مصطفى النحاس في الكفاح للدستور والاستقلال

ظلت وزارة اليد «الواهية» تتلكأ في المكث، ولا تحفزها العزة إلى الخروج، حتى استدعى الملك زعيم البلاد لاستشارته، بموجب أحكام الدستور كرئيس للأغلبية، في أمر الوزارة التالية، فتحركت يومئذٍ الوزارة المتباطئة ورفعت كتاب استقالتها في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة ١٩٢٩، فقُبِلَت في اليوم ذاته. وكان قد تم التشاور بين القصر والوفد قبل تقديمها، فاستدعى عدلي يكن باشا إلى لقاء الملك في الثالث منه، وصدر الأمر الملكي في الغداة إليه بتأليف وزارة جديدة تتولى الحكم تمهيدًا لعودة الدستور وإجراء الانتخاب.

وقد جاء في كتاب عدلي باشا يومئذٍ إلى الملك: «لقد تدبرت الموقف الحاضر طويلًا، فرأيت أن إخلاصي لسدتكم العلية، وواجبي نحو بلادي في هذا الدور الخطير من سياستها، وبعد الذي أبلته من جهاد، وقطعته من مراحل في سبيل تحقيق أمانيها، يجعلان فرضًا عليَّ أن أطرح كل اعتبار يحملني على التردد، وأن أحرص على تمكين البلاد من الوصول إلى قرار فيما أتيح لها في قضيتها القومية.

… وستكون الغاية التي تترسمها الوزارة إعادة الحياة الدستورية، وإجراء الانتخابات لمجلس النواب، خالصة من كل ضغط أو تأثير غير مشروع، بحيث تنقل صورة صادقة من إرادة البلاد لكي يتمكن البرلمان بعد ذلك من البت في مصيرها.»

وكان المرحوم عدلي يكن باشا خير من يتولى وزارة محايدة كهذه أو وزارة انتقال، فقد كان رجلًا أخا نزاهة ورفعة واحترام ذات، وَتَسَامٍ عن الدنايا مع كياسة ومعرفة للواجب وإقدام على تأديته في المحارج ومواطن الخطر ودقيق الظروف.

لقد تقبل هذا الرجل الخطير المهمة الخطيرة، وهو يعلم أنها لأشهر قليلة، فدخلها شريفًا ليخرج منها شريفًا، ولو أن غيره قبلها على هذا الحساب، لتدلل في الدخول، أو سوَّف في الإياب، واستلذ نَعْمَاءها واستطاب، ولمضى يمني نفسه بأمر يجيء على غير ارتقاب؛ ولكنه كان رجلًا عظيمًا، فلم يتقبل الوزارة لجاهها؛ لأنه شبع من الجاه، ولا ليُتِمَّ نقصًا في مجده وقد بلغ من المجد أَوَجَهُ ومنتهاه، وإنما رأى الشعب يرتضيه للمنصب فارتضاه، وهو عليم يومئذٍ أن عهده القصير دورة انتقال، وهو الآخذ بالزمام، الأروع المقدام، فحمل الأمانة مؤمنًا بأن الشعب يعرف له مكانه، وقد أداها وفيًّا، وخاض بمصر المعركة الانتخابية، وكانت حيدته مجدًا فوق ذلك المجد، ولم يكد يتم الانتخاب حتى بادر إلى الاستقالة ورفع الكتاب، فليسجل التاريخ لهذا الوزير الشريف موقفه الرائع الجليل، وليذكر الشعب له تلك الذكريات العاطرات.

أقدم عدلي باشا على قبول وزارة الانتقال، فلم يتوانَ عن القيام بمهمتها، إذ شرع بعد أيام قليلة في تحديد دوائر الانتخاب، وردها إلى ما كانت عليه من قبل غُمَّة الحكم المطلق الذي كان يريد أن يدخل عليها التغيير والتبديل، ودفع الإدارة إلى النشاط في إعداد المعدات لحركة الانتخاب.

وأدرك حزب الحكم المطلق الذي باد وغَبَر أنهم إذا اشتركوا في المعركة الانتخابية سقطوا صَرْعَى، ولم يظفروا في الدوائر بأكثر من آحاد ضئال؛ فرأوا أن يلعبوا لعبة أخرى قد تجدي عليهم في قادم الأيام، وهي أن ينسحبوا من الانتخابات، فأضربوا عن دخولها، ولم يكن ذلك ليؤثر في مسيرها، وإنما كانت دليلًا على تراجع مكشوف وبأس واستضعاف وفرار من الميدان.

وكان تقديم الوزارة العدلية كتاب استقالتها إلى القصر في ٣١ ديسمبر سنة ١٩٢٩، فودعتها البلاد شاكرة لها نزاهتها وعدالتها، حامدة لها بدايتها ونهايتها، مقدرة لها جهودها النزيهة الطيبة الموفقة.

وبدأ العام الجديد بتأليف وزارة الشعب، فعاد مصطفى النحاس باشا إلى مكانه من الحكم، بمقتضى الحق الدستوري وثقة الشعب ووكالة الأمة؛ فتلقته بفرح بالغ، واستقبلته الجماهير متفائلة مغتبطة، وسرى السرور في جميع النَّدِي والأوساط.

وانتصرت الحياة النيابية، وتغلب الدستور على مناوئيه بعد أن ظنوا أنهم قد وأدوه، وقطعوا بين الأمة وبينه، وأقاموا السد المنيع دونه، فلا مَعَاد له، أو تتجدد المهلات، على السنين المتواليات. عاد الدستور ورجعت الحياة النيابية، ساخِرَيْن منهم، ضاحِكَيْن من هزيمتهم، عادَا بفضيلة الوفاء لهما والبر، وقوة الإيمان والثبات والصبر؛ فكان لهما الفوز والغَلَبة والنصر؛ لأن الحياة لا تعطف على اليأس، وإنما تقبل على الرخاء، وتدفع إلى الأمل، إذا استوفى الامتحانُ الأجل، وأقرت الحياة لنا بالجدارة بها والاستحقاق.

وافتتح البرلمان في الحادي عشر من شهر يناير، فكان يوم فرح عام في البلاد، ولكنه كان أيضًا يوم تفكير طويل في الدستور وسبيل الحرص عليه، ووسيلة تحصينه من معاد الكيد له والدس والائتمار، وتدعيمه بالضمانات الكفيلة بوقايته من خصومه اللاعبين وراء الأستار. وقد عُنِيَ حارس الدستور الذي جاهد في سبيله، وحارب من أجله، بهذه الفكرة الجليلة، والخطوة الضرورية، فجعلها في مقدمة خطاب العرش، على لسان صاحبه، حيث يقول: «… أَفتتحُ هذا الدور مغتبطًا بعودة الحياة النيابية، مستبشرًا بما أظهرته البلاد من تقدير صحيح لمزاياها، ورغبة صادقة في تعميم خيرها وتثبيت خطاها، وإنه لمن أحب أمانينا أن تظل البلاد متمتعة بنعمة الدستور، معتزة بما كفله لها من حقوق وحريات، وأن يظل الدستورُ نفسه منيع الجانب، مصونَ الأحكام، وأن يحاط بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة، ونموًّا مطردًا. وستعرض الحكومة على حضراتكم مشروعات قوانين لتحقيق هذا الغرض السامي.»

كان هذا هو أول ما اتجه إليه الفكر بعد الفرحة بعودة الدستور، وذلك من فرط الحرص عليه، ومزيد العناية به، وعمق الإيمان بقداسته؛ إذ كان لا بد من قطع الطريق على كل كيد يكاد له، ومنع الأيدي الدنسة الأثيمة أن تنال منه؛ لكي يبقى مصونًا من أي عبث، موفور القداسة من كل انتهاك.

وقابل الناس هذه النية الصادقة من حكومة الشعب واعتزام مصطفى القَوَّامِ على حراسة الدستور، الحِرْصَ على الديمقراطية، بكل الرضوان الخليقة به، وارتفع الصوت من كل جانب بوجوب المبادرة بهذا التدعيم، وتوفير هذا الضمان؛ لتطمئن الأمة على دستورها ونظامها الأساسي من جرأة الجناة وجرائم المجرمين.

ولكن الوزارة انشغلت في أيامها الأولى بعمل آخر كان واجبًا وجوب هذا التدعيم ذاته، وهو «التطهير» واستئصال الجذور الخبيثة التي فَرَعت وهاشت، وأنبتت من كل نبات سامٍّ شديد الأذى فاتك بالحياة، بل عملية تنظيف الأداة الحكومية من الأقذار التي علقت بها، وعطلت سيرها، وأفسدت كل نظامها إفسادًا.

لقد استطاع الحكم الرجعي الغابر أن يفسد أخلاق الموظفين وَيُشِيعَ فيهم الملق والرياء، ويغريهم بالجريمة والبطش بالأبرياء؛ ووجد من الحكام الصغار والموظفين العاملين في الأقاليم صنائع له متحمسين في أذى الشعب، مفتونين بالبطش بالودعاء والأبرار؛ فجعل يمد لهم، ويشجعهم بالترقيات والأجزية المراودة لهم عن آخر إحساس بشريٍّ فيهم، حتى انقلبوا وحوشًا ضارية ومجرمين صُمَّ القلوب مُوضِعِين في الإجرام.

وقد بادرت حكومة الشعب إلى تخليص البلاد من أذى فريق كبير من هؤلاء. ولكنها كانت رحيمة فلم تتجاوز مؤاخذتها لهم حد الإحالة على المعاش؛ ولو أنها أخذتهم بالعدل في غير رحمة، لألقت بهم في غياهب السجون.

ومن فرط الكمد، عمد أولياؤهم الذين أصبحوا لا يملكون لهم ضَرًّا ولا نفعًا، إلى التظاهر بالتحدي، فأقاموا حفلة تكريم لصنائعهم الذين نزل هذا القصاص الرفيق بهم، فلم تحفل حكومة الشعب بما صنعوا، ووقفت حيالهم ساخرة، تاركتهم في كمدهم المحترق وغيظهم الكظيم.

وانصرف الناس في هَدأة النظام، واستتباب العدالة، وحنان الزعامة، ورفق القيادة، إلى الحياة النيابية وعملها، وانصرفت الحياة النيابية إلى خدمة الأمة، وتوخي مصالحها وتحقيق مشيئاتها. وقد تفاءل الناس واستبشروا، إلا قليلًا منهم ظلوا على تشاؤم مكين فيهم، مستبد بطباعهم؛ ولكن هؤلاء لا يؤثرون في الحياة؛ لأنهم يموتون في أنفسهم، ويحترقون رويدًا في نار تشاؤمهم، ولا يُلْقُونَ على الحياة الضاحكة الباسمة المتوردة من حولهم ظلًّا من جهامتهم، وعبسة تشاؤمهم وتطيُّرهم، إلا كما تتراءى الغمامات الخفاف في ناحية من السماء الزرقاء الصافية، لا تلبث وقدة الشمس أن تذهب بها بِدَدًا، وترسلها متقطعة متباعدة.

كذلك هو عيش المتشائمين، هم سجناء في محابس مظلمة، راسفون في أغلال النحس والانقباض والجمود والبلادة والتبرم والاستخفاف، على حين يروح المتفائلون راقصين للحياة، متوثبين مع الأمل، رحابَ الصدور، خِفافَ السُّوق، يبتسمون للأزمات العارضة، تعللًا بما وراءها من الخير المرتقب، والنفع المرتجى، والظروف الطيبة، والأيام المُشْمسة المشرقة الضياء.

وقد كان الشعور العام يومئذٍ شعور رضى وأمل وتطلع، وكان الناس يومئذٍ مدركين أنهم مجتازون دورًا خطيرًا في طبيعة حياتهم العامة يشبه في حياة الفرد دورَ البلوغ أو المراهقة، وأن زعماءهم إنما يعتمدون عليهم وعلى قواهم الكامنة في الجهاد لحل أكبر المشاكل، وتسوية أخطر الشئون، لخيرهم وخير الأجيال القادمة من بعدهم، وأن الجهاد يجدي عليهم، ويزيدهم قوة على قوتهم؛ لأن الأذهان تَصِحُّ بالتفكير، والنفوس تقوَى بالإيمان، والعزائم تستأسد بالخطوب والنكبات.

لقد راح كل فرد يومئذٍ يفكر في مستقبل بلاده، أو يسأل غيره عن فكره، أو يجلس إلى العارفين ليستمع إلى أحاديث اليوم وأخباره، ويوم تُكْفَل الحرية الاجتماعية، وتسود الحياة النيابية، يروح كل شيء في الحياة حسن الأثر، منتجًا للخير، بل إن التفكير الساذج نفسه لا يخلو من فائدة؛ لأنه يستثير الفكر الصالح، ويولد الرأي السديد، ويحرش الأذهان الناضجة. وليس من عجب في ذلك؛ لأن وضع السلطة في يد الشعب، يقرب الأشياء إلى العقل، ويوصل ما بين الناقص والمكتمل، ويُيَسِّر المراقبين، ويكثر من عدد الملاحظين والمشرفين، فتستيقظ الأذهان للحقوق العامة، وتتفتح الأعين بفضل الرقابة التامة، فلا تنطلي عليها الخُدَعُ الماكرة، ولا تفلت الأغلاطُ هاربة، ومن لم يكشف الأغلاط بنفسه، كشفتها له المنابر العامة، وهدته التيارات الجارية إلى مرفأ الصواب.

إن الحياة النيابية تجعل للأفراد وجودًا، وتكسب الجماهير قوة، وتعطي الشعب هيبة؛ لأن المتصدين للظفر بالنيابة عنه في المجلس مضطرون إلى النزول عن كبريائهم للتحبب إليه، والتماس رضاه، والاجتهاد في كسب مودته، واستيضاح مشيئته. ويوم تقوم الانتخابات، يرتفع صوت الفرد، وتظهر قيمة الجمهور ومكانة الحشد، ويروح الأفراد متكبرين على الكبار الذين كانوا بالأمس يحسبونهم صغارًا لا تقام لهم أوزان.

لقد ذهبت أصوات الناخبين بكبرياء الطبقات؛ فأضحى رب القصر يمشي إلى صاحب الكوخ، وأمسى الكوخ الصغير هو الذي يدفع إلى النَّدْوة ويفضي إلى البرلمان. ومن شاء أن يغلب منافسه في ميدان النيابة، لزمه النزول إلى الشعب، والإذعان إلى مشيئته، وملاقاة الحب منه بالحب، واجتماع التواضع منه بالولاء.

ولا يحسبنَّ أحد أن الزعماء هم الذين يتحكمون في الجماهير، فإن الجماهير هي في الواقع التي تتحكم في الزعماء، وتنزلهم إليها، وتدمجهم فيها. ولئن قيل إن كثيرًا من الطامعين في النيابة — ولم تتوافر الأداة الصالحة فيهم لنيلها — إنما يشترون أصوات الناس كما يشترون أي شيء بالمال؛ فقد يصح أن يقال كذلك إن حَسْب الفلاح أو الفقير اليوم أن يدرك أن لديه شيئًا روحانيًّا يتنافس الأغنياء في نيله منه، ويتسابق القادرون على الظفر به عنده؛ فإن معنى ذلك أن الناخب قد أصبح قوةً مُحَسَّة، وأضحى له نفوذ كبير يُلْتمس لديه، فإذا رضي مرة أن يبيعه رخيصًا، علمته الأيام كيف يضن به على الشراة والطالبين.

ولكي ندرك أن معاشر المتفائلين منا — وعلى رأسهم زعيمنا مصطفى النحاس — هم على حق في التطلع إلى المستقبل الباهر لهذا الشعب الخصيب الاستعداد، ينبغي أن نراجع مبلغ التطور السريع الذي ظهر في البلاد على قصر فترات الحياة النيابية فيها وسط الأعاصير والرياح القاصفة؛ فقد تنبهنا لفضلها وشيكًا، ومشى برلماننا من بكور الطفولة، وتعلم الكلام سريعًا، ودرج إلى الصبا واثبًا، فلم يحتجْ إلى الأرجوحة، ولم يتساندْ إلى الجدران، ولم يتعلم الحَبْوَ على الثرى، بل لقد نبغ في المجلس شباب متسامون إلى العلا، كأنهم أرسخ الشيوخ قدمًا في الحياة البرلمانية، وكأنما ولدوا في عصر نيابي، واغتذوا من لَبَان الدستور قبل أن يكون دستور، وبرزت في الحياة العامة شخصياتٌ قوية أخَّاذة بالإعجاب العام، حتى لقد أصبحت أسماؤها نواقيسَ الأمل، وأجراس النهضة، ومنارات النبوغ والوطنية الصحيحة الصادقة.

ولئن كانت لدينا في الحياة النيابية عيوب ظاهرة، فإن عللها توحي بأدويتها، وحسناتها تدل على سيئاتها، وتشخص أمراضها وأسقامها؛ لأن كل غلطة تقع فيها تنبهنا إلى معالجتها، وتستفزنا إلى ملافاتها، وكل خَطْبٍ يصيبنا يخدمنا ويشد من قوانا ويجدد من عزماتنا، وكل عام يمضي بنا في طريقنا إلى تدعيم المستقبل والبناء له يزيدنا إيمانًا بالحياة النيابية التي استقرت في أرضنا؛ لأن للروحانيات وحيًا غريبًا لا يُعرَف مصدره، ولا يُكتَنه سرُّه، وحيًا يكشف لنا عن الحق، ويحفزنا إلى إصلاح العيب، وسداد النقص. وقد علمتنا الطبيعة درسًا لا ننساه، وهو أن تاريخ الخليقة من البداية هو تاريخ التقدم من القليل إلى الكثير، ومن «الخام» إلى المصقول، وأن النمو ميسور، والتقدم مكفول، كما نفثت الطبيعة في أرواحنا الأمل في حياتنا، والرجاء الحسن في مستقبلنا، وألهمتنا أن نسير بحياتنا العامة في أقوم سبيل.

لقد كان هذا هو شعور الناس حين عادت الحياة النيابية بعد انتصار مصطفى على كل التجاريب الماضية، فارتفع نبض الحياة العامة، وجاشت نفسها بالآمال؛ إذ رأت الوزارة قد نشطت للعمل المنتج، والإصلاح المثمر، ومعالجة مساوئ العهود الغابرة بروح العدالة وقوة الإيمان.

وكانت المظالم المتخلفة كثيرة، وشكاوَى العناة والمتألمين لا يحصى لها عديد؛ فذهبت الحكومة الشعبية تسعى في رد جملة منها، والنظر في طوائف متعددة من الظلامات الصارخة فيها؛ فأعادت موظفين كانت الوزارة الماضية قد انتقمت منهم لوطنيتهم، وعذبتهم بذنب إخلاصهم لمبادئهم، وردَّت طلابًا كانوا قد حُرِموا من متابعة التعليم.

وخلال ذلك كله مهَّدت لإصلاح النظام الدستوري وتدعيمه بالبحث في موضوع المسئولية الوزارية، والاشتراع لمحاكمة الوزراء الذين تُسوِّل لهم نفوسهم العبث بالدستور أو بالحياة العامة؛ كما راحت تتأهب للمفاوضات القادمة، وكانت قد تحدثت عنها في خطاب العرش حيث وردت الفقرة التالية:

إنه لمن دواعي اغتباطي أن يؤذن هذا الدور بعهد جديد من التفاهم الوديِّ، والصداقة المثمرة بين بريطانيا العظمى ومصر؛ فلقد أعربت الحكومة البريطانية عن رغبة صادقة في عقد اتفاق ودي بين البلدين، وتحقيقًا لهذا الغرض قدم جناب وزير الخارجية البريطانية إلى الحكومة المصرية مقترحات أملتها عليه روح المودة والوفاق. ويسر حكومتي أن تعرض هذه المقترحات على حضراتكم، وهي تأمل أن تسير بالمفاوضات فيها مع الحكومة البريطانية مشبعة بروح الوفاق والمودة للوصول إلى اتفاق وطيد شريف بين البلدين، ومتى تم الاتفاق فستعرضه حكومتي على البرلمان للتصديق عليه، وعندئذ تعمل على تنفيذه بنفس الروح الطيبة التي باشرت بها عقده.

وفي الثالث من شهر فبراير سنة ١٩٣٠ عرضت الوزارة على البرلمان بمجلسه المقترحات البريطانية التي كان محمد محمود باشا قد حملها قبل سقوط وزارته من قِبَل الحكومة البريطانية لعرضها على البلاد تمهيدًا للبحث فيها، وعرضها على ممثلي الأمة ووكلائها الصادقين. ونهض مصطفى النحاس باشا في المجلسين موطئًا لعرض هذه المقترحات، فقال:

تنفيذًا لما ورد في خطاب العرش بصدد المقترحات البريطانية، أتشرف باسم الحكومة بأن أعرض هذه المقترحات على حضراتكم:

إن الروح الطيبة التي أملت هذه المقترحات قد قابلها الوفد المصري الذي أتشرف برياسته، بروح مثلها، ولقد بدا ذلك واضحًا في الأحاديث المتعاقبة التي أدليت بها قبل ولايتي الحكم، وكذلك قابلتها الحكومة بمثل هذه الروح، وبدا ذلك جليًّا في خطاب العرش، وفي التعقيب الذي ألقيته بمناسبة الرد الحكيم الذي وضعه البرلمان عليه. ولقد اعتزمت الحكومة — إذا ما فوضتموها — أن تغتنم هذه الفرصة التي أتاحها وجود حكومة بريطانية مُشْبَعَة بروح التفاهم والصداقة مع مصر، وتتفاوض في هذه المقترحات مع الحكومة البريطانية بنفس هذه الروح الطيبة، روح الرغبة الأكيدة في الوفاق والصداقة بقصد الوصول إلى اتفاق شريف وطيد بين البلدين.

والحكومة يهمها أن ينظر المجلس بوجه الاستعمال في أمر هذا التفويض المطلوب لكي تتمكن من الرد على الحكومة البريطانية، ومن الاتصال بها للاتفاق معها على موعد قريب للمفاوضة، والأمل قوي في الله تعالى أن تسفر هذه المفاوضات عن الاتفاق المنشود الذي تكون فيه المصلحة والخير للبلدين، وبعد ذلك تعرضه الحكومة على البرلمان ليقول قوله الفصل فيه، ومتى صدَّق عليه تقوم الحكومة بتنفيذه بكل أمانة وإخلاص.

وقد أقرها المجلسان في ٦ فبراير، وفوض لها — بالنظر إلى ثقته التامة بها — المفاوضة مع الحكومة البريطانية في تلك المقترحات للوصول إلى اتفاق شريف وطيد يوثق عرى الصداقة بين البلدين.

وتقرر أن يكون سفر الوفد الرسمي لهذا الغرض برياسة مصطفى النحاس باشا في أواخر شهر مارس سنة ١٩٣٠.

وقد تلقت البلاد هذه الأنباء برضى وأمل ودعوات طيبات لمصطفى وأصحابه أن يوفقهم الله فيما اعتزموه، ويسدد خطاهم فيما هم مزمعون سفرًا له، ويكتب لهم الفوز والنجاح.

وكان توديع الأمة لمصطفى يوم سفره على رأس الوفد الرسمي للمفاوضات يومًا مشهودًا في البلاد، زاخر الموج بالحشود، بل هو حشد الحب وهتاف القلب، وموج متدفع مصطخب، نسي الناس فيه أنفسهم فكأن كل نفس شَعْب، وكأن كل امرئ أضاع لبه في الحشد فذهب يبحث عن ذلك اللب. جموع تملأ الرَّحب، وخلائق تطفر، وأمواج بشرية تثب، ودويٌّ ذاهب في صميم الفضاء، وصوت من الأرض تتجاوب به السماء. ولو أن محطة القاهرة على باب صحراء، لخرج أهلها جميعًا يمشون في موكب الوفاء؛ ولكنها محطة محدودة الأرجاء، وقد نسي الجمع الحاشد أنها كذلك، فتدافعوا يحسبونها تتسع لمصر كلها على السواء.

لله هو يومئذٍ من مشهد يوم عظيم! ولله هو من شعب وفيٍّ كريم! ولله تلك الآية الكبرى، والمواكب الباهرة، جاء بها الحب، وحشدتها الفطرة! أفرأيتم الزعيم مصطفى في وسط الأمواج الزاخرة؟ وهل شهدتموه في الساحة والبهرة، والجموع عليه ملتفة، والحناجر بوداعه هاتفة؟ وهو بينهم شاحب مضطرب، والحشد متدفع متألب، وقد أنستهم الحماسة أنه بشر مثلهم، يطلب الهواء؛ ولم يذكروا أنه رئيس الوزراء، فتدافعوا ليحملوه، وتراجع هو ليمشي فإذا الألوف من ورائه، وإذا الألوف حياله، وهم عليه متزاحمون، وهو مقبل ومتراجع، ليستسلم لهم لخطة، وهو باسم، ثم ينثني يطلب الطريق، وهو غاضب، فلا يكاد في خطفة الخاطر يهم بعبسة الغضب، حتى يلغي الغضب ليستعيد بسمة الحب …!

أيها الشعب! … يا فِرعَوْنُ في الحب! لقد أنستك الحماسةُ الرفق، فَرُحْتَ كالموج المُطْبِق، والزعيم في وسطك كالزورق، حينا على اللج يعلو، وحينا عليه اللج يُشفِق. والإفريز مستطيل، والمدُّ الإنسانيُّ زاحف، والجبين الطاهر كمقدم الفُلْك يتلألأ من العَرَق، وقد سرى على وجه الزعيم جلالٌ شاحب، بين إيماضة الباسم، وبين اكفهرارة المتْعَب الغاضب.

وترك الزعيم ساقيه للموج، وقنع بذراعيه يدفع بهما في رفق الجمع المعتلج. واستطال الإفريز كأنه الساحل المترامي، والناس من الحب بين المصفق والمشرئب والمُتسَامي، والفرح الدامع الهامي؛ حتى أشرف مصطفى على المركبة، وكأنما قد حيل بين المحب وحبيبه، فطفق الشعب يهتف باسمه، ويدعو الله له؛ حتى صفرت القاطرة، ولا يزال الهتاف راحلًا في إثره، والنفوس مرافقته في سفره، حتى توارى القطار بالحجاب، والخلائق الكُثْرُ في الرحاب، قد شقت الأبواب، وجاءت كالسيل العَرِم من كل إفريز وجانب، تعدو وراء القطار وهي تحسبها ملاحقته، أو تظنه إنما غاب في منعطف المآب!

ولقد علم الله ما كان مصطفى لِيَعظُمَ فينا، وما كان ليظفر منا بحبنا، لو أنه كان كما فتئ خصومه في البلاد يقولون «مخلوقَ ظروف»، وزعيمًا جاءت به «المصادفة»! إذ لو صح ذلك لكانت الأقدار هازلة، وحكومة السماء من حكومة الأرض ساخرة، والسماء لا تهزل، والقَدَر لا يقيم على رأس شعب مجاهد، ولا يضع على صدر أمة مكافحة رجلًا ليس على شيء من مطالب الزعامة، خليًّا من معاني العظمة، أحدثه الزمان، ورفعته طوارئ السنين وأحداث الأعوام. ومن يقلْ ذلك فهو الساخر من النهضة كلها، من مطلعها إلى يومها هذا وعهدها، الهازئ بما سال على جوانبها من دم زكيٍّ، وفاض عندها من وطنية حارة، وذهب في سبيلها من نفوس بريئة طاهرة. ومن تجيء به الظروف وتنشئه المصادفة، يمضِ في الحياة مترنح الميزان؛ لأن الظروف التي جاءت به قد ترتد حينًا عليه، والمصادفة التي أنشأته متخلية يومًا عنه، والنفوس التي مالت إليه عائدة مع الزمن عن حبها له. ولن تعيش العظمةُ الطارئة إلا ريثما تمضي الظروف التي طرأت بها، ولن تثبت على الزعامة وهي من معانيها الأولية خالية.

ذلك هو صوت الحقد الأعمى، كلما سمعناه أخذناه إلى قلوبنا، فعرضناه فإذا القلوب مزدادة حبًّا، حاشدة ولاء. وكذلك تروح كل فِرْيَة تُنسَج حول الزعيم الذي اصطفاه القدر ولم تجئ به المصادفة، هالةً من ضياء يتوهج، ودائرة من سناء يلتمع؛ وكذلك تخدمه فينا أكاذيب أعدائه، وتخدمنا فيه فريات خصومه؛ لأن العظمة لا تَجْمُل بالمديح قدر ما تجمل بالهجاء، ولا يطيب لديها الثناء كما يطيب عندها كلام الأعداء؛ لأنها جندية محاربة، كلما أمطروها في المعركة نيرانًا، زادوها ثباتًا وشجاعة وسكونًا.

لقد نشأ مصطفى رجلًا فاضلًا بالفطرة، عظيمًا بالسليقة، لم تجئ به الظروف المطاوعة، وإنما جاء هو بها طائعة، وحملها على المشي في أثره، والركض وراءه؛ لتلاحقه وتنصاع لكلمته، وتنزل على مشيئته، ومثله لن ترد عليه سلسلة الحوادث، ولن تكفل له القوة التي يتحرك بها؛ لأن كل قوة فيه هي من صميمه، ومُحَال أن تصلح الظروف الحسنة ما فسد بالخليقة؛ وهيهات أن تزيل الأحداث الطبيعية مناقص الشخصية المشوهة. ومن العار على العظمة الصادقة أن تعدو إلى الحوادث، وتترامى على فواجئ الظروف، لتوكيد صدقها، وتثبيت أفضالها، واستخلاص الشهادة بمواهبها، إذ لا يجري الغنيُّ المستثمر مالَه في الصناعات أو ميدان المال في كل ساعة إلى «البورصة»، ولا يهطع في كل وقت إلى سوق الأوراق ليستبدل ما عنده منها نقدًا، ويرد ما في يده منها عملة جارية؛ وإنما هو يقنع بقراءة أسعار السوق ليتوكد لديه أن أوراقه قد ارتفعت، وثروته قد زادت ورَبَت مليًّا.

لقد عَفَّ مصطفى من جميع جهاته، فهو اليوم في مناعة من الشهوات، ووقاية في صميم نفسه من مغرياتها، وأحاديث نجواها وهمساتها؛ وقد تطهر من مطالب ذاته فأضحى كله بنفسه وخاطره وشعوره للذين استأمنوه على الزعامة فيه، وأولوه التفكير عنهم في أمر وطنهم، وإن قوة الفضيلة لهي سِنَاد كل عظمة وقِوَام البطولة الزعيمة في الأمم والشعوب.

لقد ذهب مصطفى النحاس على رأس الوفد يفاوض! فلله هو لقد أعد لهذا اليوم الخطير، والمهمة الكبرى؛ فإن انتصر فقد أدى رسالته، وإن لم ينتصر؛ لأن خُدَع الباطل غالبة، والسياسة واهية كاذبة، فقد انتصر، ولكن بالروح؛ لأن الحق لم تتحيف جوانبهُ، والمفاوض أراد أن يأخذ الحق وأبى أن يوهَبَه!

وما مصطفى إلا سعد في صورتين؛ فلئن كان سعد ربَّ العقل الجبار، لا يخاف في الحق قوة، فإن مصطفى بِضْعَةٌ من سعد، تخاف على الحق من كل قوة؛ ولئن كان سعد جبروتًا في قوة الحق، فإن مصطفى جبروت مثله في الحرص على الحق. ولقد كان سعد لا يخشى على شيء، وأما مصطفى فإنه يخشى في مناهجه السياسية على ثلاث: على الحق في ذاته، وعلى سعد في مبادئه، وعلى خليفة سعد في سمعته وزعامته. ومن تكن هذه مراشده فهو على الصراط، لا يضل صاحبكم ولا ينسى!

وقد بلغ من كمد خصوم الوفد الذين صرعهم الحكم المطلق بأيديهم أن راحوا يقولون في سفر الوفد الرسمي إن هو إلا سفرةُ نزهة، وسياحةُ لهو، ومشوار قصف وعبث، وعودة بخسر، ومآب بفشل، وكان ذلك كله لغة الحقد، فإن من يأخذ الطريق إلى المجد لا يتنزه، وما هي يومئذٍ بسفرة لهو، وكل مستقبل مصر معلق فيها على الخيبة أو النجاح، وحياة الملايين مرهونة بخاتمتها، وكل خطوة فيها تحمد الله وتسأل السلامة من الخطوة التالية، وكل مصر متطلعة إليها مترقبة راجية.

تلك رحلة في التاريخ، وانتداب أمة، وتمثيل شعب، وأمانة قوم، وذمم أجيال، تولاها جميعًا مصطفى النحاس قويًّا بها، وهي به قوية، مؤمنًا بمعانيها، وهي واجدة فيه رموزها وعناوينها الواضحة الجلية، ومظاهرها الرائعة البالغة.

وكان الوفد عند وصوله إلى لندن موضع حفاوة كبيرة وترحاب عظيم، وتبودلت الزيارات والمآدب ومجامع التعارف ومحافل الاستقبال والتكريم.

وفي الحادي والثلاثين من شهر مارس — وقد وافق يوم اثنين — كان الاجتماع الرسمي في قاعة «لوكارنو»، تلك القاعة التاريخية العظيمة التي سميت باسم المعاهدة التي عُقِدَت فيها؛ هنالك اجتمع الفريقان … هذا قويُّ له في البحر الفُلْكُ المشحون، وعلى صفحة الأوقيانوس ضَخمُ السفين يجري باسمه رهيبًا، وفي الأرض عزَّ مكانهُ يحيي أممًا ويميتُ شعوبًا؛ وهذا قويٌّ بالروح، خالٍ من السلاح، عُدَّتهُ الحق، والحقُّ من الله، وصيَالُهُ بقوة الإيمان، والإيمان في الأرض عظيم، وكان مكانه في السماء عليًّا.

اجتمع الفريقان: هذا اغتصب حقًّا، وهذا يطلب حقًّا، وكان الأول جبارًا من قبل عنيدًا، وكان الثاني على الدهر صبورًا جليدًا، وكان في مقدور الجبار أن يرسل عليه من السماء كسَفًا وحديدًا وبارودًا، فيرده هشيمًا حصيدًا، وكان في عذر الضعيف حياله أن يستنيم له أو يبغي عن طلب الحق قعودًا، ولكن إيمان هذا الضعيف ردَّه قويًّا وعصمه من شر اليأس، فنهض متجلدًا بالروح أبيًّا؛ فإذا حرب خفية بين القوة بماديتها وبين القوة بعقيدتها، وإذا الفريقان في قاعة السلام مجتمعان، جهاد وإيمان، وحذر واطمئنان، ومخافة وأمان. وعلي الزمن أمل؛ فإن صح تصادق الشعبان، وإن خاب لم يخسر ممثل مصر شيئًا، ما دام القوي بالحق عليه ثابتًا يقظان لا ينام.

وخطب وزير الخارجية البريطانية، وهو يمثل القوة فوق الحق، وخطب الزعيم مصطفى وهو يمثل الحق فوق القوة؛ فإذا بالخطيبين يجتمعان عند معنى واحد: هو الحق والقوة مجتمعان. ومن قبل هذا جرى لقاء فكان لقاء في الخفاء، كأنما التقى الفريقان على مساومة وشراء. وقد اجتمع يومئذٍ في شخصي هندرسن ومصطفى النحاس، اجتماع الأنداد والنظراء.

وفي خطبة الافتتاح ذهب هندرسن يقر بعد إنكار قائلًا: «ها نحن أولاء نستقبلكم، ونرحب بكم، يا سيدي، كممثل للأغلبية الكبرى لشعبكم»، فكان ذلك أول بداية الحق في مفاوضة بينه وبين قوة السلطان.
figure
مصطفى النحاس باشا في لندن أثناء مفاوضات سنة ١٩٣٠.

وكانت الحكومة البريطانية قبل ابتداء المفاوضات قد أعلنت عند عرض مقترحاتها أنها لا تقبل تعديلًا، وأنها آخر ما يمكن عرضه أو التفاهم عليه، وكان ذلك مغريًا بيأس، مثبطًا للعزائم؛ لأن صاحب المشروع قد أراد أن يحمي مشروعه من قوة الحق، خيفة على ما فيه من باطل أن يتداعى بمجرد لمسة اليقين.

ولكن الوفد سافر ومصر في ركابه، وتاريخ خمسين سنة في الجهاد أو تزيد يؤيده ويهيب به وهو القويُّ الرابط الجأش، لا يركن إلى سلاح، ولا يستند إلى جيش ولا إلى أسطول؛ فلم تكد تبدأ المفاوضات حتى اعترف المفاوض الإنكليزي له بزعامته في أمته، وأجرى المفاوضة في وضح النهار ورائعته، وقامت مصر وإنجلترا محتفلتين لها، ساهرتين عليها، متيقظتين لمسيرتها. وإذا هنالك لهف وهنا انشغال بال، وقد نسي الناس في مصر هموم عيشهم ومشاغل حياتهم، وتلفتوا صوب العاصمة الإنجليزية، بقوة الأمل، وجلال الروحانية، يتابعون كل صغيرة من أمر المفاوضات، كأنما هي معطية كل فرد منحة إن هي نجحت، أو حرمته من متعة خاصة إذا هي مضت بغير نجاح.

وأقبل الوفد المصري على المقترحات مجاهدًا، ونسي المقترح وعيده ومشيئته، فدارت معركة المناقشات سجالًا بين الفريقين، حتى استطاع مصطفى أن يحدث فيها جديدًا، ويحذف منها بنودًا، ويطلب عليها مزيدًا، ولم يبال صيحات المستعمرين، وقد هاجت يومئذٍ هائجاتهم، وثارت ثائرتهم، ولا أبه بحملات الغلاة من المحافظين؛ فقد ظهر في ذلك الوقت كثير منهم يحاولون إفساد أفق المفاوضات بالمكائد والمؤامرات والمطاعن والحملات، بل راح مصطفى يكافح بكل قواه، ويسهر على الحوار إلى الصباح.

أفعلمتم كيف كان يومئذٍ ذلك الجهاد؟! لقد كنا نيامًا في هدأة الليل وغمرة السكون، وهناك في قلب العاصمة الإنكليزية ووسط الزمهرير الجليد، جلس بعض أفراد منا يتكلمون في مصيرنا، ويكافحون لحق بلادنا، ووجدهم الصبح قيامًا وقد نسوا حق الطبيعة البشرية في سبيل حق الوطنية الأبية.

وانقضت ثلاثة أسابيع في الكفاح لمصر، إن غمض خلال الجفن فلم تغب فيها مصر عن الفكر والخاطر والحلم، وإن استراح البدن فما استراح الذهن، ثلاثة أسابيع طوال، قطعها المفاوضون الأبطال في بحث مستمر ومناقشة قائمة ودفع وتجاذب متواليين، وهم يتقدمون خطوة فخطوة، ويستردون حقًّا فحقًّا، ويسيرون إلى النهاية بقوة الإقناع والكياسة والحذق والحذر والأناة والرغبة الصادقة في الفوز والتوفيق.

ابتدأت المفاوضات بعد تبادل خطبتي الافتتاح بالبحث في المبادئ العامة وترتيب العمل، وتنظيم برنامج المباحثات، ثم انعقدت الجلسة الثانية في ٣ أبريل فاستغرقها المفاوض البريطاني في إبداء ملاحظاته على المشروع المصري الذي قدمه مصطفى النحاس تعقيبًا على المقترحات المعروضة عليه، وخُصَّت الجلسة الثالثة في اليوم التالي ببحث المواد المتعلقة بحق مصر في حماية الأجانب، وقد أظهر مصطفى في هذا الجزء من المقترحات براعة مدهشة، وحضور بديهة عجيبة، ومنطقًا قاطعًا قويًّا يأخذ على خصمه السبيل، ثم النص الخاص بحالة «خطر الحرب» واحتمال توقعها، ووجوب تبادل الرأي حين ظهورها؛ فقد وقف المفاوض المصري الحريص الأبي النزيه في ذلك موقفًا رائعًا حقيقًا بالإعجاب والتدوين.
figure
مصطفى النحاس.

وأعقب ذلك البحث في الجلسة الرابعة في ٧ أبريل فيما يتعلق بالمسائل العسكرية، وقد اشترك مع المستر هندرسن يومئذٍ رجال الحرب ووزيرها ومستشاروها الكبار، وهم حجج في ذلك وثقات، ولكن مصطفى لم يلبث أن أبدى من المهارة والمعرفة الوثيقة بهذا الباب والعلم العجيب به فائقه ما كان موضع عجب عند منافسيه؛ إذ أظهر خلال الأخذ والرد أن له على كل اعتراض جوابًا حاسمًا، وعلى كل سؤال ردًّا بليغًا مفحمًا، وله بجزئيات هذه المسألة وكلياتها خبرة جندي كبير لا يغيب عنه في هذا الموضوع شيء، ولا تفوته منه صغيرة ولا كبيرة، بل هو الجندي الحديث وعَى علم الجيوش ومطالبها في الحرب والسلام.

وتوالت الجلسات في المسائل العسكرية وبقية المواد حتى بلغت أربع عشرة، كان مصطفى النحاس خلالها يصول في المناقشات ويجول، ويشد ويجذب، ويأخذ ويرد، وهو قائم على ساقيه، فوق أرض صلبة، معتز بمكانه، متكلم بكل إيمانه، حريص على حقوق وطنه. وقد كانت المناقشات تستحمي، والبحث يرتفع مده ويستفيض، والجدل يحتدم ويكاد الأمر يَفْرُط ويفشل، لولا أن يعود الفريقان في سكينة إلى البحث والمجاذبة أو يرجئا الأمر إلى حين.

وفي الجلسة الخامسة عشرة وقد حل السابع عشر من أبريل أعلن الفريق البريطاني المفاوض المصري أنه قد حمل إلى اللجنة البريطانية آخر ما عرضه المصريون فلم تقبل إعادة فرقة إلى السودان، وإنها على استعداد لبحث مسألة الامتيازات الأجنبية مع المفاوضين المصريين، وأن المستر هندرسن مضطر إلى إلقاء تصريح في البرلمان بعد ساعة من الزمن، وسيضمِّنه أحد أمرين: إما أن المفاوضات فشلت وانقطعت، أو أن الاتفاق قد تم على كل شيء إلا مسألة أو مسألتين أرجئ من أجلهما إلى ما بعد عطلة عيد الفصح.

فكان جواب مصطفى النحاس أنه في حالة يستحيل عليه فيها القبول، ولكنه مضطر إلى استشارة زملائه في مصر، فهو إذن محتاج إلى بعض الوقت؛ لأن المسألة على جانب كبير من الخطورة، فرد المستر هندرسن بأنه لا شك أن من العدل إجابته إلى هذا الطلب، ثم عرض صيغة التصريح الذي أعده ليلقيه في مجلس العموم ليكون مصطفى النحاس على علم به قبل إلقائه.

وانتهت الجلسة بالاتفاق على أن يتلاقى الفريقان بعد عشرة أيام، وفي هذه الفترة أرسل مصطفى باشا إلى زملائه الوزراء في مصر رسولًا يحمل إليهم كتابًا منه يصف لهم ما جرى في المؤتمر، ويبسط لهم وجه الخلاف، وقد ختم ذلك الكتاب بقوله:

عجبنا لذلك كل العجب، وفهمنا منه أنهم لا يريدون أن يطبقوا النص الخاص بالسودان على حقيقة مفهومة؛ أي أنهم على نية مبيتة بألا تشترك مصر في إدارته، ولا أن ترسل جيشًا إليه، وأن كل ما يكون لها فيه هو أن ينوب الحاكم العام عنها في هذه الإدارة.

لم نقبل ذلك، ثم جرت لنا عقب الوليمة التي أقمناها بالمفوضية أمس محادثات خاصة تأكدنا منها هذا المعنى، وأنهم يقصدون بتسوية المسألة المصرية أن تكون التسوية فعلية بالنسبة لمصر واسمية بالنسبة للسودان، بحجة أن البرلمان والشعب الإنجليزي لا يقبلان الآن تغييرًا في حالة السودان الراهنة، على أن الباب مفتوح لإعادة النظر في هذا الأمر في المستقبل عندما تتحسن الأحوال، وتكتفي مصر الآن بما هو مذكور في المادة ١٣ من أن حقها محتفظ به لمفاوضات مقبلة. وعلى أثر هذه المحادثات الخاصة اجتمعنا مع اللجنة في المفوضية، وحاولنا تحويلها عن خطتها، ولكن بغير جدوى، وأخبرنا المستر هندرسن بأنه هو واللجنة مصرون على رأيهم، وأنه سيجيب غدًا صباحًا (أي اليوم) على سؤال في مجلس العموم خاص بنتيجة مفاوضاته معنا، وأن إجابته تتوقف على رأينا في مسألة السودان. ولما كان الوقت متأخرًا عرض علينا أن يكون لنا اجتماع في الساعة العاشرة صباحًا قبل جلسة البرلمان لنعطيه هذا الرأي حتى يستطيع أن يرتب إجابته عليه. وكان المستر كامبل حاضرًا مع لجنة هندرسن في اجتماع المفوضية، فعرض علينا بعد انفضاضه، باعتبار أنه يسعى مسعى شخصيًّا للتوفيق، أننا إذا قبلنا أن نكتفي بإعادة أورطة مصرية إلى السودان بمجرد سريان المعاهدة، فإنه يقنع اللجنة بقبول هذا الحل، فوافقناه على ذلك، ولكنه أخبرنا قبل اجتماع الصباح بأنه حاضر من قِبَل اللجنة ليخبرنا أنه لم ينجح في مسعاه، وأن المستر هندرسن يريد أن يعد إجابته بأحد أمرين: فإما أن يعلن فشل المفاوضات إذا لم نقبل، وإما أن يعلن أنها لا تزال مستمرة وهو يأمل نجاحها إذا قبلنا أو فهم أننا لا ننوي الرفض؛ فأجبناه بأن يبلغ اللجنة أننا سنستشير زملاءنا في مصر، وعلى أثر ذلك حضر إلينا المستر هندرسن وأطلعنا على الرد الذي أعده لمجلس العموم، ثم اتفقنا على أن نجتمع عندما يأتينا الرد منكم، وحددنا لذلك اثني عشر يومًا.

هذه هي حقيقة الحال، أردنا أن تمدونا برأيكم فيها، مع الاحتفاظ بسريتها، والله يوفقنا جميعًا لما فيه صيانة حقوق البلاد، والسلام.

وقد حمل هذا الكتاب الأستاذ محمد صلاح الدين أحد أعضاء سكرتيرية الوفد الرسمي والسكرتير الخاص لزعيم البلاد، قادمًا به إلى مصر على متن إحدى الطائرات، فوصل في مساء الثاني والعشرين من أبريل، وعلى أثره اجتمع الوزراء ولبثوا يجتمعون يومين متواليين لدراسة الرسالة التي تلقوها، وتقليب وجوه الرأي فيها، ووضعِ قرار بما يرونه بسبيلها، ومثل الأستاذ محمود فهمي النقراشي وزير المواصلات يومئذٍ بين يدي الملك لعرض الأمر عليه وتلقي مشورته.

وعاد الرسول بالجواب مستقلًّا الطائرة «سيتي أوف جلاسجو» إلى لندن، ولكن السائق ضل الطريق في سفره، فلم يصل الرسول في الموعد المنتظر فقلقت الخواطر عليه.

وحل موعد استئناف المفاوضات في التاسع والعشرين من أبريل، ولم يصل الرسول إلى لندن، فاجتمع الفريقان في الموعد، ولكنهما لم يواصلا البحث وإنما أجلا استئناف الجلسات إلى ما بعد عودته.

وفي ٥ مايو تلاقى الجمعان، وكان الرسول قد وصل بعد عناء قاساه في الطريق ومتاعب كثيرة وبسبب نفاد الوقود وضلة الاتجاه. واستؤنف البحث في مسألة السودان فاحتدمت المناقشات بين هندرسن والنحاس، وراح كل منهما يناضل الآخر ويجاهده ويغالبه، حتى توالت الجلسات ومصطفى النحاس ثابت في مكانه، مستمسك برأيه وحجته، فلم يجد هندرسن مناصًا من التراجع ومحاولة التراضي والخروج من المآزق الأخيرة بسلام.

وكانت أخيرًا الجلسة التاسعة عشرة في ٦ مايو سنة ١٩٣٠، وهي الجلسة التاريخية الرهيبة التي اختلى فيها مصطفى وهندرسن ومكرم عبيد ساعتين كاملتين تحدثوا جميعًا خلالها في سبيل إيجاد حل لصعوبة السودان، فاقترح مصطفى باشا على المستر هندرسن في آخر الأمر صيغة تجمع بين الحلول المختلفة، فوافق عليها وطلب أن تكتب بالإنكليزية، فأجاب دولته بأنه أولى أن توضع الصيغة بواسطة موظفي وزارة الخارجية الإنكليزية حتى لا تكون مثارًا لأي خلاف فيما بعد.

وكان النص الذي اتفق عليه الفريقان هو:

مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، قد اتفق الطرفان المتعاقدان على أنه بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من هاتين الاتفاقيتين. وكإحدى نتائج اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، يواصل الحاكم العام بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضى الاتفاقيتين المشار إليهما.

وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على أن يدخلا — إذا طلب أحدهما ذلك — في مباحثات ودية بشأن تطبيق الاتفاقيتين المذكورتين في خلال اثني عشر شهرًا من تنفيذ المعاهدة الحالية.

وقد وافق الفريقان على هذا الحل الحسن بالإجماع، فتبادلا التهنئات الحارة، وأبديا معًا السرور والاغتباط بهذا التوفيق.

وانصرف الفريقان على أتم التفاهم وموعدهما الغد …

واستطارت أنباء هذا النجاح بعد طول الشد والجذب إلى مصر في الليلة ذاتها، فعمها الفرح، وأقام أهلها ساهرين من فرط السرور والجذل، وشاعت الأخبار المفرحة في المجالس والمجامع، فسرت موجة ابتهاج في البلاد، وبتنا نحن في دار «الكوكب» نطفر من مراح، ونقطع الليل إلى الصباح في قصف ومسرة وهناءة.

ولم يشك أحد في أن النهاية قد انتهت بفوز، وأن مصطفى النحاس قد انتصر، وهو بالنصر معتز؛ فقد جاهد لحق الطبيعة وحق الأبد، وأدى ما في العنق، ووفى الذمم، وأقدم ولم يُحْجِم؛ بل لقد شرَّف مصر وجهادها، وصان ذكريات أمسها وجلال حاضرها، وغيب غدها، وسار في المفاوضات شهمًا أبيًّا، وكان خلالها فخار مصر في سمع العالم وعين الدنيا. فكم كَلَّفَه هذا الموقف العظيم من عصارة روحه، وحشاشة مهجته، وينابيع بطولته! ولا يمكن أن يتصور أحد على الحقيقة العناء الذي عاناه في هذه الفترة القصيرة من الزمن، المستطيلة المضنية في تأثيرها وسلطانها على النفس والذهن، فترة جهاد جبَّار لمستقبل أمة، ومصير شعب، والخوف على الحاضر وخشية الغيب، ومن يكُ في ريب مما قاسى الزعيم واحتمل، فليضع نفسه في الخيال موضعه، وليتصور نفسه في ذلك الموقف ويتمثل، وحياله أساطين السياسة وكبار أهلها، من كل ذكيٍّ حاذق عجيب الحِيَل، ثم ليعد إلى نفسه مؤمنًا بما كان من مصطفى في ذلك الصراع الهائل بين الحق والباطل، فإن مجرد تصوره في الخاطر مخيف مذهل، فكيف بمباشرته في الواقع، وخوض تياره الغامر، وموجه الزاخر، وإعصاره الرهيب؟!

وطبقًا للموعد السابق اجتمعت اللجان في غداة اليوم التالي للانتهاء من المسائل التفصيلية. وفيما هي تعمل بجد للفراغ من الصيغ النهائية، إذ حضر المستر هندرسن عائدًا من مجلس الوزراء ليفاجئ القوم بنبأ أليم، وهو أن المجلس قرر رفض المادة الخاصة بالسودان، والتي قبلها الفريقان، وأن معارضته تنصب على الشطرة الثانية منها التي تنص على دخول الطرفين المتعاقدين «في مباحثات ودية بشأن تطبيق اتفاقيتي السودان خلال اثني عشر شهرًا من تنفيذ المعاهدة».

أمام هذا النبأ المروع الأليم اجتمع مصطفى النحاس بالمستر هندرسن لمحاولة إنقاذ الموقف، ولكنهما لم يصلا إلى حل موفق، فتواعدا على اللقاء في أصيل اليوم بالذات.

وتلاقيا في الموعد المضروب، وراح كلٌّ منهما يحاول من جانبه ويعرض صيغًا ويبتكر نصوصًا ويبدئ ويعيد، متناولين مسائل الهجرة والمِلْكِية والتجارة في السودان. وانصرف المستر هندرسن مع الدكتور دالتون بعد خلوة لهما في الواحدة صباحًا، ثم عاد الأول حوالي الساعة الثالثة من منتصف الليل، فأنبأ مصطفى ومكرم أن الفريق البريطاني يطلب تحديد الموقف في مسألة السودان على أساس ما اقترحه مجلس الوزراء من حذف الشطرة الثانية التي مر ذكرها، وقبول النص القائل بأن الحكومة البريطانية تنظر في المستقبل بعين العطف إلى عودة كتيبة من الجيش المصري إلى السودان، وتعديل المادة الخاصة بالهجرة والملكية والتجارة فيه؛ وطلب من مصطفى النحاس رأيه في ذلك جميعًا، فقال دولته إنه متعب بعد عمل مُضْنٍ استمر حتى الساعة الثالثة صباحًا، ولا يستطيع أن يتلقى منه هذا التغيير الشامل في الموقف، ولكنه على رغم تعبه يستطيع الاستمرار على نظر المسائل التفصيلية؛ أما أن يتلقى ما يقلب الموقف رأسًا على عقب، فذلك ما لا يستطيعه؛ لأنه بحاجة إلى الراحة قبل أن يتلقى هذا التغيير الفجائي والانقلاب المباغت.

فقال المستر هندرسن إن مجلس الوزراء سيجتمع في العاشرة من صباح اليوم التالي ٧ مايو، ففي الإمكان الاجتماع في الساعة الحادية عشرة لتبدي لنا رأيك فيما عرضته عليك الآن، فأجاب مصطفى باشا قائلًا: «إني أعتبر أنك لم تعرض عليَّ شيئًا الآن، ولك أن تعرض ما تشاء عند العودة إلى الاجتماع، ولعل راحة الليل تهديك إلى اجتناب ما يترتب عليه انهيار هذا البناء الشامخ الذي أقمناه!»

وانصرف القوم إلى المضاجع على مطالع النهار.

وترامت أنباء هذه النكسة الفجائية إلى مصر، فأحست صدمتها، وشعرت بهزة من فجأتها، ولكنها عادت إلى بأسها وجلدها، فسكتت ورضيت وعرفت كيف تتجلد لهذا الخطب العظيم.

لقد أرضتها أخبار النجاح أولًا كما أرضتها أنباء الخيبة آخرًا، وكان رضاها بالنجاح أنها ستعقد اتفاقًا شريفًا وطيدًا بينها وبين بريطانيا يصون حقوقها، ويرد عليها استقلالها، وكان باعث هذا الرضى أنها تريد أن تفرغ من الجهاد للسياسة إلى الجهاد للإصلاح؛ فقد فَرطَتْ عليها سنون شُهْبٌ شداد، استنفدت السياسة فيهن منها كل تفكير، واقتضى الجهاد خلالهن عندها كل بحث ودأب، ومضى الحكم فيها قسمة سياسية وتناحرًا وطنيًّا، لا يكاد يقع لفريق حتى تثور العواصف العاتية، فتدفع به إلى فريق. وفي مصر مشروعات حيوية تريد الفراغ لها، وشئون داخلية خطيرة تطلب التوفر عليها، فلا جرم لقد كانت أنباء النجاح أولًا سارة مرضية؛ لأن معناها الفراغ من القضية الخارجية لإلقاء البال كله إلى القضايا الداخلية، وهي على كثرتها وحيويتها قد تراكمت حتى بات إرجاؤها مؤذيًا، والرغبُ عن تناولها بالبحث والتنفيذ مضرة بالغة.

لقد رضيت مصر، إذ جاء البشير وأفعم النفس رضًى، بأن الإنكليز قد عرفوا لها تسامحها؛ لأن من عجيب أمر السياسة أنه بينما يقول أصحاب الحق: هذا حقنا، يقول الغاصبون: ولكن ما رأيكم في مصالحنا. وقد خرجت المسألة من الصراع بين الحق والباطل إلى النزاع بين الحقوق و«المصالح»؛ فرأى العقل وأوجبت الحكمة أن تصان الحقوق إذا لم تَتَحَيَّفْ جوانبَها المصالح، وما دمت لا تستطيع أن تنفي مصلحة غيرك وهو القوي ذو السلطان، فإن العقل مقتضيك ألَّا تنفي حقك من أجل نفي تلك المصلحة.

رضيت مصر بأنباء النجاح الباكرة؛ لأن المحالفة الشريفة هي مطلبها الأول، وصيانة استقلالها هي مبدأها الأكبر وغرضها الأسمى، وقد جاهد مصطفى والذين معه لضمان ذلك أروع الجهاد، وأبدوا من آيات الحكمة والنزاهة والحزم والكياسة والبراعة السياسية في أثناء المفاوضات ما كان محل دهشة الساسة الإنكليز أنفسهم، حتى لقد شهد لهم بذلك أشد غلاة المستعمرين.

ولقد ظل «ممثل الأغلبية الكبرى» في أثناء المفاوضات يداورهم ويسايرهم من ها هنا وها هنا، ويدانيهم من هذه الناحية، ويستشفُّ دخيلتهم من أعجب المسالك الخفية، حتى كشف عن نياتهم الحقيقية، وأثبت أن مصر لم تسئ فيما فعلت، ولم تخطئ فيما طلبت، وأن رائد وفدها الحكمة والحق والسعي إلى التوفيق والرغبة الصادقة في التفاهم والتعاون والتحالف الشريف بين الأنداد والنظراء.

ولكن الإنكليز اختلفوا معنا؛ لأن ما يطلبونه إلينا هو التسليم لهم بالحياة، والرضى لأنفسنا بالموت، فإذا نحن رفضنا ما طلبوا، فقد أبينا الذل وعرفنا لأنفسنا معنى الكرامة، وحق الحياة، وجلال العزة والإباء.

وكذلك رضيت مصر ببوادر أنباء الفشل؛ لأنه فشل في الحق رائع، فيه الكرامة، ومنه الحياة، ووراءه الأمل، ومن حوله الإباء والإيمان واليقين.

وكان الراضي بالفشل هو أكبر مجاهد، وحامل لواء الزعامة، وخادم الأمة الأمين، وكانت الأمة في إثره راضية.

وقد أصبنا في رفضنا، وأخطأ الإنكليز فيما حسبوه صوابهم؛ فقد شددوا في أمر السودان تشديدًا كشف عن سوء نياتهم، على حين تسامحنا نحن تسامحًا كشف عن صدق رغبتنا، ورحنا أمام تشددهم بكياسة الساسة الحاذقين نحاول أن نجد علاجًا للمشكلة بعد علاج، ونصف دواء بعد دواء؛ ولكنهم أبوا ذلك جميعًا، ونأوا بجانبهم، بل لقد تناهى بهم العناد إلى رفض إرجاء النظر في المسألة، وهو أمر يبعث على الريب، ويفتح أبواب الشك، ويرينا مبلغ الجهاد العنيف الذي اضطلع به مصطفى النحاس وأصحابه الأبرار المجاهدون.

لقد رضيت مصر على كلتا الحالتين، والمجد لها في رضى الفشل أروع من المجد لها في رضى النجاح؛ فإن مجد الفشل جلالٌ وإباءٌ وعزة شماء، والشعور بالنجاح هو الفرح والإحساس بالهناءة، وشتان بين الحاستين، فإن الفرح قصير العمر، يعاجله النسيان، وهيهات أن يكون لمجد الآباء نسيان.

وكانت الجلسة الختامية، وهي الثانية والعشرون، في اليوم الثامن من مايو سنة ١٩٣٠ حيث التقى الجمعان لآخر مرة مع آخر أمل، ولكن مجلس الوزراء البريطاني أبى إلا التمسك باعتراضاته بشأن مسألة السودان، رافضًا كل تعديل، حاذفًا من المادة بعد إقرارها في المؤتمر كل ما يشير إلى «دخول الفريقين في مناقشات ودية بعد سنة من تاريخ تنفيذ المعاهدة، وذلك بالنسبة لتطبيق اتفاقيتي سنة ١٨٩٩، الخاصة بالاشتراك الفعلي في إدارة السودان».

وإزاء هذا الإصرار الفجائي الغامض لم يسع مصطفى النحاس باشا إلا أن يعود إلى زملائه ليفضي إليهم بهذه النتيجة؛ فقرروا بالإجماع أن يكون ردهم كما يأتي: «يتمسك الوفد المصري بالنصوص التي عرضها بصدد مسألة السودان، ويأسف أشد الأسف إذ بعد أن بذل أقصى ما يستطيعه من التساهل في المسألة المصرية كلها بأمل الوصول إلى اتفاق عادل في مسألة السودان، ينتهي الأمر إلى حالة لا يمكن قبولها على الرغم من شدة رغبته في الوصول إلى اتفاق شريف وطيد بين البلدين؛ لأن في قبول هذه الحالة مَضْيَعةً لحقوق مصر المقدسة في السودان.»

فأجاب المستر هندرسن بأنه يشارك الوفد المصري أسفه على ضياع الجهود التي بذلها الفريقان، وأن المسألة المصرية ستكون باقية عند ما تم التفاهم عليه؛ فإذا عدَّلَ الفريق المصري في المستقبل موقفه أمكن الوصول إلى الاتفاق، ثم أضاف أن الطرفين يفترقان وهم أصدقاء، واقترح دعوة زملائه ودعوة أعضاء الوفد المصري الآخرين لتبادل السلام؛ فقال دولة النحاس باشا: «إن ما كسبناه من هذه المفاوضات هو الصداقة الشخصية بيننا وبينكم، ولقد بذلنا غاية جهدنا للوصول إلى حل لمسألة السودان حتى لا تفشل المفاوضات، وعرضنا تأجيل هذه المسألة إلى وقت آخر يُتَّفَقُ عليه بيننا، فلم تقبلوا هذا الحل، ونحن نوافق على ما ذكرتموه من أن المسألة المصرية باقية عند ما تم التفاهم عليه، ونأمل من جهتنا أن يُعَدِّلَ مجلس الوزراء البريطاني موقفه في المستقبل حتى يمكن الاتفاق. أما فيما يتعلق باستدعاء زملائكم فيهمنا بكل تأكيد أن نصافحهم مودِّعين.» فقال المستر هندرسن: «لا أظن أن مجلس الوزراء البريطاني يعدل رأيه، والواقع أن الحل الذي عرضناه عليكم هو تأجيل لمسألة السودان.» وأجاب دولة النحاس باشا: «نعم، ولكن بعد تسجيل الحالة القائمة الآن فيه.»

واجتمع الوفدان بعد ذلك بكامل هيأتهما، وتبادل المستر هندرسن ودولة النحاس باشا الخطابين الآتيين:

المستر هندرسن : «مما يُؤسَف له حقًّا أن تنتهي كل هذه المجهودات الشاقة المضنية بالفشل، خصوصًا بعد أن وصلنا إلى الاتفاق على جميع المسائل الخاصة بمصر، ولكننا لم نستطع إزالة الخلاف القائم بيننا في مسألة السودان، فنحن نجتمع الآن لنعلن انتهاء المفاوضات، وانفضاض المؤتمر الذي عُقِدَ لتسوية المسألة المصرية الإنجليزية.
ويهمني في هذا المقام أن أصرح لكم باسم حكومتي بأن مشروع المعاهدة كما تم الاتفاق عليه سيبقى قائمًا، فإذا وجدتم بعد عودتكم إلى القاهرة ومناقشة المسألة مع أصدقائكم فيها أن هناك أملًا في أن يصبح هذا المشروع معاهدة مقبولة من الجانبين، فإني وزملائي مستعدون لمحاولة الوصول إلى اتفاق على النقط القليلة الباقية في المذكرة الملحقة بالمعاهدة ليصبح التوقيع عليها ميسورًا.

إنني أكرر الأسف، وأعتقد أن قسمًا كبيرًا من الشعب البريطاني يشاركني هذا الأسف على النتيجة التي وصلنا في النهاية إليها.

ولكن إذا كان قد أخطأنا النجاح، فإننا نفترق الآن بنفس الروح الودية التي سادت مفاوضاتنا من يوم وصولكم إلى لندن.»
النحاس باشا : «يا سعادة المستر هندرسن، ويا حضرات زملائه المحترمين، لا يسعني إلا أن أسجل هنا ما أبداه الجانبان من الرغبة الأكيدة في تذليل الصعوبات التي قامت في طريق حل المسألة المصرية الإنجليزية بشكل مُرْضٍ للطرفين، وما بذلاه من مجهود صادق في هذا السبيل. ونحن نشاطركم شديد الأسف على فشل هذه المجهودات بعد أن حاولنا جهد الطاقة الوصول إلى حل مُرضٍ لمسألة السودان، فلم نوفق في ذلك؛ لأن الخلاف بيننا في هذه المسألة خلاف كبير الأهمية عندنا، ولأن قبول وجهة نظركم فيها يضيع حقوق مصر المقدسة في السودان.
لهذا لم نستطع الوصول إلى الاتفاق المنشود.

وإذا كان قسم كبير من الشعب البريطاني يشاطركم الأسف على النتيجة، فإن الشعب المصري يشاطرنا أيضًا أسفنا على هذه النتيجة؛ لأن من مصلحة الشعبين أن تُسوَّى المسائل القائمة بينهما تسوية خالصة عادلة تصون الحقوق والمصالح جميعًا. ومن أجل ذلك بذلنا مجهودًا عظيمًا للوصول إلى تسوية على هذا الأساس، حتى يمكن عقد المعاهدة بإخلاص وأمانة تشرف الموقعين عليها.

وإذا كنا لم نوفق في بلوغ هذه الغاية، فإنني وزملائي نختتم عملنا في هذا المؤتمر بنفس الروح الودية التي بدأنا بها، حاملين للمستر هندرسن وزملائه خير عواطف الصداقة.

ونرجو أن ترى الحكومة البريطانية مع الزمن أن ما عرضناه عليها حل عادل يمكن أن نتلاقى معها على أساسه.

وإذا كنتم قد طلبتم منا أن نفكر بعد العودة إلى بلادنا في الأمر، فإننا كذلك نرجو أن تنظر الحكومة البريطانية فيه، حتى إذا رأت أن هناك أملًا في تقريب مدى الخلاف، عَاوَنَ ذلك معاونة جدية على الوصول إلى الحل المنشود، وبهذه الطريقة يظل الباب مفتوحًا بيننا.

وإني في الختام أكرر شكرنا للمستر هندرسن وزملائه ومعاونيهم الفنيين على ما قابلونا به من الترحيب، وما بذلوه من المعاونة في هذه المهمة الشاقة، وكل مشقة تهون في سبيل صالح البلاد.»

وعلى هذه الصورة انتهى المؤتمر بفشل فجائي، وقد كاد من قبل يتم له التوفيق، فظل باعث ذلك التحول السريع المباغت الذي بدا من مجلس الوزراء البريطاني، مع أن أربعة منه كانوا يساهمون في المفاوضات، وقد قبلوا النصوص الأخيرة وتبادلوا التهنئات مع المفوضين المصريين؛ سرًّا مجهولًا إلى الآن، ولكن أكبر الظن أن دسائس اصطنعت في الخفاء من وراء الجانبين المتفاوضين، وأن هذه الدسائس جاءت في اللحظات الدقيقة وبصدد أخطر مسألة من المسائل المعروضة، فلقيت النجاح، وحطمت ذلك البناء الشاهق الذي بناه الفريقان المتفاوضان كل تحطيم.

وقد لبث مصطفى في لندن بعد حبوط المؤتمر أيامًا استعدادًا للمآب، وفي هذه الفترة اتصل به كثير من الإنكليز ليراودوا إرادته على التساهل في قبول ما عرضه مجلس الوزراء البريطاني والتسامح قليلًا في مسألة السودان، ملمحين له بأن النتيجة إذا هو أصر على التمسك بنصوصه سوف تكون سيئة إذا هو عاد إلى وطنه، ولكنه لم يُرَعْ من كل ذلك الوعيد الخفيِّ ولم يجزع، وقال قولته الخالدة في محضر كبير من الناس، وفي لهجة العزة والكرامة والوطنية العالية: «أوثر أن تشل يدي على أن أفرط في السودان!»

وقد كان هذا الموقف الجليل من مصطفى النحاس في الحرص على حقوق بلاده خليقًا بأن يسجل في كتاب الشرف الوطني كأعظم المحمدة، ويدوَّن في سجل الفخار كأروع المفخرة؛ فقد بدا في غمرات المفاوضة المثلَ الرائعَ للبطل الوطنيِّ الذوَّاد عن أمته، والزعيم الأمين على حق وطنه وعشيرته، والأبيَّ العظيم العجيب في بطولته؛ فاستحق من الأجيال الغابرة الحمدَ في السماء، ومن الجيل الحاضر الشكر والثناء، ومن الأجيال القادمة الإكبار لحقه والوفاء.

هو عمل من أعمال البطولة، وهي صفة من صفاته، فلا عجب فيه، ولا غريب فيها؛ لأنه كذلك نشأ، وكذلك عاش، وكذلك تولى الرياسة، وجاءته الزعامة طائعة، وفعال البطولة كلها في المواقف رائعة، وحسناتها في الناس جامعة مانعة، وقد أدى مصطفى النحاس بها تعريفه للدنيا، وساق معناها إلى العالم، ثم جاءت الحوادث الجسام، فكان منها أنسب تعبير عن البطولة الوطنية، وأبلغ المعاني في سجل الزعامات، وكتاب الشرف والمفاخر، وحساب العظمة البادهة النادرة. وإذا صح ما عرفه الناس من معاني البطولة ومظاهرها المتعددة، فقد صح في لغة الدنيا أن يكون مصطفى نوعًا بديعًا من البطولة في عصر تشابه فيه علينا الصغار والكبار، والدجاجلة والأبطال، والهيِّن والمُحَال، والكبرياء والجلال، والكاذبون والصادقون، والممثلون والمهرجون والأشخاص الحقيقيون، وكثرت فيه الدعاوَى الباطلة، وانزوت الأخلاق الفاضلة، واختلفت عنده أقيسة العظمة، وموازين الفضيلة؛ فقيل إن أعظم الساسة أكذبهم، وأبرعهم أدهاهم، وأمهرهم أخبثهم؛ بل راحت السياسة فيه عنوانًا على جملة معاني الكذب والخديعة والمكر السيئ؛ فإذا نحن اليوم أمام بطولة كل زينتها الصدق، وعظمة رائعة كل جلالها في جلال الكرامة والشرف والإباء، وكل فضلها في الثبات والأمانة والوفاء.

هي بطولة أخلاق ظهرت بأتم جمالها، في موقف عظيم مثلها، وأمر اصطلحت عليه المغريات، وحفته المكاره، وأحاطت به المخاوف والهواجس، وأحدقت به المشاكل والأخطار؛ فلم ترتبك هذه البطولة الخلقية، ولم يُغَمَّ عليها، بل وجدت طريقها واضحة أمامها؛ فسلكتها إلى آخرها، ولم تتساقط على القارعة من الحيْرَة أو التردد أو الإعياء.

لقد وقفت هذه البطولة الصادقة موقف شرف وفخار، ورُبَّ هزائم وخيبات أروع وأجل من كل انتصار!

لم يفرِّط مصطفى النحاس في السودان، وكان كل فرد في مصر حريصًا عليه، وكلهم كان يوم ذهب مصطفى للمفاوضة يسائل خاطره: وماذا هو صانع في مسألة السودان؟

لقد صنع مصطفى ما كان ينبغي أن يُصنَع، لقد أبى أن يفرط، وآثر أن تقطع يمينه على إمضاء وثيقة التسليم؛ فسجل له التاريخ هذا الشرف، وكتب له في ألواحه هذا المجد العظيم.

وتأهبت البلاد لاستقبال مصطفى عند عودته، معتزة بإبائه وحرصه على حقوق أمته؛ فإذا الإسكندرية قبيل موعد أوبته قد لبست وتجمَّلت، وتزاحمت واحتشدت، وإذا القاهرة تمسح الثياب، وتختار الصحاب، وتستعرض الأردية لتشتمل بالبُرد الزاهية، والآباء قائلون للبنين: يا بَنِيَّ إنا لنخشى عليكم الزحام، ويقول البنون: نحن الزحام، أفيخشى الزحامُ الزحام؟! وتتعلق الزوجات بأكتاف الأزواج، ويقلن: أهذا يوم الخروج؟! أفلا تقعدون مع القاعدين؟! ويجيب الرجال النساء: إنا إذن لجاحدون! … وكرائم العذارى يتنادَيْن، وربات الخدور يتجمعن، قائلات: هلمَّ إلى الشرفات، فإن الموكب من ها آت، وتروح القاهرة، تود لو أنها اجتمعت كلها على الطريق، وكانت للموكب الشارع الأوحد والمخترق، ويود أهلها لو يتسع السبيل لحشدهم أجمعين …

وبين الثغر والحاضرة، قد خرج أهل القرى باكرين لينتظروا الساعات الطوال من أجل اللحظة الخاطفة، ومَرْقَةِ القاطرة المزغردة الهاتفة، وهم يصفقون وإن لم يتبينوا شيئًا، ويهتفون وإن لم تنكشف لهم من القطار كاشفة، والولدان الصغار يعدون على الجسور تحت وَقدة الشمس مصفقين مارحين، وهم لا يعلمون لم صفقوا، ولا يدرون علامَ المرح، وإنما رأوا الكبار في فرح، فاشتركت الإنسانية الصغيرة مع الآباء بالغرائز الطاهرة، تجيب بالهتاف على القاطرة الطائرة، والزُّرُوع في المروج تتمايل من الكبرياء، كأن قد أحست أن الحريص على الماء قد جاء، وقد آن أن يكون للوفيِّ وفاء.

لقد كان يوم مآب مصطفى هو يوم الشرف والفخار، يوم الشعب. والشعوب للبطولة عاشقة، والأمة لزعيمها تائقة، وأجر الحب لقاء، وهو إعجابٌ بإباء رَفَعَ في الدنيا معنى الإباء، وتمجيدٌ لشجاعة، وإكبارٌ لنزاهة، وشممٌ ووطنيةٌ صادقةٌ.

لقد كان يوم الاستقبال يومًا في التاريخ، كتب التاريخ قصته، لتروِيَ الأجيال روايتَه، وكان يومًا من أيام الفضيلة، دونت الفضيلة حكايته، وأسمعت الدنيا أنشودتَه. وكان يومًا للبطولة، ذكرت البطولة مروءته، وشكرت الله على ما كان لها في سحابته. وكان يومَ العزة القومية، فخرت الأمة بجلال روعته، وأثبتت للعالم أن كبرياء الأسير لا تموت على سلسلته. وقد جاء اليوم وذهب، وبقيت إلى اليوم على الحاضر صورته.

لقد نَسيَ الناس في ذلك اليوم حبَّ السلامة في الجَرْيَةِ إلى التحية والسلام، ولم يبالوا التدافع والتماوج في وسط الزحام، واستحال الهيَّابةُ من الحياء فيهم الجريءَ المقدامَ، والجموعُ تتهادى إلى الأمام وهم جميعًا أمام، وليس من متسع لأقدام، والأعناق تتطاول، والقامات تشرئب لرؤية البطل المدهش العَجَبْ، وكأنما تلك أول مرة يشهدون فيها الوجوه التي عرفوها، والمعارف التي لم يجهلوها، والصور التي لطالما لمحوها؛ ولكن الخاطر قد راح من فرط الجذل مستريبًا، يَحْسبُ أنه مشاهدٌ عجيبًا، وما من عجب في الوجوه والطلعات، وإنما العجب من هذه الخواطر الخاطفات، تتمثل مصطفى قد تغير مَطْلَعًا، أو لعله قد لبس للحوادث درعًا، أو جاء من معركة دموية يقطر نجيعًا، وعلى محياه من النضال جراح، وتظن أنَّ الصحابَ قد عادوا من الوَغَى مُثْخنِين …!

أيها الناس، هذا مصطفى الذي عرفتم، ها هو ذا يبتسم بسمته التي أخذتكم وسحرتكم، وإنما على البسمة ظلٌّ من شحوب، وفي الوجه أثرٌ من تعب، يخفيه ثمَّ جلال ورهب، وعلى عارضه المتهلل خط الاعتراض على ضياع نصف الحق بنصفه، والإباء الغلَّاب على خوفه، وخط الحرص على شرف قومه وشرفه، وأسطر الفخار ثَمَّ باديات وقد حق التكريم للأوفياء الطاهرين.

شهران في غياب، ولكنهما في مقياس اللهفة كالأحقاب، والزعامة خلالهما مجاهدة، ومصر في ارتقاب، وقد تعاقبت فيهما على الشعب مشاعر عارضة، على مسيرة المفاوضة، يَجِيءُ صبحٌ بنبأ، ويذهب مساءٌ بأنباء، ويقول يومٌ: أنا على شَرَف من النجاح، فأَعِدُّوا معالم الأفراح، وينثني يوم يصيحُ من وراء البحر مناديًا: أنا نذير فلا تَعْجلُوا بجَذَل، فإني على المفاوضة وَجِل، وينبري من هدأة الأسبوع مساءٌ ينادي: لقد عاد أمل. وكذلك جرى الشهران والنفس بين مد وجزر، حتى استقر الجهاد على عِدْوَة الصبر، ومن ورائه إيمانٌ لن يَضْعُفَ آخر الدهر، ورجعنا من الأوبة أباة رابحين …

شهران مستطيلان، كانت الحياة كلها فيهما في كفة القدر، وكان الموت فيهما راصدًا لمصر، ولولا زعيم أُرسِل من وراء الحاضر إلى المستقبل حديدَ البصر، ووازن بين قبول بذل الحياة ورفضٍ شريفٍ أبر؛ لقضى الباطل على الحق، وعدنا بمعاهدة زائفة خاسرين.

وتعجل الناس في «وجبة» الطعام ليسرعوا إلى «الواجب» اللزام للبطل المقدام، والمجاهدين الكرام، ولو أن كل فرد في القوم كان على مرتقب أعز أهله، وأكرم ذوي قرابته، لما لهف على الموعد لهفته الحَريَّ على مشاهدة مصطفى وصحابته؛ فقد خرج الناس خفافًا إلى طريق الموكب قبل أن يبلغ الزعيم القطار ليركب؛ فإذا المدينة في موج من الخلق، والأفاريز جُدُر قائمة من لحم ودم، والطرق صفوف من أناس وقوم، والناس من قائل: نخشى ألا يجيء من هنا. وقد ذهلوا عن الأشراط من حولهم والزحام، وعادت القلوب تطغَى من الفرح على الأفهام؛ ومن متحدث يشرح أسرار السياسة كأنه كان مع الوفد، ويصف السودان كأنه مسقط رأسه والمولد؛ ومن متفلسف يتكلم في حكمة الرفض، ويدلل على قوة الزعامة وصيانة العهد، وكأن على كل خطوة حلقة من ساسة أعلام، وندوة من برلمان معقود، ومجمع مقام؛ والدقائق تمر بطاء، وما أبْطَأ الزمانُ، ولكن كذلك شُبِّه للشعور الفياض وبدا لسرعة الوجدان.

وجاء القطار يتهادى من شَرَف، وتدافع المستقبلون، ونَسيَ الشيوخ الوقورون وقارهم، فتقدموا يتزاحمون، كأنهم في العمر مقتبلون، وأطلق الشباب وجدانهم على آخر مداه، لا الحياء أمسكه، ولا الزحام نهاه، والمستهترون بالحياة من فوق القطار يهتفون، والخلق من تحتهم يتجاوبون، والدويُّ ينبثق من الفِناء إلى الفِناء، ويجد في الرحاب هواتف الأصداء. وأول هتفة على الإفريز لحظة استقر القطار، كانت كالشرارة الكهربائية الموجبة، آخر مداها عند ساقة الزحام، وقد سرت خلال أمواج الإنسانية حتى أتت على اللجة المترامية.

وبدا الزعيم …

لقد أقبل الجلال، وظهر بطل الأبطال، والشجاع الذي صان الاستقلال … مصطفى النحاس، أيها الفاتح الغازي، فتحت لمعنى جديد في الإباء كتابًا، وغزوت الباطل شممًا وغلابًا، وطِبْتَ مذهبًا وحَسُنْتَ مآبًا، وخسرت المعاهدة، وربحت إيمان الأفئدة، فهلم إلينا، فقد تُقنا إليك من أول يوم غِبْتَ عنا، ونحن اليوم أعزة بك، وأنت المنتصر بنا، وقد رفعت رأسنا، وحرصت على حقنا، وحقك اليوم في الخالدين …

وعلى أثر عودة الرئيس إلى أرض الوطن، وذلك الاستقبال الباهر الذي استقبل به عند وصوله، ألقى دولته خطابًا بليغًا في البرلمان بسبيل المفاوضات قوبل بالرضى التام والإعجاب البالغ، وقد شكر فيه زملاءه أعضاء الوفد الرسميِّ، كما شكر أمته التي عرفت صنيعه فكرمته تكريمًا.

وفي الثاني والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٣٠ أصدرت وزارة الخارجية البريطانية كتابًا أبيض يحوي صور الوثائق والأسانيد والمذكرات التي تبودلت في أثناء المفاوضات، ووصفًا شاملًا دقيقًا لسيرها. وكان خصوم الوفد في البلاد قبل هذا ومنذ عودة الوفد ينحون باللائمة عليه، ويتجنون في الحكم على تصرفه، ويمارونه في حكمة موقفه. فلما جاء ذلك الكتاب من خصمه، كان صدمة قوية لهم، إذ راح شهادة ضمنية من الجانب الآخر بمبلغ الجهود العنيفة التي بذلها مصطفى النحاس في سبيل استخلاص حقوق ومزايا كثيرة، لم يكن لها أثر في المقترحات السابقة؛ كما سجلت له تلك الوثيقة الرسمية مواقفه الشريفة، وإباءه الوطني الرفيع.

لقد كانت تلك وقفة شريفة، يسجلها الخصم؛ لأنه لا سبيل إلى إنكارها، ولا مفر من نشرها وعرضها على التاريخ ليقول فيها كلمته، ويحكم فيها حكمه الخالد العظيم.

على أن خصوم الوفد في البلاد تعامَوا عن هذه الوثيقة وما سجلته من فخار له، وراحت تطالبه ملحة عليه في إصدار كتاب أخضر من جانبه، ولكن الوفد لم يستطع يومئذٍ أن يفرغ لهذا العمل أو ينكمش فيه، فقد وجد الأفق من ساعة وصوله ينذر بعاصف، وتبين له أن الجو قاتم يهدد بأعاصير.

ولم يكن الوفد يجهل ما يحاك له من الكيد، ولكنه كان بصيرًا عليمًا بحركات خصومه جميعًا، بعد أن استهدف لغضب الإنكليز بسبب تمسكه بالسودان، كما أغضب مندوبهم البريطاني سير برسي لورين بإبائه، فقد كان هذا قد أكد لوزارة الخارجية البريطانية قبل سفر الوفد للمفاوضات أنه قادم لتوقيع المقترحات في غير مناقشة ولا اعتراض؛ فلما رأى الوفد في لندن يناقش ويعترض، ويظفر بمزايا جديدة، ولا يبقي اقتراحًا على أصله، ولا يرتضي نصًّا قديمًا بحرفه أو معانيه، أسرَّها في نفسه، وانكفأ حاقدًا على الوفد يتربص به دائرة السوء، ويضمر له أشد الانتقام.

واجتمعت إلى نقمة الإنكليز على الوفد خصومة الرجعيين للدستور، وكراهيتهم للنظام النيابي، وتوقهم إلى قلب الحكم الديمقراطي ليخلو لهم وجه السلطان؛ فاستحال الأفق السياسي بعد عودة الوفد قاتمًا مكفهرًّا يؤذن بريح نكباء.

وبدأ خصوم الوفد في الداخل ينسجون ويدبرون المؤامرات في الخفاء، ويؤلبون الطوائف وذوي الحاجات على القائم، ويتهيَّئُون ليصيبوا الحكم من الأكثرية الساحقة غلابًا واغتصابًا؛ لأنه هو كل همهم، ومدار رحاهم، وقطب أملهم. وجاء تفكير الوفد في تنفيذ المشروع الذي كان قد أشار إليه في خطبة العرش، وهو إصدار قانون لمحاكمة الوزراء ليزيد الموقف حرجًا؛ إذ لم يكن أحد يتصور أن قانونًا كهذا يمكن أن يمر من القصر أو يرتضيه الإنكليز؛ لأنه يخيف الصنائع، ويرهب الأعوان، وينمي الخوف في نفوس المتشيعين.

لقد كان هذا المشروع ينص على معاقبة الوزراء الذين يُتَّهمون بتهمة الخيانة العظمى، أو تهمة الغدر، بعقوبات تتراوح بين الأشغال الشاقة المؤبدة مع غرامة لا تقل عن ألف جنيه، ولا تتجاوز عشرة آلاف جنيه فيما يتعلق بجناية الخيانة العظمى، وبالسجن مع الغرامة في جرائم الغدر. كما أدخل المشروع في باب «الخيانة العظمى» قلب الدستور أو نظام الحكام أو نظام وراثة العرش، أو تنقيح الدستور بتعديل أو حذف في بعض أحكامه، أو حكم البلاد على أساس نظام نشأ عن حالة من هذه الحالات.

وقد أقر البرلمان هذا المشروع وأحيل إلى القصر لتوقيعه، فلبث فيه لا يعود منه، ولا يرد إلى الحكم لتنفيذه؛ فلم تلبث أن تحرجت الأحوال، واشتدت الأزمة، ووقفت أداة الحكم، وانقطعت الصلة بالقصر والوزارة، واختنق الجو بالدسائس والمكائد، واكفهر الأفق أشد اكفهرار.

وكان خصوم الوفد خلال المفاوضات يدسون عليه بالتشدد في مسألة السودان، متغالين أشد الغلاة في الحرص عليه، مترائين أحر الذَّادة عن حقنا فيه، فلما شرف البلاد زعيمها بوقفته المجيدة بسبيله، وثبت أروع الثبات على حقه، انكفأ الذين كانوا أحمياء متقدي المشاعر بتلك الغَيْرَة المتناهية يمارونه في موقفه، وينتقصون من جلال تصرفه وحكمة إبائه، ويزعمون أنه قد أساء، ولم يكن ما صنع إحسانًا، وأخطأ وكان أدنى شيء إليه أن يصيب.

ولم يكد مصطفى يجد أن كل حيلة في إنقاذ الموقف فاشلة، لا أمل من ورائها، قدم استقالته في السابع عشر من شهر يونيو سنة ١٩٣٠، وعرض الأمر على البرلمان في مجلسيه، فثارت عاصفة رهيبة من الحمية والغضب للدستور والحكم الديمقراطي، وقرر البرلمان بعد مناقشات حامية ثقته الكاملة بالوزارة، وتأييدها كل التأييد في موقفها للدفاع عن الدستور وحراسته.

وهكذا استهدف الدستور مرة أخرى للخطر، ونجحت مكايد خصومه في انتهاك حرمته، والعدوان على قداسته؛ ولكن مصطفى النحاس الذي قضى حياته السياسية كل تلك السنين الماضية مدافعًا عن الدستور، ذوَّادًا عن حياضه، حارسًا بجانب سياجه، لم يلبث أن ضحى بالسلطان لكي يعاود الكفاح من أجل الدستور المهدد، ويواصل النضال من أجل الديمقراطية التي عدا عليها المعتدون.

وبدأت مأساة جديدة، ولكن بممثل آخر، أخذ الدور الأول فيها، وكان أقوى بأسًا في ذاته من الممثل القديم في المأساة الماضية، وأشد منه جرأة على الشر، وأقل منه ترددًا عن الإساءة، بل في الحق لا تردُّد عنده مطلقًا، ولا وسواس ينزع به إلى الخير إذا ما أراد أن يسيء. وكان مجرد ذكر اسمه عند استقالة الوزارة الدستورية كافيًا لكي يدرك الناس أنهم مصبحون من الغداة أمام رجل جريء ذكي واسع الحيلة يُخشى جانبه ولا يُطمأنُّ إليه. ومع إحساس الناس بذلك كله اختلط يومئذٍ إحساسُ العجب من وقوع الاختيار عليه؛ فقد جاء اصطفاؤه للحكومة الجديدة — بعد أن كان ممنوعًا من دخول القصر بسبب حوادث ماضية لا تُنْسَى — باعثَ دهشة في النفوس، ومحلَ حَيرة وعجب في الأذهان، وحافز حذر واحتياط في البادرة، ونذيرًا بأبلغ السوء.

لقدُ ألقي الحكم لإسماعيل صدقي باشا …!

وساعة سمع الناس بالنبأ، تحسسوا مواضع قلوبهم ليطمئنوا إلى سكونها، والتمسوا صدورهم ليستوثقوا من أن الجنوب التي كانت تطوي البغضاء لا تزال في محلها، والنفور الذي كان يحل في النفوس لا يزال ثَمَّ في مكانه.

وبدأت المأساة، وظهر الممثل الأول، وكان الموضوع هو نفسه محور كل مأساة سبقت، أو محاولة مضت، وهو هدم الوفد، وسحق الإجماع من طريق إزالة الحصن الذي يمتنع فيه على عدوه، ودك المعقل الذي يسيطر عليه، وهو الدستور الذي حماه من التلاشي، وغلَّبه أبدًا على خصومه، وأعداه دائمًا على مناوئيه.

لقد تشابهت المحاولات في هذا السبيل، وتماثلت التجاريب في تحقيق هذه الغاية بسبب وحدة الغرض وتماثل المقصد، ولكن كان كل من يُدفَع به إلى محاولة منها، أو يتصدى متطوعًا للقيام بتجربة من تجاريبها، يروح يستعرض المحاولة التي مضت قبله ليكشف نواحي الضعف فيها، ووجوه النقص والخطأ التي كانت بعض عوامل فشلها، محدثًا نفسه بأنه إذا هو تلافى تلك النواحي الضعيفة، وتجنب تلك الأغلاط الماضية، وعرف كيف يسير بمحاولته بعيدًا من تلك العيوب التي اختلطت بالتنفيذ، وبمنجاة من الأخطاء والعوامل التي عجَّلت فيما مضى بالخيبة، وأدت وشيكًا إلى الفشل والخذلان؛ فسوف يؤاتيه النجاح، ويصل بالتجربة إلى نهايتها المطلوبة، ويدرك أخيرًا قمة الفوز المنشود.

وكان ذلك هو ما خطر لأصحاب التجربة السابقة مباشرة، فقد كانت أمامهم تجربة أولى من عهد زيور، فأدركوا عند وقوع الأمر في أيديهم، وبداية المحاولة التي وقع الاختيار عليهم لها، أن المكاشفة بمحاربة الدستور جهارًا كانت من ذلك العهد السابق خطأ كبيرًا، وأنهم إذا ما بغوا نجاحًا في دورهم، وجب ألا يتظاهروا بخصومته، ويتبجحوا بكراهيته ومقاومته؛ وإن لم يكن بد من ذلك ولا محيص عنه، فكان شعارهم الفَكِه من أول الأمر إلى آخره قول صاحبهم: «لقد عطلنا الدستور لإنقاذ الدستور»! إشارة إلى أنهم في أعماقهم أحرص الناس عليه، ولكنه حرص المصلح المتشدد، لا يعرف التساهل والتهاون والتدليل.

وحين جاء صاحب التجربة اللاحقة، وعرض في خاطره الماضي وحوادثه، كان أمامه أكثر من تجربة؛ كانت أمامه تجربته هو بالذات، وإن لم يكن الرئيس المباشر، بل الذراع اليمنى واليد العاملة والكف المتحركة، ثم جاءت التجربة التي سبقته رأسًا، فضلًا عن أنه كان عضوًا فيما مضى في الوفد فعرف أساليبه، أو ظن أنها لن تكون على مثله خافية، فحدثته النفس بأنه ربما كان سبب فشل الماضي وخيبة رجائه هو التعرض للدستور بالتعطيل، وإيصاد أبواب البرلمان، والاستغناء عن الحياة النيابية جملة واحدة، وأن المجربين أنفسهم كانوا أصحاب مزاج، وأكثر الوقت مرضى عاكفين في مراقدهم، وأنهم كانوا سراعًا إلى الملل، غير طوال البال، مترددين في حيثما لا ينبغي أن يكون تردد، ضعاف التفكير فيما يُشْغِل الناس عن وطنيتهم، قليلي الابتكار لما يلهيهم عن وفدهم، ويستحوذ على ألبابهم استحواذًا.

فقال لنفسه في نجواه: «إذا أنا ظفرت من جميع النواحي التي يهمها نجاح تجربتي بترخيص كلي، أو «رقعة بيضاء» (كارت بلانش) تجيز لي أن أصنع بهذه البلاد ما أشاء، وإذا أنا عرفت كيف أسهر على المحاولة مهما كلفني السهر عليها، لاجتناب أغلاط الماضي وعيوب التنفيذ فيه، فمن يدري، لعلي مع الصبر وطول الوقت واجتماع كل العوامل المساعدة الطيبة، مُدرِكٌ في النهاية ثَنِيَّة النجاح؟ ويومئذٍ لي المجد والعلاء، وإلا فالسقوط والفناء، وليس لصاحب المطامع الكبار أن يرتضي وسطًا بين الطرفين …»

بهذه النفسية ابتدأت الرواية، وعلى هذا التصميم العام شرع صاحب الدور الأول في التطبيق.

وكان لا بد أولًا من «برولوج» “Prologue”؛ أي مقدمة، قبل الدخول في الموضوع؛ إذ كانت العقبة الأولى أن هناك برلمانًا قائمًا أعطى الثقة الكاملة لخصم عنيف قامت التجاريب الماضية حوله لاقتلاعه من مكانه، وهدم بنيانه، والذهاب بسلطانه؛ ففشلت جميعًا، وبقي هو في موضعه ساخرًا لم تنل منه المحاولات منالًا. وإزاء هذه الحالة القائمة ينبغي الأخذ بمنتهى الرفق، واستخدام أقصى الكياسة، حتى لا يقابل الناس الانقلاب المقصود بصدمة فجائية تفسد الرواية من البداية، وتنفر المشاهدين تنفيرًا.

ولهذا جاء بيانه عن التأليف لطيفًا ما أمكن اللطف، مغريًا ما وَسِع الإغراء، ملهيًا عن أزمة السياسة بأزمة المال؛ إذ راح في ذلك البيان يقول إن الوزارة الجديدة قد جعلت من أول أغراضها إقامة العدل والإنصاف بين الناس جميعًا، غير مُؤثِرة في تصرفاتها فئة دون أخرى، بل إن الجميع لديها سواء، وإنها ملتزمة «الحيدة» السياسية! فلا تنتسب إلى حزب من الأحزاب … وأنه إذا كان أهمُّ ما يشغل بال الناس في الوقت الحاضر هو الضائقة المالية، فإن الوزارة ستسعى سعيًا متواصلًا في استنباط كل ما يمكن من الوسائل الوقتية والدائمة «لتفريجها» ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا!

هذه مقدمة بديعة متناهية في الإبداع، إذ ما للناس وللسياسة، والحكم الجديد سوف يقوم على الحياد في غير انتساب إلى هيئة سياسية، والأزمة المالية هي أولى بتفكيرهم وأحق باهتمامهم، وهذه سيعمل رب البراعة الاقتصادية في تفريجها ما أمكن التفريج؟!

ولكن ماذا هو صانع أمام العقبة القائمة، وهي وجود البرلمان، وليس أمامه من طريقة غير الالتجاء إلى التجاريب الماضية نفسها، والأخذ بالوسيلة ذاتها، في الحالات المماثلة للحالة التي تواجهه، وكان هذا أول تناقض مع البيان البديع الذي لم يكن قد جف بعد مداده، فقد كان لا يريد أن يتعرض للسياسة، ولكن ظهر للأسف أن لا مفر من هذا التعرض ولا محيص؛ فأصدر مرسومًا بتأجيل البرلمان شهرًا، وإن خالف ذلك بيانه بالأمس أخطر مخالفة.

وفي الناحية الأخرى كان مصطفى النحاس يستعرض موقف خصمه هو كذلك من التجربة، ويستحضر في خاطره نقط ضعفه ونقط قوته من الاختبار والمشاهدة؛ فما لبث أن بدا له أنه في هذه المرة يُواجَه بخصم أعنف من الخصم الذي سبقه، ومحارب أقوى وأجسر وأخطر من المحارب الذي تقدمه، خصم لا يعرف التردد، ولا يبالي المكاره، ولا يتسامح، ولا يترخص، ومحارب لا يتأخر عن استخدام أسوأ الأساليب في المقاومة، وأحقر الوسائل في المطاردة، وأقذر الأسلحة في المعترك، مع فرط ذكاء فيه، وسعة حيلة عنده، وكثرة مصادر، وغزارة تفكير.

ولم يكن قد مضى على المعارك السابقة أكثر من خمسة أشهر أو نحوها؛ فلم يتيسر للشعب المجاهد أن يستجم مما أبلى فيها، ولم يتسنَّ له أن يُريحَ وينْعمَ بالطمأنينة ويسترد ما فقد خلالها، وقد يكون هذا عاملًا لا ينبغي نسيانه، ولا إغفال اعتباره عند التفكير في الخطة المطلوبة ووضع التصميم للغد المجهول.

وكان الباب في مسألة المفاوضات لا يزال مفتوحًا بتصريح المستر هندرسن، وهو أن الحكومة البريطانية مستعدة في أي وقت أن تعاود المفاوضات إذا أَنِسَت الحكومة المصرية من جانبها جنوحًا إلى قبول عرضها الأخير؛ ففي وسع مصطفى النحاس أن يجنب نفسه وأمته التعرض لهذه التجربة الجديدة إذا هو أشار بأنه على استعداد لمعاودة المفاوضة والرجوع إلى الاتفاق.

كان هذا يومئذٍ ممكنًا لو لم يكن الأمر متعلقًا برجل كمصطفى النحاس؛ فقد رآه مستحيلًا، وأكبر كل جهاده الماضي أن يستذل أخيرًا، وعاد يتحسس إيمانه في صدره فإذا هو قويٌّ عميق، وراح ينظر إلى الأمة فإذا هي حاضرة العزم أبية متجلدة. وكم ينفع الإيمان في مثل هذه الظروف! وكم يجدي في هذه المحن على المؤمنين!

وتبين لمصطفى النحاس بالنسبة لخصمه الجديد مع عنفه وبطشه وذكائه وشدة مراسه، أنه لا بد من العمل السريع، ولا مفر من البكور إلى المقاومة، والبدار إلى الاشتباك والمجاذبة، فلم يكد يصدر المرسوم الملكيُّ بتأجيل انعقاد البرلمان شهرًا، حتى أجمع النية هو وممثلو الأمة ووكلاؤها على عقد جلساتهم في البرلمان، وإن اقتضاهم ذلك أن يقتحموا داره اقتحامًا، ويشتبكوا مع الوزارة الجديدة أعنف اشتباك.

فكان يوم تحطيم السلسلة، وإنه ليوم عظيم خالد في التاريخ، يوم الاثنين، الثالث والعشرون من شهر يونيو سنة ١٩٣٠؛ فقد أراد البرلمان أن يجتمع تحت قبته، فاجتمع منفذًا مشيئته، غير حافل بالباطل وقوته؛ إذ بادرت الوزارة — وقد تبين لها أن الأمر جد وما هو بالهزل — بإرسال كتاب إلى رئيس مجلس النواب تهدده فيه بأنها إذا لم تتلقَّ منه توكيدًا قبل الساعة الواحدة من ظهر ذلك اليوم بالذات، بأنه إذا انعقد المجلس فلن يأذن لأحد بالكلام، وإنما تقتصر جلسته على تلاوة مرسوم التأجيل؛ فكان رد (المغفور له) الأستاذ ويصا واصف رئيس المجلس جوابًا مشرفًا حقيقًا بأكبر الفخار، جوابًا خالدًا كجواب «ميرابو» في بداية الثورة الفرنسية الكبرى؛ فقد كتب فيه يقول إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات المجلس التي هي من اختصاصه دون سواه!

ومن ثم راحت الوزارة تحتاط للأمر؛ فأرصدت قوات مسلحة على الطريق المؤدية إلى البرلمان وعلى أبوابه وسياجه، وأقفلت الأبواب بالسلاسل الحديدية، وأحالت دار التشريع قلعة عسكرية، ولكن ذلك كله لم يُثنِ وكلاء الأمة وممثليها عن الاقتحام، فاقتحموا الطريق شيوخًا وشبابًا، غير مبالين ما أصابهم من أذًى حتى بلغوا الباب.

وجاء مصطفى النحاس فاخترق الأنطقة العسكرية وصفوف الجند بسيارته غير مُعْتَرَض، وفي وسط الجمع الحاشد دنا دولته من الباب الحديدي الكبير، فقال: «نحن هنا في انتظار قدوم رئيس مجلس النواب، حتى إذا جاء فإن له أن يأمر بوليس البرلمان بأن يفتحوا هذه المغاليق بما له عليهم من حق السلطة التي لا تنازعه فيها الحكومة بحال، وذلك أمر معلوم؛ لأن بوليس البرلمان لا يتلقى أوامره إلا من رئيس مجلس النواب أو الشيوخ، أما الحكومة فلا سبيل لها عليه.»

وفي تلك اللحظة حضر ويصا فتقدم نحو الباب فوجده موصدًا بالسلاسل، وأمامه وخلفه قوة غير قوة بوليس البرلمان، فأمر من الخارج باستدعاء الصاغ محمد عاطف بركات قائد القوة، وأمره بصفته رئيس المجلس بأن يحطم السلاسل ويكسر الأقفال قائلًا: «إني آمرك، كرئيس المجلس، أن تزيل هذه السلاسل والأقفال، وتفتح الأبواب ليتمكن الأعضاء من الدخول.»
figure
مصطفى النحاس أمام دار البرلمان عند تحطيم سلاسله.

فامتثل القائد، وأسرع إلى استدعاء قوة شرطة البرلمان، وأمر رجالها بكسر السلاسل، فتقدموا جميعًا، وأهوَوا عليها بالمعاول الحديدية حتى تكسرت وانفتحت الأبواب.

ولم يكد أول داخل تحتويه الساحة الداخلية لدار التشريع حتى صاح بأعلى صوته: «ليحيَ الدستور! لتحيَ سلطة الأمة!» فتجاوبت الأصداء بذلك الهتاف الجليل الرهيب.

وانعقد المجلسان، وتُلِيَ في كلٍّ منهما مرسوم التأجيل، ونهض مصطفى النحاس على أثر تلاوته، فألقى الكلمة الآتية: «نظرًا للظروف التي تجتازها البلاد الآن، ولما بدا من بوادر الاعتداء على الدستور، أطلب إليكم أن تقسموا معي وأنتم وقوف القسم الآتي، كما أطلب من كل مصري أن يقسمه بينه وبين الله:

أقسم بالله العظيم أن أكون وفيًّا في قسمي الذي أقسمته طبقًا للدستور، وأن أدافع عن الدستور بكل ما أملك من قوة ومال وتضحية.

فأقسم الجميع وسط جلال عظيم.

وكانت هذه الحادثة الرائعة ضربة سريعة عاجلة موجهة للرجعية والرجعيين فلم تلبث أن اهتزت منها؛ إذ لم تكن تتوقع مطلقًا أن تدابيرها المسلحة يمكن أن تَفْسَدَ عليها بتلك الصورة الجريئة الخطيرة. وكانت تلك الهزة الفجائية غير منتظرة، فاضطربت الوزارة من أثرها قليلًا، حتى إنها لم تستطع أن تمنع اجتماع المؤتمر الوطني الذي دعا إليه الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا جميع أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب ومجالس المديريات في الساعة الخامسة من مساء اليوم السادس والعشرين من يونيو سنة ١٩٣٠ في النادي السعدي؛ أي بعد يومين من حادث تحطيم السلاسل وكسر الأبواب، بل وقفت تشاهد عقد ذلك المؤتمر العظيم متظاهرةً بأن ليس عليها منه، وهي في أعماقها وَجلِة مضطربة هَلُوع؛ حتى لقد عمدت مع السماح بانعقاده مرغمة إلى تعبئة قوات حاشدة حول دار النادي لتظهر أمام الجماهير بمظهر حربي يلقي الرعب في القلوب، وإلى منع أكبر عدد ممكن من الذاهبين إلى المؤتمر والمهطعين إليه إذا هي استطاعت إلى منعهم سبيلًا.

وفي صدر ذلك الجمع العظيم وقف مصطفى يلقي كلمته في هذه المحنة التي أصابت الدستور مرة أخرى، فأهاب بهم قائلًا: «لنترك الكلام والاحتجاج جانبًا، ولنعمل عملًا جديًّا كرجال مسئولين نيطت بهم مسئولية مهمة الدفاع عن الدستور الذي اكتسبناه بجهادنا ودماء شهدائنا، وأقسم الكلُّ اليمين على احترامه.

لقد دعوتكم للتشاور في الأمر، فإذا ظن البعض أننا إنما اجتمعنا هنا لنتبادل الأقاويل والاحتجاجات، فقد ساء ظنه وخاب فأله؛ فالأمر أخطر من أن يُعالَج بكلام يُبذَل، بل نحن في حاجة إلى عمل يُعمَل، ولو أدى بنا ذلك إلى تضحية النفس والنفيس، فهل أنتم على استعداد لتأدية تلك التضحية؟ هل أنتم مستعدون لأن تقاوموا كل اعتداء على الدستور، وأن تدافعوا عنه بكل ما أوتيتم من قوة ومال؟»

وقد أصدر المؤتمر قرارات خطيرة في الدفاع عن الدستور ومقابلة العدوان عليه بأغلى التضحيات.

وهكذا بدأت الأمة كفاحًا عمليًّا لا كلام فيه، كفاحًا قويًّا فعالًا لا يعرف تراخيًا. وقد بلغ من غضبة مصطفى يومئذٍ للدستور أن راح يعتزم التضحية بكل شيء حتى بحياته الغالية على وطنه، في سبيل دستور بلاده، وكرامة قومه، وحقوق أمته؛ فكانت كل كلمة منه تحمل روحًا مستعرًا، وتنطق عن إرادة مستحصدة، وتنطوي على حماسة مضطرمة متقدة؛ فقد أدرك أن التجربة سوف تروح قاضية إذا لم تقابل بعزيمة قوية، وثبات رهيب، وشجاعة متناهية، وارتخاص كل تضحية غالية.

وعقب انعقاد المؤتمر الوطني تلقى الرئيس دعوة من مديرية الدقهلية إلى زيارة مدائنها، فتقبلها راضيًا، واعتزم السفر إليها غير متردد، وهو يعلم أن الوزارة سوف تحول دونه، وتقاوم تطوافه، وتحاول بكل قواها المسلحة منعه من الانتقال والتجوال؛ لأنه قد وطَّن النفس على ملاقاة صدقي باشا وجهًا لوجه، ومقاومة القوة المادية التي يستعينها عليه بالقوة الروحية التي إذا نفت الخوف والتهيب والانزواء لم يقف في وجهها شيء، ولم يستطع أن يحول دونها حائل.

ولقد تجلت نفسية مصطفى بأروع جلالها في كلماته التي ألقاها قبل ذلك في الحفلة الكبرى التي أقامها أعضاء مجالس المديريات له في أحد فنادق القاهرة في مساء التاسع والعشرين من يونيو سنة ١٩٣٠، فقد ذهب بكل قوى النفس الجياشة يقول: «إني لقرير النفس، ساكن القلب لا تزعجني هذه النوازل التي تنزل بالبلاد، بل نِعْمَتْ هي؛ لأن الدستور لا يستقر له قرار إذا لم نقدر له قدرًا. كلا، بل الدستور، وهو حق الأمة ومظهر حريتها، لا يمكن أن يكون له قرار مكين ونحن عنه غافلون، بل يجب أن نعمل لنستحقه، نعمل لنسترده، نعمل لنستبقيه … أعود فأقول: إني لمطمئن القلب، مستريح الضمير، ولئن أصابني سوء فإني موقن بأنكم من بعدي تتمون عملي.»

بهذه النفسية الخليقة بزعيم أمة مجاهدة لأشرف ما في الحياة، استقل مصطفى القطار في صباح اليوم الأول من شهر يوليو إلى الزقازيق لزيارة شيوخ الشرقية ونوابها، وبهذه النفسية الرهيبة راح في المحطات القائمة على الطريق يطل على الجماهير ملهبًا مشاعرهم، موقدًا عزماتهم، مناشدهم التضحية — مهما عزَّت — في سبيل دستورهم، والناس حاشدون على الأفاريز غير مكترثين بما يصيبهم من الأذى والعدوان من الأشراط والقوات المحاصرة لهم من كل مكان.

وكان استقبال مدينة الزقازيق للزعيم الوافد عليها جليلًا مهيبًا خرجت له الألوف المؤلفة من أهلها، رغم حشود القوات المسلحة ومحاصرتها الطرق المؤدية إلى سرادق الاستقبال؛ فقد استهان الزعيم بالخطر فألهم الناس الشجاعة، وألغى من نفوسهم الحرص على الحياة؛ فلم يلبثوا في بلبيس على مَقْدَم الرئيس إليها أن قابلوا عدوان البوليس عليهم بالدفاع عن أنفسهم، فسالت الدماء، وسقط خلقٌ كثير جرحى، وذهب الموت بثلاثة من الشباب لم يتجاوز أحدهم السابعة عشرة من العمر؛ فهاجت المدينة وماجت، وخرج في الغداة لتشييع جنازات الشهداء أربعون ألفًا في موكب مرهوب خطير لا تأتي العين على آخر مداه.

لقد كان يوم بلبيس المشهود دليلًا قاطعًا على مبلغ محبة الشعب للوفد وولائه لزعيمه وتقديره لقداسة دستوره؛ بل كان صورة صادقة لإرادة الأمة واستعدادها للبذل واستجابتها لمعاني التفدية واسترواحها للجهود بالأرواح، حتى لقد قال ساحر الوفد ومزماره الغَرِد — مكرم عبيد — في التعقيب على ما رأى يومئذٍ وشهد في ذلك اليوم الخالد: «وإذا كنت واثقًا من شيء، فإني على ثقة تامة بأن النصر حتمًا للأمة التي أقسمت اليمين على أن تدافع عن دستورها بكل ما تملك من قوة ومال وتضحية، تحت لواء رئيسنا الجليل، وزعيمنا المقدام، مصطفى النحاس باشا، وإني أعتقد أننا قد قضينا من الكلام وطرًا، وقد أقبلنا على دور العمل فهو أقوى معنى وأبقى أثرًا. وليكن شعارنا على الدوام: إما أن يبقى الدستور فنحيا به، وإما أن يفنى الدستور فَنَفْنَى فيه. إن أمة يزغرد نساؤها للشهداء، ويقسم رجالها اليمين ليحافظُنَّ على الدستور حتى الفداء، لهي أمة يهون من أجلها كل عناء، ويطيب في سبيلها الموت والفناء.»

وحل يوم المنصورة، الثامن من شهر يوليو سنة ١٩٣٠، ذلك اليوم المجيد من تاريخ الكفاح الوطني، فأحست الوزارة جزعًا منه قبل مقتربه، وأدركها الوجل من دنوه، فمنعت الاجتماع، وأرسلت كتائب الجند لتحصين المدينة، كأن عدوًّا مغيرًا يوشك أن يزحف عليها، أو كأن خطرًا من حرب يكاد يدهمها على غِرَّة وهي آمنة.

ولكن مصطفى النحاس لم يكن يأبه بوعيد ولا هو بالذي يحفل يومئذٍ بمنع أو مصادرة؛ فقد وطَّن نفسه على المقاومة العملية مهما يستهدف له من سوء، فأعلن تصميمه على السفر في الموعد المضروب، وكتب إلى مدير الدقهلية يرد على رسالته التي أبلغه فيها نبأ المنع، قائلًا في رده بعد الاستناد إلى القانون في إثبات بطلان هذا الإجراء: إن عليكم وعلى كل من يشترك معكم أو يلهمكم تقع تبعة كل اعتداء على الدستور، أو إخلال بالنظام أو الأمن العام بسبب هذا الاعتداء.

وأمام هذا التصميم الحاسم والاعتزامة القاطعة، ذهبت الحكومة تحتال الحيل لقطع السبيل على رئيس الوفد حتى لا يبلغ المدينة المتحمسة المتلهفة على لقائه، فأوحت إلى شركة الدلتا أن تمنع سير القطار الخاص الذي سيقله على خطوطها، كما اتخذت التدابير العاجلة لكي تمنع السفر عن طريق ميت غمر، وتحيل المنصورة من كثرة القوات المحاصرة لها أشبه شيء بقلعة عسكرية وميدان حرب عَوَان.

وذهبت الكتائب تطوف أرجاء المدينة لتقذف الرعب في قلبها، وراح الأشراط يهدمون الزينات، ويقوضون السرادقات، ويحاصرون الطرق والدور، ويمنعون أهل القرى المجاورة من مغادرة حدود قراهم حتى لا يشتركوا في استقبال زعيمهم العظيم.

وجاء يوم المنصورة، فكان يوم الدماء، وعيد الشهداء، وفخار الوطنية والولاء، فقد وصل مصطفى النحاس إلى المنصورة متغلبًا على كل ما حشدت الحكومة في طريقه لتحول بينه وبينها، وركب سيارته وسط موج مائج من الخلائق، وهتاف مُدَوٍّ في السماء.

وكان ذلك الحادث الشنيع الذي سيذكره التاريخ لعهود الظلم، ويسجله المؤرخ لدول الاستبداد، كان ذلك الحادث النُّكر الفَرِيُّ الذي كاد يودي بحياة مصطفى لولا أن امتدت يمين طاهرة، يمين صديق وفيٍّ أراد أن يفتدي زعيمه بحياته، وكان يعرف من قبل أن مؤامرة قد دُبِّرت بَيَاتًا لاغتيال الرئيس في يوم المنصورة، فكتم النبأ عن صاحبه، وأجمع النية على أن يكون هو فديته، فكان ذلك أبلغ ما يكون الوفاء في الصداقة، والتفاني في الحب، والعظمة النفسية في مجال الشهادة.

ذلك هو البطل سينوت حنا الذي ركب بجانب الرئيس في ذلك اليوم المشهود، فرأى طعنة موجهة إلى ظهر زعيمه وصديقه فتلقاها بيمينه؛ لأنه انتوى التفدية، وارتخص أغلى التضحية، وعرف قبل المسير النية الخافية؛ فاعتزم أن يكون للزعيم أول المفتدين.

لقد اجتمعت في سينوت الجرأة إذ كان أرفع مثالها، والشهامة وهو من أكبر رجالها، وأصالة الرأي وهو من صفوة أهلها، وطاعة القائد لرئيسه الأعلى وهو في المعارك الوطنية من أبطالها، والإيمان بإخلاص الزعيم لأمته وهو في دين الوطنية أروع المؤمنين.

ولقد ظلت ذراعه بعد يوم المنصورة جريحًا يشكو الألم منها، ولبثت طويلًا موجعة لا يستطيع ردها إلى سابق حركتها، ثم حط السقام عليه، ولازمته العلة، وأدْنَفَهُ المرض، حتى قضى في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة ١٩٣٣، فجل مصابه في الناس، وكان الحداد عليه عامًا، وكان موكب الآخرة فيه زاخرًا مشهودًا.
figure
سينوت حنا بك.

وكما ينتهي اليوم الحافلُ بالعمل، المزدحم بالمشاق، المقطوع في أحَرِّ النضال، المصروف في الساحة مع المحاربين والأبطال، بنوم هنيٍّ مستطيل؛ تنتهي الحياة الزاخرة بالجهاد، المليئة بأحداث الكفاح، بموت مجيد، ورحلة طيبة إلى السماء، وسفرة رغيدة إلى الخلود.

إن الذين يعرفون كيف يحيون هم كذلك الذين يعرفون كيف يموتون، والذين يزرعون للمجد يحصدون للشرف، ومن يحسنوا إلى الناس أحياء، يعرف الناس كيف يحسنون إليهم على دقة الناقوس ذاهبين.

الحديد إذا لم يعمل صَدُؤَ، والماء إذا ركد فسد، والزمن يجري خادعًا، والناس إلى السماء يسرعون مخدوعين.

ولكن الحياة الطيبة طويلة وإن قصرت؛ لأن طولها في التاريخ يغني عن قصرها في السنين.
figure
البطل سينوت في يوم المنصورة الخالد، وقد أمسك الطبيب بذراعه الجريح لتضميدها، وظهر في الصورة مصطفى النحاس والدم الزكي على ثوبه.

كذلك انتهى سينوت، وغاب عن هذا العالم، والشمس تتزاور إلى المغيب، بل كذلك استبق في الممات الشمس راحلًا؛ لأنه في الحياة ورحلتها ظل السبَّاق بطلًا مناضلًا، وغاب مبكيًّا عليه؛ لأنه حضر مهتوفًا به، جَلَّ منه المحضر كما جلَّ في الغائبين.

مات منا سينوت، فماتت منا بعض إنسانيتنا لأنه الإنسان، وبعض وطنيتنا لأنه الوطني، وبعض جرأتنا لأنه الجريء الأبي، وبعض وفائنا لأنه الولي الوفيُّ؛ إذ كان سينوت معنى آدميًّا كثير المترادفات، ورسالة سماوية لها في الأرض آيات بالغات، هو الإنسان بكل زواخر عواطفه ومعتلج تياره ومُتَقَاذِفِه، محتدم الشعور أبدًا، حاضر المروءة أبدًا، زين المجالس متحدثًا، أطيب أهل الود نفسًا، باذل أغلى شيء في نفسه زهيدًا وبخسًا. وهو الوطني الذي حاط وطنيته بالثبات، وخاض بها في أروع الجلد الشدائدَ والغمرات، وهو الجريء الذي جعل الجرأة له عنوانًا، وأقامه الشعار الوطنيُّ في الصحافة مقالات … وهو الوفيُّ الذي كتب لنفسه صفة الوفاء بأزكى الداء، وانتقل إلى التاريخ مثلًا عاليًا في الأوفياء المفتدين.

لقد أظهر سينوت في يوم المنصورة أكرم الخُلُق وأندرَه؛ لأنه وقى الزعيم مؤامرة العدو وغدرَه، وما كان أبلغ شجاعته إذ وقف ينظر إلى دمه وهو يقطر منه باسمًا، وقد نسي جرحه في سلامة الرئيس بجانبه!

ومضى الركب في طريقه لا يلوي على هذه المؤامرة، مؤامرة الجبن والنذالة، ولكن قوات الجيش لم تلبث أن اشتبكت والجماهير في معركة غير متكافئة الأسلحة، وراحت تطلق النيران على العزل الأبرياء؛ فسالت الدماء وقتل ستة راحوا شهداء، وكان الجرحى يومئذٍ بالمئات.

كان يوم المنصورة يومًا أحمر قانيًا، يومًا شجاعًا جليلًا أبيًّا، يوم مجد وجلال وخلود، أنفذت فيه الزعامة إرادتها، وبرزت فيه مشيئة الشعب بكل عظمتها وقوتها، وغادر الرئيس المنصورة وهو يقول: «لقد أرادوا أن يشفوا غليلهم من ضعيف غير مسلح، ولكنه قويٌّ بالحق، قويٌّ بأمته … فقد رأيتم كيف أنهم كانوا يقصدونني، ويتعطشون إلى دمي؛ لأني أدافع عنكم، فاعلموا أني مُضَحٍّ بنفسي قبلكم، ووصيتي لكم من بعدي أن يقوم كلٌّ منكم مدافعًا عن دستوره واستقلال بلاده، حتى يوقن كل فرد بأن مصر هي الخالدة …»

لقد كان مصطفى النحاس موطِّنًا النفس يومئذٍ على الموت، وإن اقتحام الأنطقة المسلحة على تلك الصورة كان في الواقع سخرية بالغة من الموت، واستهانة عجيبة بالحياة، وقد سرى هذا الإحساس في جميع الذين وقفوا من حوله؛ فراح الشباب يترامون بصدورهم على أسنة الحراب، ويريدون أن يجودوا بأرواحهم رخيصة في سبيل الحرية والدستور.
figure
سينوت الجريح في أروع معركة.

وفي الجانب الآخر وصلت النذالة والغدر والخسة إلى أبعد حدودها في التواطؤ على مكيدة دموية نكراء، دبروها في جُنْح الظلام، ولكن لم يلبث أن كشفها نور الحق، وما بكثير على الذين دبروا من قبل جرائم أسيوط ومذابح الإسكندرية واعتادوا هذه المآثم وأمنوا عواقبها، أن يعودوا إلى التفكير في جريمة تنزوي عن اقترافها نفوس شر الجناة وأكبر المجرمين.

وكان لحادث المنصورة أكبر الأثر في البلاد؛ فارتفع مَدُّ الحماسة، واصطخب تيار الوطنية، وماجت المدائن، واضطربت القرى، فوقعت فواجع كثيرة، وأحداث دامية في دكرنس وطنطا وبورسعيد والقاهرة، وحل يوم ١٥ يوليو فإذا الإسكندرية تنهض غاضبة غضبة البحر المترامي عند قدميها، فخر فريق من الأبرياء صرعى، واستشهد من استشهد في يوم حافل أرْوَعَ مرهوب.

لقد رأى الناس زعيمهم يلقي بنفسه في بهرة الخطر، ويستقبل المنايا رابط الجأش؛ فألهمهم القدوة، وأعطاهم المثال، وأقام لهم من ذاته الأسْوةَ؛ فلم يعد الناس يخشون على أنفسهم قدر ما يخشون على دستورهم العزيز الذي اعتُدِيَ على حرماته، واجتُرِئَ على قداسته.

واقترب موعد انتهاء شهر التأجيل الذي استصدر صدقي باشا المرسوم به لإرجاء البرلمان، وكلما دنا إلى حده، اشتد تصميم مصطفى النحاس على لقاء الموت فدًى لبلاده، وتنفيذًا لمشيئة أمته، معولًا على أن يقتحم صفوف الكتائب المسلحة لدخول البرلمان عَنْوَة، وكانت الحكومة الشاذة قد أرصدت لذلك اليوم الرهيب — الحادي والعشرين من يوليو — عديد القوات لمحاصرة دار البرلمان، فلم يُرَع مصطفى مما حشدت له، وظل معتزمًا اختراق الصفوف وإن خرَّ صريعًا مُجَدَّلًا، وجعل يقول لمن حوله في لغة العزم الصادق الرهيب: «سأمضي قُدُمًا في طريقي مخترقًا الحراب والأسنة والسيوف، فإذا سقطت فسيروا فوق جثتي لكي تدخلوا!»

ولكن شيوخًا في الجمع أشفقوا من هذه العزيمة الخطيرة، فما زالوا به حتى ثَنَوْه عنها. وجاء من يقول إن سير برسي لورين يؤكد أن الأمر موشك أن ينتهي بسلام، فليس من الخير الالتجاء إلى مقاومة القوة بمثلها، ولا ضير من الأناة حتى ينتهي الأمر في سكون.

وحل اليوم الحادي والعشرون من يوليو، وقد عبَّأت الحكومة الصدقية قواتها العسكرية حول دار الندوة؛ فقام الشعب بمظاهرات عنيفة في أرجاء المدينة كانت لها ضحاياها وشهداؤها الأعزاء. وانعقد البرلمان في النادي السعدي بقطعٍ من الليل، وانقضى النهار رهيبًا في أرجاء القاهرة، والدوريات العسكرية من المشاة والخيالة تجوب نواحيها في لباس الحرب وعدة القتال لتلقي الرعب في القلوب، وتفرق المتظاهرين، وتعتقل الأبرياء آحادًا وجموعًا، وتطارد الناس في الأزقة والدروب، وغُلِّقَت المتاجر، ووقفت الحركة في الأسواق؛ وكان الناس يتوقعون في ذلك اليوم أحداثًا جسامًا، فظنوا من الخير لهم أن يُعدُّوا في اليوم السابق حاجتهم من الخبز والطعام، ويبتاعوا مقدمًا وافرًا من الأغذية.

كان الحادي والعشرون من شهر يوليو يومًا فاصلًا في ذاته، ويومًا مرهوبًا في كل ما يحيط به، ولو أن مصطفى النحاس خُلِّي بينه وبين اقتحام الطريق إلى البرلمان واختراق أنطقة الجند في رفقةٍ من صحابه وجمعٍ من الشيوخ والنواب، لنجح تمامًا في التغلب على هذه القوة المادية التي أُخْرِجت للقائه، وأرصدت لصده، وَلَدَكَّ بناء الباطل دكًّا، ولانتصر الحق أروع انتصار.

ولو جرى الأمر على ما كان في خطة مصطفى النحاس أن يجري، لما استطال هذا العهد الغاشم استطالته، ولا تراخت على ذلك النحو مدته، وتلاحقت أعوامه؛ إذ كانت صدمة كهذه في قوتها كافية لرده منهزمًا مدحورًا.

ولكن، ما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولكن الله رمَى. ولعله لحكمة خفية تغلَّبَ صوت السياسة على إملاء الشجاعة وإيحاء الجرأة، وأكبر ظني أن تلك الحكمة كانت تنظر إلى ترك القوة المادية الغاشمة تستخدم كل ما يمكن أن تستخدمه إزاء الحق الأعزل إلا من إيمانه بذاته؛ لينتصر الحق في النهاية وتكون كلمته هي العليا، وتخرج الأمة من امتحان أقسى الخطوب، وأفجع الفواجع، وأنكر المآسي، وأعنف أساليب العُدْوان، في مدى مستطيل، وعلى فترة متراخية، وقد اكتسبت مناعة تامة من كل تجربة، وحصانة دائمة من كل محاولة مماثلة، وأيأست المجربين كل اليأس، وأعجزت المحاولين كل إعجاز.

تلك كانت المقدمة التي بدأت بها المأساة، وقد اضطر فيها المؤلف أن يستعير الأسلوب القديم فيها، ويجري على الطريقة السابقة المألوفة، للتخلص من الدستور القائم، والتهرب من مواجهة مظاهر الحياة النيابية؛ ولم يبق أمامه إلا أن يشرع في المأساة ذاتها، ويبرز ما عنده هو من جديد.

وأحسبه قد تدبر الأمر مليًّا يومئذٍ وقلَّب من قبلُ فيه وجوه الرأي؛ فخلص له من ذلك كله أن الذين سبقوه إنما قد أخطَئُوا في الاستغناء عن وجود الدستور بتاتًا، وإلغاء الحياة النيابية جملة، وإن تذرعوا في ذلك بأنهم قد أبطلوه لينقذوه، وذهبوا به ليردوه أصلح مما كان قبل ذهابه، ثم أطالوا في تحديد المدة، وأسرفوا في تعيين دورة الاحتجاب، وسقطوا قبل أن يجاوزوا نصفها أو قليلًا؛ فرأى هو ألَّا يجري على طريقتهم، وأن مصلحة تجربته تقضي بألَّا يتراءى فارغًا إلى حكومة مطلقة، ففكر في شيء جديد، وذهب يستحدث في أساليب المقاومة ومحاربة الوفد فكرة طريفة، وهي أن يوجِدَ حكمًا نيابيًّا على صورة ما، ويقيم برلمانًا هيكليًّا يستتر خلفه، ويلفق إجماعًا آخر غير الإجماع الذي ظل ثابتًا قائمًا كلما جرى انتخاب في أفق طليق وفضاء فسيح لا ضغط فيه ولا تزييف، ولا إغراء ولا ترهيب.

ونظر طويلًا إلى الدستور وقانون الانتخاب، فوجدهما بصورتهما الحاضرة لا يكفلان له بناء المسرح الجديد الذي يريده ويفكر في إقامته من الورق الملون وتشييده؛ فاعتزم أن يأتي بدستور آخر من عند نفسه، ويعمل على تعديل قانون الانتخاب، بحيث يكفل له التزييف ما شاء والتلفيق.

لقد كانت تلك الفكرة بديعة في ذاتها، وإن انطوت على أكبر جريمة وتَبَطَّنَتْ أشنع جناية. وكان لا بد من إيجاد معاذير ومبررات لإلغاء دستور الأمة وإقامة هذا الدستور التهريجيِّ المصنوع المنحول ليأخذ محله، فلم يتكلف المؤلف جديدًا في سبيل إلقاء معاذيره؛ لأنه كان من الأصل صاحب فكرة سيئة في قيمة الأمة المصرية واستعدادها، فعاد إليها ليجعلها تفسيرًا لوضع قانونه، وعذيرًا عن اصطناع دستوره؛ فزعم أنه يتناسب أكثر من سواه مع حالة الأمة وجهلها وفقرها من التربية السياسية، ويتفق مع مستواها الحالي، حتى ترقى وتبلغ مركز الأمم القوية الراش؛ فكان التفسير إهانة، والدستور في نفسه سخرية!

ولم يكن مستحيلًا على مثله أن يوجد إجماعًا جديدًا يسميه كثرة ساحقة إن شاء؛ لأنه يكفي أن يأتي بالعمد والمشايخ من البنادر والقرى ممن أخطأهم شرف الظفر بالنيابة في عهد الدستور الأول والحياة النيابية الماضية، فيملأ بهم برلمانًا جديدًا، ولو شاء لملأ برلمانات متعددة!

كان هذا هو التعديل الجديد في التأدية، والزيادات المستحدثة في صلب الرواية المحزنة، وكان لا بد لتحقيق ذلك من الرجوع إلى أصحاب التجربة أنفسهم الذين يشتغل لحسابهم ليستوثق من موافقتهم على إطلاق يده يفعل ما يشاء، ولهم هم ما يريدون أخيرًا، وهو أن يروا الوفد قد زال من الوجود، وأن الأمة قد استكانت، وأن الشعب سكن إلى الذل والهُون راضيًا، فظهر بين المشاهد الأولى للمأساة منظر لطيف للغاية، ينكشف عن تجاذب بين رئيس الحكومة البريطانية ورئيس الحكومة المصرية في شكل كتابين متبادلين بينهما: الأول في صورة الغاضب الذي لا يريد أن تُطبَخ الانتخابات، والثاني في صورة الغاضب لهذه الإهانة، المحتج على هذا التدخل، المتطاول على صاحبه بسبب هذه الجرأة عليه، كأنه لا يملأ عينه، ولا يَحْفِلُ شأنه. وإذا بالمستر ماكدونالد «كله» يرتضي كتاب صدقي باشا «بجلالة قدره»، وتنتج هذه المشادة «غير المتكافئة»، أو هذا التجاذب التمثيلي بين المعلم وصبيه، أو المجرب وظهيره، ما سمي يومئذٍ «حيادًا تامًّا» من جانب بريطانيا، واستقلالًا مطلقًا من جانب مصر تحت حكمها الجديد.

وتمت الجناية النكراء، ونُفِّذ الاعتداء الصارخ بإلغاء دستور سنة ١٩٢٣ وظهور دستور سنة ١٩٣٠؛ فكان تأثير الجريمة في نفس الأمة خطيرًا، والغضبة لدستورها صادقة، تأججت لها الأرواح، وتسعرت الحماسة، واشتدت النقمة على الحكم المطلق وأربابه، وعولت الأمة على أن تنكر هذا الدستور المصنوع وتحاربه جاهدة، ولا تبغي عن دستورها تحويلًا.

وكان مصطفى النحاس قد نادى قومه إلى عزل الوزارة وتركها وحدها تصطنع ما تشاء، وانتباذها تفعل ما تريد؛ لأن ذلك كله لن ينتهي إذا ظلت الوزارة بمعزل إلا بالفشل المحقق والخذلان المبين، ولم ينثن الرئيس عن البروز للناس في المجامع، وبيوت الله، وفرص الاتصال والمخالطة، بل راح يغشى تلك المجامع ويتصل بالجماهير، مناديًا البلاد إلى الجهاد، مهيبًا بها للكفاح الصادق المستميت.

ونشأت يومئذٍ فكرة «المقاطعة»، وتم الاتفاق في الصفوف على التزامها إذا جاءت الانتخابات على الدستور الجديد؛ فلم تكد الأمة تعلن هذه النية حتى تهدمت خطط الوزارة وتدابيرها، وحارت هي في أمرها، وترنحت بين الإقدام والإحجام، وتلكأت في التنفيذ، وأطالت في التسويف. وراح صدقي باشا يطوف الأقاليم الجنوبية والصعيد لكي يجرب المجال قبل أن يعتزم، ويتعرف الأحوال قبل أن يقدم، ولكي يجس النبض ويكشف الطالع ويرصد النجم، وجعل الحكام يسوقون إليه الناس مساقًا، ويحشدون له المواكب اصطناعًا وتلفيقًا، وذهب هو في طوفته يطعن في الوفديين وكفايتهم، ويسرف في اختراع التهم والأكاذيب عنهم، ويملأ الأفق كلامًا، ويخطب بلا مناسبة، ويتحدث بلا سبب؛ وما رأينا من قبله رئيس حكومة لا يمل القول، ولا يعدم المغالطة، ولا ينفد لديه مَعِينُ المِرَاء والجدل في القضايا الخاسرة.

ولكنه كان بهذا القول المسرف، والمطاعن المتمادية، والخطب الحاشدة من الاتهام والكذب، يروِّج في الواقع لخصومه، وينكشف للناس على حقائقه؛ لأن تلك الخطب اللاعنة الطاعنة راحت أحسن دعاية للوفد وزعيمه، وخير وسيلة للترويج لهما؛ لأنه جعل بها يزيد الناس بالوفد إيمانًا، ويُمكِّن للوفد عندهم شأوًا ومكانًا، ويؤكد الصدق في أمرهم باليقين.

وشاء مصطفى النحاس أن يُشهد خصمه مبلغ ما له عند الأمة إزاء ما يزيف هو من الاستقبالات للقائه؛ فقرر أن يزور مدينة بني سويف في شهر أبريل سنة ١٩٣١، وكان الأحرار الدستوريون قد ارتبطوا قبل هذا في الحادي والثلاثين من مارس مع الوفد بميثاق وطني تعاهد كلٌّ فيه على إقراره، وأشهد الله والوطن على تنفيذه؛ فاعتزم محمد محمود باشا وبعض أنصاره أن يرافقوا مصطفى وصحبه في تلك الزيارة القادمة.

ولم يكد النبأ يُعلْنَ للناس حتى جزعت الوزارة، وأوحت إلى مدير ذلك الإقليم بمنع الاجتماع، كما اجتمع مجلس الوزراء للبحث في الأمر، وقرر تعبئة أورطتين من الجيش المصري مشاة وخيالة وقوات أخرى من بلوكات الخفر والشرطة، وعين كثيرًا من القواد والضباط الكبار لحراسة المدينة، ومنع هذا المُغِير المرهوب من الزحف، وصده عن الاقتحام.

ولكن مصطفى أبى إلا أن يسافر، وقرر تأدية الزيارة غير حافل بكل تلك القوات المسلحة التي أُرصِدَت على طريقه. وفي اليوم المحدود — وهو السادس من شهر أبريل سنة ١٩٣١ — استقل دولته وزملاؤه القطار من القاهرة، فما إن بلغها حتى رأى ثَمَّ حياله قوات مسلحة تمنعه الطريق، فسار بخطوات ثابتة نحو الباب الخارجي للمحطة، وكانت تلوح يومئذٍ أشبه شيء بقلعة عسكرية محصنة، وما كاد يتقدم هو وأصحابه حتى لمست صدورَهم فوهاتُ البنادق، فصاح الزعيم برئيس القوة قائلًا: «نحن هنا مسلحون بسلاح الحق، ولن نأبه بالقوة الغاشمة مهما عَظُمَتْ.»

ولكن الحصار ما لبث أن أطبق عليهم في المحطة، ومُنِعوا بالقوة من النزول إلى المدينة، وهي في الداخل تَغْلي مراجلُها من اللهفة على لقاء زعيمها الوفي الأمين، إذ أرصدت الحكومة الصدقية على شوارع المدينة قوات كبيرة انتظمت أنطقة كثافًا على طول الطريق.

وإزاء هذا التصرف الغاشم الشاذ الساخر من أصحابه، أجمع القوم على ألَّا يبرحوا المحطة حتى يدخلوا المدينة، ولتفعل القوة بهم ما تشاء.
figure
نومة بديعة تحت ظل الجهاد.

ولبثوا في فناء المحطة حتى أرخى الليل سدوله متبلغين بشيء من الطعام في غير جزع ولا ألم ولا إعياء.

وعلى حرِّ الهاجرة، وفوق متكأ خشبي خشن، رأت الدنيا رجلًا عظيمًا في قمة المجد مكانُه، وعلى ربوة الفضيلة محلُّه، رجلًا هو الرمز الكماليُّ لأمة عظيمة، وقُدْسُ الزعامة وقِوَامها، قد تمدد واستلقى ليغفيَ لحظة، كأنه قد نام على سريره في بيته، ورقد في فراشه النظيف الوثير!

إن ذلك النائم فوق هذا المتكأ هو مصطفى النحاس، زعيمُ الأمة المصرية في جهادها الوطنيِّ للحرية والاستقلال، ورئيس الحكومة من قبل، ونزيلُ جزيرة سيشل، وخليفةُ سعد الخالد. وقد ظن صدقي باشا إذ وَلِيَ الحكومة من بعده أنه بحشد تلك القوات الضخمة حياله لمنعه وصده لن يلبث أن يغلبه على أمره؛ فكانت استلقاءة مصطفى فوق المتكأ الخشبي الجامد الخليِّ من الفراش أكبر سخرية من قواته، وأبلغ إهانة لحقه وكرامته؛ إذ بقي مصطفى النحاس على مكانته، حتى وإن بدا على ذلك المقعد الخشن نائمًا، بل ازداد بهذه الضجعة المتواضعة مهابةً وجلالًا.

وفي القاهرة خَشِيَ صدقي باشا العاقبة المنتظرة، فأرسل في جنح الليل قطارًا خاصًّا ليحمل خصمه بقوة السلاح على الركوب فيه والمآب به قبل أن يترامى إلى البلاد الخبر، ويتنفس الصبح لذي بصر، ويقضي مصطفى الليلَ كله في العراء، ويبيت صحبه على الطَّوى شجعانًا صابرين.

وجاء كبير الجند في شرذمة منهم فأحاطوا بالزعيم، وقال القائد: «إن لديَّ أمرًا من الوزارة بتسفيركم ولو اقتضى الأمر استخدام القوة»، فأجابه الزعيم قائلًا: «إننا هنا لا نسافر إلا بالقوة»، فتقدم الجنود وأحاطوا بالجمع وأركبوهم القطار إكراهًا وعَنْوَة. وتحرك القطار بهم في منتصف الحادية عشرة من المساء، فبلغ القاهرة بعد مَوْهِنٍ من الليل، والحق ساخر، والباطل لا يعرف الحياء.

وكان صدقي باشا قبل ذلك قد زار بني سويف نفسها، فزعم أنها استقبلته بترحاب، وأحسنت مَوْفدَه كل إحسان، وأعلن أن له فيها ألوف المؤيدين والأنصار؛ فمن أي شيء بعد ذلك كان يخشى وهو المدرك أن معقلًا من معاقل الوفد قد سلَّم له؟ وكيف أخذته الريبة بعد اليقين، فأعد لزيارة خصومه الكتائب المسلحة والقوات الشاكية الأسنة والحراب، وقطع على أهلها المسالك، وعلى النازحين إليها السبل والدروب، وأحالها في لحظة معسكرًا قائم المضارب، وميدان حرب لا يُسمَع فيه غير النداء والصفير؟!

فإذا هذه الظاهرة قد جاءت نافية لكل ما زعم، ودليلًا ماديًّا على فساد ما ادعى، وبرهانًا قاطعًا على ضعف مكانه، وعجز سلطانه، ولقد منع الوفد يومئذٍ أن يتكلم، ثم ترك الكتائب والقوات المسلحة تتكلم بأبلغ لغة وهي الصامتة، وتتحدث بأنطق لسان وهي لا تعرف البيان.

لقد صال الحق يومئذٍ وجال، وإن لم يغادر مكانه من الأفاريز؛ وانهزم الباطل وتضاءل، وإن حمل الحراب وعبَّأ الكتائب، وتراصت منه الصفوف، ووقف مزدهيًا بالقذائف والرماح! … ولقد جَلَّ يوم بني سويف عند الملايين، وراع موقف الوفد فيه عند الأمة الكريمة؛ إذ رأى الناس فيه أي الفريقين أرعى للنظام، وشهد الشعب خلاله أي الجانبين أحرص على القانون، وقد بدت الحكومة مستهترة به، وهي الزاعمة أنها تصونه، وبدا الوفد حريصًا عليه، وهو المتهم من خصمه بجناية العبث به؛ لأن حشد الكتائب المسلحة لم يكن عملًا يقتضيه النظام، ولكنه كان مسلكًا يستفز إلى الاستخفاف به، لولا حكمة الزعيم وأصحابه، وصبر الجماهير وسكينتها، وليس يقوم الحرص على النظام بالاعتداء على أبسط مظاهر القانون؛ لأن الحرص على الشيء والاعتداء عليه لا يجتمعان.

لقد كان يوم بني سويف يومًا عظيمًا في التاريخ؛ لأن آلافًا مؤلفة من الأمة استطاعوا أن يملكوا جأشهم، وحرصوا على نظامهم ما دام الحق في جانبهم، والفطنة الدائمة في منازل مهجهم ومسالك دمائهم؛ على حين لم تستطع الحكومة أن تملك جأشها وتحرص على نظامها، فرصدت للسلم كل مظاهر الحرب، وحشدت للسكينة كل عوامل الهياج، واعتدت على القانون لتحافظ عليه، واستهانت بالشعور العام وهي تخشاه، واندحرت في المعركة الصامتة وإن زعمت لنفسها النصر المبين.

لقد كان يوم بني سويف من ناحية الأمة يوم العقل والحكمة، ومن ناحية الحكومة يوم الجرأة الخائفة. وقد أراد خصوم الأمة أن يُراق فيه الدم على جوانبه، وأبت الأمة إلا أن تجعله على أعدائها يوم الخيبة الفاضحة.

«لا نحمل غير سلاح الحق!» تلك كلمة الرئيس الجليل مصطفى أمام الجند المدجج بالأسلحة، فما أكبرها من كلمة ذهبت في لغة الحق مثلًا، وقد راح قائلها في الدنيا شجاعًا بطلًا؛ لأنها كانت أقوى من الكتائب جميعًا، وأنفذ من الأسلحة كلها قذيفةً ومدفعًا، وقد حفظها التاريخ؛ لأنها كلمة خالدة في يوم خالد. وقد مضى يومهم أخرس أبكم لم يسمع التاريخ فيه منهم غير صليل السيوف في أكف المحضَرين.

كان يوم بني سويف يومًا رهيبًا لا يزال في الذاكرة أثره، ولن يمحى من الحافظات خبره؛ فقد تسلمه التاريخ ووعاه، وتقبله الخلود فاحتواه، وذهبت ساعاته في غير ما تذهب الساعات، ومَرَّت دقائقه وليس كمر الدقائق المتواليات، وهب الناس له من المضاجع من بُكرَة الصباح ذاهلين؛ فقد قطعوه قبل مجيئه في الأحلام خائضين، وسافروا في الكرَى مع رحلته غادين ورائحين، وعرفوا موقعه من الزمن، وعدده من الشهر، قبل أن يواجهوه مع أنفاس النهار مُصْبِحين.

كان يوم بني سويف يوم الوطن، بل كان يوم الإيمان، ولو أذن الله للفلك الدوار من رهب ذلك اليوم المشهود لوقف له من الإكبار الزمان؛ لأنه لم يكن يومًا في الدهر، ولكنه كان عمرًا آخر في العمر؛ ولئن لم يتمخض عن حادث أو أحداث، فقد تمخض عن حكم وعبر، وفاض على جوانبه الحب وزخر، ومشى بين منافسه اليقين وخطر، وتهادَى في مناكبه الإيمان الوطني وتبختر، واعتز الحق فيه بنفسه، وازدهى الباطل فيه بجنده وحرسِهِ، ووقفت الإنسانية تشهد بين عزاء الحق وسلوة اليقين، وبين خجلة الباطل وضعفه المستكين.

ويوم يحاول أحد من جَحَدَة الفضل والمطبوعين على الكنود أن يماري في فضل مصطفى ومزاياه، وإخلاصه لبلاده وتفانيه، يجب أن يذكر يوم بني سويف، وتوصف لذلك الجاحد رقْدَتُهُ فوق المتكأ أبلغ وصف؛ فإنها والله لنومة ليس لها في التاريخ من شبيه، غير نومة الفاروق عمر بن الخطاب تحت الشجرة والظل المُورِف، فقد عدل عمر يومئذٍ فنام، وقد أدى مصطفى واجبه لبلاده فالتمس النوم ساكن الأوصال، مستريح الضمير، ثابت الإيمان.

وتقدم صدقي باشا يعلن عن موعد الانتخابات، فوقفت الأمة مجموعة تسخر منه ومن دستوره وانتخاباته، معلنة أنها لا تشترك فيها، ولا تقر قيامها؛ فعمد هو إلى إجرائها إكراهًا، وإقامتها عنوة وتزييفًا، حتى لقد استعين بكل الجرائم المنكرة على تمثيلها، فكانت مهزلة مبكية، وأعجوبة مزرية، وفاجعة دامية، اشتُرِيَت لها الذمم الرِّخَاصُ شراءً، وحُمِلَ الضعفاء إلى صناديقها في المركبات الثقال ومحامل الدواب حَمْلَ الأنعام الخراف والشَّاء، واصطُنِعَت فيها كشوف الأسماء، ودست خلالها أسماء أموات لم يعودوا في الأحياء، وزورت الأكاذيب على الناس يومئذٍ تزويرًا.

لقد كانت تلك فعلة نكراء جريئة فوق كل معاني الجرأة، جرأة لا يمكن أن تبدو من مخلوق في العالم أو يقدم عليها إنسان؛ ولكنها ظهرت وتقدمت، وأمعنت وتوغَّلت، واستعانت أدنأ الوسائل واستخدمت، وانتهت بجمع برلمان من النكرات، لم يكد يتولى آخر الأمر عن جامعه، ويعرض عن سائقه ودافعه، حتى اعترف هذا بأنه في الواقع لم يكن برلمانًا صالحًا، وإنما كان حظيرة من بسطاء وسذج ومجاهيل يسهل التأثير فيهم، وتوجيههم ومساقهم في غير مشقة ولا كبير رياضة ولا طويل عناء!

وضحكت الدنيا من أرقامه يومئذٍ وحساب إحصائه، فقد جعل نسبة الذين اشتركوا في انتخاباته رقمًا كبيرًا، وجاء القدر الساخر بلذعة قاسية، ومِزْحة مُدمية، إذ لم تتجاوز في بلد كبير أبى حاكمُهُ أن يزوِّر، وربأ بنفسه عن أن يزيف ويصطنع، أربعة في المائة، فلبث الناس من هذه المفارقة طويلًا يضحكون فاكهين.

لقد طفح الكيل يومئذٍ واستفحل السوء، إذ صنع ذلك العهد الغاشم الشاذ بالبلاد ما ردها عشرات من السنين إلى الوراء، وأتى أصحابه من الآثام ما رجع بها أجيالًا طوالًا إلى الخلف؛ فقد كان ذلك الحكم نكسة خطرة بعد نَقَهٍ كان بادي الظواهر واضح الأمارات، ولقد قاومنا تلك النكسة بكل قوانا، وكافحنا جميع أعراضها بكل ما استطعنا من كفاح، فأثبتنا بتلك المكافحة المستمرة أن الأمة تعيش في عصر غير العصر الذي تعيش الحكومة فيه، وأن مسافة الخُلف بين الأمة والحكومة قد جعلت في مصر جيلين متباينين في الروح والمظهر والمسلك والمبادئ والنظريات، جيل الحكومة التي جمعت إليها سائر عناصر الرجعية البائدة، ولفت حولها جميع بواقي النزعات المتخلفة، وربيبي عصور الاستبداد وعبدة المناصب، وطلاب المآرب والغايات، وجيل الأمة التي تتعلق بأهداب أحدث المبادئ، وتؤمن بفضل أرقى الدساتير، وتريد أن تعيش مع العالم المتحضر، وتجاهد الحياة الجديدة في الممالك، جيل الحرص على الحرية، والتمسك بالمثل العليا، والتشبث الجاري بمطالب الاستقلال، ولعل هذه الظاهرة أعجب ما شوهد في بلد من البلاد، وأغرب ما عوين في عصر من العصور، وهي أن يجتمع في وقت واحد حكمُ العصور الغابرة وشعور الأمم الحديثة المتحضرة، وهذا هو سر الكفاح الطبيعي بين الشعب وحاكميه؛ لأنه كفاح الحاضر المتوثب إزاء الماضي العائد من مقابره يجرر أذيال الأكفان.

وقد ظل صدقي باشا مع هذا يزعم أن معه إجماع الأمة، وظلت مقاطعة الأمة لانتخاباته السخريةَ الصارخة على جوانب دعواه، إذ لم يكن يُعقَل أن تحتوي البلاد إجماعين، أو تكون الأكثرية الساحقة من أهلها في ناحيتين مختلفتين، حتى تحطمت الأكذوبة، وبقي الحق قائمًا في مكانه، تحيط به الثقة ويحفُّه اليقين والإيمان.

وقد تقدم مصطفى النحاس باشا إلى النائب العام ببلاغ عما ارتُكِبَ في الانتخابات من جنايات بالغة، ولكن ذلك البلاغ كان مآله الحفظ والإهمال مع أنه اتهم فيه الحكومة باقتراف أشنع الجرائم، وإتيان أعظم المخالفات، ولو أن حكومة بريئة نزيهة تلقت اتهامًا جريئًا صريحًا كهذا لما ترددت، حرصًا على براءتها وكرامتها، في استياق المتهم إلى مواقف المحاكمة ليتلقى على جرأته أقسى العقاب، فكان حفظ البلاغ حجة صامتة على ذلك العهد الكثير الكلام …!

وظل مصطفى النحاس يكافح بنفسه، ويقود الأمة إلى الكفاح، لم تتأثر روحه المعنوية بأدنى مؤثر، ولم يعدُ على قوته ورباطة جأشه عادٍ، وقد منع من زيارة بني سويف على تلك الصورة التي وصفناها لك، لكنه أسر في نفسه ليزورَنَّها على أية حال.

وجاء منع الوفد والأحرار الدستوريين الذين تعاهدوا معه في ميثاق وطني عظيم قبل يوم بني سويف العظيم من زيارة طنطا تلبيةً لدعوة أهلها، حافزًا قويًّا لمصطفى وأصحابه إلى زيارتها مهما صنعت القوة الغاشمة لتردهم عنها، ومهما كلفهم الوصول إليها من مشاق وصعاب؛ فاعتزم القوم السفر في أول مايو سنة ١٩٣١، وانثنت القوة الغاشمة تتأهب بقواتها المسلحة لمنعهم، فأقفلت أبواب محطة القاهرة جميعًا، ورصدت للقائهم الكتائب والجند حاشدين.

فلما جاء مصطفى ومحمد محمود باشا في جمع زاخر من المجاهدين وقفوا حيال الأبواب الموصَدَة، وأقبل القائد الإنكليزي الموكل بالإشراف على الجنود، فأنذرهم أن يعودوا من حيث أتوا؛ ولكنهم لم يستمعوا له ولم يأبهوا بوعيده، وتدافعوا على الأبواب فحطموها، ودخل مصطفى ومحمد محمود في مقدمة المقتحمين، فأحاط الجنود بهما وتطاولوا عليهما بالعدوان؛ ولكن مصطفى رجل يحسن استخدام ذراعيه القويتين، وبأسه الشديد عند الحاجة، فعرف كيف يقتحم المكان بصدره، ويهوي باللكمات القوية على ملاقيه. وكاد دولة محمد محمود باشا، لضعف بِنْيَتِه، يسقط صريعًا من شدة الزحام، وجرأة الجند عليه، وسوء أدب الكونستبلات الإنكليز في حضرته، وهو رئيس حكومة سابق، كان آمرًا في عهده ناهيًا، وكانوا بأمره صادعين.

وسلك صحب مصطفى مسلكه، فاقتحموا الأبواب شجعانًا، واحتوتهم الساحة الداخلية للمحطة، وهم محيطون بالرئيس حرصًا عليه وتفدية، واستخفافًا بالقوة الغاشمة وسخرية، حتى ركب دولته القطار وهو في أشد درجات الحماسة والعزم والإقدام، وجاء كبير الجند يأمره بمغادرة القطار، فتلقاه بجواب حاسم وهو أنه لا يبارح القطار، وسيقاوم دفاعًا عن حريته وحقه في الانتقال بكل ما لديه من قوة، وأنه إذا كانوا عزلًا من الأسلحة، فإن قوتهم هي في إيمانهم ونفوسهم، فإذا استطاعوا أن ينتزعوا هذه النفوس فليفعلوا، فإنها فداء للوطن.

وأمام هذا الإصرار الرائع العظيم، عمدت القوة إلى حيلة صغيرة، ففصلت المركبات من القطار، وأطلقته يسير إلى جهة غير معلومة؛ فظل الركب فيه لا يحفلون بشيء، ولا يراعون لما تريد القوة الغاشمة أن تصنعه بهم؛ وإذا هم بعد لحظة يدركون أن القطار سائر بهم في الصحراء المترامية فيما وراء العباسية وسط القفار والمقابر ومساكن الآخرة، وكأنما قد أنبتت الأرض القفر في تلك اللحظة بشرًا، وانشقت عن أناسيَّ كثيرة؛ فإذا القوم يُهْرَعون لتحية الزعيم، ويستبقون القطار ليرسلوا في إثره أحر هتاف من أعماق القلوب، وأصدق دعوات من أغوار المهج والأرواح.

وجعل القطار يجري بهم في اتجاه حلوان حتى وقف بهم قريبًا من جهة تدعى «كفر العلو»، ولم يكن معهم شيء من الطعام أو الشراب، فلبثوا كذلك حتى عرفت أم المصريين بنبئهم، فأرسلت الطعام إليهم من بيت الأمة، كما وافتهم قبل ذلك مع أسراب من السيدات على الطريق فشجعتهم وباركتهم، وألهمت قلوبهم أروع إلهام.

وخشيت الوزارة عاقبة هذا التصرف الغاشم، فأوفدت إليهم في ساعة متأخرة من الليل اللواء رسل باشا، وكان مريضًا فغادر فراشه، وجاء مستبكيًا يرجو إليهم رجاء أن يعودا معه في السيارات إلى دورهم؛ فرأوا أن يجيبوه إلى طلبه مكتفين بأن ما كان منهم قد أسقط هيبة الحكم الغاشم وفضحه أشنع فضيحة.

وفي الحق لقد كان ذلك اليوم جليلًا كأصحابه، رائعًا كركبه ومواكبه، اهتزت لأنبائه مصر بأسرها، وجعلته في سجل الجهاد من أيام فخرها، ورمز انتصارها، ولم يبق في الأجماع صغير ولا كبير ولا مؤيد ولا نصير إلا تلهف على تلك الوقفة الوطنية الباسلة وخبرها، وعدَّ الساعات والدقائق من مطالع نهارها، وتذاكر أسماء أبطالها وأبرارها، وراح يقول: وهل فيهم نائبنا؟ ومضى الآخر يسائل: وهل فيهم شيخنا؟ وتساءل ثالث: وهل ذهب مع القوم عضو دائرتنا، أو رئيس لجاننا؟ كأنما أحس كل فرد في مصر أنه ينبغي أن يكون حاضرًا مع الجمع أو ممثَّلًا، وكأنما أضحى الفخار في العشيرة أن يكون أحدها أو سوادها في جموع المسافرين. وجاء يوم السفر عظيمًا كأهله، فخمًا كمعناه؛ لأنه أثبت للحق شجاعته، وللجهاد الشريف بسالته، وللشعب المتعطش للخلاص صدق شعوره وقوة عاطفته، وقد ازدهى فيه الحق لأنه قد ربحه، وازدان به الجهاد لأنه ناضل الباطل المدجج بالسلاح وكافحه، وتغلبت فيه الوطنية العزلاء على كل إرادة في طريقها، وأسمعت العالم كله دويَّ كلمة الحق معلنة أن مصر المجاهدة لا تنهزم أمام الظلم الجائح ولا تستسلم، وأن حقها الصريح الشجاع المستميت يأبى إلا المغالبة والحياة، وأن ملايينها لا يزالون من البشر فلا يرضون أن يكونوا كما يراد بهم قطعانًا من السائمة والأنعام.

ذلكم يوم عظيم جاء فيه الزعماء لا يحملون من الأسلحة غير سلاح واحد، ولكنه بكل ما عند المادة من أسلحة؛ لأنه يقطع ولا يظهر، ويَقُدُّ ولا يُدْمي، ويبتر ولا تجدي في جراحته اللفائف والأربطة … سلاح الحق، فأين أسلحتهم منه؟ وإنها لتتراجع أمامه، وتتزحزح حياله. وإن جموعهم المحشودة على الأبواب لترتد وهي القوية، وتتراجع وهي المتقدمة العَصِيَّة، فإذا الحق الأعزل يقتحم الباب، وفي رأس الحق رجل شجاع لا يهاب، رجل فتح للأذى صدره، فهلموا إليه إن استطعتم … هيا ارفعوا العِصِيَّ على شخص الوطنية الطاهر، ورأس الجهاد الرفيع، وإكليل الحق الأكبر … هيَّا امسكوا بتلابيب الملايين في ثوب ذلك الرجل العظيم، وقد جاء الحق وتراجع الباطل وارتدَّ الطغيان حائرًا مرتبكًا منزويًا لا يستطيع كفاحًا ولا يقدر على مغالبة.

لقد تضاحك الحق في تلك اللحظات الرهيبة ساخرًا، ووقف الباطل بجنوده لا يدري ماذا يفعل حائرًا، وإن الأسلحة لتشعر بمعناها فتختلج ولا ترتفع، وإن الأصوات الناهية الآمرة لتحس خَجْلَةَ موقفها فتتعالى وهي المتهدجة؛ لأن كل قوات المادة تنكمش وتنزوي أمام قوات الروح، وإن كل صنائع الباطل وأعوانه ليوجسون من رَهَبه، وهم الجريئون المتقدمون.

واقتحم الجمع الباب، فيا ويل الوطنية من ظالميها! ويا عار الأجيال في مصر من اليد الأثيمة التي ترتفع على زعمائها ومنقذيها! وإذا بأصغر الناس يمسك بأكبر الناس، وإذا أهون الأقدار تتواثب على أخطر الأقدار، وإذا الزعماء يعامَلُون في ذلك العهد العجيب بما لم يحدث في تاريخ مصر مثلُه، ولا جرت في عهد السلطات البريطانية أشباهُه، ولا وقعت في أيام الثورة الماضية نظائره، وإذا الحق لا يبالي بأشخاصه؛ لأنه لم يعد يفكر إلا في معناه، وعاد معناه لا يبغي سوى غايته، وإنها لأشرف غاية، وما كان أشرف الغاية ليأبه بالأذى يصيب الجسوم والأبدان.

وقد أسلفنا عليك أن دولة الرئيس أسر في نفسه لَيَزُورنَّ بني سويف في يوم من الأيام لشكر أهلها بنفسه، وسخرية من القوة الغاشمة التي حاولت منعه؛ ففي اليوم الرابع من مايو سنة ١٩٣١، وبلا علم أحد من الناس، استقل سيارته على مطالع الأصيل في رفقة من بعض صحبه، وانطلق صوب بني سويف، فبلغها مع المساء، ولم يكد الناس يلمحون السيارة حتى عرفوا أن الزعيم قد جاء على غير مألوف عادته، فأقبلوا جموعًا مزدحمة فالتفوا حوله، ولم تلبث المدينة كلها أن تسامعت بالنبأ فاستحالت شعلة من النار، وهرع شبابها وشيبها للقائه. وكان الزوار الكرام قد وصلوا إلى دار الشيخ المحترم عوض بك عريان المهدي، فانطلق الفيض الزاخر من الحشود الحاشدة نحو ذلك البيت الكبير وهم يهتفون أشد الهتاف.

وفي وسط مظاهر الابتهاج والناس فرحون أبت القوة الغاشمة إلا أن تظهر جبروتها وعسفها، فجاء الجنود مسلحين بالبنادق، وراحوا يعتدون على الجماهير ويطلقون الرصاص على الأبرياء، فَخرَّ قوم صرعي وأصيب خلق آخرون بجراح بالغة، واشتد غضب الشعب وقد رأى جثث الشهداء ملقاة على الطريق، وسمع أنين الجرحى يفتت الأكباد؛ فانطلقت الجموع في موجة رهيبة تبحث عن الضابط الأثيم الذي أمر بإطلاق النار على الوادعين، وكان هذا قد أصيب فنجا إلى الدار مستغيثًا بدولة الرئيس، فأمر دولته بإسعافه وحماية حياته، وجاءت مركبة الإسعاف لحمله، ولكن الشعب الغاضب حطمها تحطيمًا.

وحين همَّ الزوار بركوب السيارة عائدين إلى القاهرة ظل الرصاص يتناثر من حولهم، وينهمر من فوقهم، فبادر الناس إلى الإحاطة بها لتفدية دولته بنفوسهم، حرصًا على حياته الغالية ببذل حياتهم، فجعل الرصاص يَؤُزُّ من فوق رءوسهم، فهوى مَنْ هوى قتيلًا وسقط الجرحى مجندلين، ومَرَقَتْ السيارة تشيعها الأبصار والقلوب؛ فكان المشهد رهيبًا، والليل بهيمًا، والخطر عظميًا، والموقف يذهل الألباب. وتسامع صدقي باشا وزملاؤه بالنبأ الرهيب، فأرصدوا على طريق الرئيس في عودته بعض الشرطة ليمسكوا به؛ فلما أتت السيارة على حدود الجيزة وقفوها وتقدم مدير الجيزة إلى دولة الرئيس محييًا، وهو يقول: «هل هناك ما يمنع دولة الرئيس من الذهاب إلى دار النيابة العامة؟» فأجابه قائلًا: «إننا نريد ذلك لإثبات ما وقع للأبرياء من العدوان.»

وانطلقت السيارة إلى دار النيابة حيث جرى التحقيق، وكان لحديث الرئيس أمام المحققين قوة رهيبة وبلاغة رائعة انزوى المحققون أمامها ولم يستطيعوا كلامًا، وغادر دولته دار النيابة مع أول خيوط النهار، وقد امتلأت الساحة المترامية خارج الدار بخلائق كُثرٍ تسامعوا بالنبأ فجاءوا مهطعين، وأبوا الرقاد والذهاب إلى المضاجع حتى يطمئنوا ويعلموا النبأ اليقين.

ولم يكد الرئيس يخرج إليهم في السيارة وهي منطلقة به إلى داره مع أنفاس الصبح حتى دوى الهتاف بحياته في صميم السكون وهدأة السَّحَر، وكأنما أزعجت تلك الأصوات الداوية ذلك الحاكم الغاشم الذي أطال السهر في مكتبه في تلك الليلة الرهيبة، فأهوى على التليفون يطلب حكام الأقاليم في سكينة الصبح لينبئهم بأن مصطفى النحاس لم يُحْتجَزْ في النيابة، وإنما ذهب إلى داره، خيفة أن يستبق نبأ التحقيق معه إلى الريف وصميم القرى، فيهب الناس على النبأ مروعين.

لقد حارب مصطفى خصومه بنفسه حربًا مستعرة الوَقدة، متأججة الحماسة، قائمة الإيمان، مكينة اليقين؛ فلم يكن ليقتصر في الجهاد على مجرد التوجيه، وتدبير القيادة، ووضع الخطط، ورسم التصميمات — وهو أخطر وظائف الزعامة، وأكبر أعمال القادة — ولكنه لم يكن ليتردد في خوض الغمرات بشخصه، والإقدام على الأخطار بذاته. وقد حاول خصمه ضرب الأنطقة حوله ومنعه من الاتصال بأمته في كل بلد حلَّ وكل موضع ذهب إليه، وجعل أشراطه يعتقلون كل هاتف بحياته، وكل مصفق لرؤيته، حتى لقد انشغلت المحاكم الجزئية بقضايا الأشخاص والجماعات الذين يساقون إليها بتهم الهتاف بحياة الرئيس أو الاحتشاد لتحيته، ولكن ذلك كله لم يمنع الجماهير من الاجتماع على طريق الزعيم والازدحام للترحيب به والتكريم لشخصه، وهو في كل مكان — رغم الجنود الحاشدين والعذاب المنتظر للهاتفين — يجد الزحام حوله، والناس متدافعين بالمناكب لمقدمه، والخلائق مهرعة إلى اجتلاء مطلعه، وهو يخشى عليهم الأذى وهم لا يخشونه، ويخاف عليهم العذاب وهم لا يخافون عذابًا.

ولم يُخَاصَم مصطفى في السياسة وحدها، ولكنه خوصم وعُودِيَ في كل شيء يتصل بذات نفسه أو يتعلق بعقيدته أو خاصة حياته، بل لقد خوصم في كل صفة من صفاته، وحورب في كل نزعة من نزعاته، وشُتِم بما لم يُشتم أحد به، وطُعِن في حقه بما لو أمكن أن يجتمع بعضه في رجل ما لنكره الناس وبَرِئُوا منه، ومع ذلك ظل كل تلك السنين الحوالك محاربًا في كل ساحة، منتصرًا في كل ميدان.
figure
بعد معركة الشرف – الزعيم يعود شيخًا جريحًا.

ولن ينسى الناس في معارك الشرف ومواقع الفخار ما كان منه في نوفمبر سنة ١٩٣٢ أمام دار النادي السعدي، في معركة الحرية والدستور، فقد أبت السلطة الغاشمة إلا أن تمنع اجتماع الهيئة الوفدية في ذلك النادي، وأبى الكبرياء الوطني المجيد إلا أن يدخل داره، ويصل إلى ناديه، مهما يكن من الأمر، ومهما أرصدت تلك السلطة الباغية في طريقه.

وما حل الموعد المضروب للاجتماع حتى توافى الشيوخ والنواب، فوجدوا الطريق سدًّا، والجند المسلح أنطقة كثائف وحشدًا، وإذا بعد لحظة يصل مصطفى فلا يتردد في اقتحام الطريق بصدره، وإذا الجمع يستلهم من زعيمه هذه الحماسة البالغة الجريئة، فيندفع في أثره، وإذا معركة رهيبة قد راحت تنتشب بين هؤلاء الكبار من عيون مصر ورءوسها وممثلي الشعب ووكلائه الأوفياء، وهم عُزَّل كُشْفٌ لا أسلحة لهم، وبين أولئك الجنود المدججين بالأسلحة، والضباط الإنكليز والكونستبلات البريطانيين، وقد استحالوا وحوشًا، وفقدوا كل ما تنماز به الإنسانية عن عالم الحيوان، فأقبلوا يهوون بعصيهم على الرءوس في غضبة الحاقد وغيظ المنتقم، ضاربين الشيخ الوقور، ومعتدين على المُسِنِّ الأشيب وملاحقين النائب المحترم، كلما لوى عن طريقهم عَدَوْا في أثره ليزيدوه إيذاءً ومسيل دماء.

ومن شهدهم في ذلك اليوم التاريخي الرهيب وهم يعتدون على مصر الممثَّلة في أولئك الكبراء الأمجاد، ويرفعون الأكف على زعيم الأمة ورئيس الحكومة السابق، ونظير ماكدونالد في حكومة بلادهم، وضيف الملك في المفاوضات الماضية وعاهل إمبراطوريتهم، ومن رآهم يومئذٍ وهم يطيحون بنوابغ ومحامين لا يقلون عن محامي بلادهم، وأفذاذ كبار محترمين لبارز شخصياتهم؛ لم يكن ليعتقد لحظة أن أولئك إنكليز من أبناء بريطانيا العظمى، بل لم يكن ليتصور مطلقًا أنهم ضباط وأفراد في الجندية وهيئة الجيش، حيث آداب العسكرية أرفع من أن تصول وتهجم على الأعزل، وتعتدي على الأكشف المجرد من كل سلاح، وحيث التعاليم توجب إعطاء الاحترام الواجب للكبار، وتوقير الشيخوخة، وإجلال المراكز والأقدار، وإكبار الشِّيَب والمُسنِّين.

لقد كان ذلك في الحق معرة بالغة في حق الأدب الإنكليزي والخُلُق البريطاني، وعملًا شائنًا في الحضارة من جانب أفراد يعتزون بها، ويعتقدون أن حضارتهم سيدة الحضارات.

وما أحسبُ الناس قد نسوا ما كان من مصطفى في رحلة الصعيد عام ١٩٢٣، فقد فزعت لها السلطة الطاغية يومئذ، ولم تدر ماذا تصنع لوقف تيارها الزاخر، وموجها الدافع، ومواكبها الجرارة في إثر الزعيم كلما نزل ببلد أو زار قومًا في موطنهم؛ فلم يسعها أخيرًا من اليأس والشعور بالفضيحة إلا أن تلجأ إلى حيلة صغيرة، وهي أن تحول القطار الذي يقله إلى القاهرة وقد ملأته جندًا وضباطًا وأسلحة، فكان ذلك «اختطافًا» لا يكون من حكومة تحترم نفسها، وإنما هو من شأن قطاع الطرق وعصابات الجناة والمجرمين.

وقد حورب مصطفى أيضًا في معاشه فأُنقِصَ وحُبِسَ عنه، واتُّهِمَ بسبيله في نزاهته، وقُذف بالظِّنَّة الأثيمة في رفيع قناعته؛ فظل ساخرًا من التهمة والمتهمين حتى حكم له القضاء بالحق، فانتصر بالعدل على أسوأ الاتهام. وكان من أعاجيب ذلك العهد الجشع النهم الشره الطويل اليد المطاط الذمة أن يكون لمثال النزاهة متهمًا، وأن يروح للطهر والبراءة مهاجمًا، ولكن كان ذلك كله من سخرية الأقدار، تجعل وسائل الظلم والطغيان في ذاتها أدوات لاندحاره، وآلات لقتله، وأساليب لفضيحته، وإن ظن أنه سوف يروح بها من المنتصرين.

لقد حارب مصطفى النحاس عهدًا طاغيًا تحالف عليه خلاله رجلان عجيبان في الجرأة والحيلة والمكر والدهاء، وهما برسي لورين وإسماعيل صدقي، ولم يكن لمصطفى من حليف غير الأمة المؤمنة بحقها، المجاهدة الصبور الثابتة حيال أعدائها؛ فجعل مصطفى روحه المعنويَّ أبدًا ماثلًا أمام الأمة، وجعلت الأمة كلما رأته كذلك قويًّا صامدًا ثابتًا بسَّامًا للخطوب سخَّارًا من المحن، تتحمس للجهاد، وتصطبر على ما لم يكن أحد ليصبر عليه، وتستجيب لندائه إذا ما دعاها إلى عمل من أعمال الجهاد وواجب من واجبات الكفاح، وتلتف بجموعها حوله وإن تخطَّفها الأشراطُ، وألقوا بها في المحابس، ومَلَئُوا من آحادها رِحَاب السجون.

لقد صبر الشعب قرابةَ أربع سنوات على أشد الألم، واحتمل العذاب في أقسى صنوفه وأبشع ألوانه؛ صبر على «البداري» وكانت آخر ما يكون من الوحشية والاستهانة بكرامة الإنسانية، كما صبر على الأزمات المالية، وقد اتخذ منها ذلك العهد الأثيم وسيلة للمساومة على الذمم واشتراء الضمائر، بما زيَّن للمأزومين — الذين أكلت الضائقة أخضرهم، والذين جاء استخلاص الضرائب بالسياط فأجهز على سوء عيشهم — من استعداده للقرض وسماحته بالتسليف؛ فكان أشنع ما في ذلك الاستغلال الوحشي يومئذٍ أنه راح يحارب الناس بالجوع، ويراودهم عن مبادئهم بالمادة، ويستغل حرج ظروفهم ليحيلهم خونة مارقين …!

صبر الشعب الكريم على النوب والجائحات تلك السنين الشُّهْبَ كلها، كلما أوجس زعيمه الساهر الرقيب المتغلغل إلى الأعماق عارضًا من أعراض الألم، أو تناقصًا في مدخر الصبر، راح يملأ مستودعها بحكمته وروعة مثاله وحسن نموذجه، ومضى ينفخ في الروح المعنوي فيرده متجددًا، ويشده إليه شدًّا، ويفعمه قوة وأيدًا. وقد طُبِع الناس على التأثر بالمثال، والاستجابة إلى القدوة، والانبعاث مع الأسوة الصالحة؛ فكان مصطفى في حصته من الجهاد أكبر حافز إلى المثابرة، وكان من أكبر الخيانة وسط المعركة أن ينبري الإغراء يمشي وسط الصفوف، وتسري الخدعة بين الأسمطة؛ فلم يكد يشهد مصطفى بوادر هذه الظاهرة، حتى عوَّل على أن يستأصلها استئصالًا، ويطهر منها الكتلة تطهيرًا.

لقد أدرك برسي لورين بعد الذي ترك صاحبه يصنعه في البلاد، وبعد أن مَدَّ له في الطغيان مدًّا، أن التجربة محكوم عليها بالفشل أبدًا؛ فأحب أن يغطي وجهه، ويواري سوأة خيبته؛ فأطلق في أفق السياسة مناطيد من الورق الأحمر والأصفر، قد كتبت عليها «الوزارة القومية» أو وزارة الظالم والمظلوم معًا، كعرض مقترح للخلاص من الظلم والنجاة من الطغيان، فينقلب بذلك الحكم قسمة بين الحكام الذين طغوا في البلاد، وبين الزعماء الذين جاهدوا معها، ويتلاشى الإجماع الساحق الذي ظل صخرة النجاة، ويذهب حق الكثرة في ولاية الأمر وحدها، ويعود انتصار الأمة فشلًا، وجدها هزلًا، وجهادها الغالي أرخص ما يكون سعرًا، وضحاياها تحت الثرى نَسيًا منسيًّا.
figure
مصطفى النحاس.

ورضي بهذه الفكرة الخادعة فريق من أصحاب مصطفى وزملائه في الوفد، زُيِّنَتْ لهم تزيينًا، وساعد على ظهورها لهم كفكرة جميلة أنهم كانوا قد بدءوا يتململون من طول الشقة، ويضجرون من مسافة المعركة، ويخشون على الناس من التضحية والتهلكة، ويزعمون أن الصبر العام قد أوشك أن ينفد، وأن الخير في اهتبال الفرصة. وكان الحق في أمرهم أنهم هم وحدهم الذين نفد منهم الصبر وتزعزع الإيمان.

جرى ذلك وسط المعركة، فكان واجب القائد العام أن يكون صارمًا فيقضي على هذه الفكرة المزجاة الخبيثة وهي في المهد، وألا يحكم في أمرها غير الوطنية والواجب؛ فوقف مصطفى النحاس يومئذٍ أروع موقف، وقف يسحق الصداقة سحقًا، ويمزق تذكارات المودة والحب تمزيقًا، ويضحي بكل الاعتبارات العاطفية من أجل نجاة بلاده من شر هذه الخدعة الماكرة؛ ففصل سبعة من أعضاء الوفد مرة واحدة، وسط إعجاب الشعب ورضوانه؛ إذ كان التسليم لهم إهانة كبرى لصبره، وإزراءً شنيعًا بقوة جَلَده، وضعف إيمان به، من أجل حُلم كاذب وفكرة آثمة.

وكان المُوحِي بهذه الفكرة يحسب أن انقسام الوفد بسبيلها سوف يقضي عليه، وأن الانشقاق من أجلها سوف يعجِّل به، فتنجح التجربة من هذه الناحية وإن فشلت من غيرها. فلما ضرب مصطفى النحاس ضربته في غير تردد، وقَدَّ بالمعول قِدَّتَهُ في غير تخاذل أو إحجام، ولقي رضوان الشعب على ما صنع حاضرًا، وإعجاب الأمة بالغًا، واستقام الوفد على سَنَنِهِ بعد هذا الدور الخطر، وباء المنفصلون بخسر وخذلان؛ لم يبق من شك في أن كل علالة يتعلل أصحاب التجربة بها من ناحية نجاحها لا تجدي، وكل أمل مُنتهٍ بيأس، وكل إطالة في المدى سوف تزيد الفشل افتضاحًا.

وكان المنفذ الجريء على التجربة قد حط السقام به يومئذٍ على كثرة موارده، وسعة حيلته، والمد له في سلطانه، بينما ظل خصمه الأعزل إلا من سلاح حقه وإيمانه قائمًا على ساقيه وسط الميدان، مناجزًا مناضلًا في بهرة الحومة؛ فلم تلبث السياسة الإنكليزية أن أدركت أنه قد حان إجراء شيء من التغيير، ولكن على قَدَر حتى لا تنكشف الأستار عن الفضيحة البالغة.

وسافر يومئذٍ صدقي باشا للاستشفاء، وخلال غيبته جاءت الأنباء بسحب برسي لورين؛ فكان النبأ سارًّا مُدخِلًا الفرح على النفوس؛ لأنه مصرع سياسي آخر، سياسي عجيب داهية ماكر، ظن أنه على إخضاع مصر قادر، فراح يحاول ما عز من قبل على كل محاول، ومضى يشتغل ولكن على غير طريقة سلفه «لويد» الشاب المفتون بالمظاهر المولع بعزة السلطان، مجتنبًا الظهور على المسرح، قانعًا بالوقوف خلف الأستار، مُستمهلًا أدواته مهلة بعد أخرى، على أمل أن تخضع البلاد مع طول الوقت، فيكون له في السياسة الاستعمارية فضل النجاح فيما كان خيبة سلفائه. انقلبوا جميعًا خاسرين!

ولكن الله أحبط كيده، وأخزاه هو ومن معه؛ فثبتت الأمة، وثبت الزعيم، وانتصر الصبر الرفيع على البطش الشديد، وخرجت البلاد من الغَمْرَةِ رافعة الرأس شماء.

وظل لذلك العهد ذيل مجرَّرٌ يسْفِي التراب من ورائه، ويثير الغبار من حوله، بما ذهب يكشفه من فضائح الماضي ومساويه؛ فظهرت جنايات صارخة، وتعرَّت جرائم منكرة، كقضايا الاستبدالات، ومخزية الكورنيش، وقضية نزاهة الحكم، والتصرف في أموال الدولة بغير حساب.

واستضعف الحكم الذي أُرْدِف بذلك العهد الغابر لعاملٍ غير مسئول عن سلطانه، وتغلغل في الحكم إلى سائر نواحيه ومكانه، وغلب الحكام على أمرهم، وأشاع نفوذه فيهم فأناخوا له وذلُّوا لأمره، فكان الإبراشي هو الحاكم القائم خلف الستار، يحرك هذه اللُّعب الخشبية كيف يشاء.

وكانت المأساة قد أوشكت على الختام، فوقفت الأمة تشاهد مصارع أبطالها واحدًا بعد واحد، وكلٌّ لصاحبه فاضح، وكلٌّ على شريكه في الجناية شهيد، حتى تواروا جميعًا مندحرين.

وتم النصر لمصطفى النحاس على خصومه، فوقف يشرف على الساحة، ويتطلع بمِرْقَبه إلى آخر ظلال الفلول المندحرة، وقد استحالت ذرًّا صغيرًا دقيقًا من مكان بعيد.

لقد حارب مصطفى لوطنه حربَ شرف وفخر، وتجلد للحوادث وصبر، ووجد من حوله خلقًا كثيرًا صبروا معه وصابروا بجانبه، أولئك هم المتألمون لبلادهم، المتفانون في محبتها، المتلاشية ذواتهم في ذاتها، فقد وصلوا في أدوار رحلتهم النفسية إلى دور العزاء الدائم عن الألم، عزاء ينزل عليهم بردًا وسلامًا، ولا يبالي عذابًا ولا آلامًا، عزاء عميق قوي يحدث راحة نفس شاملة، وينمي في الوجدان احتقارًا للعروض الفانية، وسخرية من الإغراءات الدنيوية، وقلة مبالاة بالشدائد وقسوة امتحان الظروف وغيَر الأيام.

إن هؤلاء المتألمين لبلادهم المسافرين في قافلة الحرية لينزلون كلما اشتد الألم بهم، وأضنتهم مشقة الطريق، وَلَفَحتْهُم الهاجرةُ في الصحراء. نعم، والله إنهم لينزلون من خيالهم وقوة شعورهم بحق الوطن عليهم ومتانة خُلُقِهِم القومي وتفكيرهم، بواحات ظليلة متفجرة العيون متدفقة الينابيع، حلوة الثمر، لذة القطوف، باسقات النخيل، عارشات الأعناب. تلك واحات وبقاع نُضْرٌ متجددات على الطريق، كلما أرادوها وجدوها، وكلما احتاجوا إليها استحضرها شعورهم، فإذا هم منها تحت ظل ظليل.

وقد يهزأ الماديون والنفعيون وطلاب المكاسب والأجزية والمصالح واللُّبانات بهذا الذي نصوره، ويسخرون من هذا الشعور النفسيِّ الذي نصفه، وهم معذورون؛ لأنهم لم يشعروا يومًا به، إذ تحجرت قلوبهم، وانطفأت أخيلتهم ووخَمَتْ مشاعرهم، فأصبحت الحياة عندهم ولا مقياس لها غير خبز نظيف يؤكل، وألوان شهية من طعام يستمتع بها، ووظيفة طيبة في الديوان يُغْدَى إليها ويُرَاح، ورواتبَ حسان ينفق منها عن سَعة لإشباع النفوس ومتع الأبدان.

ولكن ذلك الشعور الصادق الغلاب الفاتن الساحر قائم في نفوس المتألمين لبلادهم، والمجاهدين لحرية وطنهم، وقد أورثتهم الحاسة الوطنية شعورًا آخر يغذيها، وهو العناد، العناد الوطني الذي تمكن من وجدانهم وقوَّى من إيمانهم، وعلمهم أن ساعةَ يستسلمون للضعف هي ساعة موت معنويٍّ لهم، وجحود لحق بلادهم عليهم، وأنهم ليفضلون أن يواجهوا أشد النكبات، على أن تحق عليهم صفة الجاحدين.

انتصر مصطفى النحاس على خصومه؛ لأنه ألقى بكل نفسه وقواه وعزمه وإيمانه في سبيل النصر، فكان له؛ لأنه ظل يحارب بهذه القوات غير المنظورة وهذه الجنود الروحية المستورة، قواتٍ مادية لا قِبَل لها بالمحاربين المتدرعين بأرواحهم، المدافعين بنفوسهم وإيمانهم القوي المكين.

وقد ساعدته ظروف، ولكن خانته كذلك ظروف؛ فلم تكن الأولى هي وحدها التي نصرته، ولم تكن الأخرى هي كلها التي استطاع أن يتغلب عليها أو يحيلها إلى خدمته، ولكنه إنما انتصر في الجملة لأنه عوَّل على الانتصار، وآمن من البداية بأنه بَالِغُهُ فبلغه، وتلك عقبى الصابرين.

وقد وصف أمير البيان في الوفد — مكرم عبيد — الوطنية المصرية التي حارب مصطفى بها خصومه، فانتصر بها عليهم هذا النصر العزيز، فقال:

وطنية عزلاء، يخرج لها القوة المسلحة في جزع، وليس أبلغ من التسلح في معنى الهلع!

وطنية مَرِحة، طروب، حساسة، بلغت عند هذا الشعب الفنان مبلغ الفن الجميل، فكنا نسمعها وكأنها أنشودة حلوة مختلفة الأصوات، بين اللطافة والكثافة، وبين الخرير والهدير، وبين براءة أصوات الأطفال، وحلاوة أصوات النساء، ورهبة أصوات الرجال.

وطنية بريئة ولكنها جريئة، رأينا الأجنبي يخرج لها معجبًا بها حانيًا رأسه، والمصري يهرع لها فخورًا بها رافعًا رأسه، بل حاملًا في كفه رأسه. وطنية صافية شفافة، رأينا خلالها الوطن معذبًا، والعذاب محببًا.

يا دولة الرئيس:

لك أن تهنأ يا سيدي الزعيم وأن يطمئن قلبك، فما دام هذا الشعب يقدر على مثل هذا الحب العجيب لوطنه وزعيمه، فهو يقدر على كل شيء، ولن يقف في وجهه أو في سبيله شيء.

أيها السادة:

أؤكد لكم أنني كلما رأيت هذه الوطنية تتجلى في كل مكان، نلقاها وكأنها تلقانا، ونشهدها وكأنها ترعانا؛ تملكني شعور عميق عجيب، أكاد لا أفقه له أمرًا، أو أسبر له غورًا … ولعل ذلك لأنه شعور يجمع بين الدين والدنيا.

شعور بعضه سماوي؛ لأن فيه ابتهالًا وحمدًا لله تعالى، الذي أبقى على المصريين نعمة الإيمان بوطنهم، والبر بنهضتهم.

وهو أيضًا شعور بعضه دُنْيَويٌّ؛ لأن فيه زهوة الفخر ونشوة النصر، ذلك أننا بعد عراك مع المستعمرين على وطنيتنا، وبعد تجاريب قاسية ضد مصريتنا، خرجنا من المعركة ظافرين بوطنيتنا ومصريتنا، فلم يمسس وطنيتنا الضُّر، بل جمَّلَها النصر.

والواقع أن التجاريب الاستعمارية منذ سنة ١٩١٩ حتى الآن قد قصرت همها على محاربة تلك الوطنية العجيبة، لا باعتبارها مجرد عاطفة، بل باعتبار أنها حركة وطنية عاملة قد اتخذت من الشعب جندًا، ومن زعمائه وفدًا.

ولكن المستعمرين قد أخطَئُوا الغاية فضلوا السبيل؛ لأنهم جهلوا أن حركتنا حركة روحية، فحاربوها بوسائل مادية من نار وحديد، وفاتهم أن حركات الروح قوامها جهاد، وغذاؤها اضطهاد.

ثم إنهم أخطَئُوا الهدف فصوبوا سهامهم إلى الوفد ظنًّا منهم أنهم متى دمروا الوفد فقد دمروا الشعب! ولكنهم أدركوا الآن بعد عدة تجاريب تَعِسة أن الوفد بالشعب وليس العكس، وأن كل كبير خرج على الوفد أصبح خارج الوفد مذمومًا مدحورًا، وأن كل صغير بَقِيَ في الوفد أصبح بالوفد شيئًا مذكورًا.

إنما الوفد يمثل الشعب لأنه يمثل شعوره، ولقد أراد الله بالأمة وبالوفد خيرًا أن يمثل شعور الأمة في زعامتها، وأن تمثل في الزعيم وطنية الأمة، وإخلاصها، وجرأتها، وصلابتها.

وجاء بعد محْضَر الليل فجر فاصل بين آخر أستار الظلام وأول مطالع النور، فتولى محمد توفيق نسيم باشا في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة ١٩٣٤ مقاليد الحكم، وكانت الظروف جد دقيقة، والوطن في أشد الحرج، وزاد الموقف رهبًا وخطرًا اشتدادُ المرض بالملك، وإلحاحُ العلة على صحته. وكان أمام الحاكم الجديد التمهيد لعودة دستور الأمة ونظامها النيابي، فبدأ بإلغاء دستور سنة ١٩٣٠، ولم يشفعه بإعادة الدستور الأصيل، وكان ذلك تصرفًا لا ندري هل نحيل تبريره إلى دقة الظرف ذاته، أو إلى الملابسات التي أحاطت به، أو إلى عامل التردد والحيرة، أو مخافة الظرف السريع العاجل؟! ولكنه كان على التحقيق عن حسن نية، وإن جعل الدولة في خطر بعد أن باتت بغير دستور بتاتًا، واقتضى من نسيم باشا التسامح للإنكليز في كثير من مطالبهم لقاء انصرافهم عن وضع العقبات في طريق عودة الدستور الذي ترضاه البلاد.

وفي هذه الآونة اشتدت المشكلة الحبشية الإيطالية، فرأت مصر فيها فرصة سانحة للعمل على استرداد استقلالها؛ فلم يلبث الاتجاه السياسي كله أن انصرف إلى فكرة التفاهم والتعاون بين مصر وبريطانيا، غير أن وزير الخارجية البريطانية في ذلك الحين — وهو سير صمويل هور — اتبع سياسة خاطئة بالنسبة للموقف الدولي لم تلبث أن زعزعت مركزه في بلاده، وجاءت سياسته بالنسبة لمصر واسترداد دستورها بتصريح متهور ألقاه يومئذٍ وهو يحسب أنه قد أحسن به، فعجلت بتركه منصبه، وأحنقت الأمة المصرية عليه، فهبت البلاد تنادي برد دستورها إليها، ونهض الطلبة الشباب بجانب صفوف الأمة يكافحون من أجل الدستور، فجرت حوادث خطيرة، ومظاهرات حماسية، وانتشبت معارك بين الطلبة والشرطة، واستشهد من الشباب فتية أذكياء وضحايا غالية؛ فلم يلبث وزير الخارجية البريطانية الجديد — وهو أنتوني إيدن — أن عدَّل سياسته بالنسبة لمصر، وأقر فكرة التفاهم والتعاون الصحيح، وكاد نسيم باشا يومئذٍ يترك الحكم ولم يردَّ على البلاد دستورها الذي عاهدها على إعادته، لولا أن أراد الله أن يكتب التاريخ له أسطرًا مجيدة قبل ختام عمله السياسي، فوفقه أخيرًا إلى رد الدستور إلى الأمة اللهيفة عليه، فانقلبت أتراح البلاد أفراحًا، واستكمل النصر للمجاهدين.

وتولى بعد نسيم باشا مقاليد الحكم على ماهر باشا، وكان المفهوم أن تكون وزارته وزارة انتقال تدير الانتخابات، وتمهد للمفاوضات، وتسلم المفاتيح للحكومة الدستورية التي يتولاها زعماء الأكثرية في البرلمان؛ فأدار الانتخابات في سكون، إذ لم تعد تقتضي معارك ولا طلبت حرارة وطيس؛ فقد أغنى مسلك الوفد فيها عن ذلك كله، بأن ترك دوائر لرؤساء الأقلية بلا مزاحمين مراعاة لقيام الجبهة المتحدة التي تألفت من أجل المفاوضات، حتى لا ينشغلوا عن الاشتراك في المحادثات بمطالب الانتخاب، كما تسامح في تخلية السبيل لأحزاب الأقلية في دوائر معينة. وقد جاء الفوز في الدوائر الوفدية بالتزكية أو مجرد الترشيح بالغًا، ومضت الانتخابات في الدوائر الباقية برفق وجرت بسلام.

وكانت المحادثات السياسية بين مصر وبريطانيا قد ابتدأت قبل قيام الانتخابات، إذ جرت حفلة افتتاحها في اليوم الثاني من شهر مارس سنة ١٩٣٦ بقصر الزعفران، ولكن البلاد لم تلبث أن سرى القلق في جوانبها من اشتداد المرض على الملك، وكان الموقف خطيرًا إذ نُعِيَ إليها في الثامن والعشرين من شهر أبريل؛ أي بعد ابتداء المحادثات بثمانية أسابيع، فهز المصاب الجلل البلاد هزًّا، ورجَّ العالم السياسي رجة عنيفة، وكان ولي العهد يومئذٍ في لندن يتلقى العلم؛ فلما نقل النبأ الأليم إليه، حزن على أبيه أصدق الحزن، ولكن بدت عليه في الحال مع وقع المصاب روعة الملك وجلاله، وجلد الملك واحتماله، وأسرع إلى العودة إلى وطنه، والوطن حزين له يغمره عطفًا ويحيطه بولاء.

وعلى أثر انتهاء الانتخابات وتعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تتولى الحكومة تعيينهم، دعا البرلمان الجديد للانعقاد في ٨ مايو سنة ١٩٣٦ للنظر في تأليف مجلس الوصاية الذي ينص عليه الدستور حين يكون الملك صغيرًا لم يبلغ سن الرشد بعد، فتم تأليف هذا المجلس الموقر من حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي توفيق وحضرتي صاحبي السعادة عزيز عزت باشا وشريف صبري باشا. وحان أن تستقيل الوزارة القائمة، فقدمت إلى مجلس الوصاية كتاب استقالتها في اليوم التالي، وهو التاسع من مايو، وعهد المجلس إلى زعيم الأكثرية الدستورية — وهو مصطفى النحاس باشا — بتأليف وزارة جديدة، فألفها في العاشر منه وسط ارتياح عام ورضوان سائد.
figure
مصطفى النحاس والسير مايلز لامبسون: في حفلة افتتاح المفاوضات.

وتم يومئذٍ انتصار الأمة وفوز الوفد، فعاد إلى مكانه الدستوري في الحكم، وتولى مصطفى رياسته بجانب رياسته للأمة، وزعامته للشعب، وقيادة حركتها القومية، وخلافته لسعد مؤسس النهضة للحرية والاستقلال؛ بل عاد إلى موضعه الطبيعي من سفينة الدولة، حارسَ العقيدة والمبادئ، والحفيظ للدستور وقدسيته، والمتوخي الخير لأمته، يفكر فيه أبدًا، ويعمل له جاهدًا، في نزاهة بعيدة الحدود، ووفاء ثابت المعالم، وأمانة اعترف بها الجميع حتى خصومه السابقون، ووطنية حريصة على مصالح الوطن وحقوقه.

واجتمعت بذلك كله — بملك شاب يحب بلاده ويقدر ولاء شعبه، ووزارة شعب مخلصة للعرش وللشعب معًا — ظروف موافقة، وعوامل مواتية، جعلت الحاضر يلوح جميلًا مشرق الديباجة، بارع الاستهلال، باعثًا على كبير الآمال في الغد المرموق.

وكان سير المحادثات قد وقف قليلًا، ريثما تفرغ الوزارة من مطالب افتتاح عهدها الجديد؛ فلم يكد يتم ذلك حتى استؤنفت بين رئيس الوفد المصري وقد أصبح رئيس الحكومة أيضًا، وبذلك اجتمع له في المباحثات صفة التمثيل القومي وصفة التمثيل الرسمي في آن واحد، وبين سير مايلز لامبسون المندوب السامي في مصر ورئيس الوفد البريطاني، وهو سياسي معقول ينزع إلى السلام، ويجنح إلى التوفيق، ويتطلع صادق النية إلى الظفر بمجد النجاح في قضية مصر التي عز حلها على الذين من قبله كان لهم غير أسلوبه ونزوعه وبُعد بصيرته.

وكان الفريقان المتفاوضان قد تفاهما من البداية على أن يكون البحث أولًا في المسائل التي ظهر في المفاوضات السابقة أنها أصعب من سواها وأشق معالجة، وكانت حجة الفريق البريطاني في وجوب تقديم هذه المسائل على سواها أنه متى تيسر تذليل أشق المسائل وحل أخطر العقد، سَهُلَ الوصول إلى النهاية المطلوبة، وأصبح النجاح مضمونًا مكفولًا.

بَيْدَ أن الذي كان يخشى منه هو أن البحوث المجزأة على هذه الصورة ربما أفقدت السياق العام الذي ينبغي أن ترتبط به المسائل كافة عند بحثها، وأن علاج الأمور من أصعب جوانبها قبل الشعور بالطمأنينة التي تكتسبها النفس من الإحساس بأن مراحل كثيرة قد قطعت بنجاح، يُعْوزُه الحافز الذي يعين على المواصلة، ويفتقر إلى الدفاع النفسي القوي الذي يساعد على اقتحام العقبات، ومهاجمة الصعاب، وتخطي الحوائل المتعددة.

ولكن بقوة الأمل، وشدة العزم، وعمق الإيمان بالنجاح، تقدم الفريقان إلى البحث في المسائل العسكرية، وهي أخطر نواحي المحادثات وموضوعاتها. وقد حوى الوفد البريطاني خبراء عسكريين من أكبر القواد في الفنون الحديثة وأسلحة الجيش والبحرية والطيران، ولم يكن مع الوفد المصري أحد من هؤلاء؛ إذ اعتمد مصطفى على معرفته الغزيرة في هذا الباب من المفاوضات السابقة، واستظهاره لكل صغيرة وكبيرة من مسائلها وشئونها، وقد جلس في قصر الزعفران عدة جلسات مع الوفد البريطاني جِلْسَة باحث متمكن قادر يناقش ويباحث ويُحَاجُّ بتلك البراعة السياسية العجيبة التي تجلت في سنة ١٩٣٠، وبذلك الحرص الوطني على الحقوق الذي انماز به، والمرانة الطيبة التي تواتت له من قبل.

وتبودلت المذكرات واشتد الدفع والجذب، وظل مصطفى النحاس مستويًا على ساقيه، معتمدًا على قوة حججه، راكنًا إلى إيمانه وصدق وطنيته حتى أمكنه بعد جهاد عنيف وتداول مستطيل أن يقرب من مسافة الخلف، ويتغلب على تفاوت مواضع النظر ووجوهه، مثبتًا حسن استعداد البلاد لتوثيق عرى المودة بين البلدين.

وانتقلت المباحثات في الصيف إلى قصر أنطونيادس بالإسكندرية حيث تناولت المسائل الأخرى، وظلت تنتقل رويدًا من دور إلى آخر وتتئد حينًا وتبطئ حتى ليخشى عليها أن تقف أو تتحطم سفينتها وسط الشعاب والصخرات الناتئة، ثم تعود فتسرع فرحة نشيطة تحت ريح لينة وجو رُخَاء.

ولقد تجلت خلالها براعة المفاوض المصري السياسية على أحسنها، وبدا حرصه الجليل على حقوق أمته في أنضر مظاهره، وظهر زعيم البلاد وصِحَابه في مشاوراتهم ومداولاتهم الخاصة بسبيل الخروج من المآزق والتخلص من العقبات بمهارة شهد لها الفريق البريطاني، وكانت محل الإعجاب العام.

وفي أوائل أغسطس سنة ١٩٣٦ تم الاتفاق بين الفريقين على الصيغ النهائية للمعاهدة؛ ففرحت البلاد بهذا النجاح الذي اقترن بها، وأقيمت البشائر ومحافل التكريم، وآذَنَ موعد السفر إلى لندن لإبرام المعاهدة رسميًّا، فجرى ذلك في قاعة لوكارنو التي احتوت مصطفى النحاس من قبل هذا فشهدته قويًّا حريصًا صُلب العود. وأُعْلِن إبرام المعاهدة في السادس والعشرين من شهر أغسطس، فقابلت مصر هذا النبأ العظيم بأكبر الابتهاج وأشد الاغتباط وأبلغ الهناءة والرضوان.

وبذلك تم على يد مصطفى النحاس وفي عهد زعامته، وبفضل حكمته وقيادته الوطنية، وحسن توجيهه لحركات الجهاد ومطالبه، وثمرة نضاله الصادق، وكفاحه المستطيل، وشدة تجلده لأعظم المتاعب، حتى لا نعرف أحدًا قاسى في جهاده مثل مقاساته، ولا كابد في خدمة بلاده مبلغ مكابدته … بذلك تم على يديه أعظم عمل وطني خليق بالتمجيد، وأكبر حسنة قومية تستحق التخليد ويُفْرِدُ لها التاريخ أنصع الصفحات.

وما كان أبلغ منطق وزير المالية في عهد الاستقلال، معالي مكرم عبيد باشا، النَّفَّاث السحر، المختلب الألباب، وهو يقول في تقدير المعاهدة بميزان الحق والإخلاص: «مهما تكن قيمة المعاهدة، فهي لا تزيد على أنها وثيقة، أما الاستقلال نفسه فوثيقة وحقيقة، والحقيقة بين أيديكم ومن صنعكم، فلو أننا توافرنا وتضافرنا على تنفيذ المعاهدة تنفيذَ جدٍّ وصدقٍ وشرفٍ، لأدت الوثيقة إلى الحقيقة التي هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لها.

أما إذا آثرنا على الاتحاد التخاذلَ، وعلى العمل التفاضلَ، فما من وثيقة في الدنيا تنفعنا! بل ما من حقيقة تبقى لنا. وها هي ذي الحبشة التَّعسة قد أضاعت استقلالها التام بين عشية وضحاها، رغم عطف العالم وجمعية الأمم، فكانت عبرة للمعتبرين.

ذلك أنه لا يكفي أن يعترف الغير بأنك مستقل، بل يجب أن تكونَهُ؛ ولا يكفي أن تكسب الحق، بل يجب أن تصونه.

ومن أكبر مزايا المعاهدة الحالية أنها تسمح لمصر بأن تحتم عليها، إذا شاءت أن يكون لتحالفها قيمة، أن تُقَوِّي جيشها، وتعزز طيرانها وجميع معداتها الحربية؛ لتكون خير عَوْن لنفسها ولحليفتها، وتحتفظ بين الأمم بمكانتها.

أيها الإخوان:

كان شعارنا قبل استقلالنا أن الحق قوة، فليكن أيضًا شعارنا في استقلالنا أن القوة حق.

ولا تحسبوا أيها الشباب الكريم أن أبواب الجهاد قد أُوصِدَتْ دون العاملين، كلا، فلقد جاهدتم للاستقلال، فعليكم الآن أن تجاهدوا بالاستقلال، ولو أن الاستقلال كان آخر مطامعكم، لما حمدنا لكم صنيعكم، بل الاستقلالُ بداية لا نهاية، فهو السبيل إلى التعمير والبناء، فارفعوا إذن أبصاركم إلى السماء، وشُقُّوا إلى المجد طريقًا في الجوزاء … تلك سُنَّة الطبيعة، سنة النشوء والارتقاء.»

واليوم لم يعد للمتشككين أن يتساءلوا كيف يتسنى للحق أن ينتصر إذا كان الباطل مجتمع القوات عليه، فإن قوة الإيمان بالنصر تقضي على كل تردد، وتُجْهِزُ على كل جحود لقوة الحق ونكران؛ فإن الله في السموات هو أبدًا للحق نصير؛ لأن الحق هو صفة من صفاته، وكلمة من كلماته، وهو الذي يَمُدُّ للباطل أو يمهله، وقد يرجئ مصرعه أو يؤجله، حتى ليحسب الباطل أن دوام السلطان له، ويتوهم أهله أنهم سيظلون الأقوياء به، ولكن الله يحرس الحق؛ لأن جلاله من جلاله، وينصره على الباطل يوم يُشْفِقُ الناسُ من طول غيابه، ويحسبون أن الباطل أمسى منيعًا بجرأة أصحابه، ويعلِّم الناس ألا ييأسوا من ظهور الحق؛ لأن مع الحق الأمل، ولا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون.

إن كل ما يقوم على الرمال يَنْهَار، والباطل ضعيف وإن وجد الأسناد والأنصار، والحق مكفول الفوز في النهاية، وفي الخاتمة حتمًا نجاح للحق وانتصار، وإنَّ في السماء لقدرًا يرعى المجاهدين.

وقد نجح مصطفى النحاس لأنه كان على الحق، وفاز مصطفى النحاس لأنه جاهد بنفسه جهادَ صدق، وأحسن توجيه أمته إلى الجهاد وحَوْمته، وعرف كيف يجتاز بالشعب الصبور المكافح أقسى مراحل الكفاح الوطني وأشواطه. وقد مضت به الأعوام الرهيبة وهو على ذروة الزعامة قائم، وإن استهدفت زعامته لأحقاد وإحن، وتعرضت لخطوب ومحن، واصطلحت عليها العداوات من كل جانب، وتنكر لها حتى من كانوا على صلة وثيقة بها، وقلما تعمر الزعامات في عهود الانقلابات والاضطرابات، إذ تتطاحن فيها الأهواء، وتجمح خلالها الشهوات، ولكن مصطفى النحاس قطعها جميعًا وهو متمكن من موضعه، متملِّكٌ عواطف جماهيره وملايينه، ولن يزحزحه على السنين عن زعامته شيء؛ لأنها ثمرة قوة إيمانه، ولأنه قد أوتي عند المصريين الحب، وتجاوبت بينه وبينهم أرفع مبالغ الإحساس ومشاعر القلب، ولأنه الواضح المستقيم، الجليُّ المفهوم، والوضوح في الزعامة سر حب الناس لها والتفافهم حولها؛ لأنهم لا يضلون عندها في شعاب مترامية، ولا يقفون حيالها متشككين مترددين.

إن الذين يتصلون بمصطفى النحاس باشا، من قرب أو بعد، يفهمونه وشيكًا، ويحسون له الولاء سريعًا، فيسكنون إليه، ويتلاقون عند محبته، إذ لا يجدون حيالهم مشكلة عَصِيَّة ولا مُعضِلة متأبية، كلما حَلُّوا طرفًا منها ذهبت الأطراف الأخرى مُعَقَّدة مُلْتَوِية، وكلما فكوا سببًا ظاهرًا، تعقدت أمامهم أسباب خفية؛ وإنما يشهدون قبالتهم خلقًا عذبًا كالماء، ورأيًا مستقيمًا لا يعرف التواء، ووطنية صراحًا يشدها الوفاء، وإيثارًا يجمع إليه المخلصين. وإن الزعيم ليحمل في أعماقه سر زعامته، وعلى صفحته الواضحة دلائل مكانته، ومن قلوب الناس على الوفاء له أكبر البراهين.

ومن كان محله فوق منال التهم، فلن تضعه ريبة، ولن تصل إليه مسبة، بل كلما أرادوه بمكرهم، زاده المكر السيئ في قومه مكانة ومحبة؛ وكلما تحركت الدسائس عليه، سكنت النفوس إليه؛ وكلما حاول خصومه أن يضعوا من شأنه، راح هو الرفيع العَلِيَّ بمكانه … ولن ينتفع امرؤ بالتهم والأكاذيب قدر ما ينتفع بها الرجل العظيم.

وقد أدى مصطفى النحاس رسالته للجيل الحاضر، فأنقذ مصر من معرة احتلالها، ورد إليها عناصر استقلالها بعد أكثر من خمسين سنة قضتها معذبة تجرر القيد وترسف في الأغلال. وقد زَرَع مصطفى النحاس، فَلْيَحْصُد الناس، وإذا كان للجيل القادم، وللشباب في هذه البلاد والناشئة، من مهمة مقدسة، وغاية سامية، ورسالة عالية، فتلك هي الوقوف بجانب زعيمها، ومظاهرته على تأدية الرسالة المكملة لها؛ فإن الحاضر قَوِيٌّ صالح يحوي كل عناصر الرجاء في الغد وفضله وإحسانه، والمستقبل وإنشائه وبنيانه، بل إن واجب الجيل الناشئ هو في التمييز بين الضياء الحقيقي والنور الخادع، وفي إبقاء وهجه سنيًّا، والعمل على جعله مديدًا مُشِعًّا أبدًا متراميًا، وتسليمه إلى الجل القادم من بعده في تسلسل الأجيال أسنى مما كان في كفه شعاعًا وبريقًا وسناء يغمر جوانب الحياة.

إن عناصر العمر يجب أن تكون كلها في جانب مصطفى النحاس؛ لأنه ناب عن الماضي بأروع أحداثه، وقام عن الحاضر بكل جهاده ورفعة إحساسه، وحرص على حقوق الغد بكل قوة الوطنية الصادقة، وعمق الإيمان، وسلامة اليقين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤