اللباقة والروح المرحة

ومن صفات الزعامة أيضًا من الناحية النفسية اللباقة أو الكياسة، أو حاسة مراعاة التناسب، كما أن من صفاتها الظَّرفُ أو الروح المرحة، أو نزعة الفكاهة، أو حاسة تناول الأشياء بغير تناسب، وهاتان الحاستان قد تلتقيان في نفس الزعيم وإن كانتا في الحياة ذاتها جد مختلفتين، بل تكادان تكونان متناقضتين؛ فأما الأولى فهادئة مع تحفظ ورزانة واتزان، وأما الأخرى فصريحة متكشفة معلنة مرفوعة القيود والتكاليف.

وكلتاهما تنظر إلى الأشياء مجردة عن صلتها بالأشخاص، فإن من ينظر إلى الحياة كأنها جزء لا يتجزأ من شخصه أو نفسه، لا يصيب مكان الزعامة فيها؛ إذ يفقد صفة من أبرز صفاتها، والذين أُوتوا اللباقة والروح المرحة هم الذين لا يدعون النفس تقف في طريق نظراتهم إلى الحياة.

اللباقة أو مراعاة التناسب صفة بارزة من صفات الزعماء؛ لأنها تنطوي على المماثلة والمقاربة بين النفس والغير على صورة تمنع الغير من النفور والتبرم والإعراض، كما تنطوي على مراعاة وجوه نظرهم، واحترام مشاعرهم، والنظر إليهم بعين الاعتبار.

فهي — أي اللباقة أو الكياسة — مرادف للطف التناول، ودقة الشعور، ورجاحة اللُّب، وحسن البداهة؛ لأنها في الواقع تأدية الشيء البسيط المعقول، البعيد من أية لائمة، المتحاشي الوقوع في معاب، وقد روي عن دوايت مورو أنه حيث وصل إلى المكسيك ليكون سفيرًا فيها للولايات المتحدة لم تلبث لباقته في اختيار السبيل إلى مباشرة مهام منصبه أن أعجبت المكسيكيين، ونفت من نفوسهم كل ريبة في أنه إنما جاء ليستغلهم من أجل بلاده، وذلك أنه ظهر أمامهم يوم وصوله في بذلة الصباح، ولم يلبس الثياب الرسمية التي يرتديها السفراء وأشباههم عادة في مثل هذه الظروف، فقد سأل السفير قبيل وصوله عما إذا كانت الثياب الرسمية من عادات المكسيكيين أم عادات الأمريكيين، فقيل له إنها عادة أمريكية، فقال: حسن، إذن سأرتدي الثوب المناسب لوقت الوصول، وكان وصوله صبحًا، فارتدى من ثم بذلة الصباح.

وقد تقتضي اللباقة أو مراعاة المناسبات والظروف والأحوال، التضحية بكَسْبٍ قليلٍ عاجلٍ في سبيل الظفر بكسب كبير آجل، ولا تمتنع عن التمهل والتسويف، حتى تسنح فرصة أكثر ملاءمة، ويجيء ظرف أنسب وألطف مَرَدًّا.

وفي معاملة رئيس طيب القلب ولكنه يحب أن يتراءى رئيسًا كبيرًا، ويحرص على مظاهر رياسته، لا نحسب ثمَّ غناء عن اللباقة ولطف التناول ودقة المأخذ، إذ هنا يقتضي الأمر الحذر من التنفير، وتحامي الإضجار، وإحداث الجفوة، والتمهل والأناة ريثما يعود ذلك الكبير فيتصور أن الفكرة التي تقدمت إليه ممن دونه هي في الواقع فكرته، وقد حدثنا أحد المرءوسين الذي أوتوا اللباقة ولطف الحس بما قد جرى له يومًا مع رئيسه بسبيل ما نقرر هنا ونُبَيِّنُ، فقال: «لقد ذهبت إليه ببرنامج وضعته بنفسي لإجراء تغيير كبير في النظام المُتَّبع؛ فلقيني في الحال بنفور ورفض حاد، حتى لقد هممت بادي الرأي أن أقابله بالمثل أو أحتدَّ عليه، ولكني تمالكت نفسي فاحتملت الصدمة العنيفة صابرًا غير معترض، ورحت أحاول تخفيف وطأة هذا اللقاء الجاف، فغيرت موضوع الحديث، وأخذت في موضوع كنت أعرف أنه يهتم به ويتبسط فيه، وبعد ستة أشهر عدت بالبرنامج ذاته بعد أن وضعته في شكل أخف وصورة أزهى مما كان من قبل، فلم يتردد في إقراره قائلًا إن شيئًا كهذا كان قد دار في خلده قبل أن أعرضه عليه!»

ومن اللباقة مراعاة وجوه الشبه ونواحي التماثل في طبيعتنا البشرية، كأن يحب كلٌّ منا مثلًا أن يكون ذا اعتبار، أو شيئًا مذكورًا، أو إنسانًا له شأن وخطر ووجود، فإذا ما راعى المرء هذا عند الناس وحسب له حسابه وجد الإعجاب به عندهم، وقوبل بالرضى والالتفاف حوله.

وكثيرًا ما نرى الزعامة مُوقِّرَةً كرامة الغير مجتنبة كل ما قد يحملها على الزهو، رائضة نفسها على كراهية الخيلاء، وتحاشي الكبرياء على الناس، والزعامة الصادقة هي التي تضع الأفراد في مواضعهم من التقدير الصحيح، وهي التي تعطي كل ذي حق حقه، وتمدح الذي يستأهل أن يُمدَح، وتستثير كل ما هو بديع سامٍ رفيع في الطباع البشرية، وهي التي تبعث الأمل، وتتولى الإيحاء والإلهام، وتنشط الأرواح، وتستوقد النفوس والعزمات، وتحمل المرء على أن يعتقد أنه خير مما هو في الواقع، ومن ثم تبث في نفسه روح التطلع والطموح إلى الإجادة والرفعة والإحسان.

وقد تجلى أثر اللباقة في شخصية رجل كبنيامين فرانكلين فهو القائل: لم أكن يومًا في بسط أية فكرة جديدة أحسبها مثيرة جدلًا، مقيمة بعض الاعتراض، أستخدم عبارة «بالتأكيد» أو كلمة «بلا شك» أو ما يماثلهما من العبارات التي تظهر الفكرة مظهر الحقيقة القاطعة والرأي المجزوم به، والفكرة التي لا يأتيها الباطل من أي وجه من وجوهها؛ وإنما كان دأبي أن أقول في هذا المعرض «أظن» أو «أفتكر» أو «إن الأمر كذلك إذا لم أكن مخطئًا» أو «يلوح لي أنه …» إلى أشباه هذه العبارات التي لا تفيد القطع والجزم والتحتيم، وقد أفَدْتُ من هذه العادة كثيرًا في بث آرائي، والتمهيد لأفكاري، والتوطئة لمقترحاتي التي كنت أقدمها إلى الناس واستحثهم على الرضوان بها، وإذا كانت الغاية الأولى من الحديث وتجاذب أطراف الكلام هي أن تستقي علمًا أو تبث علمًا، وأن تقنع وتستحث، أو تَسُرَّ وتُرْضِي، فإني أرجو إلى العقلاء والمراجيح والعاملين للخير والفائدة العامة ألا يضعفوا سلطانهم، ويوهنوا مقدرتهم على الخير والإحسان والإفادة باتخاذ سمات الحزم والقطع والتحتيم في أحاديثهم، وإلقاء آرائهم كقضايا مسلم بها؛ فإن ذلك في الغالب مُنَفِّرٌ للنفوس، مثير الاعتراض، غير مؤدٍّ إلى الغاية من الحديث والغرض من الكلام، وهو أن تستقي علمًا أو تبث علمًا، أو تريد إقناعًا، أو مجرد تسلية وإرضاء.

وتقتضي اللباقة كذلك البعد مما يزري، وتجنب ما يُستَكرَه، واتخاذ الطريق المأمون من الخطر، وترك التحرش وإثارة الحفائظ، فإن ذلك جميعًا ينجح المقصد، ويبلغ الغرض، ويصلح ما فسد، ويمحو من الآثار الماضية كثيرًا، وقد كان «بوكر واشنطن» محرر زنوج أمريكا حاذقًا لهذا الأسلوب مُفتَنًّا فيه، محسنًا به كل الإحسان، فقد وقف يومًا يخطب اجتماعًا من البيض في الولايات الجنوبية، فكان استهلال خطابه «إنني أضرع إليكم بالنيابة عن ستمائة وخمسين ألفًا من أبناء جلدتي في ولايتكم هذه، هم اليوم جِثِيٌّ رُكَّعٌ عند أقدامكم، وإن مصائرهم ومستقبلهم اليوم في أيديكم، ولقد نُبِّئْتُ أنكم قوم إخوانُ مروءة وشجاعة وكرم، فأنتم أرفع من أن تسيئوا إلى الضعيف، أو تضطهدوا البريء، أو تظلموا من لا مُنَّةَ له ولا بأس …»

وقد أُوتِيَ هنري فورد لباقة عجيبة في مسلكه إزاء رجل وقف يومًا خطيبًا يندد بعصر الصناعة، ويزعم أنه إنما أفاد الذين استغلوه للإثراء وكسب المال، وأن التقدم الصناعي في العالم الحديث كبير الخطر سيئ العاقبة، وأن الأوتوموبيل سوف يذهب بفضل الطبيعة، ويفسد الغرائز أشد الإفساد، فقد حدثنا فورد في كتاب عن نفسه بسبيل هذا الحادث فقال: «وكنت أخالفه في هذا الرأي من أساسه، واعتقدت أنه قد استرسل مع عاطفته في فكرة أبعد ما تكون من الحق والصواب، فلم أفعل أكثر من أنني بعثت إليه بأوتوموبيل طالبًا إليه أن يجربه ليتبين بنفسه هل يعينه على فهم الطبيعة وإدراكها أكثر من قبل وأسهل، فكان ذلك الأوتوموبيل الذي استنفد فترة طويلة من وقته في المرانة على تحريكه وإدارته، هو الذي جعله يغير رأيه ويعدل عن فكرته …!»

وقد يستوجب العمل السياسي لباقة أو كياسة دقيقة، إذ لا غناء للسياسي أو الموظف الدبلوماسي كالممثل أو السفير عن هذه الصفة في علاج الدقائق وتقدير الأشياء ومراعاة اللباقة، واعتبار المصلحة القومية والصالح الدولي، إذ ينبغي له عند تمثيل أمته ألا يغفل عن حساب مصلحة الأمم الأخرى ومواقفها وأحوالها وسياستها واتجاهاتها. وقد أُثِرَ عن الرئيس روزفلت في سنة ١٩٠٧ بسبيل الحركة العدائية التي قامت في كاليفورنيا ضد هجرة اليابانيين أنه استخدم أعجب الكياسة في إطفاء تلك الحركة والخروج من الأزمة بسلام.

وقد تَحَدَّث هو عما فعله في هذا السبيل فقال: «لقد بينت لأهل كاليفورنيا أنني مشترك معهم كل الاشتراك في الرأي بصدد نزوح اليابانيين إليهم في جماعات كبيرة وزرافات متعددة، ولكني أود أن أحقق غرضهم على صورة من الكياسة والرفق والأدب ترضي مشاعر اليابانيين كل الإرضاء، ومن ثم استطعت أن أحملهم على العدول عن فكرة إصدار تشريع يمنع الهجرة اليابانية إلى بلادهم، وتمكنت من إبرام اتفاق مع اليابان تقضي نصوصه بأن يمنع اليابانيون أنفسهم طوائف عمالهم من النزوح إلى بلادنا، وإلا اتخذت حكومتنا في الحال التدابير لإصدار قانون بإخراج اليابانيين جميعًا من أراضيها، وهكذا كان من الخير أن تقف اليابان بنفسها تيارَ هجرة أهلها إلينا، ولا نتولى نحن صده ومقاومته.»

وقد يكون فقدان اللباقة أو الخلاء من الكياسة خطرًا على الدولة سيئ النتائج وخيم العاقبة، فإن الخلاف بين الأحزاب السياسية أو التناحر والخصومات بين الزعماء السياسيين قد يكون راجعًا إلى فقدان اللباقة والافتقار إلى الكياسة أكثر مما يرجع إلى الاختلاف على المبادئ والتباين في المذاهب والاتجاهات.

وفي بعض الأحيان يعمد السياسي الحازم اللَّبقُ الحكيم إلى استخدام الكياسة بكلمة طيبة، أو بإظهار الصبر والأناة، أو بإقامة الأمثولة الصالحة، أو برواية نادرة فكهة تناسب المقام، ومعنى هذا أن استخدام الكياسة يقتضي بوجه عام براعة كبيرة، وحذقًا عظيمًا، ومهارة بالغة.

فقد جاء إلى الزعيم الأمريكي إبراهام لنكولن خلال الحرب الأهلية وفدٌ من النواب يحتجون ويتذمرون، فلم يكن منه إلا أن ردهم من حيث أتَوا راضين مقتنعين، إذ راح يقص عليهم القصة الآتية، أو يستشهد بها على سبيل الاستعارة والتمثيل، قال:

أيها السادة، افرضوا أن كل الثروة التي تملكونها كانت ذهبًا خالصًا فأسلمتموه جميعًا إلى بلوندين الحاوي الماهر في الرقص على الحبال ليحمله مجتازًا به شلالات نياجرا وهو فوق الحبل، فهل تهزون الحبل أو تروحون تتصايحون به «يا بلوندين، استوِ قليلًا في مشيتك، أو انحَنِ قليلًا في خطرانك، أو اعتدل هونًا ما في تنقيل خطاك؟!» كلا، ولكنَّكم تقفون بلا ريب لاهثي الأنفاس، فاغِرِي الأفواه، معقودي الألسنة، مبتعدين من الحبل حتى يجتازه بلوندين بسلام، ذلك مَثَلٌ أضربه لكم لكي تعلموا أن الحكومة تحمل عبئًا ثقيلًا على عاتقها، وهي تؤدي عملها بكل قصارى جهدها، فلا تزعجوها بكثرة الكلام وطول الصياح، وإنما التزموا الصمت حتى تحملكم إلى بر الطمأنينة بسلام آمنين.

ويوم تستحيل اللباقة إلى مَلَقٍ ومداهنة وتمويه وخداع تفسد على الزعامة أمرها، وتروح عيبًا من أسوأ عيوبها، وكذلك إذا هي غالت وبالغت أو وقفت عند حد الأدب والمصانعة، أو إذا هي حالت دون بلوغ محجة الصواب وتقرير أحكم الخطط وتدبير أرجح الوسائل، فإن ذلك كله من شأنه أن ينقص من قيمة الزعامة في الميزان.

وليس من شك في أن الظَّرف، أو روح الفكاهة، أو الروح المرحة إذا تهيأت للزعيم أعانته كثيرًا على عمله، ومهدت له أحسن تمهيد، ويسرت له الصعب، وسهلت له الشأن العسير، فهي أولًا لا تجعله في كل الأحوال والظروف يبدو العابس المتجهِّم، الجادَّ الرزين، ولا تدع الناس ينفضُّون من حوله، وإنما تحببهم إليه، وتزين لهم الطاعة له والنزول على أمره.

وليس يخفى أن الذين هم في مراكز السلطان والنفوذ في الناس لا يزالون غرضًا لكثير من الإغراءات، عُرضة لبعض الهوى، كأن تأتي عليهم لحظات يُحِسُّون فيها أنهم أعظم شأنًا مما يحسبهم الناس، وأقوى إرادة وأشد إصرارًا وأفخم مظهرًا وأروع رواء، فلا يني هذا الغلو في تقدير عظمتهم أن يكشفهم ويسيء إليهم ويفسد عليهم كل إفساد، ولكن الظرف أو روح الفكاهة هو الذي يمنع ذلك ويحول دونه ويصلح ما فسد منه؛ لأنه يمكن للزعيم من جعل مشاعر أنصاره وأشياعه والتابعين له ودية متحببة صافية الأديم، وهذا قد يقتضيه في بعض الأحيان ألا يتَكَرَّه من أن يشعرهم في المناسبات بأنهم أسمى منه، وأنه إنما يستمد مكانه من فضلهم، أو أنهم أعرف منه بما هو مطلوب وأعلم بما هو واجب.

ولعل النادرة التي نبسطها فيما يلي خير مثل يساق على تواضع الزعماء، وعملهم على إقناع أنصارهم بأنهم أعلم منهم وأكثر فضلًا.

حين انتُخِب وُدرُو ويلسون حاكمًا لولاية نيوجرسي أدبت له مأدبة حافلة تقدم الخطيب الأول فيها إلى المدعوين قائلًا على سبيل تعريفهم بويلسون: «إنه الرئيس العتيد للولايات المتحدة.» وكانت تلك فرصة عظيمة أمامه يَحسُن انتهازُها، فوقف أمام الحشد الحاشد يقول بعد الشكر والتمهيد: «وإني لأحسبني من ناحية واحدة — وأرجو أن يكون من ناحية واحدة لا أكثر — أشبه شيء بقوم سمعت عنهم قصة فكهة أنا محدثكم الساعة بها، كان لي صديق سافر إلى كندا مع جماعة من الصائدين، وكان بين القوم رجل خطر له أن يأخذ معه نوعًا من الشراب، يسمى «السنجاب»، ولما سئل عن سر هذه التسمية قال إنه إنما سمي السنجاب لأنه يجعل الذين يشربونه يحسون الرغبة في تسلق الأشجار فِعْلَ السناجب.

وفي ذات يوم راح هذا الشريب المُلِحُّ على «السنجاب» يشرب حتى فقد صوابه ونزفت الخمر لُبَّه، ولم يكد يؤذن الموعد المضروب للسفر في القطار مع إخوانه، وكانوا قد تواعدوا على أن يتوَافَوا إلى القطار قبل قيامه، حتى راح من فرط سكره يركب قطارًا مسافرًا إلى الجنوب على حين كانوا هم شخوصًا إلى الشمال!

ولما أقبل صَحْبُه وأدركوا ما جرى، خشوا عليه العاقبة وأشفقوا من أن يمسه سوء، فبعثوا ببرقية إلى «كومساري» القطار الذي ركبه صديقهم يقولون فيها: «ارْجِعْ رجلًا قصيرًا يدعى جونستون بين الركاب؛ لأنه ركب خطأ، وهو يريد قطار الجنوب؛ لأنه … سكران!»

فجاءهم الرد من ملاحظ القطار يقول: «نريد معلومات وافية، ففي القطار ثلاثة عشر رجلًا لا يعرفون أسماءهم ولا وجهات سفرهم!»

أما أنا فمتأكد أنني أعرف اسمي، ولكني لست متأكدًا من معرفة وجهتي وطريقي «بالدرجة» التي يصفها الخطيب!»

وكثيرًا ما يروح الضحك عن عطف، والابتسام عن رفق ولطف، والفكاهة عن إشفاق، والتصوير المرح لبعض المواقف — معوانًا على حل المشكلات، وقضاء الأغراض، ومزيلًا لما قد تأثرت به النفوس في الجماعات أو استولى منه اليأس على الجماهير، إذا هو استعين به في اللحظات الدقيقة والظروف المناسبة، أو اللحظة البسيكولوجية كما يقولون، وإذا لم يكن أيضًا منطويًا على سخرية من أحد الحاضرين أو استهزاء ببعض السامعين، فإن الضحك من الناس قد يجوز بين الأصدقاء والخلطاء، ولكن الضحك أو التعبير الفكه الذي يعمد الزعيم إليه ينبغي أن يقتصر على العموميات، ولا يتعدى إلى الشخصيات، فيكون مجرد فكاهات بسبيل الاستشهاد بالتجاريب الشخصية، أو تصوير للمواقف العامة.

وبين الزعماء فريق قليل من الذين آتاهم الله أرواحًا خفافًا، ونفوسًا لطافًا، وسحرًا نفاثًا، وتعبيرًا حلوًا جميلًا ينفذ إلى الأعماق، وهؤلاء إذا خطبوا الناس أو تصدروا المجالس أو حضروا النَّدِيَّ، فلا يعدمون نوادر يمزجون بها خطبهم، وعبارات مونقة يلقونها في وسط كلامهم مما يناسب المقام ويلائم الظرف ويندمج في الموضوع، ثم لا يزال نجاح النكتة التي من هذا النوع، ومبلغ تأثير النادرة أو العبارة الفكهة التي من هذا القبيل، متوقفًا على مقدار البراعة في الأداء، والمهارة في الإلقاء، وحسن الاختيار للمناسبة، وهذه لا تتواتى إلا للبَرَعَة والظرفاء من الزعماء والقادة المحببين.

ولا يزال الناس في مصر يذكرون كيف كان سعد — رحمه الله — المتفوق في هذه الناحية، الفذ في هذا السبيل، فلم تكن خطبة له تخلو من فكاهة يضج لها السامعون ضحكًا، ويدوي له الهتاف من أجلها غامرًا الفضاء، ولعله كان أول من ذكر ذلك التعبير التهكمي البديع الذي سار من بعده مسار الأمثال، وهو قوله عن الذين كان يساق بهم مُقَرنين في الأغلال أو الحبال إلى ميادين العمل مع السلطات البريطانية في الحرب الماضية «متطوعو السلطة!»، فإن التعبير عنهم «بالمتطوعين» جد بديع، ونكتة ظاهرة، لما انطوت عليه من التناقض البليغ والمغالطة الفاضحة.

بل كم كان لسعد زغلول في سائر خطبه الرنانة من ألفاظ وكلمات خُلِّدت تخليدًا من بعده، فمن ذا الذي ينسى تعبيره عن سفر عدلي باشا للمفاوضة مع الإنكليز يوم كانت الخصومة محتدمة بشأن السفر ورياسة الوفد المسافر، وهو قوله: «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس!» فقد عاشت هذه الكلمة الفذة إلى اليوم، ولا تزال مذكورة على الشفاه، وسوف تنحدر مع الزمن إلى الأجيال القادمة.

وثمَّ كلمة أخرى له جاءت عفو الخاطر، ووقعت موقع المحز، وصادفت أنسب موضع، وذلكم قوله وقد انبرى الخطباء يلهجون بمديحه: «لقد أخجلتم تواضعي.» فإن هذا التعبير كما ترى بديع مونق لطيف الأداء، حسن الاستعارة، جديد المعنى، فاتن الثوب والغشاء والتلوين.

وكان لسعد في المواقف الخطيرة شجاعة رائعة تلهمه الكلمة النادرة، وتبعث في نفسه التهكم اللاذع، وتطلق مِقْوَلَه بالفكاهة المرهفة، ومن أمثلة ذلك ما كان منه يوم دخل عليه في رياسة مجلس الوزراء لورد اللنبي وقد أقبل في عديد من الفرسان المسلحين يستبقه النفير يملأ الفضاء بصوته المِرْنان لكي ينذر سعدًا ذلك الإنذار المعروف عقب حادث مصرع السردار، فقد تلقاه البطل الشجاع الثَّبت سعد قائد الحركة الوطنية في البلاد بكل سكينة وهدوء وابتسام مسائلًا: ماذا …؟! هل أعلنت الحرب …؟! فلم يسع لورد اللنبي إزاء هذا التهكم البديع إلا أن يصمت حائرًا مرتبكًا قبل أن يستجمع نفسه من أثر هذه المباغتة غير المنتظرة.
figure
فرانكلين روزفلت – رئيس جمهورية الولايات المتحدة.

وكانت مجالس سعد وأسماره تفيض بعذب الكلام، ولطف الحديث، وحلو الفكاهة، وكان منزله في مسجد وصيف أو بساتين بركات للاستجمام، فترات تجرد من التكاليف، وعيش نضير مع أضيافه الذين يصطفيهم لذلك ويأنس إليهم؛ فكانت تنعقد يومئذٍ جلسات بديعة، يشترك فيها الأصفياء من كل حلو الحديث، وبارع النكتة، وحاضر البديهة، ويلازمه خلالها الشاعر حافظ إبراهيم — رحمه الله — وكان من أبدع الناس كلامًا وألطفهم مدخلًا على القلوب، والدكتور محجوب ثابت بقافاته الحلوة، وعثنونه البديع، وكلماته النافية للهموم المروحات عن الصدور.

ومن أحاديث خليفته «مصطفى النحاس» لُمَعٌ من أفذاذ الكلم، وأماليح القول، وبوارع الفكاهات، فلا يخلو مجلسه من لطف الإشارات وعِذَاب الأحاديث، وغرائب التعبير، وحسن البيان.

وممن اشتهر في عصرنا الحديث بهذه الصفة التي تلازم فريقًا كبيرًا من الزعماء، الرئيس فرانكلين روزفلت، فهو على ما به من عاهة، أقدر مَنْ حَمَلَ تكاليف الرياسة، وأحذق من أدرك مطالب الحكم وصان تبعاته، ثم هو بجانب ذلك الرجلُ المِفْرَاح الضحوك البارع الأحاديث، ومن المأثور عن موظفي مكتبه وأفراد أسرته والمتصلين بعمله قولهم إن أسرع طريقة لمعرفة مكانه إذا افتقدوه هو الانتظار حتى تدوي أصداء ضحكة رنانة من القلب، فيعرفوا مصدرها؛ فحيث تنبعث يكون! وهو يعالج تخفيف وطأة عمله بهذا الروح المرح، ويروض كثرة تكاليف منصبه بهذا المُنَشِّطِ البديع.

ومن مزايا الروح الفَكِه عند الزعماء أنه يساعد على معرفة المواقف الضعيفة التي تقتضي التقوية والتعزيز، والتوطيد في الحين المناسب والظرف المواتي، إذ لا شك في أن بعض هذه المواقف تلوح في وقت ما مُربِكَة مُحيِّرة، ولكنها مع الوقت تعود فتبدو طبيعية أو مألوفة ليس منها بأس ولا ضرر، ومن المواقف ما يتراءى غير مناسب؛ لأن الناظر إليها لم يؤتَ الفسحة الكافية لاستعراضها بالرأي الصحيح والعناية الواجبة.

وإذا اقترن روح التقدير الدقيق للأشياء، أو الكياسة واللباقة، بروح الفكاهة أو النظر المرح إليها، أعانتا معًا على بلوغ الزعامة قمة نفوذها في النفوس وسلطانها على الأرواح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤