العوامل والمؤثرات في نشأة الزعامة

يرد العلماء الذين بحثوا في سر الزعامة وتقصوا نشأتها والتمسوا بالمشاهدات والاستقراءات والإحصاءات الاهتداء إلى العوامل والمؤثرات في إيجادها، وتكوين الصفات الواجبة لها، يرد هؤلاء العلماء نشأة الزعامة إلى عوامل مختلفة، ومؤثرات متعددة منوعة، منها الطبيعية؛ وهذه تتصل بالوراثة والبيئة والإقليم، والاستعدادات الفطرية، والغدد والإفرازات، ومنها الاجتماعية كالظروف المهيئة والفرص السانحة، وأثر البداوة والحضارة والمحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية، والأفق المنزلي ونوع الأصحاب والرفقاء والخلطاء واللحظات الموقظة، ونقطة الدوران الفجائية، ومنها الشخصية كالنزعات والأهواء والميول والاتجاهات الخاصة، وقوة النشاط ونسبة الذكاء والأخلاق القويمة من التكوين من نحو حب الاستكمال والقدرة على التمام والرغبة في الإجادة والإتقان، وكقوة الاحتمال، والصبر الرفيع، والتجلد المتناهي، والمثابرة والدأب الملح على الاستمرار، والشجاعة وانتفاء التهيب والمخافة، وقبول تحمل التبعات والاضطلاع بالمسئوليات والإخلاص، وصدق النية والأمانة والنزاهة ونقاء الذمة والعطف على الناس، والثبات على الفكرة أو المبدأ والوفاء للعقيدة، والتصميم على الرأي وقوة العزيمة وعمق الإيمان، وضبط النفس والاتزان والتزام السكينة، ومقاومة الانفعالات واللياقة والكياسة وحسن التصرف، ومعالجة الأمور بالحكمة وفصل الخطاب.

على أن هذا التقسيم التقريبي للعوامل المؤثرة في نشأة الزعامة وخلقها كما ترى لا يزال متداخلًا مشتبكًا متصلًا بعضه ببعض، فما سميناه طبيعيًّا منها لا يخلو من صلة بما دعوناه اجتماعيًّا من بينها، كما أن من العوامل الشخصية ما يرتبط بالمؤثرات الطبيعية، ويتولد عنها ويجد منها التعهد والتنمية والغذاء والوراثة والاكتساب.

ولو أردنا أن نتحدث عن كل عامل من هذه العوامل المختلفة في فصل قائم بذاته، وبحث مستقل بمفرده، لترامت حدود هذا الكتاب في مقدماته قبل أن يدخل في تخومه ويعالج الموضوع الرئيسي الذي وضع بسبيله.

ولكن لا ضرر من أن نتناول هذه العوامل في شيء من الإيجاز يكفي لشرحها من حيث اتصالها بالفكرة التي بعثتنا على إخراجه إلى الناس، في عجلة ومبادرة حتى يوافي مناسبته ويلحق وقته، ولو قد استأنينا له ووجدنا الفسحة الواسعة الخليقة به، وتوفرنا عليه دون سواه، واستنفدنا فيه الزمن الطِوَال، والدراسة المتقصية، والبحث المستفيض، والعلاج المدقق؛ لكان خيرًا من هذا وأحسن مَرَدًّا، وأوفر مادة، وأروع بناءً.

•••

كان أول من عالج بحث عامل الوراثة في خلق الزعامة وتنشئة الزعماء العالم المشهور فرانسيس غالتون الذي راح يطبق علمه البيولوجي على الحياة الإنسانية، فذهب إلى أن العبقرية أو الحد المتناهي في العقل والذكاء هو أثر فطري حيواني طبيعي، محتوم الأثر، معلن عن ذاته، مهما قامت في وجهه العقبات والظروف غير المساعدة، وأما غياب الصفات الوراثية الرفيعة السامية فلا ينتج تفوقًا، ولا يعمل على إيلاد نبوغ وإحداث عبقرية، ولا يخرج نباتًا صالحًا زكيًّا.

ولكن الدراسات الحديثة بعد غالتون قد تقدمت شوطًا آخر في فهم عامل الوراثة أكثر مما كان مفهومًا في بداية البحوث الخاصة به، وأصبح المقرر اليوم أن ناموس الوراثة ليس بالعامل المخيف العنيف المستبد الذي يُؤيِس الذين لا يكسبون رضاه، ولم تشع على حياتهم من أثره ابتسامته ووميض حظوته.

واليوم إذا أنت سألت كيف ينشأ النبوغ، وتحدث العظمة، ويصيب الفرد السمو والرفعة والقوة الدافعة إلى الصعود والعلاء، أجابك العالم البيولوجي أن النوابغ والأفراد الصالحين السامين المتوفقين هم نتاج اشتراك صفات الأبوين واقتران نُطَفهما وتلازم عناصرهما، بحيث إذا وجد نقص في أحدهما، استكمل من الآخر نقصه، وبحيث يعمل المؤثران معًا؛ أي أن ذلك وليد اتحاد البذرتين وتكاملهما وتفاعلهما في إنشاء الأجنة والتأثير في الذراري والولدان.

وقد يتولد الرفيع أحيانًا من الرفيع وأحيانًا يأتي من الصغير والضئيل القيمة، كما يبدو ذلك في خليقة شكسبير وظهور كيتس الشاعر ومولد لينكولن، فقد نبت هؤلاء في أسرات صغيرة، ونشَئُوا كما نشأ عشرات من النوابغ والعظماء في عشيراتٍ دُنيا، وإن كانت هذه الظاهرات قد لا تبدو شذوذًا إذا نحن استطعنا أن نعرف تاريخ أرومة الفرد وتسلسله وأجداده من أجيال عدة وسلالات كثيرة متعاقبة.

ومن النظريات التي تبدو صحيحة على وجهها ولكن ينبغي ألا تؤخذ بظواهرها فيما يتصل بالزعامة وعامل الوراثة — قولُهم إن المِثْل يولد المثل، والنظير يخلف النظير، فإن النوابغ والعبقريين لا يتحتم دائمًا أن يولدوا وينتجوا نوابغ وعباقرة مثلهم، بل الواقع المُشاهَد أنهم أندر ما يفعلون ذلك، وقليلًا ما تنحدر منهم أشباههم في هذا الناحية، وقد ينتج الآباء الصغار الشأن ذرية رفيعة نابغة متفوقة، وفي الحق أن كثيرًا من عظماء الدنيا ونوابغ العالم كانوا أبناء لآباء أقل منهم شأوًا ودونهم مكانة ورفعة، وإذا كان من الخطأ في الحكم أن يقال إن الأفراد الأفذاذ النوابغ لا بد من أن يكونوا نتاج آباء أفذاذ من قبلهم، فإن من الصواب والحق أن يقال مع ذلك إن نسبة كبيرة من النوابغ والمتفوقين كانوا نتاج آباء ممتازين لا من آباء من عُرْض الجماهير.

ومن النظريات الخاطئة أيضًا القول إن ناموس الوراثة هو العامل الأكبر في شئون الناس وبنائهم وخليقتهم، وإنما يصح اتخاذ الوراثة كأحد الاعتبارات في بحث أصل العظيم ومنشأه ومنبته، ولكن لا يصح الغلو في تقدير أثره والاعتماد عليه في البحث والاستقراء كل الاعتماد.

لقد أسرف غالتون في تطبيق نظريته في الوراثة، فلا ينبغي أن نترسم أثره ونغلو غلوَّه، ولما كان من الأفراد من يولدون وينشَئُون من الأكواخ، ثم إذا هم يبرزون في الحياة بمقدرة خارقة للمألوف، ومواهب فوق مستوى الناس، كما أن فيهم من ينشَئُون في القصور، ويتربون في حجور النعماء؛ فمن الخير أن ننظر إلى منابت الزعامة والشخصية البارزة نظرة ديمقراطية، ونعتقد أن النوابغ كثيرًا ما ينبتون من العامة وأشخاص الشعب والطبقات الدنيا في الجماعات والأمم والصفوف الخلفية في الحياة.

•••

وقد ارتقى الطب الحديث أخيرًا من ناحية إدراك علم واسع بأثر الغدد المختلفة في الجسم، وامتد البحث في تأثيرها إلى استقراء مفعولها في إنتاج الزعامة والنبوغ، وذهب العلماء الباحثون إلى أن في الجسم نحو اثنتي عشرة غدة تسمى «الهرمون» أو الغدد المُهيِّجة؛ لأنها تُهيِّج أو تُنشِّط الأجهزة العضوية في البدن، فإذا أحدثت فيه نشاطًا خارقًا للمألوف، ساعد ذلك على النبوغ والتفوق، وإذا قصرت في إحداثه، أثرت في قوى الفرد ومبلغ نشاطه، كما أن زيادة نشاط الغدد يستتبع زيادة مقدرته على الأحداث وشدة تحمله للمجهود، وتدفع به إلى طريق ضبط النفس وقوة الإرادة والاضطلاع بالأعمال الجسام.

وأشهر هذه الغدد هي الغدة الدَّرقِيَّة، وقد سميت بالدرقية؛ لأنها تشبه الدرقة أو التُّرْس، وإن لها لعاملًا غير مباشر — وإن كان خطيرًا — في تكوين الزعامة والنبوغ، ويتطلب الجسم مقدارًا معينًا من إفرازات هذه الغدة ليظل في حالته الطبيعية، فإذا قل أو نقص اضطرب الجسم تبعًا لمبلغ القلة ومقدار النقص، وتحطم الزعيم أو النابغة وانهدم كيانه إذا لم يجد لهذا النقص في إفراز هذه الغدة سدادًا عاجلًا؛ لأنه يجلب الاضطراب العصبي، ويحدث سرعة التأثر والبادرة والهياج والانفعال، كما يفقد قوة الشخصية ويتحيفها ويهدمها هدمًا، ويعطل ملكة الاتزان التي تعد من صفات الزعامة والنابغين.

ويقرر الطب الحديث أنه لولا الغدة الدرقية، وعملها في الجسم لما كان هناك عمق في التفكير ولا ملكة تقدير الجمال، ولا ذكاء ولا فهم ولا إدراك، بل لا شيء مما تمتاز به النفس الحساسة أو الذهن الذكي الأصْمَع السريع الشعور.

وهناك غدة صغيرة تتصل بالغدة الدرقية، ومن وظيفتها إمداد الدم والخلايا بالمقادير الضرورية للجسم من الجير، فإذا قل الجير عن تلك المقادير حدث الاضطراب العصبي، وغلبت على الشخص سرعة التهيج والانفعال، ولا خفاء في أن هذه الأعراض والحالات لا تتفق مع صفات الزعامة ومطالبها الأساسية.

وفي الجسم كذلك غدد تسمى الغدد النخامية، وهي مستقرة في قاعدة المخ، وإلى عملها ينسب كثير من المزايا والصفات كقوة الإصرار وشدة العزم، وهما صفتان تبرزان في النوابغ والزعماء، ولإفراز هذه الغدد — وهو البلغم — تأثير مقوٍّ منشط لسائر أجزاء البدن كله وكافة أعضائه، ولا شك في أن لجوار هذه الغدد للمخ صلة بالنشاط العقلي ووفرته أو نقصه تبعًا لمقدار إفرازها.

وإذا ما قل ذلك أفقد الفرد قوة ضبط النفس، وأحدث لديه نزوعًا إلى الكذب والسرقة والإجرام؛ لأن للإفرازات النخامية أو البلغمية عاملًا كبيرًا في فضيلة الثبات وقوة الشخصية وغيرها من مزايا الزعامة وخواصها المتعددة.

وتعمل الغدد الأدرينالية القائمة فوق الكُليَة، بما تفرزه من الأدرينالين أو الكُنْظَر، عملًا مباشرًا في إحداث النشاط والزعامة والنبوغ؛ لأن مادة الأدرينالين في أوقات الخطر، والحاجة إلى مزيد من المجهود، والحمل على النفس بالعمل المُلِحِّ والدأب المتواصل، تُزِيد في مقدار السكر الذي يسري في الدم فتنشط الكريات الحمر، وتزيد حركة التنفس وعمل القلب؛ ولذلك يعطي الأدرينالين للمرضى كمنبه قوي في حالات الإغماء والغشية وضعف القلب وخفوت حركته.

وقد يحول بين الفرد وبين بلوغ الزعامة ومكانة الرياسة ومواضع التفوق والسمو والعلاء نقصٌ في إفرازات البنكرياس — وهو غدة كبيرة في الجهاز الهضمي — وهذه الإفرازات هي الأنسولين، فإذا قل الأنسولين في الجسم عن المقدار الواجب له زادت كمية السكر التي في الدم زيادة عالية، وأحدث مرض البول السكري، وهو من الأمراض التي تعوق النشاط وتُفقد المرء قوة الجلد على الدأب والإكباب على العمل ومضاعفة الجهود.

وجملة القول في أمر الغدد وأثرها في تكوين الزعامة والنبوغ أن لهذه الغدد فعلًا غير مباشر، ولكنه كبير الخطر في تكوين الصفات التي ينبغي أن تتوافر في الزعماء والنوابغ أو تعطيلها، فلا يستطيع الفرد الذي يقل فيه مفعولها أو يختل نظامها أن يجد الطريق إلى البروز في الحياة والنجاح.

وينبغي أن تتوافر للشخصية القوية الفرصة إذا أرادت أن تبلغ مكان الزعامة، كما أن نوع الزعامة ودرجتها يتبعان نوع الفرصة وطبيعتها، فإن الفرص التي تسنح للزعامة في بلد من البلاد أو بيئة من البيئات، لا تتواتى ولا تصلح لمثلها في غيرها من الآفاق والأجواء، وقد كانت الفرص المواتية لخلق الزعامات في عصور الجهل الماضية تختلف عنها في عهود العلم والنور والتحرير والتهذيب.

وفي إيطاليا اليوم تنحصر الفرصة في إملاء الفاشية وتعاليمها، وفي الروسيا تقتصر على حظيرة الشيوعية، كما تنزل في ألمانيا على حكم النازية، وإذا لم يكن مال ولا صحة ولا تحرر من قيود الحياة العائلية وهموم العيش والحاجة وآلام الحرمان، فإن الفرصة لبلوغ مكان الزعامة وموضع الرياسة تروح بعيدة للغاية أو تكاد تكون مستحيلة السنوح، وفي البيئات التي تسودها العصبية الدينية، أو يغمرها الركود العقلي وتغشاها الجهالة، قلَّما تتواتى الفرصة لقيام الزعماء الأحرار وبروز القادة المتمردين على أجيالهم.

إن طبيعة الفرص هي التي تحدد الاتجاه الذي تسير الزعامة فيه، وهنا يقول غالتون: إن في العالم أفرادًا يبلغون النجاح ويبرزون مواهب نادرة وصفات العبقرية في أي ظرف من الظروف مهما كان نوعه أو شأنه أو ما يحيط به.

ولكن الذي لا مراء فيه أنه في البيئة التي يسودها الرق والاستعباد، يندر أن يتاح لأحد الرقيق أن يظفر بمكان الزعيم، ومن قبائل أفريقيا وبين همجها يحول إيمان الزنوج والهمج بالخرافة وغرائب المعتقدات دون ظهور الزعماء؛ لأن كل من ينادي بجديد أو يدعو قومه إلى شيء مستحدث يُتَّهم بالسحر ويُحكَم عليه بالإعدام.

وقد تتفاوت الأصقاع والبلاد والأقاليم في مبالغ إتاحتها الفرص لظهور النوابغ وبروز الزعماء، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الحواضر والمدائن أكثر بعثًا ودفعًا وتنمية لمحصول النبوغ من سواد الريف وآفاق القرى، وأن المدن الصغيرة والبنادر المتوسطة الحال أكثر إخراجًا للنوابغ والزعماء من كبريات المدن ومزدحم القواعد والحواضر الكثيرة السكان.

وللتربة أيضًا عامل بيِّن الأثر في تكوين الزعامة، وإيجاد الفرص لظهورها، وقد أورد العلماء في ذلك شيئًا كثيرًا بالنسبة لأنواع التربة ومختلف أحوالها وخواصها وأشكالها وطبائعها، فقالوا مثلًا: إن الأصقاع الجبلية والتربة الكثيرة الأنجاد والهضاب أو التربة القاسية العنيفة، تختلف كثيرًا عن البلاد الكثيرة السهول والتربة المنبسطة التي يندر فيها الجبال والمرتفعات، والأقاليم التي يجد الفرد فيها مطالب القوت سهلة هينة مأتية بقليل من العمل ومن غير كدح ولا إجهاد.

وليس من ريب في أن الريف يَرُدُّ على الأجسام، ويملأ الأبدان قوة وبأسًا، ويجعل الأعضاء مفتولة شديدة المراس، ومن يعيش في أحضان الطبيعة — كما يقولون — يعيش قويًّا شديد المحَال ذا مِرَّة مليئًا بالحياة …

ومما يعين على تكوين الزعامة أو بلوغ الفرد موضعها أن تتوافر له الفرصة الثقافية؛ أي أن يكون من خلفه تركة غنية من نوع اتجاهه وقبيل صناعته أو استعداده، وفي كثير من الأسرات يبدو التفوق عند عديد من أفرادها، وينبغ من أصلها أكثر من واحد، ويبرز عدة من أعضائها؛ فترى أحد الإخوة نابغة في ناحية ما، وأخًا آخر بارزًا في صناعة معينة، وأختًا بارعة في فن من الفنون، بينما العم والخال والأقارب الآخرون قد نجحوا كذلك في مختلف الميادين.

وقد قال الأستاذ ويل ديورانت في كتابه تاريخ الفلسفة — وهو بسبيل الكلام عن أرسطو — إنه نشأ ونما وسط رائحة الأدوية، فكان ذلك فرصة أعانت على أن يكون له ذهن علميٌّ واتجاه بحث وتفكير، كأنما كان معدًّا مجهزًا من النشأة ليكون مؤسسًا للعلم، إذ شب على قوة الملاحظة من الحداثة.

وقد أسلفنا عليك أن الفرد الرفيع المواهب تنقصه الفرصة إذا هو ولد ونشأ في محيط راكد وبيئة جامدة آسنة، وقد تكون الأحوال السياسية أو النظام الاقتصادي في البيئة كاتمة الأنفاس موصدة الأبواب في وجوه سائر الأفكار الجديدة، فلا يصيب الذين يخالفونها ويتمردون عليها غير النفي والتشريد والعذاب الشديد، وقد تقطع السبيل على كل فرصة أمامهم غير فرصة المماثلة بينهم وبين أفقهم والنزول على حكم محيطهم.

إن الفرصة أو الظرف المهيأ المساعد تقتضي بيئة من الأكفاء والنظراء؛ حتى يحتك الفولاذ بالفولاذ، ويشتبك الصلب بالصلب، وتصطدم الآراء وتتعارض الأفكار، ويقوم الجهاد بين متنازع الحجج ومختلف المذاهب والنظريات، ويكون ثَمَّ تقدير للعقول ووزن عادل للمواهب والجهود وثمرات الأذهان، وليس معنى الفرصة هنا إلا وجوب الإقرار والاعتراف بالحاجة التي تطلبها البيئة، وبالأفراد الذين يستطيعون قضاءها، وفي مقدورهم حل مشاكل الجماعة وقضايا البيئة ومطالب المجموع.

ويراد بالفرصة الاجتماعية كذلك سنوح الظروف للسفر والتجوال في الآفاق واكتساب الخبرة والاحتكاك بالنوابغ والقادة والزعماء في مختلف الأقطار، والإقدام على الزج بالنفس في مواقف ومواطن تبعث المواهب الكامنة، وتوقظ المشاعر الهاجعة، وتوقد خبوة الذكاء.

ويندمج في معاني الفرص مطالب المرانة والتدريب؛ لأن النبوغ مهما كان محله من الرفعة لا يزال بحاجة إلى المرانة، والعبقرية وإن بلغت الذروة لا يزال ينقصها التدريب وتعوزها الرياضة، وقلما رأينا المقدرة الذاتية مغنية عن التعاليم، بل إن النابغة الخَلِيَّ من المرانة لَأَشْبَهُ شيء بمعزفٍ فيه كل الأصوات، وسائر الألحان وطبقات الموسيقى، وجملة الأوتار، وإنما تنقصه اليد العازفة والأنامل الموقعة الخفاف، فضلًا عن أن المرانة تستوجب التناسب والملاءمة، فكثيرًا ما يخطئ المدرب أو القائم بالتمرين فهم تلميذه؛ فيدربه على ما لا يتفق مع استعداده، ويسلك في رياضته وتمرينه أسلوبًا غير مناسب لمواهبه، أو يحاول أن يجعل منه صورة أخرى من نفسه، وهو مخلوق لغير ذلك، مفطور لكي يبلغ غير مَبَالغهِ.

وقد يُحرَم الفرد الفرصة المؤاتية للرياسة والاستعلاء؛ لأنه جاء فوجد أناسًا أقوى منه وأقدر وأكثر فضلًا في الميدان، وقد اعترف الناس بهم وازدحموا من حولهم، وقد شهدنا نوابغ صالحين لم يستطيعوا الظهور؛ لأن ظِلَّ عظماء استبقوهم تَعَرَّض فحجبهم عن الأنظار.

ومن معاني الفرص أيضًا مواجهة العظيم للصدمات والظروف القاسية والضربات العنيفة الأليمة المُدمِية حتى يألف الخشونة ويعتاد الجهاد والمجالدة، ولا يستنيم للراحة والترف ويسكن إلى الطراوة والعيش الناعم الظليل، كما تشمل الفرصة قيام الزعيم بمنجاة من الحاجة والكدح للرزق، والتماس العيش والأقوات للذين يعولهم من الأقارب وأهل العشيرة، فكم من رجل كان ينتظر أن يصبح في قمة الرياسة وذروة النبوغ قد حيل بينه وبين هذا باضطراره إلى العمل لكي يعول الآخرين، والبحث عن رزق الضعفاء من ذوي نفسه وقرابته.

وقد يكون معنى الفرص أحيانًا ظهور حادث يقتضي مواهب عاجلة للبروز بالنسبة له، من نحو أزمة سياسية، أو نشوب حرب فجائية، ففي هذه الحالات تتمخض الطبيعة عن الرجل الخليق بالظرف، والبطل المنتظر في اللحظة الواجبة.

وقد تخلق الفرص العارضة ومحض المصادفة، زعامةً لا تلبث أن تستبي الجوانح، وتصيب أكبر الإعجاب والتقدير، كأن يصاب أحد اللاعبين في الحلبة بإصابة أو أذى، فيقال لأحد الأفراد: خذ مكانه في اللعب لسداد موضعه، فإذا هو لا يكاد ينزل إلى المستبق حتى تبعثه حرارة اللعب وحماسته إلى بذل جهود لم تكن منتظرة منه، وإنه ليُشاهَد يجري أسرع مما كان معروفًا عنه، ويصيب الهدف ناجحًا موفقًا، ولم يكن ذلك في الحسبان.

لقد واتته الفرصة في غير انتظار، وكان له من مادته ومقدرته ما أعانه على الانتفاع بها، والملاءمة بينه وبينها، وحسن القيام عليها، ومن شأن الفرص أن أكثرها وأغلبها يجيء على هذه الصورة، ومن الناس خلق كثير يتركز كل جهدهم وينحصر كل اهتمامهم في حل مشكلة أو علاج مسألة من المسائل؛ حتى ليقع منهم موقع الدهشة البالغة أن يكتشفوا اهتمام الجماهير بهم، وينتبهوا إلى حفاوة الجماعات بأمرهم والازدحام عليهم من كل حدب ومكان، وأنت فلتتصور كيف كانت دهشة الطيار لندبرج المشهور قاهر المحيط لذلك الاستقبال الرائع المجيد الذي قوبل به عند وصوله إلى مطار ليبورجيه في باريس في مساء الحادي والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٢٧، فقد كان بلا شك يتوقع شيئًا من هذا، ولكنه لم يكن ينتظر هذا اللقاء العظيم، ولا تلك الضجة الداوية بداية أنه قبل سفره عَبْرَ المحيط على متن طائرته، أخذ معه كتب توصية ورسائل تعريف به …!

وكثيرًا ما تكون الفرصة حاضرة وإن لم تبدُ كذلك، ولم ينتبه إليها على أنها كذلك … ولكن الفرد المتيقظ المتنبه الساهر هو الذي يعرفها من أول وهلة، فيتقدم إليها جريئًا ويحسر عن وجهها القناع بكل جسارة وإقدام.

ولتأثير القرناء من الحداثة والخلطاء من الصغر قيمةٌ كبيرة في التمهيد للنبوغ، والتوطئة للرياسة، والبناء للزعامة، فكم من نابغة أو عظيم كان لأهله والذين خالطهم من النشأة وتأثر بهم فضلٌ كبير في بلوغه الذروة من المجد، ووصوله إلى النجاح في الحياة.

ولقد رأينا آباء تركوا الحرية لبنيهم من النشأة وفق ملكاتهم، أو تعهدوا هذه الملكات من الطفولة بالتشجيع والعناية والاحتثاث؛ فكان من أولادهم فيما بعد عظماء وزعماء وقادة ونوابغ صالحون، كما شهد كثير من هؤلاء فيما تحدثوا به عن نشأتهم وذكريات حداثتهم بفضل آبائهم عليهم في تكوين الصفات والسجايا والخلال والنزعات التي أعانتهم على بلوغ الفوز المبين.

ولا ننسى كذلك تأثير الأمهات في تكوين ولدانهن وتنشيط ملكات أبنائهن، فقد رأينا المخترع إديسون يعترف بأن أمه كان لها الفضل في إيقاظ ملكاته وكوامن مواهبه، كما شهدنا كثيرًا من العظماء والنوابغ يُقرُّون في ذكريات صباهم بما كان لأمهاتهم عليهم من فضل عظيم.

وقد كتب ويلسون رئيس الولايات المتحدة الذي ظفر بالشهرة العالمية في مؤتمر الصلح بشروطه الأربعة عشر وتقرير المصير، فصولًا رائعة في فضل والده «ودرو» عليه، وتعهُّده لملكاته من النشأة، وقيامه على رياضة ذهنه واستعداده من الطفولة الباكرة، كما اعترف جورج واشنطن محرر أمريكا العظيم بأن كل مجده وشهرته ومكانته من أمته كان من ثمرات غرس أمه في نفسه في الأعوام الأولى من حياته.

ومن المحقق أن للزوجات والشريكات في الحياة أثرًا في مجد عدد عديد من الزعماء وعظماء الرجال، كما كانت زوج «لافايت»، فقد وصفها بقوله: «لقد كانت مِلكَ خير.» وحتى لقد قاسمته السجن وشاطرته المحبس في أيام بلواه وفترة محنته وشدائده.

وقد يكون لبعض الأقارب أحيانًا كالأعمام والأخوال أو الأجداد في هذه الناحية أثر كبير، كما يكون للمعلمين في المدرسة والأساتذة في المعهد، ولبعض المعارف أو أصدقاء العشيرة والمترددين على البيت والجيران في الحي أو المنزل القريب.

وربما اجتمعت كل هذه المؤثرات في حياة الفرد من النشأة أو في الشباب، فأحدثت السلطان البارز في تكوين زعامته، وأعانته باجتماع عواملها المختلفة على البروز فوق قمة النجاح.

•••

وقد تظهر البواعث بالاكتساب، أو قد تنبثق فجأة في بعض النفوس انبثاق الشهاب، وتستولي على المشاعر مفاجئة، وتدب إلى الأذهان طارئة وتستأثر بكلية الوجدان في لحظات مباغتة لم تكن في الحسبان.

وقد ينبعث الدافع في ظروف معينة تعرض للأفراد، ونقط دوران في حياتهم وسير أعمارهم؛ فتعطف بهم عما كانوا منطلقين صوبه، وتعدل بهم إلى طريق جديد لم يكونوا سالكيه أو مفكرين فيه، وقد يقع هذا بسبب حادث خطير أو حادث يسير، أو لسبب من أهون الأسباب، فيكون ذلك بداية دور جديد في حياة الفرد أو منعطف عند نقطة دوران.

وربما عرض يومًا لفرد يعيش في نعماء ويتقلب في سراء ويحيا في حِجر الآلهة — كما يقولون — ما يَحْفزُه إلى قلب حياته وتغيير مجرى عيشه، وقد برز هذا بجلاء في حياة الفيلسوف العظيم «تولستُوي»، إذ كان لا يزال بعدُ طالبًا في الكلية، ففيما هو عائد ذات ليلة من مرقص في صميم الشتاء، والزمهرير شديد يهرأ الأبدان، إذ رأى سائق مركبته وكان في انتظاره قد جمد في مكانه من شدة القرِّ؛ فتأثر بمشهده على تلك الصورة أشد التأثر، ومضى وهو في المركبة عائد إلى داره يسائل النفس قائلًا: لماذا ينعم هو الذي ما أحسن يومًا في حياته، ولا عمل صالحًا، ولا أجْدَى على المجتمع، بكل المناعم والمزايا التي هو بها مستمتع، بينما هذا السائق وأمثاله من أبناء الشعب الذين يؤدون أشق الأعمال، ويحملون المجتمع كله على أكتافهم، يعيشون جياعًا تطحنهم الفاقة ويهرؤهم الزمهرير؟! فلم تلبث هذه النجوى أن أولدت حافزًا قويًّا في نفسه، حمله على أن يتنازل عن فكرة الفروق بين الطبقات، وجعل منه فيلسوفًا جديدًا ونصيرًا للفلاحين، ومتحدثًا باسم الجماهير، وذوَّادًا عن حقوق الشعب في الوجود والحياة.
figure
توماس إديسون – زعيم المخترعين.

وكان نبوغ المخترع العظيم توماس إديسون راجعًا إلى تأثير حادث صغير عَرَض له في دور الحداثة، وذلك أنه كان يشتغل ببيع الصحف في القُطُر ومركبات السكة الحديد، ففي ذات مرة وإنه ليخترق القضبان إذ بَصَر بطفل يلهو عن كَثَب، وقد أوشك قطار قادم مسرعًا أن يدهمه، فألقى إديسون برزمة الصحف جانبًا في مثل ومضة البرق، وعدا نحو الغلام فاحتمله قُبَيل أن يدهمه القطار، ومضى به إلى أبيه، وكان هذا ناظر المحطة، فأراد أن يجزيه أجر ما أحسن إليه، فأذن له بالجلوس في كل يوم بضع ساعات في مكتب التلغراف أو كشك الإشارات ليتعلم هذا الفن على عماله، فكان ذلك الحادث هو الذي أولد في نفسه الدافع القوي الوثاب الذي جعل منه على الدهر أكبر المخترعين في العصر الحديث.

ويمتد بنا نَفَسُ الحديث وتترامى حدود الكتاب، إذا نحن فصلنا الأمثلة على تَوَلُّد الدوافع فجأة ونقط الدوران في حياة النوابغ والعظماء، فحسبنا أن نجمعها جهد الحصر، ونعرضها في غير تمثيل.

فقد يكون المرض باعثًا، وقد تكون الهزيمة الأولى في مطامع الحياة العملية دافعة إلى التغيير وتجديد القوى والعزمات، وقد تكون سرعة الملل من الدوافع التي تدفع بالفرد إلى الاهتداء إلى الأمر الذي يرضيه، أو الطريق الذي يسهل عليه السير فيه، أو الاتجاه الدائم له، أو الصناعة التي يحسن فيها أعجب الإحسان.

وفي أحلام الشباب، وتصورات الحداثة، وأمانيِّ الصبا، أقوى البواعث والدوافع إلى النبوغ وإحداث العظائم، والإجداء على الإنسانية والإحسان إلى الجماعات …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤