سعد ومصطفى يبنيان للديمقراطية والدستور

جاء تصريح ٢٨ فبراير المشهور عملًا من جانب واحد، وكان العمل على هذا النحو تنفيذًا لما أشار به لورد اللنبي كعلاج موقوت لصعوبة العمل يومئذٍ من جانبين؛ فهو مع اعترافه الرسمي باستقلال مصر يحمل في ثناياه كذلك الاعتراف الضمني بأن مشيئة مصر لا تزال تنقصه، وأنه لا يزال خاليًا من الطابع الذي يقر إرادتها، ويجمع إلى الاعتراف البريطاني كلمتها، بل الكلمة النهائية التي تضع كل شيء في موضعه، وترد الأمر إلى طبيعته.

وقبل أن تعمل الحكومة البريطانية بمشورة اللنبي كان لورد ملنر قد نبَّه بلاده إلى أنه لا يمكن أن تكون التسوية مرضية إذا هي كانت مجرد فرض تفرضه بريطانيا على مصر، وإنما الخير والحكمة في البحث عن حل يقوم على اتفاق بين الجانبين؛ أي عمل مشترك من طريق التفاهم والتعاهد والوئام، ولكن الحكومة البريطانية اقتصرت بعد ذلك على العمل منفردة، فكان ذلك التصريح، وكان النقص فيه بارزًا في مجيئه بهذه الصفة.

وقد اعترفت بريطانيا في ذلك التصريح بحق الشعب المصري في حياة نيابية وحكم دستوري، وكان هذا الإقرار الضمني فيه هو كل ما يمكن أن ينتفع به، فظلت الأمة على معارضتها وجهادها، وبقيت على موقفها من ذلك التصريح ونقصه وبطلان صفته.

وابتدأ الحكم الدستوري قبل أن يبتدئ الاستقلال، ولكن ذلك لم يقنع مصر ولم يحملها على الاستسلام، وإنما رأت أن تتخذ الدستور طريقًا للاستقلال، فحرصت عليه، ورضيت به، وجعلته مُعبِّرًا عنه، ومظهرًا له؛ لأنه نظام حكم الجماعة، ومرآة مشيئة الأمة، ومُتَجَلَّى إرادة البلاد.

ولم يكد حكم الدستور يقوم في حراسة سعد وبزعامته حتى راح يطبع حياتنا العامة بطابعه، ويتغلغل فيها بكل مؤثراته ودوافعه، ويضفي عليها بكل روحه ومنازعه، فقد استحال سعد زعيم الثورة زعيمًا للديمقراطية، ولم يكن ذلك غريبًا على نفسه، ولا مختلفًا وطبيعته، ولا جديدًا على تفكيره وخلقه وتكوينه؛ إذ نشأ من عُرض الشعب، وقاد الشعب في الثورة، واتصل بروح الشعب في مَسْرَى كهرباء حسه، ولهيب نفسه، وشعلة وجدانه، ونادى الشعب إلى حقوقه، وليس من بينها ما هو أكبر ولا أبرز من حق حكمه بنفسه، وتدبير شئونه بذاته، وتصرفه في أمره حرًّا طليقًا لا مرد لمشيئته.
figure
سعد ومصطفى في البرلمان.

وبفضل سعد وديمقراطيته العميقة فيه، وابتدائه الحياة الدستورية أحسن مبتدأ، ووفرة الاستعداد في كثير ممن حوله للنبوغ في الحياة النيابية، والتفوق والبروز في النظام الديمقراطي، لم يطل الوقت حتى أدرك كل مصري حتى العائشين في صميم القرى وسواد الريف، أن الحكم الدستوري هو وحده الذي يبرز وجوده، ويعبر عن إرادته، وأن حكومة الجماعة هي خير وأصلح من حكومة الأفراد؛ لأنه في الأولى يستطيع أن يقول: حقًّا «إنني أنا الذي أحكم؛ لأن إرادتي هي المملية، ومشيئتي هي الحاكمة، ورغبتي هي الأمر النافذ والسلطان المطاع».

لقد أصبحنا من ذلك العهد نعيش في عصر دستوري، بل نحن اليوم جيل ديمقراطي بكل روحه، ومعنوية وجوده، حتى في الفترات التي احتجب الدستور فيها، وتحت حكم لا يستند إليه؛ إذ جازت الحياة المصرية دور الاختبار بالنسبة لأنواع الحكم الصالحة لها، وانتقلت إلى دور اليقين بأن النظام النيابي هو النظام الأمثل لها، ونوع الحكم المتمشي مع طبيعتها، المُظهِر لسائر وجوه إرادتها؛ فهي لا تستريح، ولا تهدأ، ولا يستتب الأمر بها، إذا ما اعتُدِيَ على هذا النظام، أو نُزِعَ منها إكراهًا وإرغامًا بالقوة الغاشمة.

وقد يَعْرضُ نوع من الحكم يجيز الحريات العامة ويرد المظالم، ويسير بالعدل بين الناس، ويلتزم المبادئ الدستورية؛ ولكن ذلك كله لا يجعل الحياة المصرية مستريحة إليه، ولا يغريها بالسكون إلى غيبة النظام النيابي نفسه، إذ مهما تكن الحكومة حسنة، فلا تغني مزاياها عن روح العصر، وهو الدستور؛ ولا يمكن أن تكفل جميع مطالب الديمقراطية الصحيحة التي لا سِنَاد لها ولا قوام إلا بالنظام النيابي الذي يبرز مشيئة المجموع.

وقد يكون عهد مصر بالنظام الدستوري قصيرًا، لم يتجاوز من الوقت الذي نحن بصدد منه إلى اليوم اثني عشر عامًا، تخللتها فترات حورب فيها وهو قائم، وأخرى اعتُدي عليه فيها فغاب واحتجب، وفترات غيرها انتهكت فيها قداسته، فَوُئِدَ أو مُزِّقَ تمزيقًا، ولكنه على قصر عهده لم يقع للبلاد غنيمة باردة، ولم يتهيأ لها محض مصادفة، ولم تذهب في بعض الطريق فعثرت عليه لقًى، أو التقطته على القارعة التقاطًا، ولكنها جاهدت من أجله وحاربت، وناهضت حكومات عديدة قبله وأسقطت، وقد وقع لها الدستور غاليًا، واشترته بثمن، ولكن من الدماء؛ وأصابته، ولكن بمخاض العذاب والآلام وصنوف البلاد.

وكان من الطبيعي عقب قيامه لأول عهد البلاد به في عصرها الحديث أن يُحْسَب له حساب الفترات الأولى من البداية حتى ينهض على ساقيه، ويستتب الأمر له، ويستقر على أوطد قواعده، كما كان شأنه في الأمم قبلنا. تَعَثَّرَتْ به في بداية الأمر وأخطأت، وامتُحِنَت فيه بدروس متعددة وابتُلِيَت، فكان لذلك كله قيمته في تعزيز معانيه، وغرس أصوله والتمكين لبنيانه، وأثره العميق في تأصل روحه، وارتفاع شأنه عند الشعوب التي ارتضته أساسًا للحكم فيها، وعملت على الاحتفاظ بناموسه، مهما كلفها ذلك من تجاريب واختبارات ومغارم وتكاليف فادحة.

كان ذلك طبيعيًّا لو أنه جرى عندنا على ما قد جرى عند غيرنا، ولكنا حوسبنا على الخطأ من أول الأمر ولم يكن خطأنا؛ بل لقد حوسبنا حتى على التجاريب المناوئة التي اصطنعت لمحاربته، وعلى وسائل المقاومة والمؤامرات التي كيدت له، واتُّهِمنا بأننا لا نصلح له، واتُّهم هو بأنه لا يصلح لنا، مع أن الفترات التي استطاع هذا النظام — على قصرها — أن يسير فيها هادئًا خالي الطريق من العقبات، والتي تيسَّر لها خلالها أن نسكن إليه، ونطمئن إلى قيامه، كانت أدلَّ شيء على مبلغ استعدادنا الكبير لمطالبه، وأقطع برهان على صلاحيته لهذه البلاد.

لقد آمنت البلاد من مشاهدة الثمرات البواكير للحكم الدستوري وأيقنت من اختبار نتائجه الأولى، أن هذا النظام هو وحده الذي ينبغي لها؛ لأنه هو المبرز لمشيئتها، والمُظهِر لإرادتها، والمُمَكِّن لها في الاستمتاع بكل ما تستمتع به حرُّ الأمم ومستقلُّ الشعوب.

لقد ظن الإنكليز في السماح لنا بالدستور مع تصريحهم المشهور أنه سوف لا يلبث أن يفرقنا طرائق وشيعًا، ويقسم بعضنا على بعض جماعات وأحزابًا، ويفسد علينا وحدتنا التي جمعتها الثورة وهيأتها، وأننا سوف ننشغلُ بالاشتجار عليه فيما بيننا عن الكفاح حيالهم من أجل قضيتنا؛ ولكن الدستور في الحق، وإن أدَّى إلى بعض هذا أو شيء منه، قد برَّ بنا، وحفظ وحدتنا، وأبقى على إجماعنا، وأثبت قوة صفوفنا، ومبلغ إيماننا؛ لأنه كما سبق أن بينت غَرْبلَ الحياة المصرية غربلةً، ونقى الحياة تنقيةً، فأبقى على الصالح الجيد المخلص النافع، ونفى من حظيرته الفاسد والمدخول والغريب والضار المؤكَّد الأذى، ولم يلبث أن أصبح هذا الدستور الذي ظنَّه خصومنا أداة هلاكنا السياسي، أداةَ نجاتنا، وسبيل إنقاذنا، ومحل مناعتنا، ومستودع قوتنا، فذهبوا من ذلك الحين يضمرون السوء له، ويعملون على محاربته، ويَسْتَعْدُون وسطاءهم وأعوانهم على تعطيله وتشويهه أو محاولة محوه محوًا، وذهبنا ندافع نحن عنه قائمًا بكل قوانًا، ونقاوم في سبيل استرداده إذا هو يومًا تعطل أو غاب أو بُدِّل تبديلًا.

وقد يحسب قِصَارُ الأبصار أن العراك على الدستور قد شغلنا عن الكفاح طويلًا عن الاستقلال، ولكنه حُسبَان المخطئين؛ لأن المعارك الدستورية كانت في ذاتها معارك للاستقلال؛ لأن الدستور ظل أبدًا طريق قضيتنا، وسبيل أمانيِّنا وعلالتنا، والباب المُفضِي إلى حقنا الطبيعي في الحياة.

وكان سعد زغلول الزعيم الدستوري الذي مَكَّنَ لجذور هذا النظام من التأصل والتغلغل في صميم حياتنا، وكان هو الباني لصرح حياتنا النيابية وهيكلها العظيم؛ فقد أظهرته الطبيعة يومئذٍ رجلًا جديدًا في الواقع، وزعيمًا عجيبًا، كأنما كان طويل العهد بالروح النيابيِّ، عريق المحتد في الدراسة البرلمانية، واسع العلم بأوضاع هذا النظام وتقاليده ومطالبه؛ إذ كان أول من ألغى «الأقدمية» في تقلد المناصب، وأول من أثبت حق النبوغ في الاستباق، وأول من أقر «الكفاءة» ووجوب تقديمها على كل اعتبار.

لقد أعطى سعد زغلول أمثلة جريئة، وخطا خطوات قوية في سبيل تعزيز الديمقراطية، فجعل من «الأفندية» وزراء، وحطَّم بذلك القيم المظهرية التي كانت «للباشوات»؛ وأثبت للشعب أن المخلص يجد أرفع الأمكنة، مهما كان في الأصل موضعه؛ وأن الكفء يظفر بالمحل الخليق به، مهما كانت من قبلُ درجتُه، وقد كان تقرير هذه القاعدة في بداية الأمر مستغربًا، حتى إن فريقًا من المستشارين في وزارة الحقانية نكروه وتبرموا به، وصارحوا سعدًا برأيهم في شذوذه، واستنكارهم لخروجه عن المألوف؛ إذ لم يكن أحد يومئذٍ يتصور أن محاميًا من عُرْض المحامين يصبح وزيرًا للقضاء، ولكنَّ سعدًا الديمقراطي العظيم لم يعتد بغضبهم، ولم يحفل استنكارهم، ومضى في التمكين للديمقراطية غير متخاذل ولا متردد.

وفي مجلس النواب لم تلبث مع هذا الحافز الجديد، وعلى شكة المهماز في الخاصرة، أن ظهرت نباغات باكرة، وتجلت كفايات سريعة، وبدت استعدادات خصيبة للروح النيابي الجديد؛ حتى لقد كان موضع العجب أن تنبغ الحياة الدستورية هكذا وشيكًا لدينا، ويظهر التقاطنا الزئبقيُّ لجوهرها وحسن تقاليدها وعرفان أوضاعها في تلك الفترة القصيرة العاجلة من التجربة والاختبار.

وفي الوزارة الديمقراطية المُحْدثة تقلد مصطفى النحاس القاضي السابق منصب وزير المواصلات، ومن قاضٍ إلى وزير مسافة واسعة، وشوط لم يكن أحد ليقطعه في النظام القديم، ولكنها كانت أقصر من غيرها بكثير في العهد الجديد، واستحقاقًا تامًّا لرجل لم يكن يدري يوم غادر وظيفته مضحيًا بها، ماذا سيحل غدًا به، وأي أخطار الجهاد على الأيام مصيبه، وأي عقاب مرهوب سوف يُعَدُّ له، ذلك الرجل الذي ترك كل مسئولياته الخاصة جانبًا، وأقبل على الثورة الوطنية بكل جوارحه، غير مبالٍ بما قد يصيبه في سبيل بلاده، وقضية وطنه المعذب الأسير.

ولكن كذلك طلبت الديمقراطية الجديدة، وهي يومئذٍ في أشد حماستها وأصدق أدوارها وحميتها، الخُدَّامَ المخلصين لبلادهم، والمجاهدين الأبرار بوطنهم؛ فأشارت الأقدار إلى مصطفى في الأكفاء المستحقين؛ لأنها كانت مُعِدَّته ومحتفظة به لحراسة هذه الديمقراطية نفسها التي عرفت له قيمته، وشهدت له بكفايته، فإن حياة مصطفى السياسية ظلت كلها دفاعًا مستمرًّا عن الدستور، وكفاحًا مستطيلًا عن النظام الديمقراطي، وذيادًا لا يفتر ولا يهدأ عن الحياة النيابية؛ حتى لقد تحمَّل مصطفى في عهد زعامته من أجل الدستور ما لم يتحمل سعد مثله، وقاوم في سبيله مقاومة يدفعها الإيمانُ القويُّ العميق الذي لا يعرف تراجعًا، ولا يحس يأسًا ولا يفكر في انزواء.

وقد أثبتت الحوادث في خمس سنوات متعاقبة خلال زعامة مصطفى للأمة ورياسته للوفد وقيادته لصفوف الشعب وجموعه أن مصطفى قد وهب حياته كلها لحراسة الدستور، وحماية الحكم النيابي، غير مُنثَنٍ أمام كل تلك القوات المعادية التي وقفت متراصة حياله لتصد تياره، ولا يائس من استرداد دستور الأمة بعد إلغائه، بل لقد بنى سعد الديمقراطية في مصر، وجاء مصطفى ليتولى حراستها؛ فكان الحارسَ الثقة الأمين.

ونجحت الديمقراطية من بدايتها، وصحب قيام البرلمان في سنة ١٩٢٤ توفيق كبير، وأثمرت الحياة النيابية ثمرات طيبة، كان من بينها إصدار قانون الانتخاب المباشر، وراح سعد يعد العدة للمفاوضات التي ورد ذكرها في خطاب العرش؛ وإذا بمكيدة حقيرة تدبر لاغتيال حياته وهو يوشك أن يركب القطار في الثاني عشر من شهر يوليو سنة ١٩٢٤. وقد تلقى سعد حركة ذلك المفتون الطائش الذي صوب الرصاص إلى صدره بأروع ما تكون الشجاعة مظهرًا حيال الموت وخطره، ورجفت البلاد من شناعة الحادث بقدر ما أعجبت برباطة جأش زعيمها العظيم، وبدا هذا الحادث يومئذٍ بوادر رجعية شريرة قاتلة مجرمة تعمل تحت جنح الظلام.

وأخفقت المفاوضات التي جرت بين سعد وماكدونالد؛ إذ جرى هذا معه على منهج كرزون من قبله وملنر، وظن أنه مستطيع أن يتغلب على سعد؛ فأبى سعد التسليم ورفض المفاوضات وفيًّا أبيًّا، وعاد إلى بلاده مرفوع الرأس كريمًا على نفسه وبلاده.

وعلى أثر عودته كثرت الدسائس واشتدت المكائد للدستور والحكم النيابي، وكان حسن نشأت باشا يومئذٍ وكيلًا للديوان الملكي؛ ففكر سعيد مليًّا في الأمر ليجد له علاجًا حاسمًا، فكانت مشورة مصطفى في هذا الموقف الخطير أنه يجب أن يصان الدستور قبل كل شيء، وينبغي الحرص على قدس النظام النيابي قبل كل اعتبار، وأنه إذا لم تجب المطالب التي تتقدم الوزارة الدستورية بها إلى الملك، فلا ينبغي البقاء في الحكم لحظة واحدة.

وعمل سعد برأي مصطفى، فذهب إلى القصر في ذلك اليوم المشهود الذي اجتمعت فيه ألوف مؤلفة من الخلق في ساحة عابدين وهم يهتفون هتافًا دوَّامًا مدويًا: «سعد أو الثورة»، فقدم مطالب الوزارة إلى الملك مهددًا بالاستقالة إذا هو لم يجب إليها.

ولكن تلك المطالب أجيبت، فخرج إلى الجموع الحاشدة في الساحة فائزًا منتصرًا، وارتد أعداء الدستور خاسرين.

وفي هذه الوقفة الجليلة اجتمعت مشورة مصطفى وشجاعة سعد، فتناسبتا وتشابهتا روعةً وجلالًا. وكانت تلك المشورة وليدة إخلاص متناهٍ للفكرة، وسمو أدب في الوطنية السياسية، ووفاءً عظيمًا للدستور، لا يتردد أمام أي اعتبار شخصيِّ، ولا يتخاذل حيال أي واجب كبير، ولا يخشى جاه الحكم أن يزول عنه، أو أعنة السلطان أن تذهب من كفه؛ وهو لم يمكث في مقعد الوزارة غير بضعة شهور، وما هو بالغني العريض المال حتى يتطوع للتخلي عنه، ولا يبالي تركه؛ ولكنه كان الوطني المؤمن بالدستور الحريص على النظام النيابي، فلم يلبث حرصه على الدستور أن تغلب عنده على كل عامل سواه، فرضي ترك الحكم ونصح باستقالة الوزارة، إيثارًا للدفاع عن الدستور والذود عن قداسته، على كل مغريات البقاء في الحكم والتشبث بالنفوذ والسلطان.

وكان مسلكه في وزارة المواصلات مسلك نزاهة رفيعة؛ إذ كان المعتاد قبل قيام وزارة الشعب الأولى أن يتقاضى كل وزير أربعين جنيهًا بمثابة «بدل سيارة»، فلما جاءت الوزارة السعدية وقف النحاس بين زملائه يقول: «إنني أقلكم مالًا، ولكني متنازل عن مبلغ الأربعين جنيهًا التي تدفع لنا»، فلم يكن من الوزراء إلا أن استجابوا له، واحتذوا حذوه، فأُلغِي المبلغ من الميزانية إلى أن جاءت الوزارة الزيورية فاستعادته.

وظهر من حرية رأيه يومئذٍ ما كان حديث الناس في المجامع، وموضع تقدير حسن عند الناخبين؛ فقد وقف في أهل دائرته «سمنود» يخطبهم خلال الحركة الانتخابية، وكان منافسه فيها يومئذٍ علي المنزلاوي بك، فقال: «من منكم يرى في انتخاب علي بك المنزلاوي مصلحة لوطنه ولا يُقدِم على انتخابه مجاملةً لشخصي، أو مراعاةً لأي اعتبار آخر، فإنه يكون مجرمًا في حق بلاده!»

ولعل هذا أندر ما يسمعه الناس في المعارك الانتخابية، من قول المتنافسين، وحجج المتزاحمين؛ فإن أكثر ما يكون خلالها تراشق بالسباب، وسلْقٌ بألسنة حداد، وكشف للستر وهتك للحجاب، ورَتْعٌ في لحم الخصوم، وإبراز للعيوب والسيئات.

وفي أول عهده بالمناصب الوزارية لم يكن مصطفى يصانع أو يجامل أو يخشى سطوة أحد من الإنكليز، أو يسكت عن إساءة من ناحيتهم، أو خطأ يقترفه كبير فيهم؛ بل كان الوزيرَ الحريصَ على كرامته، الحفيظ لهيبة منصبه وسلطته؛ فقد قرأ وهو وزير المواصلات يومئذٍ في تلغرافات الأهرام الخاصة ذات صبح مقالًا أو خلاصة من مقال أو تصريحًا منسوبًا للمستر فرسكويل المدير العام للسكك الحديد المصرية في ذلك الحين مع أحد مراسلي الصحف البريطانية، وهو أن السكك الحديدية المصرية قد اختلت اختلالًا شديدًا منذ تربعت الوزارة النيابية دست الأحكام، فلم يكد الوزير يصل إلى مكتبه حتى استدعى إليه المستر فرسكويل، فلما حضر قال له: «إني أقترح عليك يا مستر فرسكويل أن تختار أحدَ أمرين: إما أن تكتب إليَّ قبل الساعة الواحدة كتابًا تكذِّب فيه تصريحك المنشور في التيمس، أو أن أحيلك في الحال إلى مجلس تأديب!»

وانصرف المستر فرسكويل حائرًا لا يدري ماذا هو صانع إزاء هذا الوزير الجديد الذي لا يضع إنكليزيته موضع الاستثناء، ويعامله كمرءوس من عرض المرءوسين سواء بسواء. ولكن لم يلبث أن خطر له خاطر، فعمد إلى تنفيذه؛ وذلك هو أن يزور صديقا إنكليزيًّا مثله يشتغل بالمحاماة، راجيًا إليه أن يقصد النحاس باشا فيتوسط له عنده، فلما كاشف صديقه هذا بما جرى، ذهب الصديق إلى النحاس باشا، فدخل عليه وبسط الأمر له، فقال له مصطفى باشا: «إني أعجب لك كيف وأنت محامٍ تجيء لتناقشني في مسألة موظف تحت إدارتي، فإن كانت لديك نصيحة للمستر فرسكويل، فانصح له بأن يكتب لي الكتاب الذي طلبته منه.»

وقبل الساعة الواحدة بعد الظهر كان عند مصطفي باشا الكتاب الذي أراده …

وفي ذلك الحين بدأت الرجعية تَتَحَسَّس منافذ لتسرب منها إلى محاربة الروح النيابي في البلاد، ومناوأة الدستور، وتحريش بعض الهيئات والجماعات بالوزارة الديمقراطية الأولى؛ فألَّبت الأزهر على سعد وهاجت حفائظَ طلابه وأوقعت الفتنة في صفوفه، ولكن سعدًا عرف كيف يلجأ إلى الحكمة، ويجنب الاستهداف لمؤامرات الرجعية وكيدها الأثيم.

ولكن بينما كانت البلاد مقبلة على شئونها، مستقبلة الدورة الثانية للبرلمان بنشاط واستجمام، وبينما روح الأمل يسري في النفوس ويغمر جميع المرافق، والطمأنينة على الدستور تملأ القلوب، كانت الأيدي الأثيمة تدبر في الظلام جريمة نكراء، وهي اغتيال حياة السردار. وقد نفذت فعلًا تلك الفكرة الإجرامية الشنيعة التي عدتها الوزارة موجهة إليها بالذات، فلم تدخر وسعًا في تعرُّف أشخاص المجرمين للضرب على تلك الأيدي الآثمة.

ولكن الحكومة الإنكليزية وجدت في ذلك الحادث المستنكر الفرصة التي كانت ترتقبها لمهاجمة الحكم النيابي، والقضاء على الدستور الذي تبين لها أنه جاء على عكس ما كانت تريده أن يجيء، أداةَ مناعة للوفد وسلطانه، لا أداةَ تفرقة للإجماع وتوهين بنيانه. فتقدم لورد اللنبي بإنذاره المعروف، إلى سعد في مكتبه، في عديد من رماحه وحرابه؛ فتلقاه سعد بذلك التهكم المرير، وذلك الجلد الرهيب الذي عُرِف عنه في أخطر المواقف وأعظم الخطوب.

وأردف اللنبي ذلك الإنذار بمطالب مرهقة، فلم تقبل منها الوزارة دفعًا للعدوان إلا ما لم يكن له مساس بحرمة البلاد وسيادتها، ولكن السلطة الغاشمة راحت تبالغ في الأعنات، وتسرف في الاشتطاط والإرهاق، فلم يتردد سعد في اعتزال الحكم حرصًا على مصير البلاد، إذ تبين أن المراد من ذلك كله هو إقصاؤه منه، وتنحيته عنه؛ فاختار أخف الضررين ليسلم مستقبل البلاد من مجهول الخطر، ومُبَيَّت الكيد، ومضمَر البلاء.

وقد تبين فيما بعد أن الإنكليز كانوا قد أعدوا من قبل ذلك الإنذار لهذا الغرض بالذات، وأخذوا يتحينون الفرص لاستخدامه، حتى كان مصرع السردار الناهزة المرتقبة، فاقتنصوها اقتناصًا.

وما فضح المصريون هذا السر وإنما فضحه محرر «التيمس» في رسالته التي وجهها إلى مجلة «العالم الإسلامي» في باريس؛ بل فضحه لورد اللنبي نفسه في حديث له مع مسيو بيرو بقوله: «إن الإنذار كان عند مقتل السردار مُعَدًّا في مكتبي لأقدمه عند الفرصة السانحة.»

ويومئذٍ خلا الجو للرجعية، فساد الإرهاب، وحلت بالبلاد «نكسة» مرَوِّعة، وتولت الحكم الوزارة الزيورية، فلم تقوَ بادي الرأي على مقاومة البرلمان فأجَّلَتِ انعقاده. وحين بدأ الشيوخ والنواب يفزعون إلى العرش في سبيل إنقاذ الدستور من العبث الظاهر في ذلك التأجيل، عمدت الوزارة إلى حل المجلس، وشرعت تمهد لانتخابات جديدة على مزيج من قانون الانتخاب القديم والقانون الجديد، ولم تحترم ذلك القانون المباشر الذي كادت تتم إجراءات تنفيذه.

وقد وصف مصطفى تلك الفترة الرجعية بقوله في بعض مراجعاته للماضي وأدواره المتعاقبة:

لقد فعلت الوزارة الزيورية ذلك أملًا في أن يأتي مجلس مزيف، لا يعبر عن إرادة البلاد. وقد ظهر بعدُ أن هذا ظن خاطئ وتَعَلُّقٌ بالأوهام.

وفي ذلك الحين أُنشِئ حزب «الاتحاد» في غفلة الأيام، ونشأ في مهاد الدسائس ليكون سنادًا للرجعية، واتخذ من ضعف الحكومة واستسلامها وسائلَ بغيضة لسَوْق الناس إليه، وابتزاز الأموال، لكي يقوم الحزب، ويظهر جريدته، ولكن عوامل فنائه كانت تتبعه وتحيط به، فما كان لهذا الحزب من حقيقة إلا في أخيلة عُبَّاد المناصب وعبيد الشهوات.

وبلغ الفساد يومئذٍ بهم مبلغًا جرَّأهم على إجراء الانتخابات في جو من الإرهاب والوعيد، واستخدموا جميع أساليب التضليل والاستهواء، ولكن جاءت النتيجة مكذبة لآمالهم، مبددة لأحلامهم؛ إذ كانت الأغلبية للوفد، وانتخب سعد رئيسًا لمجلس النواب، فأظهر من فوق كرسي الرياسة سماحة خلق وكريم صفح، حيث شكر للمجلس انتخابه لرياسته، وأعلن أنه لا يمثل في موضعه هذا حزبًا ولا جماعة، ولكنه يمثل الدستور ويرعى القانون. فكان جوابهم أنهم جاءوا عَشِية اليوم ذاته يحملون مرسومًا بحل المجلس، وكانت السابقة الأولى في التأجيل والحل مشجعة على الحل الثاني ضد أحكام الدستور.

لقد حاولت الرجعية المختنقة أن تمد في أنفاسها الخبيثة، وتطيل في حياتها الشريرة؛ فنشرت في البلاد جوًّا غامرًا تطرَّق أثره إلى الأخلاق يضعفها، وإلى الروابط الاجتماعية يفرقها، وإلى ثقة الناس بعضهم ببعض يزعزعها، ولكن الله غالب على أمره، وفي الأمة إباءٌ لا يبقى على الضيم، ولا يصبر على الهوان، فبدأت النفوس الوطنية يقرب ما بينها، وراحت الأيدي الطاهرة تتصافح، وبدأ «الائتلاف» ينشر أروقته، حتى إذا توثقت عراه، لم يبقَ إلا العمل على مكافحة هذه الشرور، ودفع تلك المساوئ التي آذت الأمة في مظهر حياتها أبلغ الإيذاء.

وحل عيد الجهاد الوطني في سنة ١٩٢٥ — الثالث عشر من نوفمبر — والرجعيون يحاولون بمكرهم السيئ أن يصدوا الأمة عن الاحتفال به في النادي السعدي، ومن قبلهم لم تستطع السلطات العسكرية البريطانية أن تتعرض لذلك العيد، وهي في أشد قسوتها، ولكن غرور «الاتحاديين» زيَّن لهم أن لا شيء يعجزهم في هذه البلاد، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء.

عمدوا إلى بيت الأمة يحاصرونه، وإلى النادي السعدي يدفعون أعضاءه من دخوله؛ فكانت مأساة، انتهت بدخول بعض الأعضاء إلى النادي والاحتفال بهذا العيد وأنفُ الطيش راغمٌ.

وكانت تلك عظة لهم لو انتفعوا بالعظات، ولكنهم رجعوا إلى طبيعتهم فأحالوا البرلمان قلعة عسكرية، وجرحوا عزة الجنود؛ فبعد أن كانت وظيفتهم الدفاع عن شرف البلاد، طلبوا إليهم أن يطعنوا البلاد في حياتها الدستورية، ويحولوا بين النواب وبين دارهم، ولكن هذا التصرف لم يقابل بغير الاحتقار، فاجتمع البرلمان اجتماعه الاعتيادي في فندق الكونتننتال، واتخذ قرارات حكيمة حكم فيها على الوزارة الزيورية بالسقوط، وأعلن أنها ثائرة على الدستور.

وقد كتب سعد يومئذٍ في إحدى صحف الوفد بحثًا ضافيًا بسبيل الثورة الرجعية على الدستور، كان له أكبر وقع في البلاد. ونحن ناشرون هنا فقرة منه:

كيف يسوغ في أمة دستورية ارتكاب كل هذه الجرائم، ثم يُبنَى على أساسها تشريع يُحلُّهَا، ويثبِّت أركانها، ويضاف إليه ما يعزز جانبها، ويمتد به شرها، من شروط تقلل عدد الناخبين وتفتح أبوابًا واسعة أمام الفاسدين من الحكم وذوي الغايات والأهواء من الأفراد؟!

على أن العكس هو الذي يلزم كل حكومة مخلصة لبلادها أن تتخذه وتحرص عليه، تفاديًا من تلك الأضرار التي أنَّت وتئن البلاد منها، ولا تؤدي إذا استمرت إلا إلى البوار وسوء المصير.

غير أن الوزراء لا يبالون بها لاستشعارهم بسند القوة، ولأنهم يزعمون أن الأمة من الجهل والغباوة سريعة التأثر بتغرير الخادعين، سهلة الانقياد لتضليل المضللين، فإرخاء العنان في الانتخاب لها يؤدي بها إلى أن تختار للنيابة عنها غير من يصلحون لها من الأكفاء المفكرين! وهم يحسبون أنفسهم طبعًا في مقدمة هؤلاء! وهو زعم، إن صح فهمه من الأجنبي القوي ليبرر معارضته في تمتع الأمة باستقلالها، فلا يفهم صدوره من بعض أبنائها فضلًا عن وزرائها المسئولين؛ لأنه قضاء على أمتهم باستحقاق الذل القائم، والاستعباد الدائم!

وهم لا يمكنهم أن يكونوا أعزة في بلاد ذليلة، ولا أحرارًا في قوم مستعبَدين، مهما سمت بهم الألقاب والرتب! على أن الأمة المصرية ليست بغبية كما زعموا، ولا يتفوق غيرها عليها من الأمم في الذكاء الفطريِّ والنباهة الطبيعية، بل ربما فاق الفلاحون منها أمثالهم في البلاد المتمتعة بالدستور وحسن النظام، وما الفرق إلا أن بلادنا تحتلها قوة أجنبية تفسد بعض ضمائر الضعفاء فيها، وتحملهم على أن يتبجحوا بمثل هذا الزعم ليتمتعوا بسند القوة على حساب الإضرار بها؟! إن جريمة الأمة عند هؤلاء هي أنها ضنَّت عليهم بثقتها، وهم يحسبون أنهم في مقدمة أبنائها سعةَ فضلٍ، وغزارةَ علمٍ، ومكارمَ أخلاقٍ!! فهم لا يغتفرون لها هذه الجريمة، ويفرغون جميع الوسائل في الانتقام منها واختلاس ثقتها! لهذا ابتكروا الشروط التي تقلل عدد الناخبين وتحصرهم في كمية ضئيلة، ووسعوا أمام الإدارة أبواب التأثير فيهم حتى يضمنوا لأنفسهم وأنصارهم مراكز النيابة والحكم!

ولكن الرجعية أبت إلا أن تمضي في غلوائها، وتسدر في غيِّها، فأصدرت في العاشر من ديسمبر سنة ١٩٢٥ قانون انتخاب يقسم الأمة طرائق وطبقات، ولكن ذلك القانون كان مقضيًّا عليه بالفشل، فقد أبى العمد أن يشتركوا في تنفيذه، واجتمع الشيوخ والنواب في النادي السعدي وبعثوا بقرارهم إلى الحكومة مهيبين بها أن تكف عن تنفيذ هذا القانون الذي أصدرته، وتطبق القانون الدستوري الذي أقره الشعب بمحض مشيئته.

وكان ذلك العام المشئوم أيضًا بجانب هذه المجاذبة العنيفة بين الوفد ممثل الأمة وقائدها الأمين، وبين عصابة الرجعية التي أرادت القضاء على الدستور وهدم قواعده، عامَ اتهامات وتحقيقات واعتقالات ومحاكمات بسبيل مصرع السردار؛ فقبض على شفيق منصور وزملائه. وقامت وراء جدران السجن مأساة نكراء لحمل ذلك المخلوق الرعديد الذي ذهب الخوف من الموت بلبه، على اتهام الأبرياء للإيقاع بالوفد ونسبة الإجرام إليه تلويثًا لسمعته، وإرهابًا له لينثني عن جهاده؛ حتى لقد قالت «الديلي ميل» في ذلك الحين بوجوب إلقاء القبض على سعد وزعماء حزبه «وحبسهم عشرة أيام، فإن لم يظهر الفاعلون أُعدِمُوا رميًا بالرصاص»! كما بعث مراسل الديلي تلغراف إلى صحيفته في يناير سنة ١٩٢٥ ببرقية يقول فيها: «إن الإنكليز يريدون الرءوس الكبيرة، ولا يكتفون برأسَيْ شفيق منصور ومحمود إسماعيل …!»

ولذلك قبضوا بادئ الأمر على نفر من الوفديين، ومن بينهم الأستاذ محمود فهمي النقراشي، وكان وكيلًا لوزارة الداخلية في وزارة الشعب، على أن التحقيق في جميع أدواره أظهر الوفديين أبرياء من الجريمة، فأُخلِيَ سبيلهم جميعًا بعد أن لبث الأستاذ النقراشي في السجن الانفرادي ثلاثة أشهر سويًّا.

ولكن شهوة الثأر من الوفد أو حب القضاء عليه ما زال يغري شفيق منصور، مستغلًّا رهبته من الموت وتطلعه إلى النجاة بأي ثمن من الأثمان، حتى يتهم الوفديين بالاشتراك في حوادث الاغتيال الماضية؛ فأُعِيد القبض على النقراشي، كما قبض على الدكتور أحمد ماهر الذي كان وزيرًا للمعارف في وزارة الشعب. وكان القبض عليهما في الحادي والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٢٥ بالتهمة الجديدة التي استخلصت من شفيق منصور لقاء وعد له بالنجاة من الإعدام؛ فقد ظهرت براءتهما في قضية السردار، ولكنهما لم يعلنا بالاتهام الجديد، وإنما ألقيا في غيابة السجن ثمانية أشهر دون أن يعلما شيئًا عن التحقيقات التي كانت تجري سرًّا وفي غير مواجهتهما. ولم يسمح لهما ولا للمحامين عنهما بالاطلاع على شيء منها، حتى فوجئنا بتقرير الاتهام في السابع من يناير سنة ١٩٢٦، وهو يقضي باتهامهما بالاشتراك في إحدى عشرة حادثة ارتُكبت من عهد الثورة إلى قبيل المصرع الأخير.

وكان مصطفى النحاس قد عاود المحاماة ورجع إلى مكتبه في شارع المدابغ، عقب استقالة الوزارة الشعبية، وإن ظل مكانه في الوفد ثابتًا بجانب سعد، عونًا له على اجتياز المحنة، والدفاع عن الدستور بأقصى قوى النفس، وأشد رباطة المصابرين، وإن كان بعض الذين لزموا سعدًا من قبل قد فزعوا لياذًا هاربين من مواضعهم بجانبه خوفًا وطمعًا، وانقلبوا على أعقابهم إشفاقًا من بطش الباطشين.

ثبت مصطفى على وفائه؛ لأن الوفاء أصيل فيه، ووقف شجاعًا أبيًّا أمام الخطب الداهم؛ لأن الشجاعة من طبعه والإباء لازمة من لوازمه، أخا جلاد يأنس إليه، ومجاهدًا مُتَفتِّح النفس للجهاد يُقبِلُ جذلانَ عليه، ولا تغريه مخافة مكروه بالرجوع.

ولشد ما كان غضبه، وألمه، وثورة نفسه، إذ قبض على صديقيه النقراشي وماهر، وسيقا إلى المحاكمة، فتلك أيام رهيبة محزنة فاجعة قضاها مصطفى النحاس باشا يدعو الله بالعشي والآصال أن يهيئ له سبيل إنقاذهما من صعدة المشنقة، ويمكن له من غسل هذه التهمة النكراء التي حاول خصوم الوفد نسبتها إليه.

لقد اجتمع يومئذٍ في صدر مصطفى النحاس إحساسُ المجاهد الوطني الذي هوجم بأكذب التهم في حق وطنيته، وحيكت الدسيسة لتلويث سمعته، ونسجت المكيدة للقضاء على قوته المعنوية وسلطانه الروحيِّ في أمته؛ وشعورُ الصديق الوفي الصافي القلب الطاهر السريرة، يرى أخوين له مهددين بالموت، موشكين على وقفة الإعدام؛ وعاطفةُ المحامي الكبير الذي يبحث عن الحق ويرتاد له، ويذود عنه بكل قواه وبراعته ومنطقه.

بهذه العوامل النفسية المجتمعة أكبَّ مصطفى على أوراق القضية يدرسها دراسة المدقق المتفحص، مشتركًا في تنظيم الدفاع مع أربعة من زملائه، وهم مرقص حنا باشا، ومحمد نجيب الغرابلي باشا، والأستاذ مكرم عبيد، والأستاذ أحمد بك لطفي، موغلًا في قلب القضية، لا يغادر صغيرة ولا دقيقة إلا فحصها أدق الفحص، وبحثها أعمق البحث، والتمس للتدليل على صحتها أو كذبها كلَّ ما في مكنته من تدليل وتبرير.

وحل موعد نظر القضية أمام قاضي الإحالة في الحادي والثلاثين من يناير سنة ١٩٢٦، فتجلى مصطفى بأروع نواحيه الثلاث محاميًا، ووطنيًّا وصديقًا وفيًّا، وراح صوت المحامي المنطيق الذوَّاد عن الحق يدوي في ساحة القضاء دويًّا، كما انبعث إيمان الوطني الأبي رائعًا جليلًا يغمر أفق العدالة غمرًا، ويشع على الظلام فيحيله نورًا، وانطلق صوت الصديق الحاني والصاحب البر، والوليِّ الحميم، حنانًا متهدجًا باكيًا.

لقد كانت تلك تبعة خطيرة إلى أبعد ما يكون الخطر، تبعة رهيبة تلك التي راح يحملها مصطفى وزملاؤه المحامون المشتركون في هيئة الدفاع معه، فإن أخوين له على شَرَف من الموت، وفي مقترب من المشنقة، فإذا لم ينتهيا من المحاكمة بالنجاة، وإذا لم يُعِنِ الدفاعُ على البراءة، قضى عليهما، وتلوثت سمعة الوفد، وكسب خصومه أخطر قضية ضده، وذهب أمره فُرُطًا، وكان المصير مجهولًا، والعاقبة شرًّا مستطيرًا.

وكانت خطورة التبعة تقتضي بلا ريب آخر جهد الحق والمنطق، وأقصى براعة المحامي القوي النَّفَّاذ البصر المدقق، وأبعد حدٍّ من الشجاعة والصبر والسكينة في البحث عن أدلة النفي، ومكان الاصطناع من التهمة، ومواضع الضعف في القضية، ومآتي الهجوم على الخصوم، وإبراز الحقائق من وسط غمرة الأكاذيب.

وفي هذا الموطن برز مصطفى النحاس المحامي الذي يرى المحاماة فنًّا، ويعتقد أنه رسول الحق، ووسيط العدالة، تحفزه بجانب ذلك كله عاطفةُ الصديق، ووفاءُ الوفي، ووطنيةُ الوطني، وتبعثه كرامة الفكرة التي يعتنقها، وحُرمةُ العقيدة التي يدين بها؛ فإذا هو أمام ساحة القضاء أروع محامٍ في أخطر قضية.

وقد أدلى بدفاع مجيد خليق حقًّا بالخلود؛ لأنه استوفى في كافة صفات المرافعة البليغة الصحيحة المدققة الجريئة في أشرف ما تكون الجرأة، الجرأة للحق في غير مبالاة بعد ذلك بأي اعتبار.

وما كان في الحق أروع وقفته! إذ تناول تقريرًا من التقارير التي كتبها شفيق منصور، فأثبت بالأدلة الملموسة أن النيابة كانت قد اطلعت عليه قبل أن يتم وضعه؛ ولكنها حين سئلت في ذلك عللته بأنه كان قد جاءها خلوًا من التاريخ فردته لكي يؤرَّخ، وأن هذا التعليل غير صحيح، فقد صاح مصطفى بأعلى صوته في هذا الموضع من مرافعته مطالبًا النيابة بتفسير صحيح، فأسقط في يدها، وقالت: «فسروا أنتم»! وعند ذلك راح مصطفى بمنتهى ما تكون جرأة المدافع عن الحق ينادي بصوته الداوي قائلًا:

… تريد النيابة أن أفسر، إذن فلأفسر! وتفسيري أن هذه التقارير تُطبَخ بمعرفتكم جميعًا … أفسر أكثر من ذلك، وهو أن هذه التقارير تُرتَّب في معمل مخصوص جزءًا جزءًا، وهذا المعمل تطَّلِعُ النيابة على ما حضَّره جزءًا جزءًا، وأن النيابة في يوم ١٥ يونيو سنة ١٩٢٥ قبل أن يتم ترتيب التقرير بجميع أجزائه كانت قد اطلعت على الجزء الخاص بحادثة … والذي اتفق على أن يكتب باعتبار أنه صادر من شفيق منصور؛ ولهذا أجرت تحقيقًا عن هذا الجزء من التقرير في يوم ١٥ يونيو، قبل أن يتم وضع جميع الأجزاء الخاصة به في المعمل المخصوص، وقبل أن تُعطَى إلى شفيق منصور لينسخها ويوقع عليها، وقبل أن تُرسَل رسميًّا من الضابط الحارس إلى الحكمدار، ومنه إلى النائب العام … اكتبوا هذا عني، وانشروه على الملأ، وقولوا: إني أتهم.

«إني أتَّهم عَلَنًا، وفي مجلس القضاء، النيابةَ العمومية بالاشتراك مع رجال السلطات في التدبير لاغتيال ماهر والنقراشي».

والدليل ثابت مادي لا يمكن النيابة أن تخرج منه بأي حال من الأحوال …!

هذا هو الصوت الرهيب الذي دوَّى في ساحة العدالة على الملأ من النظارة والحاضرين، فأكبرته النفوس، واهتزت له الأرواح، صوت محامٍ شجاع في الحق، شديد على الباطل، رفيع الجرأة، غير هياب ولا منزوٍ من قولة الصدق، مهما كان في قولها من خطر أو عقاب.

وقد سكتت النيابة أمام ذلك الصوت الداوي ولم تحر جوابًا؛ فكان صمتها اعترافًا، وسكوتها قبولًا لهذه التهمة الخطيرة. وظلت النيابة بعد ذلك طيلة المرافعة كلها ملتزمة الصمت، بينما ذهب هو يتناول حوادث الاغتيال مفنِّدًا اتهام صديقيه بالاشتراك فيها حادثة فحادثة، مثبتًا أن النيابة لا تملك من دليل غير أقوال شفيق منصور التي أدلى بها بعد الحكم عليه بالإعدام؛ أي بعد أن أوشك أن يكون جثة هامدة، وكان الدفاع كلما انتهى من تفنيد الاتهام في حادثة حادثة، راح يتحدى النيابة بقوة وشجاعة، ويسألها الجواب على تحديه فلا تجد جوابًا ولا تفوه بقول؛ فكان ينظر إلى القاضي مهيبًا به أنه يربأ به أن يعتَدَّ بذلك الاتهام.

وهكذا جعل مصطفى يهدم كل تهمة ثم يقول: «وهل عند النيابة شيء آخر … لا جواب! إذن ليس لديها سوى كلام شفيق منصور الذي يراد إرسال المتهمين به إلى المشنقة، ولكنا نلوذ بالله وبعدل القضاء.»

ومن قوة الملاحظة التي امتازت بها تلك المرافعة الخالدة ما ختم به مصطفى النحاس باشا أدلته على باطل ذلك الاتهام قبل الكلمة الأخيرة، وفي ذلك يقول:

هذا هو تفسيري للحادثة الشنيعة التي اشتركت النيابة في عملها والتستر عليها، وفي يدي الآن دليل مادي جديد على هذا التدبير في خارج السجن، وهو التقرير ذاته الذي تسلمته الآن من حضرة وكيل النيابة — سيد مصطفى بك يومئذٍ — فإن أوراق هذا التقرير إلى الصحيفة الثانية والثلاثين منه لم تكن من الأوراق المستعملة في السجن، بل من أوراق المحاكم. أما ورقة السجن فهي الصحيفة الثالثة والثلاثون، إذ هي وحدها من نوع الورق الموجود في السجن، ومن النوع الذي أُعطِي لماهر والنقراشي ليكتبا عليه ملاحظاتهما على أوراق التحقيق، فالتقرير إذن كتب في إحدى غرف النيابة، وعلى أوراق المحاكم، عدا الصحيفة الأخيرة منه، وبهذا التدبير يؤخذ بالأبرياء إلى محكمة الجنايات!

وقد اقتنع القاضي بصحة هذه الملاحظة.

والتفت النحاس باشا بعد ذلك إلى منصة القضاء فقال كلمته الأخيرة وهي: «نحمد الله تعالى أن مثلنا أمامكم، فظهرت الحقائق، وانكشف المستور من عمل النيابة والسلطات في هذه القضية.

هذه يا حضرة القاضي هي تدبيراتهم على اغتيال هذه الأرواح الطاهرة الغالية، وليس لنا ملجأ إلا عدل القضاء النزيه الذي لا تدنسه المؤثرات، ولا تدفعه الشهوات، ونحن على يقين بأن ضميرك يا حضرة القاضي، وقد تجلت الحقيقة أمامك بما لا يدع مجالًا لأي لبس فيها، لن يسمح لك ضميرك الذي لا يطلع عليه إلا الله العزيز المنتقم الجبار، أن تحيلنا إلى محكمة الجنايات لتكون وقودًا لنيران هذه المؤامرات. وأطلب إلى الله — جل وعلا — أن يثبتك في إيمانك، وأن يبعد عنك هذه المؤثرات الأثيمة، وأدعوه تعالى أن يمتعك بمتعة القناعة، فتقضي بينك وبين الله بالحق الذي تراه …»

هذا هو القاضي القديم الذي يعرف كيف يناجي قلوب القضاة، ويفهم ما يجول في نفوسهم، فيحدثهم عن «متعة القناعة»؛ لأنه أخذ حياته بها، ولزمها في مجلس القضاء وأطاعها، فكانت وقاء له من المؤثرات، ومناعة له من دوافع الشهوات، وسنادًا له في نزاهة الأحكام.

وقد أحيلت القضية إلى محكمة الجنايات، وكان رئيس الدائرة التي نظرتها هو مستر «كرشو»، فأبلى الدفاع أمامها أحسن البلاء، وحطم الاتهام كل تحطيم، وبخاصة في مناقشة شهود الإثبات، ووقف في الحق مواقف مشرفة مجيدة في تاريخ المحاماة.

وقد قضت المحكمة ببراءة ماهر والنقراشي في الخامس والعشرين من مايو سنة ١٩٢٦، وإن أبي مستر «كرشو» إلا أن يفشي سر المداولات، فذهب يشكو إلى لورد لويد تَغَلُّبَ زميليه عليه في هذه التبرئة التي لا يعتقد صحتها، وبالأخص من ناحية الدكتور أحمد ماهر، وكان ذلك مسلكًا شاذًّا مَعِيبًا من قاضٍ أوْلَى به أن يصون حرمة المكان الذي يجلس فيه. وجاء المسلك الذي اتبعه لورد لويد تعقيبًا على هذه الشكاة الخارجة على القانون أسوأ وأشنع؛ إذ راح يتدخل في استقلال القضاء المصري تدخلًا جريئًا جافيًا خارقًا لكل حرمة أو سياج، ولكنَّ الصديقين العزيزين والمجاهدين الوفيين ماهر والنقراشي قد بُرِّئا من التهمة بقضاء محكمة عليا في البلاد، فلم تكن ثَمَّ قوة في العالم تستطيع أن تحتجزهما في السجن، أو تبطل حكم براءتهما من الوجود.

خرج الصديقان من المحبس وهما يعلمان أن الله تعالى قد أنقذ حياتهما على يد مصطفى النحاس صاحبهما الوفيِّ النبَّاع العاطفة، وأخيهما في الجهاد، والمحامي المِدْرَه المنطيق الذوَّاد عن الحق، الذي سهر الليالي الطوال، وأكبَّ على البحث المجهد والدراسة المتواصلة، وسط ملفات ضخمة وأوراق ركام؛ ليستخلص من خلالها الحجج الناطقة بتلك البراءة المشرفة التي نجَّت عنقيهما من حبل المشنقة، وأنقذت شرف الوفد من أشنع اتهام.

ومن ذلك الحين راحت صداقة هؤلاء الإخوان الثلاثة فوق كل أقيسة المودة في العالم، وأسمى من كل ما تعرف الدنيا من حدود الوفاء؛ لأنه من جهتهما الحب المدين بالحياة، ومن جهته هو الوفاء الذي باركته السماء.

ألا إنَّ بين هؤلاء الأصدقاء لروابط ليس كمثلها في أواصر المودة بين الصحب والخلطاء، روابط روحية، من دم حُفِظَ، وعنق سَلِمَ من يد الجلَّاد، وحياة كان لها الموت بالمرصاد، ويوم يقول ماهر مخاطبًا مصطفى: «يا صديقي وزعيمي»! يذهب الخاطر به إلى وقفته في ساحة القضاء، في خطر من الموت والفناء، وقد وقف هذا الصديق الزعيم في جرأة الحق، وبكاء الحنان، وألم الوجدان، والوفاء النادر في الزمان، يضع كل قلبه ودمه وعصبه في مرافعته التاريخية، ودفاعه الجليل المجيد؛ لينقذه هو وصاحبه من صَعْدة سلم الإعدام.

إن هذه لذكرى خالدة، يحييها أبدًا عرفان الجميل، ويغذيها أبدًا الإقرار بالصنيع، واليد التي لا تُنسَى لمصطفى النحاس على الزمان …

وكان الجو السياسيُّ يومئذٍ قد تهيَّأ للائتلاف بين الوفد والأحزاب عقب اجتماع البرلمان في فندق «الكونتننتال»، فانعقد المؤتمر الوطني في التاسع من شهر فبراير سنة ١٩٢٦ بدار محمد محمود باشا لبحث الموقف والتشاور في علاج صالح له، وكان مظهره يصور أروع صور الائتلاف، وأرفع معاني الوَحْدة والتئام الصفوف، واجتماع الكتلة وتناسق البنيان.

وأمام هذا المظهر المرهوب والوحدة الرائعة، لم يكن من الوزارة الزيورية إلا أن نزلت على حكم الأمة، فأُعلِنَ في الاجتماع أن قانون الانتخاب المباشر هو الذي سوف يعمل به، فأحبطت كتلة الائتلاف كيد الكائدين.

وجرت الانتخابات الجديدة في ظل الائتلاف، وما كادت تظهر نتائجها الساطعة حتى تجاوبت بها الأصداء، فاهتزت كراسي الوزراء من تحتهم، وتحطمت آمالهم، فأزيحوا عن الحكم، وزلزلوا زلزالًا شديدًا.

وكان ذلك انتصارًا باهرًا لسعد في معركة الدستور، ومكافحة الرجعية وصنائعها الآثمين.

ولكن ظهرت يومئذٍ أزمة سياسية خطيرة يراد منها الانحراف عن أحكام الدستور في أخص خواصه، وهو أساس الحكم؛ إذ لعب الإنكليز لعبة ماكرة فطن سعد إليها، ولكنه أحب أن يتجاهلها؛ لأن الاصطدام بها كان يخشى منه أن يدك صرح الائتلاف، ولم يكد البناءُون يفرغون من بنائه، وكانت تلك اللعبة ترمي إلى إزاحة سعد عن تولي الحكم، مع أنه حقه الدستوريُّ بصفته زعيم الأكثرية؛ فأشاروا إلى تقليده لعدلي باشا ليقوم إحراج بين الرجلين، ولكن سعدًا كان أحكم من أن يقع في تلك اللعبة الماكرة، فأعلن أن حالته الصحية لا تمكنه من حمل أعباء الحكم ومقاليده؛ أما عدلي فقد تردد طويلًا قبل القبول، وتناوبته الوساوس والمخاوف من أن يكون توليه الحكم في هذا الظرف الدقيق محفوفًا بالخطر، ولم تهدأ نفسه حتى جاهر سعد بتأييده، ووعده بشد أزره في رياسته لمجلس النواب إذا هو تولى رياسة الوزارة؛ فتشجع عدلي باشا فقبل دعوة الملك له لتشكيل الوزارة الجديدة، وانتهت الأزمة بتلك اللعبة غير الظاهرة.

ولم يدخل مصطفى النحاس باشا وزارة الائتلاف، وبقي بجانب سعد فوق منصة الرياسة في مجلس النواب وكيلًا له. وقد كادت تقع بسببه هو كذلك أزمة ثانية، إذ حارب الإنكليز دخوله الوزارة وقاوموه مقاومة مُلحَّة، وهم يحسبون لوطنيته الصُّلبة وشخصيته القوية يومئذٍ أكبر الحساب، كأنما كانوا يتوقعون هم كذلك يومئذٍ أن هذا الرجل هو البطل المرتقب، والزعيم العتيد، والخصم العنيف الذي تعده الأقدار لهم على الأيام.

وفي ذلك يقول لورد لويد في كتابه «مصر من عهد كرومر»: «ولكن بقيت مسألة أخرى محل نزاع، وموضع خلاف، وكانت اللحظة الراهنة مناسبة للوصول إلى قرار يكفل سكون الأفق من ناحيتها في المستقبل، وذلك أن سعدًا طلب بإلحاح إدخال «نائبه» أو وكيله مصطفى النحاس باشا هيئة الوزارة الجديدة، ولكن النحاس باشا كان قد لزم دائمًا خطة العداء الذي لا هوادة فيه نحو بريطانيا العظمى، فكان لذلك من الجليِّ الواضح أن شيئًا كثيرًا من الخير أو النتيجة الحسنة التي تمَّت أخيرًا سيذهب أدراج الرياح إذا هو انضم إلى الوزارة؛ إذ لا ريب في أنه سيعمل ضد التفاهم؛ لأنه لم يكن قد تعلم بعد أن العداء لبريطانيا لا يتفق مع تقدم مصر إلى الأمام …

ولذلك حين أعلن تشكيل الوزارة في السابع من يونيو لم يكن اسمه ضمن الأعضاء الذين تألفت منهم …»

لقد كان الإنجليز يخشون مصطفى قبل الزعامة، ويتوجسون منه خيفة، ويدركون أن وطنيته الصادقة لا تعرف تهاونًا، ولا تجنح إلى تفريط أو تساهل؛ فحاربوه من البداية كما رأيت، وأقاموا له بالمرصاد، وجلسوا إلى المِرْقب يعدُّون عليه الحركات والسكنات، ويشفقون من نمو سلطانه، وبروز مكانه، ويتخوفون من غده المنتظر.

ولم يكن دخول الوزارة عند مصطفى بالأمر الذي يَكْرُثُه، حتى يكون منعه الدخول مؤلمًا لنفسه؛ فهو المجاهد لعقيدته أينما يذهب، وفي أي ميدان يجول، وعلى أية ربوة يكافح، فلا عجب إذا لم يُلْقِ بالًا إلى الاشتراك في الوزارة، ورضي بمجلسه بجانب سعد تحت القبة المقدسة.

وكان العامل الذي بعث سعدًا على تجاهل تلك اللعبة الماكرة التي أريدت بها زحزحته عن مقعد الحكم، هو بذاته الباعث الذي سرى في نفس مصطفى إزاء العضوية في الوزارة؛ فقد كان يريد أن ينجح الائتلاف ويخرج ناجيًا من كل حائل؛ لأنه كان أحد السعاة فيه، والمشاة به، والعاملين عليه؛ حتى لقد قيل يومئذٍ حين تحدَّث محمد محمود باشا إلى فتح الله بركات باشا في فكرة الائتلاف وطرح الشقاق ووحدة الكلمة: إن المرحوم فتح الله ذهب إلى سعد فأبلغه حديث صاحبه، ولكن سعدًا فَضَّلَ أن يستشير مصطفى أولًا؛ فلما رحب مصطفى بالفكرة عمد سعد في الحال إلى التنفيذ.

ولا ريب في أن ذلك الائتلاف الذي تم يومئذٍ أنقذ الدستور والحكم النيابي، ولكن كان نظر الوفد إليه غير نظر الإنكليز؛ فقد كان الوفد يرجو من ورائه اجتذاب الأقلية إلى الرضا بمبادئ الدستور ورياضة النفس على قبول قواعده بسبيل الحكم وولايته، حتى لا تعود السياسة البريطانية تحاول توهين الحركة القومية من طريق الاستعانة بالقليل من الكثرة الغالبة، والمد لهم في السلطان لمحاربة الكثرة، والحمل عليها بالبطش والعدوان.

ولكن الإنكليز كانوا يرون غير ذلك، وكان لورد لويد ذلك الاستعماريُّ المسرف في استعماريته، ينظر إلى الائتلاف من ناحية استعماريته النظرة التي وضعها في كتابه بقوله بعد الحديث عن الخطر من ازدياد نفوذ القصر وتدخله في شئون الحكم، وهو الخطر الذي أراد الإنكليز أن يتحاشوه بإسقاط الوزارة السابقة: «وكانت الفرصة سانحة في ذلك السكون الذي ساد الأفق لأول مرة، عقب الأشهر العصيبة الأخيرة؛ لكي يستوِيَ المرء في مجلسه، ويروح يراجع ما فعله، ويعود بالذاكرة مستعرضًا ما كان منه، ويقدر الحوادث المختلفة التي جرت في بضعة الأشهر الماضية قدرها الصحيح …

لقد لاح لي بعد هذه المراجعة أن هناك ما يدعو إلى اليقين بأن السياسة التي اتبعتها يومئذٍ تبرر ذاتها كل التبرير، وإن لم يكن بالطبع يتيسر تجاهل الحقيقة في أمر سعد زغلول، وهي أن حالته الحاضرة يحتمل أن تكون حالة عارضة لا تلبث أن تزول، فقد كانت الحكمة تقضي بأنه لا يحسن الخروج لمقابلة الشر قبل ظهوره، أو استفزازه من مكامنه.

لقد سلكنا في الواقع الطريق القويم، إذ رددنا الحكم الدستوريَّ وعقبناه بتأليف حكومة يظفر نفوذ المعتدلين فيها، أو «أحباب الإنكليز»، «الأنجلوفيل» (Anglophile) بالنصيب الأوفر والحصة الكبرى، كما أن الحكومة البريطانية لم تجد ثم ضرورة تدعو إلى التدخل في الإدارة المصرية، وكل ما فعلتُه أنا هو أنني بسطت رغباتها ونُبْتُ عنها أمام خصومها، وحين جاءوا يلتمسون نصيحتي ويبغون مشورتي لم أبخل بشيء منها عليهم بل أعطيتها جميعًا، ولكني راعيت في إسدائها ألا أتجاوز بها الحد المعين بحكم التقاليد لمنصب الممثل البريطاني في مصر.»

لقد كان مركز الوفد في هذا الائتلاف على عهد سعد دقيقًا، أحْوَجَ ما يكون إلى الكياسة وبراعة التناول، ولطف المسلك، حتى تنتفي وجوه انتفاع الإنكليز به، ويكون الخير منه للدستور وحده ومصير النظام النيابي ومركز الأكثرية في البلاد.

ولكن العوامل الرجعية لم تلبث عقب عيد الجهاد الوطني في تلك السنة — ١٩٢٦ — أن عاودت محاربة الدستور في الخفاء ومقاومة سلطانه بالدس والكيد، والعمل على تعطيل أحكامه، تعلقًا بأمل الظفر بحكم الطغيان؛ فشرعوا في إيقاظ الفتنة بين طلاب الأزهر بتحريضهم على الإضراب بمناسبة القرارات الحكيمة التي اتخذها البرلمان لإعادة مدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين الأولية إلى وزارة المعارف وفق القوانين الصادرة بشأنها، ولكن تلك الدسيسة قضت في المهد، وتغلبت الحكمة فانطفأت الفتنة وشيكًا وحَبِطَ كيد الكائدين.

ولكن على أثر نقد هادئ في مجلس النواب غضب المرحوم عدلي باشا فقدم استقالته؛ فأسرع الرجعيون خصوم الدستور على عادتهم إلى إيقاد الفتنة مرة أخرى، متخذين من ذلك الحادث سبيلًا للتجسيم والتهويل والإسراف في الطعن والافتراء، من فرط الحقد الذي يخنق الصدور، والغيظ الذي يملأ القلوب.

استقالت وزارة عدلي باشا في أبريل سنة ١٩٢٧، وكان أول من اتجه إليه نظر سعد هو مصطفى النحاس باشا ليتقلد الحكم، فعرض الفكرة عليه، ولكن مصطفى رفض قبولها متشددًا في رفضه، فقال سعد مفاكهًا: «هل تتهرب يا مصطفى من المسئولية؟» فأجاب النحاس على الفور: «وهل دولتكم تتهربون منها أيضًا …؟ لماذا لا تقبلونها يا دولة الرئيس؟! اقبلوها وأنا أدخلها معكم!»
figure
مصطفى النحاس.

فابتسم سعد وانثنى يقول: «لك الله يا مصطفى! إنني أموت مطمئنًّا …» ثم أردف بالفرنسية كلمة معناها: إنني معجب بكم!

وكانت هذه هي المرة الثانية التي لم يشترك فيها مصطفى النحاس باشا في مقاليد الحكم، وآثر البقاء في مجلس النواب، وهو في كل مرة منهما يقدم مصلحة وطنه على نفسه، ويغار على الائتلاف خشية انهيار صرحه، ويجتنب إحداث أزمة مع الإنكليز بسببه؛ وهي وطنية رفيعة أصيلة في إنكار الذات، متفانية في خير الوطن، بعيدة التفكير في مصلحة البلاد.

وما لبث أن انجلى الموقف بتكليف عبد الخالق ثروت باشا تأليف الوزارة، فأعاد جميع أعضاء الوزارة السابقة دون تغيير، ولكن طرأت في أثناء الدورة البرلمانية أزمة حادة تتصل بنظام الجيش المصري، ولم تكن في الواقع تستحق أن تتفاقم إلى الحد الذي وصلت إليه في ذلك الحين، لولا أن لورد لويد — وهو من أشد الغلاة في النزعة الاستعمارية — راح يستغل الموقف أسوأ الاستغلال، ويسترسل مع نزوعه السياسي في حركات عنيفة، ومناورات خطرة، ويرسل النذير بعد النذير.

كان كل ما في الأمر أن وزير الحربية — وهو أحمد خشبة باشا يومئذٍ — قد فكر في مشروع لزيادة الرديف، أو الاحتياطي المدرب، وزيادة قوة الجيش العامل، وإنشاء سلاح طيران حربي. وكان ذلك التفكير هو مجال الحكمة يومئذٍ وفصل الخطاب، لو أن في قصر الدوبارة رجلًا بعيد مطارح البصر، معتدلًا في سياسته، حكيمًا في مأخذه وتناوله؛ فلو أن ذلك تهيأ يومئذٍ وتوافر، لأمكن حلُّ القضية المصرية، فلم تتأخر عشر سنوات طوال، قبل أن يأتي الرجل النافذ البصيرة الذي يعين على حلها من هذه الناحية بالذات، وهي مسألة الجيش ووسائل الدفاع وأساليبه، ولكن الأقدار أبت أن يستمع الإنكليز إلى عامل الحكمة في ذلك الحين، وشاءت إلا أن يستمعوا بعد عشرة أعوام منه إلى عامل الضرورة، وسياسة الظروف القاهرة؛ فكان ذلك من أغلاط السياسة الإنكليزية التي جعلت إيلافَها معالجة المسائل في أحيانها دون النظر إلى بعيد، ودون التفكير في المستقبل والمصير.

وقد هاج لورد لويد يومئذٍ وثارت ثائرته، ولم يكن سياسيًّا حصيفًا متزنًا كما يجب أن يكون من يُقلَّد منصبًا خطيرًا كمنصبه، ولكنه كان أحمق نزَّاعًا إلى الغطرسة، جانحًا إلى إظهار السطوة، سريع الهياج، مندفعًا مع استعمارية مسرفة؛ فتصور الأمر خطرًا جائحًا، وخاله أمرًا فريًّا، وأرسل إلى بلاده يطلب البوارج ويستقدم الأساطيل …!

وقد بلغ من تهوره يومئذٍ وهياج نفسه أن اتصل بوزير فرنسا المفوض وسفير إيطاليا في مصر يسألهما مظاهرته على الموقف الشاذ الهائج الذي ينتوي أن يقفه؛ فأكدا له أنهما شخصيًّا وحكومتيهما على أتم الاستعداد لتأييده!

ونحن ندعه هنا يتحدث عما فعل يومئذٍ إزاء مسألة تمثلت له كأنها توشك أن تعرض الأرواح للخطر، وتسيل الدماء في الشوارع جارية:

ومن ثم بعثتُ إلى وزير الخارجية برسائل مسهبة شرحتُ له فيها التطورات المحتملة في الموقف، وقلت له إنني من رأيي في حالة وصول جواب غير مُرْضٍ أن نوجه إلى الحكومة المصرية هذا السؤال البسيط الصريح: هل قبلتم تصريح ٢٨ فبراير أو لا؟ فإذا كان الجواب نفيًا أو يحتمل معنيين، كانت الخطوة التالية أمامنا أن نحصل من جلالة الملك على مرسوم بتعطيل البرلمان، وتأليف وزارة إدارية نعرض عليها مشروع معاهدة شاملة وافية، ونحدد لها أجل القبول، ونبين لها أن استعادة الحياة النيابية تتوقف على قبول تلك المعاهدة.

وفي الوقت نفسه بينت لوزير الخارجية الخطة التي في نيتي اتباعها في حالة حدوث اضطرابات في خلال هذه المرحلة …

وقد أجابه وزير الخارجية البريطانية يومئذٍ — وكان سير أوستن تشمبرلن — بالموافقة، ولكن في شيء كثير من التحفظ، قائلًا: «إن هذه المجازفات قد تكون مما لا سبيل إلى اجتنابه، ولكني أود أن أتلقى آراءكم وأحتفظ بحكمي عليها …»

وإزاء المذكرة الجافية المتهورة التي بعث بها لورد لويد إلى الحكومة المصرية في هذا الشأن، أرسلت وزارة ثروت باشا في الثالث من شهر يونيو سنة ١٩٢٧ ردًّا حكيمًا بارعًا متزن الأسلوب، ولكن لورد لويد الهائج المحنق لم يرَ فيه مسكنًا لثائرته، ولم يجد خلاله مهدئًا لهياجه؛ حتى لقد هَمَّ بأن يعيد الضغط ويشدد النكير، لولا أن تلقى من رئيس الحكومة البريطانية — مستر بلدوين يومئذٍ — برقية فجائية يأمر فيها بأن يدع تلك «المطالب» جانبًا، ويشرع في مفاوضة رسمية على الاتفاق مع مصر؛ فاشتد هياجه، وازداد حنقه، وفسدت عليه خططه المتعسفة، وتدابيره الخرقاء.

ولكنه لم يكتفِ بما فعل، ولم يذعن إلى ما قد طلب إليه، بل ما زال يومئذٍ بثروت باشا حتى حمله على تبادل مذكرات أخرى في موضوع الخلاف ذاته، وهو الإشراف على الجيش المصري، وانجلت الأزمة بالتراضي بين الفريقين.

لقد كانت أزمة الجيش إذن من صنع لويد وخرقه في السياسة، ووليدة غطرسته الاستعمارية، ولكنها انتهت بنجاة الدستور، وكان أبدًا محور تهديد الإنكليز، ومدار وعيد السياسة الغاشمة التي لزمها ذلك المندوب المفتون بالسلطان.

وانتهت الدورة البرلمانية في ذلك العام بخطبة «الوداع»، أو بآخر كلام سياسيٍّ فاه به سعد العظيم. وكان المرض قد دب يومئذٍ إلى جسده، فراح يقول بصوت متهدج ومنطق مؤثر، ينفذ إلى أعماق القلوب: «يعز عليَّ أن أبصر منبر الخطابة ولا أستطيع له رُقِيًّا، وأن أرى مُنصِتين ولا أجد له صوتًا فتيًّا.»

واستوفى سعد أجله خلال العطلة البرلمانية في الثالث والعشرين من شهر أغسطس سنة ١٩٢٧، فعظمت بموته الفاجعة، وعمت به المصيبة، وفقدت الأمة زعيمها الأكبر، وقائدها المعلم، وسياسيَّها الواسع الحيلة، وخسر الدستور أكبر المدافعين عنه وأجرأ المناضلين.

وبويع مصطفى النحاس بالزعامة من بعده، كما أسلفنا عليك في موضعه بسبيل الحديث عن سعد وعظمته، وكان غائبًا يوم منعاه، فكان اسم مصطفى في الخواطر للمبايعة وعلى الشفاه، ولكنه عقب قدومه من الخارج وعَرْضِ رياسة الوفد عليه، رفضها بتاتًا على شدة إلحاح صحبه عليه، حتى لقد جعل يقول: «هاتوا رئيسًا من بينكم وأنا أخدم القضية بجانبه كما خدمت سعدًا من قبل، ودعوني في موضعي كما أنا، سكرتيرًا للوفد!»

ولما اشتد رفضه دعته السيدة الجليلة أم المصريين، وألحت عليه هي كذلك في قبول رياسة الوفد، حتى لقد جاء في سياق حديثها إليه: «هل تريد أن أرأس أنا الوفد؟!» وراحت تذكره بحب فقيدها العظيم له وثقته به وركونه إليه. وغلبها الدمع فبكت، وبكى مصطفى من شدة التأثر، ولم يجد سبيلًا أمامه غير القبول والإذعان.

ولم يلبث مصطفى أن رَاعَ في موضعه، وجَلَّ في مكانه، وأثبت استحقاقه الطبيعيَّ لمحله الخطير، ومركزه الرهيب، حتى لقد شهده أحد مديري الأقاليم وهو يخطب عقب مبايعته بالزعامة فدار بعينه إلى من حوله قائلًا: «لقد خلق مصطفى باشا خلقًا جديدًا! أين هذه الحكمة وأين هذه الرزانة وبعد النظر مما عرفناه عن النحاس رجل الثورة المتوثب الطافر حماسة، المشتعل نارًا؟!»

وفي الحق لقد استحال مصطفى يومئذٍ رجلًا جديدًا، في جلاله وهيبته وروعة سمته، وإن ظل مع ذلك منبسط الصدر، رافع الرأس، ثابت الخَطْو، صورة ماثلة لمبلغ اطمئنان الضمير، والثقة بالنفس، والاعتزاز بحب الشعب ورضوانه.

وكان الملك فؤاد في ذلك الحين يطوف عواصم أوروبا زائرًا في رحلة مستطيلة، واقترنت رحلته بمحادثات جرت بين ثروت باشا رئيس الوزراء وسير أوستن تشمبرلن بشأن المسألة المصرية في لندن؛ فلما نُعِي إليه سعد بادر بالعودة إلى البلاد.

وقد ظل الدستور بعد غياب سعد غرضًا لسهام الرجعيين، وبقي الحكم النيابي إزاءهم الخصمَ المبين، فكان موقف مصطفى دقيقًا خطيرًا بالغ الخطر؛ لأنه المُوطِّنُ النفسَ على حراسته، المتجشم الأخطار جميعًا في سبيل الذياد عنه، والدفاع عن حياته، والحرص على قداسته، مستمدًّا لذلك من قوة الأمة التي أحاطته بسياج من أرواح أبنائها، وأسكنته القلوب، وارتضته أساسًا للحكم لا تبغي عنه حِوَلًا …

ولقد ظن خصوم الأمة من غاصبي حريتها واستقلالها، وأعوان الغاصب وأهل مودته، أن موت سعد قد هيأ السبيل أمامهم للكيد لها، والائتمار بوفدها، وتوهين إجماعها؛ فأعدت العناية الإلهية لهذه الأمة ذلك الرجل الصادق، والزعيم المختار، والصفي لحمل الرسالة؛ ليجعل سعيهم في تضليل، ويرد كيدهم في النحور، ويذهب بدسهم كل مذهب، وينتصر عليهم جميعًا في كافة المعارك. وإن حياته العامة كلها من بداية زعامته لانتصار مستطيل لجانب الأمة على جانب خصومها، وفوز مبين لقضية الدستور والاستقلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤