الفصل الحادي والعشرون

أسلوب البارودي

قلت في الكلمة الماضية: إن شعر البارودي تغلب عليه سمة الجاهلية في المنحى وفي الأسلوب، وذكرت في تأييد ذلك أنه قد يتحول إلى المعنى الطارئ حتى لنحسبه نسي المعنى الأصيل، وهذا الأسلوب معروف في أشعار الجاهليين والمخضرمين، ومن نحا نحوهم من شعراء الأعصر الخالية، فإنا نرى طرفة بن العبد يشبه قباب محبوبته بخلايا السفين، ثم يترك المشبه ويمضي في الحديث عن المشبه به فيقول:

كَأَنَّ حُمُولَ المالِكيَّةِ غُدوَةً
خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
عدولية أو من سفين بن يامنٍ
يجورُ بها المَّلاح طورًا ويهتدي
يشقُّ عُبابَ الماءِ حَيزُومُهَا بِهَا
كَمَا قسَمَ التُّربَ المُفائِلُ باليَدِ

وتراه يهم بالحديث عن نفسه فيقول:

وإنّي لَأمضِي الهَمَّ عِند احتِضَارِه
بِهَوجَاء مِرقَالٍ تَرُوحُ وَتَغَتَدي

ثم يندفع في وصف الناقة حتى لا يشك القارئ في أنه من أجلها هذه القصيدة، إذ يصفها في أكثر من ثلاثين بيتًا، ثم يعود بعد لأي إلى الحديث عن نفسه فيقول:

ولَستُ بِحَلاَّل التَّلَاع مَخَافَة
ولكِن مَتى يَستَرفِد القَومُ أرَّفِد

وكذلك تجد كعب بن زهير يقول في ثغر محبوبته سعاد:

تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت
كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ

ثم يمضي في وصف ما مزجت به هذه الراح فيقول:

شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ
صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تَنفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنُه وَأَفرَطَهُ
مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ

ونراه يقول في بعد محبوبته:

أَمسَت سُعادُ بِأَرضٍ لا يُبَلِّغُها
إِلّا العِتاقُ النَجيباتُ المَراسيلُ

وكان هذا كافيًا في الإبانة عن بعد الشقة، ولكنه وصف الناقة التي تبلغه تلك الأرض ينحو عشرين بيتًا. ثم عاد بعد هذا كله إلى ما رمى إليه من استعطاف الرسول فقال:

تَسعى الوُشَاةُ بِجَنبَيها وَقَولُهُمُ:
إِنَّكَ يَا ابنَ أَبي سُلمى لَمَقتولُ
وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ:
لا أُلفِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا سبيلي لا أَبَا لَكُمُ
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ
يَومًا عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللهِ أَوعَدَني
وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللهِ مَأمولُ
مَهلًا هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ
قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَرتِيلُ
لا تَأَخُذَنّي بِأَقوالِ الوُشاةِ وَلَم
أُذِنب وإنْ كَثُرَت عَنّي الأَقاويلُ

وقد سلك البارودي هذا المسلك في قصيدته (كشف الغمة)، فقد رأينا كيف أفاض في وصف السحب وهو يستسقي للروحاء، وكيف انتقل من الحديث عن وجده إلى الحديث عن غربته. ولنذكر الآن شاهدًا آخر نؤيد به اختياره لهذا الأسلوب:

وصف الغار

وصف القرآن الغار الذي آوى إليه النبي مع الصديق وصفًا لا زخرف فيه، إذ قال: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا.

ووصفه أبو بكر رضي الله عنه على هذا النحو فقال: «كنت مع النبي في الغار فرأيت آثار المشركين. قلت: يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لرآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما!».

وتحدثت عائشة عن ذلك فقالت: «ولما كان ليلة بات النبي في الغار، أمر الله تعالى شجرة فنبتت في وجه الغار، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبي على قدر أربعين ذراعًا معهم قسيهم وعصيهم، فتقدم رجل منهم فرأى حمامتين على فم الغار، فقال لأصحابه: ليس في الغار شيء، رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، وقال رجل آخر: الغار! فقال أمية بن خلف: «ما أربكم فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمدًا١».

فأمامنا الآن حقيقة ثابتة: «هي أن النبي كان مع رفيقه في الغار، وأن الله أنزل سكينته عليه فلم يخف ولم يحزن»، وقد وصفت هذه الحقيقة في القرآن وفي كلام الصديق وصفًا يرجع في جوهره إلى الإشادة بفضل الله ورحمته، ووصفت في كلام عائشة وصفًا فيه شيء من الزخرف والخيال: إذ أضافت حديث الحمامتين والعنكبوت — ولنا في حديث عائشة رأي لا يسمح به ظرف الزمان — فلنذكر كيف تناول البوصيري وشوقي والبارودي هذه الحادثة، وكيف نحا البارودي في وصفها منحى شعراء الجاهلية.

أما البوصيري فقد قال:

فالصدقُ في الغارِ والصديقُ لم يرِما
وَهُمْ يقولونَ ما بالغارِ مِنْ أَرمِ٢
ظَنُّوا الحَمامَ وظَنُّوا العَنْكَبُوتَ على
خيْرِ البَرِيَّة لَمْ تَنْسُجْ ولمْ تَحُم
وقاية اللهِ أغنتْ عن مضاعفة
من الدروعِ وعن عالٍ من الأطمِ

وهذا وصف لم يخرج عما ورد في القرآن من وقاية الله لنبيه وإنزاله السكينة عليه، ولم يعد ما حدثت به عائشة من حوم الحمام ونسج العنكبوت.

أما شوقي فقد قال:

سَل عُصبَةَ الشِركِ حَولَ الغارِ حائِمَةً
لَولا مُطارَدَةُ المُختارِ لَم تحُمِ
هَل أَبصَروا الأَثَرَ الوَضّاءَ أَم سَمِعوا
هَمسَ التَسابيحِ وَالقُرآنِ مِن أُمَمِ٣
وَهَل تَمَثَّلَ نَسجُ العَنكَبوتِ لَهُمْ
كَالغابِ وَالحائِماتُ الزُغْبُ كَالرُخَم
فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ
كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ
لَولا يَدُ اللهِ بِالجارَينِ ما سَلِما
وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ
تَوارَيا بِجَناحِ اللهِ وَاستَتَرا
وَمَن يَضُمُّ جَناحُ اللهِ لا يُضَمِ

وفي هذه القطعة يسخر شوقي من المشركين، ويهزأ بهم، ويمثل ضلالهم وإخفاقهم تمثيلًا بشعًا مخيفًا يخزى له وجه الشرك ويرغم به أنف الجحود، وللقارئ أن يتأمل قوله:

فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ
كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ

فإنه من أجمل ما شبه فيه المحسوس بالمعقول. أما البارودي فقد قال:

وَجاءَهُ الوَحيُ إِيذانًا بِهِجرَتِهِ
فَيَمَّمَ الغارَ بِالصِّدِّيقِ في الغَسَمِ٤
فَمَا اسْتَقَرَّ بِهِ حَتّى تَبَوَّأَهُ
مِنَ الحَمائِمِ زَوجٌ بارِعُ الرَّنَمِ
بَنى بِهِ عُشَّهُ وَاحْتَلَّهُ سَكَنًا
يَأوي إِلَيهِ غَداةَ الرِّيحِ وَالرَّهَمِ
إِلفانِ ما جَمَعَ المِقدارُ بَينَهُما
إِلّا لِسِرٍّ بِصَدرِ الغَارِ مُكْتَتَمِ
كِلاهُما دَيدَبانٌ فَوقَ مَربأَةٍ
يَرعَى المَسالِكَ مِن بُعدٍ وَلَم يَنَمِ
إِن حَنَّ هَذا غَرامًا أَو دَعا طَرَبًا
بِاسمِ الهَديلِ أَجابَت تِلكَ بِالنَّغَمِ
يَخالُها مَن يَراها وَهيَ جاثِمَةٌ
في وَكرِها كُرَةً مَلساءَ مِن أَدَمِ٥
إِن رَفرَفَت سَكَنَت ظِلًّا وَإِن هَبَطَت
رَوَت غَليلَ الصَّدى مِن حائِرٍ شَبِمِ
مَرقُومَةُ الجِيدِ مِن مِسكٍ وَغالِيَةٍ
مَخضُوبَةُ الساقِ وَالكَفَّينِ بِالعَنَمِ
كَأَنَّما شَرَعَت في قانِئٍ سربٍ
مِن أَدمُعِي فَغَدَت مُحمَرَّةَ القَدَمِ
وَسَجفَ العَنكَبُوتُ الغارَ مُحتَفِيًا
بِخَيمَةٍ حاكَها مِن أَبدَعِ الخِيَمِ
قَد شَدَّ أَطرافها فَاِستَحكَمَت وَرَسَت
بِالأَرضِ لَكِنَّها قامَت بِلا دِعَمِ
كَأَنَّها سابِريٌّ حاكَهُ لَبِقٌ
بِأَرضِ سابُورَ في بحبُوحَةِ العَجَمِ
وَارَت فَمَ الغارِ عَن عَينٍ تُلِمُّ بِهِ
فَصارَ يَحكي خَفاءً وَجهَ مُلتَثِمِ
فَيا لَهُ مِن سِتارٍ دُونَهُ قَمَرٌ
يَجلُو البَصائِرَ مِن ظُلمٍ وَمِن ظُلَمِ
فَظَلَّ فيهِ رَسولُ اللهِ مُعتَكِفًا
كَالدُرِّ في البَحر أَو كَالشَّمْسِ في النَسَمِ
حَتّى إِذا سَكَنَ الإِرْجَافِ وَاحْتَرقَت
أَكْبَادُ قَومٍ بِنَارِ اليَأسِ وَالوَغَمِ
أَوحى الرَّسولُ بِإِعدادِ الرَّحيلِ إِلى
مَن عِندَهُ السِّرُّ مِن خِلٍّ وَمِن حَشَمِ
وَسارَ بَعدَ ثَلاثٍ مِن مَباءَتِهِ
يَؤُمُّ طَيْبَةَ مَأوى كُلِّ مُعتَصِمِ

وفي هذه القطعة انتقل البارودي من سرد القصة النبوية إلى الإفاضة في وصف الحمامتين والعنكبوت، فتحدث عن بناء العش والغرض من سكناه وتكلم عن حراسة الحمامتين، ورعايتهما للمسالك البعيدة، وهجرهما النوم، وتغنيهما باسم الهديل، وذكر كيف كانت الحمامة مخضوبة الساق والكفين، وكيف كانت مرقومة الجيد، وكيف كانت محمرة القدم كأنما شرعت في دموعه الحمراء، وتكلم عن الخيمة التي شد أطنابها العنكبوت ووصفها بجودة النسج حتى ليحسبها الرائي حلة سابرية، إلى آخر ما قال.

وهذا كله خروج عن الموضوع، واستسلام إلى الخيال، وكذلك كان يفعل الأقدمون.

النظم في قصيدة البارودي

وتمتاز قصيدة البارودي بالترتيب؛ لأنه ساير الحوادث وفقًا لما قصه ابن هشام، ولا كذلك شوقي والبوصيري، فقد أطاعا الخواطر الطارئة، وقدما بعض الحوادث على بعض، وتكلما عن النبي وعن معجزاته مثلًا قبل أن يذكرا الميلاد.

ولكن مزية الترتيب التي انفرد بها البارودي كانت بابًا لفقد الشعر في أكثر القصيدة، فأصبحت بذلك «منظومة» كتلك المنظومات التي تعرف بالمتون، وإلى القارئ أنموذجًا يرى به غلبة النظم في ميمية البارودي إذ قال:

وَأَمَّ طَيبَةَ مَسْرورًا بِعَودَتِهِ
يَطوي المَنازِلَ بِالوَخّادَةِ الرُّسُمِ
ثُمَّ استَهَلَّت وُفُودُ الناسِ قاطِبَةً
إِلى حِماهُ فَلاقَت وافِرَ الكَرَمِ
فَكانَ عامَ وُفودٍ كُلَّما اِنصَرَفَت
عِصابَةٌ أَقبَلَت أُخرى عَلى قَدَمِ
وَأَرسَلَ الرُّسلَ تَترى لِلمُلوكِ بِما
فِيهِ بَلاغٌ لِأَهلِ الذِّكرِ وَالفَهَمِ
وَأَمَّ غالِبُ أَكنافَ الكَديدِ إِلى
بَني المُلَوَّحِ فَاِستَولى عَلى النَّعَمِ
وَحِينَ خانَت جُذامٌ فَلَّ شَوكَتَها
زَيدٌ بِجَمعٍ لِرَهطِ الشِّركِ مُقتَثِمِ
وَسارَ مُنتَحِيًا وادي القُرى فَمَحا
بَني فَزارَةَ أَصلَ اللُّؤمِ وَالقَزَمِ
وَأَمَّ خَيبَرَ عَبدُ اللهِ في نَفَرٍ
إِلى اليَسِير فَأَرداهُ بِلا أَتَمِ
وَيَمَّمَ اِبنُ أُنَيسٍ عُرضَ نَخلَةَ إِذ
طَغا اِبنُ ثَورٍ فَأصماهُ وَلَم يَخِمِ
ثُمَّ استَقَلَّ اِبنُ حِصنٍ فَاحْتَوَت يَدُهُ
عَلى بَني العَنبَرِ الطُّرّارِ وَالشُّجُمِ
وَسارَ عَمرو إِلى ذاتِ السَّلاسِلِ في
جَمعٍ لُهامٍ لِجَيشِ الشِّركِ مُصطَلِمِ
وَغَزوَتانِ لِعَبدِ اللهِ واجِدَةٌ
إِلى رِفاعَةَ وَالأُخرى إِلى إِضَمِ

وهذا الأسلوب ظاهر غالب في هذه القصيدة، وقد يصل أحيانًا إلى الغموض، ولا ترجع الشاعرية إلى البارودي إلا حين يذكر نفسه وبلواه، وانظر كيف يقول، وهو يتحدث عن رجائه في نصرة النبي له يوم الميعاد:

إِنِّي وَإِن مالَ بي دَهري وَبَرَّحَ بي
ضَيمٌ أَشاطَ عَلى جَمرِ النَّوى أَدَمي
لثابِتُ العَهدِ لَم يَحلُل قُوى أَمَلِي
يَأسٌ وَلَم تَخطُ بِي في سَلوَةٍ قَدَمي
لَم يَترُكِ الدَّهرُ لي ما أَستَعِينُ بِهِ
عَلى التَّجَمُّلِ إِلّا ساعِدي وَفَمِي
هَذا يُحَبِّرُ مَدحي في الرَّسولِ وَذا
يَتلُو عَلى الناسِ ما أُزجيهِ مِن كَلِمِي

وفي هذه الأبيات الأربعة لونان من التعبير، أولهما: مملوءٌ بالحرارة؛ لأنه يمثل أمنية دفنتها الحوادث في صدر الشاعر، وثانيهما: فيه ضعف وفتور؛ لأنه عاد إلى القصص من جديد، ولعل أغرب ما وقع له من «النظم» اعتذاره عن افتتاح قصيدته بالنسيب إذ قال في تقديمها للرسول:

فَهاكَها يا رَسُولَ اللهِ زاهِرَةً
تُهدِي إِلى النَّفسِ رَيّا الآسِ وَالبَرَمِ
وَسمتُها بِاسمِكَ العَالي فَأَلبَسها
ثَوبًا مِنَ الفَخرِ لا يَبلى عَلى القِدَمِ
غَرِيبَةٌ في إِسارِ البَينِ لَو أَنِسَت
بِنَظرَةٍ مِنكَ لاستغنَت عَنِ النَّسَمِ
لَم أَلتَزِم نَظمَ حَبّاتِ البَديعِ بِها
إِذ كانَ صَوغُ المَعانِي الغُرِّ مُلتَزمِي
وإنما هي أبيات رجوت بها
نَيلَ المُنى يَومَ تَحيا بَذَّةُ الرِّمَمِ
نَثَرتُ فِيها فَرِيدَ المَدحِ فَاِنتَظَمَت
أحسن بمنتثر فيها ومنتظم
صَدَّرتُها بِنَسِيبٍ شَفَّ باطِنُهُ
عَن عِفَّةٍ لَم يَشِنها قَولُ مُتَّهِمِ
لَم أَتَّخِذهُ جُزافًا بَل سَلَكتُ بِهِ
فِي القَولِ مَسلَكَ أَقوامٍ ذَوي قَدَمِ
تابَعتُ كَعبًا وَحَسّانًا وَلِي بِهِما
في القَولِ أُسوَةُ بَرٍّ غَيرِ مُتَّهَمِ
وَالشِّعرُ مَعرَضُ أَلبابٍ يُروجُ بِهِ
ما نَمَّقَتهُ يَدُ الآدابِ وَالحِكَمِ
فَلا يَلُمنِي عَلى التَّشبِيبِ ذُو عَنَتٍ
فَبُلبُلُ الرَّوضِ مَطبُوعٌ عَلَى النَّغَمِ

ويمكن بعد هذا البيان أن نقرر أن قصيدة البارودي يغلب فيها النظم عند سرد الحوادث، ويغلب فيها الشعر عند الوصف، وعند مناجاة الوجدان.

سميّك يا رسول الله

وقد اشترك الشعراء الثلاثة: البوصيري والبارودي وشوقي في التسمي باسم النبي وكلهم يرجو أن ينجو بفضل التسمي باسمه فنجد البوصيري يقول:

إنْ آتِ ذَنْبًا فَمَا عَهْدِي بِمُنْتَقِضٍ
مِنَ النبيِّ وَلا حَبْلِي بِمُنْصَرِمِ
فإنَّ لِي ذِمَّة مِنهُ بِتَسمِيتَي
مُحمَّدًا وَهُوَ أوفى الخلقِ بالذِّمَمِ

ونجد شوقي يقول:

يا أَحمَدَ الخَيرِ لي جَاهٌ بِتَسمِيَتي
وَكَيفَ لا يَتَسامى بِالرَسولِ سَمي

ونجد البارودي يقول:

خَدَمتُهُ بِمَديحي فَاعتَليتُ عَلى
هامِ السِّماكِ وَصارَ السَّعدُ مِن خَدَمِي
وَكَيفَ أَرهَبُ ضَيمًا بَعدَ خِدمَتِهِ
وَخادِمُ السَّادَةِ الأَجوادِ لَم يُضَمِ
أَم كَيفَ يَخذُلُنِي مِن بَعدِ تَسمِيَتِي
بِاسمٍ لَهُ في سَماءِ العَرشِ مُحتَرَمِ

والبوصيري هو صاحب الفكرة، وقد تبعه البارودي، ولحقهما شوقي، وتلك مسألة فيها نظر كما يقولون!

١  راجع وضح النهج.
٢  أي لا أثر فيه.
٣  من قرب.
٤  في الظلام.
٥  من جلد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤