممت على كسبها، ولم يبقَ إلا أن يبرز لها جماعة المحامين المدافعين المخلصين المُشرَبي النفوس بروح الحق والعدل والواجب؛ ليسيروا بها رغم الصعاب والمشاق إلى معاركها الفاصلة، وأدوارها الحاسمة، ونجاحها المؤكد، وفوزها الوثيق.

لبث مصطفى النحاس في وظائف القضاء زُهَاء خمس عشرة سنة — كما أسلفنا عليك — يعطي من قضائه أروع الأمثلة على النزاهة، ومبالغ احترام الحق، والتمسك بالعدل، والتشبث بالواجب، ويعيش عيشة موظف معتدل الراتب، هو كل معتمد عيشه، ومِسَاك حياته، لا يستمتع منه بترف، ولا ينعم منه بغير الرغد المكفول من الاستقامة، والهناء الموفور من الرضوان بالكفاف، ويقوم على تربية أولاد أخته، وكانوا يومئذٍ أحداثًا وأصْبِيةً في المدارس، وهو الحاني الحدب عليهم، الرقيب على دراستهم؛ إذا احتاجوا إلى معلم خاص كفله لهم، وإذا أرادوا ما ينفعهم ويجدي على دراستهم لم يتردد في توفير أسبابه لهم، في بلاغة الحنان القويِّ المُشرِف الرقيب، لا حنان الضعف والرأفة المؤذية ومفاسد التدليل.

كان مصطفى النحاس يعيش في ذلك الدور من حياته عيشة بسيطة راضية، وكان آخر عهده بالقضاء في طنطا رئيس دائرة، وقد اعتاد أن يذهب إليها كل يوم من القاهرة، ثم يعود منها بعد الفراغ من عمله؛ إذ كان يسكن في منزل متواضع بحي شبرا، تنزل به السيدة الكريمة شقيقته لتقيم مع بنيها إذا هي تركت سمنود إلى حين.

ولئن كان مصطفى قد أخلد في ذلك الدور إلى عمله في القضاء، فلم يكن منقطعًا مع ذلك عن الحياة العامة، ولا منصرفًا عن متابعة سيرها، وتأمُّل أحوالها، ومراقبة أطوارها؛ لأن وطنيته كانت تعتمل في نفسه، وحاسته القومية تختلج في صدره، وشعوره بالظلم الواقع على بلاده، الماثل لعينه في كافة نواحي وطنه، كان يستنفر فيه غضبة القاضي بجانب ألمه الوطني، ويثير في نفسه النفور والتأذي والتذمر، فيدور بعينه يلتمس سبيلًا إلى التنفيس عن صدره، والترويح من مبالغ ألمه وكظمه، والاشتراك — ولو من بعيد — في الدفاع عن بلاده.

كان هذا الدور في حياة مصطفى النحاس دور الوطني المتألم لبلاده، رأى حركة مصطفى كامل وجماعته فأعجب بها، واطمأن إلى قيامها، وجعل يشجعها رويدًا، ويدنو منها على كثب دون أن يسلم إليها نفسه بكليتها، أو يظاهرها بصراحة مظاهرتها، وإن اتصل برجالها وعرف أفرادها، وتبادل معهم الرأي، وتجاوب إحساسه مع إحساسهم، واتحدت نفسه مع نفوسهم، في وَحدة شعور، وتماثل عاطفة، وتقاسم ألم لوطنهم المغتَصَب السليب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤