أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها

كثيرًا ما نقرأ أو نسمع خلقًا من الناس في حديثهم عن زعيم أو قائد جماعة أو ذي سلطان يقولون: «لقد وَرِم رأسه» أو «هو المسرف في تقدير نفسه»، أو أنه عنيف في الحمل على أنصاره وسوق أتباعه، أو هو «لا يستمع إلى نصح ناصح، ولا يستجيب إلى مشورة مشير»، أو «إذا أردت أن تكون ذا قربة منه وحظوة لديه، فَأمِّنْ على كل كلمة يقولها، وصانعه في كل ما هو صانع»، أو «هو يحاول أن يجعل كل إنسان طائر النفس شعاعًا من خيفته»، أو «إذا رأيته غاضبًا فلا تقترب منه، والتمس عياذًا ونجوة من سورة غضبه»، أو «هو بالنساء أبدًا مشغول الخاطر مفتون».

هكذا يقول الناس في أحاديثهم عن زعماء كُثر أو قواد أعلام، وهذا بلا ريب بعض ما يُذَم الزعماء به، فإن هناك ما هو أكثر من هذا وأسوأ قيلًا، وكله يدل على أن الزعماء هم أبدًا موضع دراسة الناس وملاحظاتهم أكثر مما يتصورونه حاصلًا، كما ينم على أن الذين يبلغون مراتب السلطان على الغير قد تتطرق إليهم صفات غرائب عليهم، وتتسلل إلى نفوسهم عوامل سيئة تبديهم في صور شوهاء للأبصار، وتتعرض زعامتهم لأخطار متعددة وآفات كثر وأذى شديد.

وقد يكون الزعيم في إنفاذ سلطانه على الناس مستمدًّا مكانه ونفوذه من رضاهم التام وبيعتهم الكاملة، وثقتهم الغامرة الشاملة، ومع ذلك نراه مجاوزًا كل حدود نفسه إلى الإضرار بسلطانه، وتسوئة مكانه، والإيذاء لأنصاره وأشياعه وأعوانه.

وليس من شك في أن أية لوازم وخواص تجعل الزعيم مَعْنِيًّا بنفسه إلى حد الغلو والسرف والإفراط، ناظرًا إلى إرضاء عاطفته وحدها وشخصه ذاته، تصبح خطرًا يتهدد زعامته ويوشك أن يفسد صلاته بالذين من دونه، ومثل ذلك أن يكون غير متزن الذهن، أو مريضًا ببعض العلل النفيسة، أو معوضًا عن مناقص فيه ومعايب بوسائل غرائب، ووجوه شذوذ، أو أساليب مضللة، أو أسير عادات سيئة ولازمات فاسدة؛ فإن ذلك ونحوه من شأنه أن يحيط مكانه في الناس بخطر شديد لا يلبث أن يذهب به وَينزِعَه منه نزعًا.

على أن حالات الشذوذ الباثولوجية — الناشئة من بعض العلل والأدواء — هي كقاعدة عامة أقل من حالات الإفراط والغلو في خواص ولوازم اعتيادية تفسد السلوك وتتنكب الطريق السويَّ، والسبيل القويم، ومن ثم تقيم حواجز وحوائل أمام سلطان الزعيم ونفوذه.

ونحن معالجون في هذا الباب من الكتاب كلتا الناحيتين، متوخين شرح الظواهر الغالبة في ناحية الاضطرابات الخلقية والعلل والمساوئ التي قد تتعرض لها الزعامة أحيانًا، فتفسد عليها محلها من النفوس، وتؤثر في مكانها من الجماعات أسوأ الأثر.

وليس يخفى أن من أول واجبات الزعماء أن ينظروا إلى الناس كغايات في أنفسهم لا كآلات وأدوات في سبيل تحقيق الغايات التي يفرضها الزعماء عليهم فرضًا، ويريدونهم عليها إرادةَ إكراه وقَسْر وغِلَاب، وأن أية صفات أو منازع من شأنها أن تحيل الزعيم مزهوًّا بذاته عنيفًا على الناس شديد الوطأة بالغ القسوة، تجعله بلا ريب يجنح إلى تغليب رضوان ذاته وإشباع نفسه، على إرضائهم، والظفر بسكونهم إليه.

وكذلك يمكن القول بأن الشخص السليم العقل الصحيح الموفور العافية إنما يجنح إلى النفوذ بالحض لا بالإكراه، وبالاحتثاث لا بالضغط والإجبار، وباللين والعُرف لا بالاستبداد والعنف.

ولا ينبغي أن ننسى أن للسلطان إغراء، وأن في هذا الإغراء الخطر كل الخطر على الزعامة إذا هي لم تتئد وتأخذ نفسها بالرياضة وكبح الجماح.

وقد يُعتَرَض مع ذلك بأن الاتزان العقلي لا يُنتَظر من الزعماء؛ لأن الصفات التي جعلتهم زعماء هي بطبيعة الحال التي جعلت لهم ذلك التفوق الرفيع على الناس، فهم بها أغنياء عن التماس صفة أخرى على التعيين، ولكنا نستطيع بكل سهولة أن نستشهد بأمثلة كثيرة لزعماء يرجع سلطانهم إلى أنهم جعلوا من رذائلهم فضائل، وتَخِذُوا من مساويهم حسنات، أو إلى اعتمادهم على خواص معينة فيهم تناهت في الغلبة على سواها، وانمازت عن غيرها، فأصبحت هي البارزة البادهة الغالبة.

وفي الحق إذا نحن نظرنا إلى الفرد من ناحية كفايته وصلاحيته للزعامة، وإلى المجموع من حيث بحثه عن الزعيم الموفق الناجح القويِّ المكين، بدا لنا أن الإفراط في بعض الصفات وتناهي الحد في بعض المزايا والخواص، هو وحده الخطر الذي يهدد الزعامة، وإنه من الخير لها أن تكون على توازن في الصفات، وتعادل في الخواص والمزايا؛ لتستقيم على وجه صالح، وتأخذ أقوم طريق.

ونحسب تقسيم العوامل المختلفة التي تؤثر في الزعامة سيئ الأثر تقسيمًا علميًّا، وجهًا من البحث ليس من شأننا، وإنما يصح أن نعرض لها في لغتنا ليكون ذلك مفتاحًا لمن يبتغي في هذا الباب توسعًا ويطلب مستزادًا.

ولكن لعل أكثر هذه العوامل اتصالًا بالموضوع الذي نحن بسبيله هي شهوة السلطان، وسرعة تغلب العاطفة، والمخاوف المُلحَّة الدائبة، والإحساس بالعجز، واختلاف الشفائع والمعاذير، واختلال الوظائف الجنسية، والنزوع إلى العنف والقسوة.

ونحن متناولون هذه العوامل بالبحث إيجازًا واختصارًا …

إن الرغبة في الرفعة والرياسة والسؤدد هي من غير شك أحد الدوافع الرئيسية في الإنسان، بل هي الحافز الذي يؤثر في مسلكه، ويطبع تصرفاته بلونه، ويسيطر على جميع حركاته وسكناته، وهو بلا ريب دافع طبيعي ضروري في الحياة، فكل منا يريد أن يُذكَر ويُشَاد باسمه؛ بل كل منا يريد أن يَحْسُن في عيني نفسه ويشعر بأن له في ذاته شأنًا وفضلًا، والزعيم بطبيعة الحال يصيب أكثر من غيره الفرصة التي تُرضِي في نفسه هذا الشعور وتشبع هذه الحاسة باستخدام الزعامة وتنفيذ السلطان، ولكن هذا الحب للرفعة والرياسة والسيطرة من السهل للغاية أن يخرج زمامه من اليد، وتتسرب لُجُمه من القبضة، ويوم يصبح مركز الزعيم أو مجرد استحواذه على السلطان السبيلَ الوحيدة لإبراز السيادة، وإظهار إرادة التملُّك، وإبداء مظاهر النفوذ؛ تتمثل أخطار الإفراط، ويُخْشَى من عاقبة السَّرَف والغلو ومجاوزة الحدود.

وقد يتخذ هذا الغلو أو هذا الإفراط أشكالًا متعددة، فمثلًا قد يجد الزعيم في ذات نفسه الشعور بالغبطة بسبب الترفع عن السواد، والإحساس بالسمو عن الجمهرة، والزهو على الناس، والترفع عن مخالطتهم، وما يتبع ذلك من إظهار التنزل إليهم تفضلًا منه وتكرمًا، والنزوع إلى الغرور والعُجْب والخيلاء والعزة والكبرياء، وقد يقتضيهم حدًّا مفرطًا من التضامن فيه والولاء له، فيضطر بذلك إلى تقريب الملَقَة وإحاطة نفسه بجموع المزدلفين والمتمسحين بالأعتاب، أولئك الذين لا هَمَّ لهم إلا التأمين «بأي نعم» على كل ما يقوله، والتمداح لكل ما يفعله، والطبل والزمر أبدًا من حوله، وقد يأبى إلا متابعة هواه، وتغليب إرادته على إرادة سواه، والتكبر على النزول على نصيحة النُّصَّاح ورأي الصحب والخلطاء والمشيرين.

وأنت فقد تجد أحاسيس الغَيْرَة من الآخرين الذين قد يتطلعون بأبصارهم إلى مركز زعامته ومحل رياسته، بارزةً عند بعض الزعماء كدليل على الرغبة في التفرد بها والاستئثار المطلق، دون منازع أو شريك.

هذه هي طائفة من الحالات التي يستبد فيها الكَلَفُ بالسلطان بنفس صاحبه، فماذا يصح أن يصنع في علاجها، وما سبيل العمل على إزالتها واستئصالها من أصولها الدفينة وجذورها المُستَسِرَّة …؟

أولًا دعنا نسأل لماذا نجد بعض الزعماء يظهرون أثَرَتهم من خلال زعامتهم على هذه الصورة المكشوفة البَيِّنة؟ هل ذلك راجع إلى محاولة التعويض عما في نفوسهم من الإحساس بالعجز، أو عما كان في صغرهم وحداثتهم من الضغط والتضييق والاحتجاز، أو ما غشي عهد تربيتهم ونشأتهم من خنق العاطفة، وتعطيل الملكات، ومحاربة الصفات الطيبة، والانبعاثات الحسنة الخيِّرة الفاضلة؟!

هذا هو ما ينبغي أن نفهمه ونتبين دقائقه قبل أن نعمد إلى المعالجة والإصلاح والتقويم، وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان وجوب حمل الزعيم نفسه على الشعور بهذا النقص فيه، وقد لا يغني في هذا مجرد الإيحاء الأدبيِّ، أو التنبيه العقليِّ، فإن جذوره قد تكون متغلغلة في أعماق نفسه وأغوار منازعه ورغباته، وليس ثم كبير فائدة في محاولة التقويم والعلاج ما لم تُفحَص البواعث والأسباب فحصًا، وتُكشَف على حقائقها تمامًا.

وقد تتكشف هي أحيانًا وتَتَبَدَّى للزعيم ذاته دون تنبيه أو إهابة بسبب حوادث تقع له، وخيبات تطالعه، كأن يسقط في الانتخابات عند محاولة إعادتها، أو يلقي أمرًا إلى الذين يتشيعون له فلا يهرعون إليه، ففي هذه الحالة ونحوها قد يهديه منطق الحوادث إلى مواجهة الحقيقة، والاعتراف بأن علاقاته بالمقودين لم تعد قوية مكينة صالحة، وإلى البحث في ذاته ومسلكه وتصرفاته عما عسى أن يكون العيب فيه والنقص الذي أدى إلى هذا الفشل الأليم.

وأحيانًا أخرى قد يستطيع الناصح الأمين، والصديق المخلص، والمشير الغيور، أن يقنع الزعيم بأن تناهيه في حب السلطان مزيل له مُعجِّل به، وقد يكون هو على الأيام قد شعر بالخطأ وأدرك من تلقاء نفسه الغلط والمعاب، فإذا جاءت النصيحة من المشير مطابقة لما في صدره، مماثلة لما في خاطره، لم يبق غير التماس الأسباب التي أدت إليه، والبحث عن البواعث عليه، وحينئذٍ تنبغي معالجتها، ويصح العمل على إزالتها، وليس من الميسور هنا بيان الخطوات التي تُتَّخذ في هذا السبيل؛ لأن لكل حالة علاجًا، ولكل علة من العلل أشفية ودواء.

بَيْدَ أنه في الإمكان إبداء جملة من الملاحظات على وجه العموم، فقد يكون من الخير أحيانًا أن يعمد الزعيم المُسْتَهْتِرُ — أي المُولَعُ — بالسلطان إلى توسيع مرمى تفكيره ومدى نشاطه حتى يتيسر لكلفه بالسلطان أن يجد أكثر من مجال واحد أو مُتَنَفَّس بذاته أو اتجاه ليس غَيْر. ومما يصلح شأن الزعيم المفرط في الإعلان عن نفسه، المسرف في تحكيم نفوذه، المجاهر بأن عمله هو كل حياته، أن يوجد لنفسه ملهاة أو تسلية ما أو «غيَّة» ينشغل بها قليلًا عن حصر كل تفكيره في ذاته، فتخفف من حدة إحساسه بسلطانه، وارتكاز كل عاطفته في زعامته، وتهيئ له جوًّا أوسع للتأمل، ومرمى أفسح جوانب للتفكير المتزن، والخاطر السديد الراجح، كما تستنفد فرط نشاطه والزائد عن الحاجة من قوَّته في سبل لا تغري بالإسراف في إعطاء فكرة السلطان أكثر مما تستحق.

وليس بعيدًا من الصواب ولا من المشاهد المحسوس في الجماعات الكبيرة والهيئات الواسعة النطاق، ألا يكون للزعيم سبيل منظم للاتصال الدائم الوثيق بأتباعه والمشايعين له، فلا تسنح له الفرص، ولا تتهيأ له الظروف لدراسة شعورهم نحوه دراسة جدية دقيقة، وفهم أحاسيسهم من نحو تناهيه في النفوذ واستبداده بالسلطان، فلا يتاح له اكتشاف ذلك إلا بعد فوات الأوان، حيث يصبح من الصعب عليه أن يزيل ما علق بأذهانهم من هذه الناحية، وحلَّ في صدورهم من هذا السبيل.

ومن ثم تنهض حجة القائلين بوجوب إيجاد وسائل صالحة منظمة لاتصال الزعامة بأشياعها، والاجتماع بممثلي الجماعات المنضوية تحت لوائها، حتى يرى الزعيم الأمور على حقيقتها، ويمسك بالمرآة أمام الطبيعة لتنعكس له عن صدقها ودقائقها ومعالمها، فإذا ما رأى في نفسه اعوجاجًا قوَّمَه، أو تناهيًا في السلطة انحرف عنه إلى جانب الاعتدال والاتزان.

ومن أكبر المبررات البسيكولوجية لإقامة هيئات تمثيلية فرعية وإنشاء لجان متعددة، أنَّ ممثلي الجماعات والناطقين باسمها والنواب عنها يستطيعون — إذا شاءوا — أن يحدُّوا من مناحي سلطان الزعيم وغلو اعتداده به، وأن يجعلوه دائمًا مدركًا لرغباتهم، شاعرًا بأمانيهم ومطالبهم، عليمًا بما ينبغي لهم قِبَلَه من حقوق.

ومن أساليب الوقاية قبل العلاج، أن يُدَرَّبَ القادة وهم في مطالع أمرهم، ويُرَاضَ الرؤساء والذين يُنتَظر أن يصبحوا يومًا في مواضع الزعماء، على أن يفهموا هذه الحقيقة الكبرى التي ينبغي لكل زعيم النزول عليها والائتمار بها، وهي أن الزعيم في الأمة هو خادمها الأمين على ما استودعته، العامل بمشيئتها؛ لأن مشيئة الشعب فوق مشيئته …

لقد أسلفنا عليك ما للانفعال وسرعة الغضب من أسوأ الآثار وأكبر الأخطار على الزعامة، والآن نقول استكمالًا لهذا الباب من الكلام إن هناك مظاهر أخرى لسرعة البادرة وتقلب الأهواء ينبغي التوقي منها والعمل على درء أسبابها، فثَمَّ مثلًا سرعة الهياج، وعاجل الحِدَّة، وتقلب المزاح، وانتياب الكآبة والوجوم والاغتمام، أو الانتقال السريع بلا سبب ظاهر ولا علة واضحة من التهلل والتَّطلُّق وإشراق الطلعة إلى الاكتئاب والتجهم والإطراق، وقد يصبح هذا في الحالات الشديدة عارضًا مرضيًّا، وهو معروف «بالسوداء»، وهي حالة دقيقة تستوجب أبلغ العناية وأدق العلاج.

وثم حالة أخرى، وهي حالة النشاط العصبي الأهوج الذي لا يكف ولا يهدأ، أو فرط الانشغال المجرد مع العجز عن تركيز القُوَى في عمل ما أو مهمة معينة، وقد تلوح هذه النزعة الظاهرة القافزة للناظر في بعض الأحيان انبعاثًا قويًّا، ونشاطًا عظيمًا زاخر الأمواه، غزير التيار، ولكنها إذا ما اقترنت بالعجز عن التركيز والتمام، أو لم تتجاوز حد القدرة على الابتداء بعمل وتركه، والشروع في أمر والانصراف عنه؛ كانت مظهر تقلُّب خطير يحتاج إلى العناية والعلاج.

وقد تكون أسباب هذا التقلب كثيرة ومنوعة، وهي في أغلب الحالات ترجع إلى علل «عضوية»، وقد تكون عوارض لأمراض تتصل بعسر الهضم، والارتباكات المعدية، أو اضطرابات الغدد، أو الاختلال في الوظائف الجنسية، أو الشيخوخة وتقدم السن، أو التعب والإعياء، كما قد تكون مظاهر انزعاج وانشغال واضطراب نفسي عميق الأثر. ومثل هذه الحالات من شأنها أن تدع الأنصار والأشياع لا يجلدون على احتمال الأهواء الغريبة التي تولدها، والأوهام والأطوار الشاذة العجيبة التي تقترن بها في أغلب الأحيان.

على أنه ينبغي التمييز مع ذلك بين سرعة التقلب الذي تتجه آثاره وتحكماته نحو الناس فيضيقون بها ويستشعرون ضغطها وثقل وطأتها، وبين فورة العاطفة لفكرة ما أو قضية معينة تنزل من النفس منزلة التقديس، ففي هذه الناحية ليس من المحتم ارتقاب الثبات الرزين، ولا من المرغوب فيه إيثار السكينة الجامدة، وإنما لا ينفي هذا وجوب إنصاف الزعيم في هذه الناحية بحسن وزن الأمور، وأصالة الحكم، ودقة التقدير، بل المنتظر من الزعامة الرفيعة السامية أن تكون مفعمة العاطفة قوةً ونشاطًا وحماسةً وفيضًا روحيًّا، وأن تضع كل همها ومدخر قواها في تلك الفكرة المقدسة أو القضية العظيمة الشأن؛ لأن فورة الإحساس بسبيلها قوة مرهوبة، وحماسته من أجلها هي كل فضلها وسلطانها؛ بل إن سرعة التقلب عنده في هذا المعنى تجدي عليه أحسن الإجداء، وترد عليه خير مرد.

لقد أصبحنا نعرف اليوم أن المخاوف — وإن لم يعترف الأفراد بها في الغالب — قد تلعب دورًا كبيرًا للغاية في إفساد الصلات الإنسانية وتوهين الوشائج العظيمة الأثر بين الناس، ولئن كان يلوح غريبًا مستغلقًا على الذهن أن يقال عن فرد يتولى قيادة مجموع من الناس إنه يعتريه الخوف أحيانًا، وينتابه الفَرَقُ والخشية والتوجس في بعض الظروف، فمما لا شك فيه أن ذلك هو الواقع، أو كثيرًا ما يكون الصحيح، ونحن باحثون هنا في بعض أنواع الخوف التي يتأثر بها فريق من الزعماء والمتولين الرياسة في الناس.

فأولًا قد يخاف بعض الزعماء ألا يكون الخليق بأداء مهمته، القدير على الاضطلاع بعمله، وقد يخشى ألا تكون لديه المؤهلات لها، أو أنه على وشك الفشل فيما بدأه، والخيبة المخزية فيما هو ماضٍ فيه، وقد يتألم من إدراكه أنه ليس بالمتكافئ وأصحابه، المتساوي وزملاءه، في الحظ المظفور به من التربية والتعليم، أو من حيث الأصل والمحتد والنسب في المجتمع، أو في السمت والهيئة والمظهر، أو في الخبرة والشهرة بين الأنصار والأعوان.

وقد يحس الخوف من أن مركزه ليس مضمونًا بسبب عجزه عن إرضاء الذين من فوقه أو من دونه، وقد يبلغ منه هذا الشعور أحيانًا مبلغ المرض الفكري المثير لأشد الألم، المحدث لأعجب الأوهام والأخيلة والتصورات المزعجة، حتى ليتوهم أن ثمَّ ائتمارًا خفيًّا للإيقاع به، أو كيدًا مبيتًا لإحباط عمله وإفساد الأمر عليه؛ كما قد يكون في باب الخوف أو من بعض صوره وألوانه، الغيرة من أفراد يلوحون كأنهم موشكون أن يظفروا بمكان مساوٍ لمكانه أو فوق ذلك مظهرًا.

ولا خفاء في أن هذه الخوالج ونحوها مما يذهب بفضيلة الثقة بالنفس ويحطم قوة الاعتداد بالذات، ويصرف جميع القوى إلى جهة الشيء المرهوب، وناحية ما هو مثير للخوف والوهم، ويخمد الحماسة، وتخبو به الحمية، ويتلاشى من أثره النشاط؛ بل هي عامل سيئ، وحائل كبير دون بروز المواهب، وظهور القوة الشخصية، وإن كانت هذه الخلجات في العادة مسرفة معطاة أكثر مما تستحق من العناية، بل قد لا يكون ثَمَّ مبرر لها ولا عذر، وقد تدل على أن صاحبها لا يواجه الحقائق كما ينبغي بشجاعة وتؤدة واتزان أن تُوَاجه.

وما أحوج رجلٍ كهذا إلى مساءلة نفسه: ما هذا الذي أنا منه خائف، ولماذا أنا منه وَجِل …؟! فإن المواجهة الصادقة لهذا السؤال كثيرًا ما تكشف عن مبلغ الوهم فيه، وتبين للمرء أن لا شيء ثَمَّ يستوجب مخافة، أو إذا كان الأمر مستدقًّا بعيد الغور، فإن مجرد محاولة الاهتداء إلى السر وكشف الدافع قد يشجعه على معرفة ما في مُكْنَته أن يتوسل به لإزالة أسباب هذا التوهم المُلِح الذي أوجده الخوف والإيجاس.

ولكي نبيِّن كيف تفعل المخاوف والصدمات القديمة في هدم النفوس، وكيف تحدث حالات الرعب والفزع التي وقعت للناس في الطفولة، ثم مع الزمن والتقدم في العمر ذهبت نسيًا منسيًّا، من سوء الأثر في الحياة العملية وعهود الرجولة أو الشباب — نقصُّ الآن عليك قصة رجل اعتاد في الاجتماعات الكبيرة الجلوس قريبًا من محل الخروج وباب الانصراف، حتى لقد غلبت عليه هذه العادة فلم يكن يخالفها في أي اجتماع، أو يشذ عنها في أية حفلة من الحفلات، ثم حدث يومًا أن طُلِب إليه عند إعداد برنامج احتفال ما أن يلقي خطابًا باسم الجماعة التي يمثلها فيه، وكان الحفل سيقام في بعض المسارح الأهلية، فلما نهض ليخطب القوم لم يلبث أن تولاه رعب شديد، وشعر كأنه قد وقع في فخ، وراح يدور بعينيه حوله ملتمسًا سبيلًا إلى الخروج، وقد بلغ منه الروع كل مبلغ حتى لقد جرى تاركًا المسرح لا يلوي على شيء إلى الشارع في فزعة الهارب الباحث عن النجاة.

ولما ثاب إلى نفسه تبين له أن هذا الذي كان منه لا يمكن أن يكون مجرد فزع من وقفة المسرح، وذهب يستشير أحد الأطباء النفسيين، فلم يلبث هذا أن كشف سر هذا التوهم العجيب، فقد حمله الطبيب على أن يتذكر حادثًا معينًا وقع له في طفولته، فتذكر أنه حُبِس ذات مرة وهو في البيت صغير في غرفة مظلمة عقابًا له على هفوة اقترفها، ففيما كان جالسًا وسط الظلام في جوف ذلك المحبس الصغير، هاجمته فأرة كبيرة فروعته وأخافته أشد الخوف، وقد ظل أثر هذه الصدمة أو الهزة المروعة باقيًا دهرًا طوالًا مع زوال الحادث ونسيانه، حتى اتخذ خوفه من الاحتجاز في مكان محصور حالة باثولوجية عنده؛ أي أصبح «مرضًا» متأصلًا فيه، متمكنًا منه، ولكنه وقد انكشف سر الحادث الذي وقع له في الطفولة، وفهمه هو حق الفهم، واقتنع بصحته تمام الاقتناع، لم يلبث أن كف عن خوفه، وعدل عما كان ملازمًا له.

وكثيرًا ما يعتري بعض الزعماء والموكلين بالرياسات أو المشرفين على مجاميع من العمال أو الموظفين حالاتُ توهُّمٍ غريب يخيل لهم أنهم مُطَارَدُون أو مضطهدون أو غرض أعداء مستخفين وخصومٍ يسخرون منهم، وهي حالات نفسية مَرَضية، ناشئة من اضطراب ذهني كلما حاول المرء الخلاص منه أو تهدئة ثائرته وإزالة أعراضه، جنح إلى تفكير خاص أو تعليل ما للموقف الذي يشاهده، أو الحالة الراهنة التي تحيط به.

ومثل المصاب بهذا ونحوه قد يرى مثلًا رجلين قد وقفا في ناحية يتحدثان أو يتخافتان بقولٍ، فيقر في خاطره أنهما لا بد من أن يكون حديثهما عنه، وأنهما بلا شك يتسارَّان بشأنه، ويتهامسان عليه أو يكيدان له كيدًا.

وقد يُحيِّي أحدًا من الناس فلا يسمع هذا تحيته، أو يكون منشغلًا في تلك اللحظة بالذات فلا يردها بمثلها أو أحسن منها؛ فيتبادر في ذهنه حالًا أن ذلك الشخص يكرهه أو ينقم عليه، وقد يرى في أشياء أخرى من هذا القبيل أو من محض المصادفة ومجرد الاتفاق ما يبعثه على الظن بأن القوم يدبرون له مؤامرة أو يبتغون به ضرًّا أو يكنُّون له العداوة والبغضاء.

والعلة هنا أكثر ما تكون في حالة الشخص ذاته، ومن ثَمَّ ينبغي تشخيصها، ويجب فحصها والعناية بعلاجها، وقلما تكون في الحوادث والوقائع والملابسات التي يتوهمها، ويرجع بواعثها إلى ذلك الذي يدور في خلده ويضطرب به وجدانه.

وهذا ما يحدو بكثير إلى الاعتقاد بأن هذه الخوالج والتوهمات راجعة إلى بعض عيوب أو مناقص في الأشخاص لا يريدون الاعتراف بها، ولا ينزعون إلى التصديق بأنهم متأثرون بها؛ فلا يسعهم إلا محاولة الاعتذار عنها أو التعليل لها بأمثال هذه الأوهام الكاذبة، وبردِّ اللائمة على غيرهم فيما يعانون منها؛ مع أن الواقع أن العلة فيهم، وأنهم مرضى بمخاوف تصورية ليس لها من حقيقة ولا أساس.

ويروَى عن أستاذ في بعض الكليات أن رئيس الجامعة تحدث إليه يومًا في أمر توليه مقاليد منصب العميد فترة قصيرة من الزمن في غيبة عميدها الأصلي، ولم يكن الأستاذ قد جرَّب ولا اختبر من قبل أعمال الإدارة، فلم يكد يتلقى هذه الفكرة حتى أحس فعلًا وسواسًا شديدًا يوحي إليه الريب في مقدرته على الاضطلاع بذلك الواجب، والقيام بذلك العبء؛ فلبث مترددًا غير مستقر على رأي قاطع في قبول المنصب أو رفضه، وأخيرًا انثنى رئيس الجامعة يقول له: «استمع لي أيها الأستاذ … كلنا يخطئ، وما من أحد سلم من الغلط، وأنا أخطئ وأنت بلا ريب سوف تخطئ، ولكني واثق أنك ستؤدي عملًا حسنًا في هذا السبيل، وستجد مني كل معونة وتأييد.» فلم يَنِ الأستاذ أن وجد في هذه الكلمات الطمأنينة إلى القبول؛ لأنها قَوَّت إيمانه بنفسه، وأزكت ثقته بذاته، فأحسن كعميد غاية الإحسان.

وهكذا لا تخلو هيئة من الهيئات الكبار من أناس خلقاء بالقيادة، أحرياء بالرياسة، ولكنهم يخشون المحاولة، ويخافون العمل، ويقوى في نفوسهم الشعور بالعجز، والإحساس بالقصور، فلا يملكون الفرار منه، والتخلص من تأثيره، وقد يكون سبب هذا الشعور فيهم عاملًا نفسيًّا، ولكن هذا العامل يمكن أحيانًا التخلص منه بالمحاولة والرياضة وغَلَبة الإرادة.

ويصح للزعيم إذا هو رأى رجالًا يتوسم فيهم المقدرة على حمل المسئوليات الجسام والبروز إلى مواضع القادة في الصفوف، ولكنهم يتراجعون دون المحاولة، ويتأبَّون الرياضة على الاضطلاع بها — أن يُعِينهم ويأخذ بأيديهم ويساعدهم على قفز الحواجز، والوثوب فوق الحوائل، واقتحام العقبة، إذ من السهل للغاية المرور على رجل من هؤلاء يقول إنه لا يريد تقدمًا، ولا يحب استعلاءً؛ ولكن من الخير، بل كل الخير، في محاولة اكتشاف الباعث الذي يبعثه على رفض احتمال المسئوليات الكبار، حتى يتبين تمامًا أنه في رفضه ذاك غير متلمس معاذير عن قصور لا أصل له، وعجز مُتَوَهَّمٍ مُتَخَيَّلٍ لا يستند إلى حقيقة.

وليس لهذه النفسية «المنكمشة» المنزوية من دواء ناجع غير تجديد الإيمان، وتقوية الثقة بالنفس، كما أن النجاح في أول مهمة من شأنه في هذه الحالات أن يأتي بعد ذلك بالعجب، ويبني المرء من جديد، ويخلقه خلقًا آخر، ويرفع عنده من اعتداده بنفسه وإيمانه بقواه، فما هو إلا دور تردد ووسواس إذا عولج معالجة صالحة مناسبة، أعقبته أدوار يقين وثقة وإيمان واطمئنان …

والمراد بتلمس الحجج والمعاذير هو الخيبة في عمل ما، ثم التماس التعليل لعمله، ومحاولة الاعتذار عن فعله، كما هو العجز عن تأديته، ثم الذهاب إلى اصطناع الشفائع عن تركه. وليس من شك في أن هذا النزوع يصبح خطيرًا سيئ النتائج إذا هو جعل الشخص يخدع نفسه بأنه قد واجه الحقائق مواجهة صحيحة، في حين أنه في الواقع قد عَمِيَ عن خطر مُعقِّباتها وبالغ نتائجها، أو قد ترك أسباب حالة ما أو بواعث حادث من الحوادث من حساب اعتذاره، ومحاولة التشفع له، أو إيجاد الحجة لتبريره.

وليس معنى هذا كله سوى أن الفرد إنما يحاول إقناع نفسه بأن ليس على مسلكه من غبار، وأنه على صلات طبيعية بالناس؛ مع أنهم في الوقت ذاته قد يكونون على بينة من أن هناك ولا بد نقصًا أو اختلالًا أو اضطرابًا في صلته بهم.

ونحسب الشواهد على هذا الانتحال للمعاذير غير المنطقية عديدة تتوارد على خاطر كل امرئ منا إذا هو فهم ما نقصد إليه، وأراد التمثيل له والتدليل عليه، فلا حاجة بنا إلى إيراد شيء منها، وإنما تجدر بنا الإشارة إلى النتائج التي تترتب على قيام هذا النزوع في نفوس بعض الزعماء، فمن ذلك أنه يجنح بهم إلى الرغبة دائمًا في تجاهل الحقائق الخطيرة، والعوامل الهامة عند التفكير في أمر ما، أو محاولة الوصول إلى قرار فيه؛ إذ معنى هذا أن الزعيم المتأثر بهذا النزوع يدرك ما يريد، ويفكر فيما يبتغي، ويتصرف كما يشاء، ثم يروح يستخدم الاعتبارات والبينات الموافقة الملائمة لتأييد ذلك التصرف الشخصيِّ، ويزيد ذلك المسلك بذاته، كما أن هذا النزوع ينمي في نفسه الميل دائمًا إلى لوم الغير على المحاولات الخائبة التي لا ينبغي أن تكون اللائمة فيها على أحد سواه.

وكثيرًا ما رأينا زعماء لا يعنون العناية الواجبة بتحديد مدى التبعات أو المسئوليات التي يخصون بها الذين من دونهم، ويوزعونها على الذين يعملون بإمرتهم؛ لأنهم وجدوا أن ذلك من شأنه أن يَدَعَهم أطلق حرية، وأفسح مدى، وأوسع سبيلًا، للإنحاء باللائمة على مرءوسيهم إذا لم يؤد أحدهم المهمة الموكولة إليه على النحو الذي يريدونه، والصورة التي يرتقبونها، ومن ثم قد شهدنا فريقًا من الزعماء والقادة والمدبرين لا يميلون إلى تدوين قراراتهم أو مشيئاتهم كتابة؛ لأن ذلك يجعلها محدودة قاطعة واضحة المعالم والحدود غير تاركة سبيلًا إلى التأويلات والتعللات التي قد يلجئون فيما بعد إليها تبريرًا لتغيير قراراتهم، أو توجيه اللائمة حين الخيبة والإخفاق.

ولا يصعب على الزعيم أن يتوهم أو يوهم أن مجرد المشيئة هي التنفيذ في التقدير والاعتبار، أو معنى ذلك أن يذهب به الظن إلى أن تصريحاته بسبيل سياسته وكلماته الرنانة في إعلان حسن نياته، هي التنفيذ في ذاته والعمل نفسه والإنجاز سواء بسواء، وقد لاحظ الفيلسوف باكون «أن أصحاب السلطان هم بخاصة عرضة للتوهم بأن حسبهم هم التوجيه إلى الغاية دون احتمال تكاليف الوسيلة ومقتضيات الواسطة!»

والمُشاهَد في كثير من الأحيان أن فريقًا من الزعماء في الأحزاب والهيئات الكبيرة قد اعتادوا أن يختفوا خلف أغلاط القادة المنفذين الذين من ورائهم، مدعين أنه بما أن ذلك كان من خطة الحزب أو سياسة الهيئة كما أعلنوها هم وصارحوا بها، فقد كانوا يعتقدون أن ذلك هو الواقع فعلًا والحاصل تمامًا، فإذا ما تقدم الذين تولوا التنفيذ معترضين بأن الخطأ لم يكن من ناحيتهم ولكنه في مبلغ توجيههم؛ قالوا: لقد كان بابنا مفتوحًا لكل صاحب فكرة أو متقدم برأي، وكان يجب أن يُرجع إليهم قبل الإقدام التماس النصيحة.

والواقع أن الغالب على الزعامة التي من هذا الغِرَار أن حجتها الدائمة قولها: إننا أعْرَفُ من سوانا بما يصح وما لا يصح ونحن أخْبَرُ وأدْرَى، وفي هذه الحالة يغلب على الزعيم أن يكون منصرف الذهن إلى تقدير أصالة رأيه واستقامته وحكمة تفكيره، أكثر منه إلى خير الناس ونفعهم؛ أي أنه في ذلك إنما يُعْنَى أولًا بانتحال الشفيع عن الاستبداد بالرأي وإيجاد المعاذير عن تفرده بالسلطان.

ألا إنَّ الزعيم الذي يغلو في تصور مبلغ التأييد الذي يملكه، ويسرف في الاعتقاد بخطر قضيته ومبلغ قيمتها في نفوس أمته، ويَحْسَبُ النصر منه قريبًا حتى ليجده عند أول زاوية وأدنى منعطف؛ هو زعيم لا يستطيع مواجهة الحقائق، وإنما هو في هذا الخيال البعيد خادع مخدوع، كثير الشفائع منحول المعاذير.

وإنما الواجب أن يكون في مجلس المشورة من الزعامة كل العناية والاحتفال في المواقف الدقيقة والمسائل الخطيرة بتدبر الحقائق ومواجهتها بأمانة وإخلاص حتى وإن لاحت كريهة مؤلمة، وبالصراحة والصدق في بحث الأسباب والعلل والأغراض ومحتمل النتائج، بل إن الزعيم العارف المأمون السبيل الحكيم في تصرفه هو الذي يعود إلى الشعب في المواطن العظيمة مستلهمًا شعوره، ملتمسًا مشيئته، باحثًا عن اتجاه تفكيره؛ فإن ذلك كفيل بأن يؤمِّنه العثرة، ويجنبه الزلل، ويسلك به أقوم المسالك، ويعرفه مزاج الناس ومبلغ استجابتهم لزعامته.

هذا مبحث طبيٌّ من بعض نواحيه، كما هو نفسيٌّ من نواحِيه الأخرى، ولسنا نبغي الإطالة فيه، وإنما نذهب في تناوله موجزين، فإن علاقة الحاسة الجنسية بمزاج الشخص وأخلاقه ومسلكه وتصرفاته ليست مجهولة من كثير من الناس، ولا مستغلقة على الأذهان.

وليس من شك في أنه من الصعب أن يعمل فريق من الناس تحت إمرة رجل محتبس الشهوة، أو مختل الحاسة، فإن ذلك يورث سرعة البادرة، وضيق العَطَن، وشدة التبرم والضجر، كما يكسب الخشونة وجفوة الطباع.

على أن الذي ينبغي ألا ننساه بسبيل هذا البحث هو أن الجانب الجنسي من الطبيعة البشرية هو من القوة وشدة الأثر ودقة المَسْرَى بحيث يجب على كل فرد أن يجعل له منفسًا، ولمطالبه فسحة وموضعًا، حتى تهدأ وتسكن ولا تحتجز فتضطرم وتتأجج بها الأعصاب.

ومن ثم لا بد من أن يروح الجانب الجنسيُّ من حياة الزعماء منظمًا على نحو لا يَغُضُّ من أقدارهم، ولا يعيب أشخاصهم، ولا ينتقص من كرامتهم؛ فإن ذلك — بلا ريب — مِعْوَان على تجديد النشاط وادخار القُوَى وسلامة البدن؛ كما أن ترك هذا الجانب غير مقيد ولا مزجور من شأنه أن يجعل الإفراط والإسراف والإجهاد والحمل عليه بالعنف مستنزفة تلك القوى ناضبة المورد جافة المَعين.

بَيْدَ أن زعماء أطهارًا استطاعوا الالتجاء إلى «الاستعاضة»؛ فأغنتهم عن إلحاح هذه الحاسة وسلطانها، وكانت استعاضتهم عن طريق المحبة «العائلية»، أو بالانصراف مع الرياضة الدقيقة وأخذها بأتم الاعتدال، إلى متابعة غايات مُثْلَى والتفكير الكلي المستحوذ في مقاصد سامية، وأمثلة عُلْيَا، فتيسر لهم بذلك إدماج الدافع الجنسيِّ في مجموع دوافعهم الأخرى حتى تلاشى فيها جميعًا، ولم يعد له من أثر فيهم ولا سلطان.

ومعنى ذلك أنه في الإمكان صرف هذا الدافع، والحكمة في رياضته كشهوة السلطان تمامًا، وتحويله إلى وجه الاعتدال والعفة والتَّصاوُن، وذلك من طريق الحب العميق الصادق، أو بالإيمان البعيد الغور بكبار الأماني وسامي المثُل وعُلْيَا المطالب، أو بمحض تقدير الجمال وتَذَوُّقِه والمتع البريئة بتأمله وتَمْلِيَة العين منه؛ إذ ليس من شك في أن من خواص الجانب الشهوي أو العاطفي من الطبيعة البشرية، المساهمة في ترقية مدارك المرء، وتهذيب أحاسيسه، وتزكية مشاعره، وإغناء وِجْدَانه، وإكسابه عمق الشعور، ورقَّة الطباع، وفضيلة العطف والمودة والرفق والحنان، والاستجابة لتقدير الجمال في سائر أشكاله وجملة نواحيه.
figure
الجنرال بريمو دي ريفيرا الإسباني.

غير أنه لما كان هذا الجزء من طبيعتنا شديد الإلحاح في دوافعه، وَجَب أن يكون أصحاب الشخصيات القوية، أو معاشر الزعماء، على معرفة وعلم قبل كل شيء بطبائعهم، وفهمٍ صحيحٍ صادقٍ لمقتضيات تغليب الدافع الأكبر في نفوسهم على هذا الدافع الملح الدائب، أو الاستعانة بالاعتدال في الاستجابة له على تجديد قوى نشاطهم، فتروح جهودهم في عملهم ومطالب زعامتهم متواصلة متحفزة في غير انقطاع ولا سكون.

وجملة القول في هذا الباب أن عوامل الرياضة المُجْدية في توهين الدافع الجنسيِّ وتسكين ثائرته وترويض شموسه، هي فترة الإدراك وضبط النفس والتوجيه الحكيم والمجاهدة الفاضلة.

ومن الأعراض التي كثيرًا ما تظهر على فريق من الناس بسبب الحاجة إلى إشباع هذه الحاسة، النزوعُ إلى إيلام الغير والقسوة عليهم والميل إلى تعذيبهم وإيذائهم، وهي حالة نفسية يعرفها العلماء باسم «السادِيزْم»، ويعنون بها إيلاف اللذة بتعذيب الآخرين، والمُشاهَد غالبًا في هذا المرض أن المصاب به يجد هذه اللذة ولا يشعر ببواعثها الخفية ودوافعها الكامنة.

ولا ريب في أن حالة كهذه إذا أصابت زعيمًا كانت نقمة ووبالًا عليه، والواقع أن ذلك مشاهد عند الزعماء الذين وصلوا إلى الزعامة عقب نزاع طويل على بلوغها، ومجالدة عنيفة شاقة في سبيل الصعدة إليها، وقد نسمع هؤلاء في بعض أحاديثهم يقولون: «لقد حاربت لكي أصيب ما قد أصيب، فليَخُضِ الآخرون جميعًا المخاض ذاته، وليقاسوا ما كنت مقاسيه»، أو «العنف والجهد والدأب تفيدهم وتجدي عليهم»، أو «إذا نحن دللناهم ولاينَّاهم وتسامحنا معهم، أفسدناهم أي إفساد»، وذلك كله ونحوه يحمل عارض «الساديزم» أو الحالة التي نعنيها، حالة القسوة التي يظهر بها بعض الزعماء، والجبروت الذي يجنحون إليه في معاملة الذين يقودونهم، ومسلكهم إزاء الناس وحيال الجماهير.

ولا خفاء في أن هذا المسلك سيئ النتائج وخيم العاقبة، أو عقيم خالٍ من النفع والفائدة؛ لأن القسوة في التدريب، والعنف في المرانة، لا يؤديان ما يؤديه الإشراف الرفيق، والتوجيه الحكيم، والرياضة الطيبة الصالحة.

ومن أسلحة هذا الأسلوب الخطر في عنفه وقسوته وشدة وقعه سلاحُ «التهكم والسخرية»، وهو سلاح يجد فيه بعض الزعماء السرور والرضى والاغتباط مع أن أثره في نفوس الأتباع والمقودين سيئ للغاية مُنَفِّرٌ، عامل على الانفضاض والكراهية، وقد رأينا رئيس هيئة كبيرة يدفع إلى أحد مرءوسيه بمهمة لتنفيذها قائلًا له: «إليك عملًا تستطيع أن تتمه في عشر ساعات، ثم لم يكد الرجل ينصرف من حضرته حتى التفت إلى بعض الجالسين إليه فقال: إن هذا العمل لا يمكن أن ينتهي قبل أربع وعشرين ساعة، ولكن من الخير له أن يحاول محاولة الشياطين ليرى كيف هو صانع …!»

ويوم يجد الزعيم منتهى الفرح من مشهد آلام الأشياع والأعوان وعذابهم وبلائهم، ولم يعد هو يقاسمهم إياها، أو يشاطرهم نصيبًا منها؛ يصبح مركزه في خطر من محتمل ثورة النفوس عليه، وانتقاض الجماعة على زعامته.

ومن المحقق أن كل إنسان نَزَّاعٌ إلى رسم صورة في خاطره للشخصية العظيمة التي يريد احتذاءها، أو يبغي مشابهتها، فإذا ما اختلفت هذه الصورة المتخيلة مع الحقائق التي يراها الناس عيانًا، كان هذا الاختلاف خطرًا سيئ النتائج، وكلنا — ولا ريب — قد عرف أشخاصًا أقزامًا منتفخي الأوداج، يعطون أنفسهم أهمية وخطرًا أكثر مما لهم؛ لأنهم يتمثلون أنفسهم كنابليون، وقد شوهد هذا في موسوليني وحركاته ومسلكه إزاء أصحابه وأشياعه، وفي مُتَبَدَّاه على الجماهير، وخطراته ومشيته بين أسمطة الحشود الحاشدة حول مواكبه.

وكلنا كذلك عرف أناسًا يتمثلون أنفسهم «دون جوان»، ويحسبون أنهم «سحرة» النساء وسبَّاءُو قلوبهن، وغزاة أفئدتهن، وآخرين يتراءون أو يحبون الظهور على الناس خطباء مفوهين كجوريس أو دي فاليرا أو لويد جورج أو سعد زغلول؛ فلا يكون بينهم وبين هذه الصور التي يبتغون تقليدها غير الغنة ومشابهة الجَرْس، واستخدام اللوازم، ثم هم بعد ذلك أعجز المقلدين.

ولعل علاج هذه الحالة هو في رياضة النفس على معرفة قيمتها الحقيقية باكتشاف أسباب هذا النقص فيها، ومواجهة الحقائق وإن لم تألم من صدمتها، فإن مواجهتها حقيقةٌ بأن تروض المرء على قبول قيمته، والسكون إلى ما يسرته الطبيعة له في هذه الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤