الفصل السابع

خطر الإبهام والغموض

١

ومن شروط الموازنة أن يكون النقد مؤسسًا على قواعد واضحة صريحة لا إبهام فيها ولا غموض؛ ليظفر الناقد باقتناع القارئ، وليكون نقده مادة جديدة في عالم البيان.

وأخطر ما يعرف للنقد والمماثلة أن يعمد الموازن إلى التعابير المصبوبة في قوالب المجاز، فإنها بئس الأداة في الفصل بين الشعراء، كأن يقول: «هذا شعر أبدت صدوره متونه، وزهت في وجوهه عيونه، وانقادت كواهله لهواديه، وأشبه الروض في وشي ألوانه وإشراق أنواره، وابتهاج أنجاده وأغواره، وأشبه الوشي في اتفاق رقومه واتساع رسومه، وتسطير كفوفه، وتحبير حروفه، وحكى العقد في التئام فصوله وانتظام وصوله، وازديان ياقوته بدره، وفريده بشذره، قد كشف الإيجاز موارده وصقلت مداوس الدربة مناصلة، وشحذت مدارس الأدب فواصله».

وهذه التعابير المجازية المبهمة مأخوذة من فصل لأبي العباس الناشيء في وصف الشعر الجميل، وهو صاحب هذه المنظومة:

الشِّعْرُ مَا قَوَّمْتَ زَيْغَ صُدُورِهِ
وشدَدْتَ بالتَّهذيبِ أَسْرَ مُتونِهِ
وَرأَيَتَ بالإطْنابِ شَعْبَ صُدوعِه
وَفَتَحْتَ بِالإِيجاز عُوْرَ عُيونِهِ
وَجَمَعْتَ بَيْنَ قَريبهِ وَبَعيدِهِ
وَوَصَلْتَ بَيْنَ مَجَمّهِ ومَعَينِهِ
وَعَهِدْتَ مَنْهُ لكلٌ أمْرٍ يَقْتَضي
شَبَهًا بهِ فَقَرَنْتَهُ بِقَرينِهِ

وهي منظومة طويلة عني بها المتقدمون، كما عنوا بمنظومته الأخرى التي يقول فيها:

إِنَّمَا الشِّعْرُ مَا تَنَاسَبَ في النَّظْـ
ـم وإنْ كانَ في الصِّفَاتِ فُنُونا
فَأَتَى بَعْضُهُ يُشَاكِلُ بَعْضًا
قَدْ أَقَامَتْ لَهُ الصُّدورُ المُتُونا
كُلُّ مَعْنىً أتاكَ مِنْهُ عَلَى ما
تَتَمَنَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ أَنْ يَكونا
فَتَنَاهَى مِنَ البَيَانِ إلَى أنْ
كادَ حُسْنًا يَبِينُ للنَّاظِرينا
فَكَأَنَّ الأَلفَاظَ فِيهِ وُجوهٌ
وَالمَعَاني رُكِّبْنَ فِيهَ عُيونا

وعيب هذا الضرب من الوصف أنه لا يغني في تحديد الموصوف: بل يلقي عليه أستارًا من اللبس والغموض، فإنه لا قيمة لمدح الشعر بتقويم زيغ صدوره، وشد أسر متونه، والجمع بين قريبه وبعيده، والوصل بين مجمه ومعينه، وما إلى ذلك من الصفات المبهمة التي يغرم بها المتكلفون.

٢

ومن أمثلة هذا النوع ما ذكره بديع الزمان في إحدى مقاماته إذ قال: «جلسنا يومًا نتذاكر الشعر والشعراء، وتلقاءنا شاب قد جلس غير بعيد ينصت وكأنه يفهم، ويسكت وكأنه لا يعلم، حتى إذ مال الكلام بنا ميله، وجر الجدل فينا ذيله، قال: أصبتم عذيقه، ووافيتم جذيله، ولو شئت للفظت، ولو أردت لسردت، ولجلوت الحق في معرض بيان يسمع الصم، ويردي العصم، فقلت: يا فاضل ادن فقد منيت، وهات فقد أثنيت، فدنا وقال: سلوني أجبكم، واستمعوا أعجبكم.

قلنا: فما تقول في امرئ القيس؟ قال: هو أول من وقف بالديار وعرصاتها، واغتدى والطير في وكناتها، ووصف الخيل بصفاتها، ولم يقل الشعر كاسيًا، ولم يجد القول راغبًا، ففضل من تفتق للحيلة لسانه، وانتجع للرغبة بنانه.

قلنا: وما تقول في النابغة؟ قال: ينسب إذا عشق، ويثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب، فلا يرمي إلا صائبًا.

قلنا: فما تقول في طرفة؟ قال: هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها، مات ولم تظهر أسرار دفائنه، ولم تطلق عتاق خزائنه.

قلنا: فما تقول في جرير والفرزدق؟ قال: جرير أرق شعرًا، وأغزر غدرًا والفرزدق أمتن صخرًا، وأكثر فخرًا، وجرير أوجع هجوًا، وأشرف يومًا والفرزدق أكثر رومًا، وأكرم قومًا، وجرير إذا نسب أشجى، وإذا ثلب أردى وإذا مدح أسنى، والفرزدق إذا وصف أوفى، وإذا احتقر أزرى.

قلنا: فما تقول في المحدثين من الشعراء والمتقدمين منهم؟ قال: «المتقدمون أشرف لفظًا، وأكثر في المعاني حظًّا، والمتأخرون ألطف صنعًا، وأرق نسجًا».

ولو عدنا لهذه الموازنة لوجدناها جملة من الصفات الفضفاضة التي تصلح لبوسًا لكل موصوف، فكل شاعر فيما أظن: «ينسب إذا عشق، ويثلب إذا حنق، ويمدح إذا رغب، ويعتذر إذا رهب». ومن اللبس أن نقول في وصف شاعر: «هو ماء الأشعار وطينتها، وكنز القوافي ومدينتها»، أو أن تقول: «إنه أمتن صخرًا أو أكثر رومًا». ومن المجازفة أن تقول: «المتقدمون أشرف لفظًا، وأكثر في المعاني حظًا». وقد ظرف من لاحظ أن الاغتداء والطير في وُكناتها من خواص اللصوص، وهذا بالطبع لا يقدح في سمو تلك العبارة إلا حين ترسل بلا تقييد، وقد قيدها امرؤ القيس حين قال:

وَقَدْ أغْتَدِي وَالطَّيْرُ في وكْنَاتِها
بِمُنْجَرِدٍ قيْدِ الْأَوابد هيْكل

على أن هذا البيت لا يدل على أن: «صاحبة أول من اغتدى والطير في وكناتها»، كما قال بديع الزمان.

٣

وقال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن أبي نواس فقال: إن جد أحسن، وإن هزل ظرف، وإن وصف بالغ، يلقى الكلام على عواهنه لا يبالي من أين أخذه.

قلت: فبشار بن برد؟ قال: نظار غواص مطيل مجيد يصف ما لم يره كأنه رآه، على أن في شعره خللًا كبيرًا.

قلت: فمروان بن أبي حفصة؟ قال: شاعر راض عن نفسه، يستحسن كل ما جاء منه، معجب لا يرى أن أحدًا يتقدمه، كثير الصواب، كثير الخطأ، ليس لشعره صنعة.

قلت: فمسلم بن الوليد؟ قال: خليج صاف ينزع من بحر كدر، كالزند، يورى تارة، ويصلد أخرى.

قلت: فأبو العتاهية؟ قال: غثاء جم، واقتدار سهل، وشعر كخرز الزجاج وربما أشبه الياقوت والزبرجد.

قلت: فعباس بن الأحنف؟ قال: يلقي دلوه في الدلاء، فيغترف الصفو أحيانًا والحمأة أحيانًا، على أن كدره أكثر من صفوه.

قلت: فسلم الخاسر؟ قال: مقل مداح، شعره ديباج وعهن، يموه الرديء حتى يشبه الجيد.

قلت: فأبو الشيص؟ قال: جده كله فيه حلاوة وبشاعة، كالسدرة التي نفضت فيها المستعذب والمستبشع.

قلت: فعلي بن جبلة؟ قال: بحاث عن الكلام الفخم، والمعنى الرائع، لا ينال مرتبة القدماء، ويجل عن منزلة النظراء.

قلت: فأبو تمام؟ قال: مسيل كثير الغثاء، غزير الغمار، جم النطاق، فإذا صفا فهو السلاف بالماء الزلال.

قلت: فعبد الصمد بن المعذل؟ قال: خراج ولاج: يعتسف تارة ويهتدي أخرى.

قلت: فعلي بن الجهم؟ قال: كلام رصين، ومسلك وعر، عقله أغلب على شعره من طبعه.

قلت: فبكر بن النطاح؟ قال: تشبه بالأعراب فأفرط، وتجاوز حد المولدين فأسهب، فهو الساقط بين القرينين.

ولا ننكر أن في هذا الضرب من القول بيانًا لبعض خصائص الشعراء، ولكنا نستنكر أن تحدد شاعرية شاعر بأنه: «خراج ولاج، يعتسف تارة ويهتدي أخرى»، أو بأنه: «خليج صاف ينزع من بحر كدر»، أو بأنه: «لا ينال مرتبة القدماء ويجل عن منزلة النظراء».

ومما يؤسف له أن الميل إلى الإبهام كان يغلب على المتقدمين، ولم يسلم منه الجاحظ على بصره بالبيان والتبيين، فقد كان يصف شعر أبي العتاهية بأنه: «ملس المتون ليس له عيون»، وهي عبارة مجازية لا تؤدي إلى معنى محدود.

٤

ويضاف إلى هذا إغفالهم ضرب الأمثال، وإطلاقهم الحكم بلا بينة ولا دليل في حين إن الموازنة لا يراد بها غير التمييز والفصل بين ما قال الشعراء في مختلف الأغراض، وقد سرت هذه العدوى إلى شعراء العصر وكتابه، فنجد مصطفى الرافعي يقول في وصف الشعر: «لو كان طيرًا يغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عشه، والقلب روضته، ولكان غناؤه ما نسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء».

ونجد محمدًا السباعي يصف شكسبير بأنه: «منحة الطبيعة وجائزة الدهر». ونجد حافظ إبراهيم يصف شعر فيكتور هيجو فتكون غايته أن يقول:

ما ثٌغورُ الزَّهْرِ في أكمامِها
ضاحِكات مِنْ بُكاءِ السُّحُبِ
نَظَمَ الوسْمِيُّ فيها لُؤلُؤًا
كثنايا الغِيد أوْ كالْحَببِ
عِنْدَ مَنْ يَقْضي بأَبْهى مَنْظرًا
مِنْ مَعَانِيهِ الَّتي تَلْعبُ بي
بَسَمَتْ لِلذِّهْنِ فَاسْتَهْوَتْ نُهَى
مٌغرم الفَضْل وصَبِّ الأَدبِ

ولا يزال الأدباء يذكرون قول المنفلوطي في الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش: «لولا مقامه في اللواء، ومذهبه في الهجاء، لكان هو وفريد وجدي سواء».

وقوله في المرحوم قاسم أمين: «ما رأيت باطلًا أشبه بالحق من باطله». وتلك كلها عبارات مبهمة لا تقنع طلاب البيان.

٥

إنما يجب على الناقد الذي استوفى ما أسلفناه من الصفات:
  • (١)

    أن يذكر حياة من يوازن بينهم من الشعراء، وأن يعين ما في حياة كل شاعر من ألوان الشدة، أو صنوف الرخاء.

  • (٢)

    وأن يبين الحالة الصحية لكل شاعر ليعرف ما قد يعرض لمزاجه من الاعتلال.

  • (٣)

    وأن يقدر السن التي قيل فيها ما يريد وزنه ونقده.

  • (٤)

    وأن يحدد الصفات التي اشترك فيها من يوازن بينهم، والصفات التي انفرد بها كل واحد منهم، ثم يتغلغل في تحليل المعاني، والألفاظ، والأساليب، ويوازن بين القصائد والمقطوعات، والأبيات اليتيمة.

  • (٥)

    وأن يدقق النظر في تمييز المعاني المبتدعة من المعاني المسبوقة، ويبين كيف تناول الشاعر المعنى الذي سبق إليه، وكيف هذبه، وكيف بسطه، حين يجود أخذه، وتلطف سرقته، وكم في الشعراء من سارق لطيف!

  • (٦)

    وأن يعد ما برز فيه الشاعر من المطالع والمقاطع، وما أجاد أخذه، وما ابتكره وما انفرد به، فقد يبتكر الشاعر المعنى، ثم يغلب عليه حين يقصر في تأديته، وقد يبتكر المعنى، ثم ينفرد به حين يبلغ الغاية في الأداء.

  • (٧)

    وأن يبين الفرق بين الشاعرين حين يشتركان في الإبانة عن غرض واحد وحين يختلفان في ذلك.

  • (٨)

    وأن يبين أسباب السبق، وأسباب التخلف، مع التعمق في استقراء ما لكل شاعر من خطرات النفس، ولفتات القلب، ونوازع الوجدان.

  • (٩)

    وأن يعد ما لكل شاعر من المعاني الموضعية، التي اقتضاها زمانه ومكانه والمعاني الإنسانية، التي تصلح لجميع الناس، على تباين الأمكنة واختلاف العصور.

  • (١٠)

    وأن يذكر بعد ذلك كله ما لكل واحد من: «الصور الشعرية». وسنعود إلى هذا المعنى الأخير بالبسط والبيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤