قوة الإرادة وضبط النفس

لكي تأمر وتقود، ينبغي أن تزجر النفس وتقوى عليها، وتمتنع عن الاستماع إليها، وقد يلوح في هذا الشرط الأساسي الذي وضعناه للزعامة بعض التناقض، وشيء من الغموض والاستبهام، ولكنَّا إنما أردنا بذلك زجر المشاعر وضبط الانفعالات، وكبح جماح النفس الرامحة، كما قصدنا به إلى ادخار قوى النشاط بتوفير النفس على العمل تحت إمرة الإرادة العاقلة، والعقل الحكيم والرأي المتزن، إذ لا غَنَاء لمن يبتغي الرفعة على الناس والسمو عن المستوى العام، عن رياضة نفسه في كثير من الاتجاهات، ومنعها عن الاسترسال في عديد من الظروف، ومن يُرِدْ أن يشعل في ذات نفسه شهب الإحساس القويِّ النفاذ، وأضواء الفراسة المتغلغلة إلى الأعماق، فلا ينبغي أن يكون موزع العقل، مشتت الحس، متفرق الخوالج، مضطرب الوجدان.

وليس من شك في أن المشاعر والبواعث النفسية والانفعالات الطليقة من القيد، المسرحة من اللجُم، المرسلة على هواها، من شأنها أن تسرف وتتجاوز الحدود المعقولة، وتفسد على صاحبها حكمه على الأشياء، وتعمي بصيرته عن محجة السداد، وتنقص من القيمة، وتقلل من القدر، وتذهب برفعة المكان.

إن زجر الانفعالات والأحاسيس إنما يزيد في القُوَى النفسية المدخرة، ويرسل حول النفس مهابةً وجلالًا؛ لأنه لا يحيلها مكشوفة ظاهرة على الأبصار، ويجنبها في كثير من الأحيان موارد الخطأ، ويحميها من مهاوي الضلال، وليس من ريب في أن الاحتفاظ بما يختلج في النفس، أو الحرص على كتمان ما يعتمل في الخاطر، يكسب الشخصية عمقًا، ويحيلها بعيدة الغور لا يبلغ أحد منها مواضع الأعماق.

إن قوة الإرادة تمنع من التهالك والتهافت والفضول والصَّغار، وتصون الشخصية بكل ما لها من وقار، وهي من جهة الزعامة تكبح جماح الأحاسيس الأثِرَة، وتزجر المشاعر الأنانية، والمآرب الذاتية، وتختزن قدرًا احتياطيًّا عظيمًا من القوى الروحية لوقت الشدائد وحين الأزمات، وهي ملاك سيادة الإنسان نفسه، ومن ثم ملاك سيادة النفوس، وسلطانه على الأرواح، وهي قِوام الاحترام الذاتي والاعتداد بالكرامة، والترفع عن كل حقير وصغير مَهين.

ولعل أبلغ ما قيل في فضل عمق النفس وبعد غورها ما قد أُثر عن بنيامين فرانكلين، وهو «لا تدع الناس يعرفونك تمام المعرفة، فقد جبل الناس على مخاض الجدَاول الضَّحْضاحة القليلة العمق بالأرجل والأقدام …!»

ولقد أرتنا الحوادث كيف كان ضبط النفس معوانًا لبعض الرجال على الوصول إلى مكان الزعامة بفضل كبح النفس في المواقف العظيمة، وساعات الاضطراب الاجتماعي وإزاء الأحداث الخطيرة، فإن التماسك والاتزان والرشد من شأنها جميعًا أن ترفع صاحبها عن مستوى الناس إذا ما ذهب كل فرد هائمًا على وجهه، وساد الأفق فزع، واختلط على القوم أمرهم، وحارت العقول أين السبيل إلى النجاة وأين مكان الحق وموضع الصواب؟ وكم من امرئ استطاع بقوة الاتزان، وضبط النفس أن يسمو بشخصيته على آخرين كانوا أكبر شأنًا منه وأرفع خطرًا.

وقد يُكْتَسَب الاتزان وضبط النفس بالرياضة على احتمال الآلام، والصبر للشدائد، ومغالبة الخطوب، والابتسام للصعاب والأحزان والتجاريب القاسية، تلك البسمات الدائمة التي لا تفتر عن الثغر ولا ينطفئ من الوجوه لها وميض.

ولعل مقاومة فنون المال ومغالبة سحر الذهب النضار أروع مظاهر ضبط النفس وقوة الشكيمة والبأس، على فرط ما لذلك السحر من سلطان على النفوس، ورغم قيمة المال في نظر المجتمع وتقديره، وبخاصة في هذا العصر المادي المتحجر الذي فتنه المال أيما فتون، ولقد كان جواب أجاسيز العالم الأمريكي إذ عُرِض عليه مركز يُدِرُّ عليه المال الوفر أن ليس لديه فسحة من الوقت ليشتغل بالمال، وأن الحياة أغلى وأرفع قيمة من أن تنفق في هذا السبيل، ولقد جعل أجاسيز دأبه في الحياة ومبدأه أن ينصرف عن أي عمل عقلي بمجرد أن يصبح ذلك العمل مُجْزيًا أو عائدًا بفائدة مادية أو له قيمة تجارية ما.

وثم أيضًا فتنة تقتضي مقاومتها شكيمة قوية وضبط نفس شديدًا، وهي فتنة المديح وسحر الرتب والأوسمة والألقاب، فقد رفض إديسون درجات الشرف حين عُرِضت عليه، وهو يشتغل بتجاريبه العلمية ومخترعاته، كما أبى العلامة أينشتاين أن يستمع للمديح العام الذي لهج الناس في العالم به، وأطالوا في ترداده تنويهًا بفضله وإقرارًا بعلمه، حتى لقد قيل عنه إنه لا يعرف عدد الجامعات التي منحته ألقابًا فخرية، وجعل إذا هو تحدث عن الوثائق الرسمية والبراءات الخاصة بدرجات الشرف وألقاب الفخار التي انهالت عليه يصفها بقوله: «لفائف الفخر» التي لا تصلح لغير لف الحوائج، وكان يتحاشى عرضها على الزوار، ويأبى فرجة الناس عليها إذا ما أقبلوا عليه مُسلِّمين.
figure
العالم الرياضي أينشتاين.

وكم من عظماء أحالهم ضبط النفس أو الزاجر القوي من الإرادة زاهدين في مُتَع الدنيا متبتلين للعمل منقطعين لخير الإنسانية! وكم من زعماء عرفوا كيف يمسكون بغضبهم، ويهدِّئون من ثائرة نفوسهم، ويكبحون جماح هواهم، فعاشوا طيلة أعمارهم مثال النزاهة والعفة والنقاء!

ويروى بسبيل مظاهر الاتزان وجمال السكينة النفسية وضبط النفس أن الملكة فكتوريا كانت لذلك كله في حداثة سنها مثالًا عَجَبًا، فقد تجلت تلك الصفات عليها وهي شابة عند اعتلائها عرش بلادها، فأكسبتها هذه المظاهر الرائعة إعجاب الملايين من أفراد شعبها العظيم، حتى لقد قيل إنه ندر ما أبدت فتاة أو امرأة في مثل سنها من السيطرة على إرادتها، والاتزان في حركتها وفطرتها والهدوء السابغ عليها، والسكينة الضافية على مسلكها، ما أبدت الملكة الصغيرة في تلك المناسبة.

وقد وصف الكاتب الإنكليزي الكبير «ليتون استراشي» في كتابه عن ترجمة حياتها، مظهرها الرائع على أثر نعي الملك الراحل وارتقائها العرش خلفًا له، فقال: إن جموع الأشراف والأعيان والأساقفة والقواد والوزراء كانوا حاشدين في انتظار قدومها، فلم يلبثوا أن شهدوا الأبواب قد فتحت، وإذا بفتاة قصيرة القامة ناحلة البدن متشحة بالسواد قد دخلت عليهم وحدها، فمشت إلى مقعدها بجلال غير مألوف ومهابة نادرة، فرأوا حيالهم طلعة ليست جميلة ولكن أخاذة، وجدائل شقراء كالذهب، وعينين زرقاوين نجلاوين، وأنفًا دقيقًا أقنى، وفمًا مفتوحًا تبدو منه نواجذه العليا، وذقنًا دقيقة، بل رأوا فوق ذلك جميعًا أبلغ أمارات النقاء والوقار والجلال والصبا، وفي أتم الهدوء ورباطة الجأش سمعوا صوتًا عاليًا ساكن النبرات لا يضطرب ولا يتلجلج وهي تقرأ بأتم الوضوح وأجلى البيان، ثم لم يكد الاحتفال ينتهي حتى رأوا ذلك القوام الصغير ينهض من مجلسه، وبذلك الجلال ذاته والمهابة نفسها، ينثني منصرفًا من المجلس كما دخله أول مرة …

ولعل أقرب شبه إلى هذا المثال البديع على الاتزان في الحداثة والوقار والجلال في موقف من هذه المواقف الرهيبة، ما كان من ملكنا المحبوب، وصاحب عرش بلادنا المُفدَّى، الملك الشاب الجميل الجليل فاروق، الذي أحبته أمته وهو أمير، وتطلعت بأبصارها وقلوبها إليه وهو في المهد صبي، وفي الطفولة عزيز، وفي الحداثة مليك منتظر، تتلهف على سماع أخباره، ويشوقها علم حركاته وسكناته، وملاعبه ودراسته، فلما قضى أبوه الملك الكبير الرهيب، أحست البلاد حنانًا بالغًا على ملكها الشاب، وشعرت برفق متناهٍ به، مخافة أن يكون الموقف أكبر من سنه، والحادث العظيم أشق عليه، فإذا هي تحس مع الأسى له، الإعجاب الرائع به، وتشعر مع الحزن لحزنه بالإجلال لجلاله ورهَبه، فقد تلقى الحادث وهو عن البلاد مغترب، بكل الرزانة الملكية الخليقة به، وسلك في تلك المناسبة أروع مسلك، وزان الإمارة باتزانه، وجلَّت الملكيةُ بهدوئه السامي ورباطة جأشه العجيبة وقوة جنانه، ورفعة وجدانه، حتى تضاعف حب الشعب له، وازدادت الأمة تفانيًا فيه وولاءً.
figure
جلالة الملك فاروق عند حضوره من إنجلترا يوم ٦ مايو سنة ١٩٣٦، في طريقه إلى ضريح المغفور له والده لزيارته.

ولا غناء للزعامة عن الحلم والتغلب على الانفعال وقهر سورات الغضب؛ لأن من يحتد ويغضب يفقد حجته ويُضيِّع قضيته، وقد حدث يومًا أن الكاتب الأمريكي العظيم رالف والدو إيمرسون وقف خطيبًا في جمع من الناس وراح يلقي عليهم كلامًا يسوءهم، وقولًا لا يروقهم، فما لبثوا أن قابلوه بالهتاف الساخر والضجيج المتعالي، والاحتجاج الثائر، حتى أكرهوه على النزول من فوق المنبر، فنزل غاضبًا متهيجًا، وانصرف إلى داره منفعلًا ثائر الإحساس، ولكنه ما لبث إذ بلغ البيت أن شهد الكواكب الساطعة تطل عليه من خلال أغصان الشجر وأفنان الدوح كأنما تقول له: ما بالك هكذا أيها الإنسان الصغير متهيجًا ثائرًا لهذا الأمر التافه؟ فما عتم أن هدأ وسكن.

وقد وُصف أحد الزعماء بأنه قد أوتي المقدرة العجيبة على ضبط حركات وجهه وخوالج سحنته، حتى إنه إذا أراد أن يخفي مشاعره لم تبدر منه مطلقًا بادرة من هزة أو اختلاج تنم عما في نفسه، وتكشف عما يضطرب في خاطره ويجري في خَلَده. كما قيل عن الرئيس هوفر إنه قد ظل أبدًا الحريص على ضبط النفس، فما شوهد مرة منفعلًا ولا رؤي ذات يوم غاضبًا أو خارجًا عن طوره، وما تكلم يومًا كلمة لم يتدبرها مليًّا قبل أن يدعها تخرج من بين شفتيه.

ومما يذكر عن أخلاق فورد صاحب مصانع السيارات المشهورة أنه لم يُشاهَد يومًا طائر الفرح بعظمة عمل أداه، ولا رؤي مُطلِقًا العنان لسرور بالغ أو فخار ظاهر أو خيلاء متناهية إذا سمع يومًا مديحًا لعمله أو ثناءً بالخير عليه.

ومن أدلة السمو الخلقي والحلم الرفيع أن يظل الرجل منا باسمًا بسمة السخرية حيال من يحاول إغضابه ويستثير غيظه، إذا كان هذا الشخص دونه قدرًا ومكانة، فقد قيل عن بوكر واشنطون زعيم زنوج أمريكا ومحررهم العظيم من رق البيض: «لقد كان أبدًا الباسم الرفيق المتلطف، لا يجادل ولا يماري ولا يشتجر.»
figure
هنري فورد – ملك السيارات.

ولا ننسى أن مراعاة شعور الغير والأناة والتؤدة في الحكم على الرأي العام صفة من صفات الزعامة، كما أن الامتناع عن إظهار الرأي أو المصارحة بحقيقة الإحساس والشعور حتى تحين المناسبة وتسنح الفرصة الملائمة يقتضيان درجة خاصة من ضبط النفس، وفي ذلك يقول بوكر واشنطون: لقد طلب إليَّ كثيرون أن أقول كلمة في الصحف بسبيل إهدار دماء الزنوج في بعض الولايات، ولكني ظللت معتصمًا بالصمت في ذلك الحين؛ أي بينما كانت هذه الجرائم تُقتَرف جهرة وعلانية؛ لأنني كنت أعتقد أن الرأي العام لم يكن في حالة تدعه يستمع إلى رأي في هذا الشأن، ولا يرتضي مناقشة فيه، وإنما يحسن الانتظار حتى تهدأ المشاعر، ويزول الهياج، ويعاود الناس الحكمة والسكينة.

ومن الزعماء من يفسد أمره بكثرة الكلام، ولا يعرف كيف يحتفظ برأيه في ذات صدره، ومنهم من لا يبلغ مكانًا طيبًا؛ لأنه قد ألف أن يقول للناس عن آرائه فيهم ويتحدث عن شئون الغير في غيابهم، ولا يقدر على إخفاء أمر أو كتمان شيء، ومن ثم لا يحس الناس له ذلك الجلال الذي يغمر الزعيم المتئد الوقور الذي يتحدث بميزان، ويتكلم متحفظًا غير متهافت على الإعلان والبيان.

وقد يكون ضبط النفس متناهيًا إلى حد القسوة والتجهم والعبوس والخشونة، وقد يصبح قانونًا نفسيًّا شديد السلطان ونظامًا جافًّا لا هوادة فيه، حتى لقد قيل عن الزعيم لينين إنه أخذ نفسه بمنتهى الصرامة إذ عرف أنه لا شيء ينقذ الثورة الروسية من الفشل، وهي المهددة بالجوع والغزو والانتكاس، غير العمل الصارم القاطع المُوحِش الذي لا تسامح ولا هوادة ولا رفق فيه.
figure
لينين – زعيم الشيوعية.
وأشد ما يثير ضبط النفس الإعجاب والإكبار إذا هو ارتقى إلى مرتبة «التضحية»، فإن التضحية هي أسمى مظاهر التغلب على النفس وأرفع درجات ضبطها وقمعها، وإن لقاء الصعاب ومواجهة الشدائد والصبر على الآلام البالغة كانت ولا تزال أبدًا صفة من صفات الزعامة، وقد غلا سير توماس مور في إبرازها من فرط ولائه لمليكه حتى لقد قيل إنه حين أُلقي في غيابة السجن، ولم يكن يستحق ذلك العقاب، راح يحتمل هذا الظلم صابرًا متجلدًا وينظر إليه نظرة فلسفية، ويقول لو لم يُلقِ الملك به في حصير أليم لالتمس هو ذلك الحصير بنفسه أن كان في السجن تدليل على ولائه لجلالته …!
figure
محمود إسماعيل.

وقد تتصل الزعامة أحيانًا بالقوى الخارقة للطبيعة، وبتحدي القوانين والاستخفاف بالمبادئ والأفكار العامة، وبالجرأة المتوقحة المتناهية التي تُكسِب صاحبها الرهب والمهابة وتجعله يبدو غامضًا، ويلوح سرًّا مستغلقًا على الناس لا يعرفون حقيقته، ولا يدركون خافيته، وإن اعتقاد موسوليني بأن قدرًا حارسًا حاميًا يرعاه هو الذي جعله غريبًا على الناس، بعيد الغور لا يُسْبَرُ عمقه، ولا تفهم حقيقته، وقد بعث موسوليني على أثر محاولة اغتياله في مدينة بولونا برسالة إلى رئيس الشعبة الفاشية فيها يقول: إن الحادث الإجرامي الذي وقع في اللحظة الأخيرة هيهات أن يحجب مجد اليوم المشهود وروعته، أو يغطي على عظمته وجلاله، وإني باعث إليك بالرصاصة والشريط الذي مزقته لتحفظهما مع التذكارات الفاشية في مدينتكم، وأود منك أن تحمل إلى جميع إخواننا كلمة واحدة، هي الحق الصراح، وهو: «لن يمسني سوء حتى أتم واجبي وأؤدي مهمتي، وليس في الدنيا قوة تستطيع أن تحول بيني وبين هذه الغاية، وإن الرصاص ليتهاوَى من حولي، ويبقى موسوليني سليمًا ما به من بأس ولا أذى …»

ولعل أعظم امتحان لمبلغ ما عند المرء من بعد الغور وعمق الإحساس، ورباطة الجأش، ومنتهى سكينة الأعصاب، لقاؤه الموت وموقفه في محضر المنون، ففي ظرف كهذا يتجلَّى المعدن الذي تتركب منه الأبطال، والمادة الخفية التي تُفْرغُ في قوالبها النفوسُ العظيمة الكبار، فقد فحص الطبيب نبض «جوزيه ويزال» الزعيم الوطني في جزر الفيليبين، قبل إنفاذ الحكم فيه بالإعدام، فوجد «دقاته منتظمة هادئة لا تدل على انفعال ولا خوف ما!» وقد وُصف مسلكه قبل إعدامه فقيل إنه أبى أن يدخن أو يشرب نبيذًا أو يطيل السهر ليلًا، فبقيت أعصابه هادئة ساكنة، أبعد ما تكون من الاضطراب، وقد وضع لنفسه في السجن قبل تنفيذ الحكم نظامًا خاصًّا شعاره فيه «الحِمْيَة والاعتدال والتعفف، في غير إضاعة للوقت ولا تبديد للصحة»، ثم راح يستمسك بهذا النظام استمساك المتصوف الزاهد المتبتل، حتى لقد جعل من بين القواعد التي يسير عليها ألا يرفع صوته إذا هو تحدث، فكان لذلك يتكلم بكل هدوء وسكون واتزان.

وليس من ريب في أن أروع مشاهد الشجاعة، والسكينة والجلال عند لقاء الموت، ما كان من «محمود إسماعيل» في مسيره إلى آلة الإعدام بخطواته الثابتة، وصَعْدَته إليها بجلده العجيب، بل ما كان من كلماته الجلائل الرائعة قبل أن يضع الجلاد الحبل في عنقه، فقد كان ذلك حدًّا بعيدًا من الشجاعة يكاد يداني الأسرار الإلهية الرهيبة، ويدق على الأفهام تصوُّرُه، ويستغلق على المشاعر تَخَيُّلُ مداه.

تلك حالة نفسية لا توصف ولكن تُحَسُّ، إذ ليس في اللغة ما يؤدي معانيها، ولا تحتوي من الألفاظ ما يقرب صورتها إلى الأذهان، ولكن الذين يحسونها يموتون، ويُطَاحُ بهم على المشانق، فيذهب سرها معهم دفينًا.

وبسبيل هذا المعنى مِيتَةُ الشباب الشهداء من طلاب الجامعة المصرية في نوفمبر سنة ١٩٣٥، فقد أبرزوا في لقاء الموت شجاعة رائعة لا توصف، وثباتًا عجيبًا لا يكون في أسنانهم، ولا يُنتَظر من غضاضة أعمارهم، فمن ذا الذي ينسى تلك الشجاعة العجيبة التي أبداها الشهيد عبد المجيد مرسي في لقائه الموت على الكوبري، وهو يُغرِق منديله في دمه ويرسلهُ مُشْرَبًا بقاني لونه إلى زعيمه، تحية الشجاعة للوفاء، ورمز التضحية إلى الحب والولاء؟ ومن ذا الذي لم يتأثر ولم يتفجع لِمَا كانت الصحف ترويه عن شجاعة عبد الحكم الجراحي وهو يكتب في محضر الموت رسالة بالإنكليزية إلى إنجلترا، يصف فيها اعتداء الشُرَطِ الإنكليز عليه، وكيف تلقى الموت بابتسام …؟!
figure
عبد الحكم الجراحي.
figure
طه عفيفي.
figure
عبد المجيد مرسي.
وقد زخرت ذكريات الثورة المصرية منذ سبعة عشر عامًا بشواهد غزار من هذه البطولة والشجاعة الثابتة في مواجهة الموت، فقد كان الشباب والولدان يتساقطون صَرْعى تحت وابل الرصاص، وهم مصفقون هاتفون من فرح، منادون لمصر بالحياة، ولوطنهم بالحرية والاستقلال.
figure
جوته.

ومن خواص ضبط النفس وردعها وامتلاك ناصيتها، أنها جميعًا تعين على الحركة والتقدم «في غير عجلة، ولكن بغير تردد ولا جمود»، كما قال شاعر الألمان الأكبر جوته، بل كما كان دأبه وشعاره، وأنها تعطي صاحبها شيئًا ليس عند غيره، وتختزن لديه ما ليس في مُدَّخر سواه، وتقيم ستارًا كثيفًا يخفي حقيقته العميقة عن الأبصار، ويوم يصبح المرء كذلك، عميقًا بعيد الغور، لا سبيل إلى اكتناه سرِّه، وإدراك بعد غوره، واختراق أديمه إلى صميمه ولُبِّه، يلوح للناس كأنه قد ملك شيئًا ليس عندهم، ومن ثم يصبح موضع اهتمامهم، ومحل عنايتهم، ويقبلون عليه ملتفين حوله، مُسلِمِي نفوسهم إليه، وهذه هي الزعامة المعمرة الخليقة بقيادة الناس …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤