المَهْد

في حَوْمة الهموم لا بأس من التماس الرحمة في رحاب الأشياء التي أحبَّها القلب. هي أيضًا حقيقة، غُرسَت جذورها في الوجود، ومن حق الحرَّان أن يُجفِّف عرقه ويبُلَّ ريقه.

•••

المرح بين يدٍ حنون وحضنٍ حنون، الغفلة السعيدة عن الزمن، نَيْل المطالب بالتمنِّي، التمرُّغ في بُستان الحرية قبل الوعي بها، مسَرَّة الوقفة والعَثْرة والضحكة، والأسئلة الكبيرة تنهمر اعتباطًا، ما أكثَر ما يُعجب وما يسُر! في الانتظار سوارس والترام والتروللي، تخترق قضبانُه النحيفةُ الحدائق. ومن الورق تُصنع القوارب الصغيرة، وتعوم في الجداول لتمضي مع المياه الوانية إلى البلاد المجهولة، والهمس لأضرحة الأولياء بأعذب أماني القلب، والاشتراك في حشو الأسماك بالتوابل ودهنها بالدقيق الملتوت، وإذا سمِع أذان الفجر في هدوء الليل طَرِب القلب لاقتراب الصبح واللعب، وعلى الوسادة يرقُد تمثال الرحَّالة المصنوع من الصفيح الملوَّن فيسأله هل بلغ بلاد الواق ورأى العجائب؟ والأحباب كثيرون من باعةٍ جوَّالة وزفَّة السيرك ومواكب الفتوَّات والأقارب الريفيين وأساطيرهم عن العفاريت وقُطَّاع الطرق، ولكنْ لكل حكايةٍ نهايةٌ سعيدة.

•••

وأوَّل العشق يُوجَد في دنيا الأطعمة، والحلوى بصفةٍ خاصة؛ البیت يجود بالمهلبية والأرز باللبن، والسخينة، والحليب، والشهد، والعسل الأسود بالطحينة، ومن الفواكه البطيخ، والشمَّام، والبرتقال، والعنب، والنبق، والخوخ، أمَّا الشارع فيختَص بالدوم، والتفاح المسكر، وبراغيث الست، والملبن، والفطائر، وفوق القمة البليلة والكسكسي، الحلوى فاتنة في ذوبانها، ساحرة في نَشوتها وسَريانها في الحواسِّ، وهي أول تدريبٍ لعِشق الجمال. ويمضي الصغير بملاليمه لا يشبع ولا يرتوي، يستقبل بفيه المشُوق النَّهِم ما لذَّ وطابَ، ويُتوِّج جهاده بالكنافة والبقلاوة والجاتوه والشيكولاتة.

•••

وفي كلمةٍ أو كلمتَين نعرف سِرَّ الدنيا والآخرة. حقًّا إنَّ المخاوف كثيرة، الظلمات مُحْدِقة، ولكن الله رحمن رحيم، ينشُر عنايته الإلهية، فتُحيط بكل شيء، وقد يَسَّر لنا مفتاح الأمن والأمان، بالآية نتلوها، بالصلاة نُقيمها، بالصوم نتقرَّب به إليه، فتصفو الدنيا وتحلو، وتهَب الخير والبركة، ويتقهقر إبليس وجيوشه، وننتظر هناك الجنة ونعيمها. ولا بأس من أن نَسْتَزيد من الأمن والأمان بزيارة ولي، أو تعليق تميمة بالطاقية، أو بحرق قليل من البخور.

«ما أيسَر السعادةَ في الدَّارين لمن يشاء!»

•••

ودعوةٌ للخروج في صحبة الأب أو الوالدَين هي عز المُنى، في بدلة بحَّار يسير تيَّاهًا. يجلس الأب في حلقة من الأصدقاء، بمقهى الجندي بميدان الأوبرا، وينعزل هو وقدَح الدندورمة في الطرف. ينظر إلى الميدان وحديقة الأزبكية، وتمثال إبراهيم باشا، وأحيانًا يُتابع أحاديث الصِّحاب ويستمع بانشراحٍ إلى ضحكاتهم. لماذا يُقهقِهون وتتراقص شواربهم المجدولة الأطراف؟ لا يدري، ولكنَّ وجهه يجاملهم فيضحك. ويسمع أيضًا أنَّ فلانًا طلَّق زوجته، وأن شارع الخليج كان يستقبل مياه الفيضان في زمنٍ مضى، ويتَحوَّل إلى تُرعة تشُق وسط القاهرة. ويسأل أباه: مثل الترعة التي في لونا بارك؟

فيقول الأب ضاحكًا: أنت من يوم ما عرفت لونا بارك والسينما، حصلَت في دماغك لوثة.

ورأى في ميدان العتبة الخضراء موقفَ حمير، وهما في طريق العودة إلى الحي العتيق، فاقتَرح على أبيه أن يركبا حمارَيْن بدلًا من سوارس، ولكن الرجل سَخِر من رغبته قائلًا: الله يخيِّب ذوقك، لا فائدة من محاولة تَمدينكَ.

ولكنه لم يَضِن علیه بشراءِ جهازٍ صغير خاصٍّ بصنع الدندورمة والجرانيتة، سهل الاستعمال، فكان يملأ وعاءه الدَّاخلي باللبن المُحلَّى حينًا، أو بالليمونادة حينًا آخر، ويَلتهِم الدندورمة والجرانيتة، ما يملأ حلَّةً متوسِّطة.

•••

وسَطحُ البيت مملكةٌ تنعم بحريةٍ مطلَقة، سقفُه سماء الفصول الأربعة بألوانها المتباينة. وفي الأفق قِبابٌ عديدة ومآذنُ مُفردة ومزدوجة، تستوي بينها مئذنة الحسين كالعروس بقَدِّها الممشوق المُنطلق. الكتاكيت تتجمَّع وتَتلاصَق تحت الشعاع، كأنها خميلةٌ متكاملة الألوان، نقيق الدجاج يترامى من وراء الباب الخشبي، رءوس الأرانب تَبرُز من أفواه البلاليص المائلة. وأنتَ تجمَع البيضَ في حِجر جلبابك، وتُقدِّم أعواد البرسيم للأرانب، وتَرمي الحَبَّ للكتاكيت، وثمَّة كُرسي خيزران قديم نقول له كُن سوارس، أو كارو، أو سيارة، أو طيارة فيكونُ بقُدرة الخيال الطموح. والطشتُ يُملأ بالماء فيكون بُحيرة، والسلَّم الخشبي ينام على الأرض، فيصير قضيبًا للترام. الوَهْم والحُلم والحقيقة شيءٌ واحد. وفي الصيف تنقل الأم الكانون والحِلَل إلى السطح تحت تكعيبة اللبلاب، فيُشارِك في اللعبة الجديدة بما يحلو له، يغسل اللحمة، يدُقُّ التوابل في الهاون، يخرطُ الملوخية، وفي المواسم يُسهم في نقش الكعك ولتِّ العجين وتسمين خروف العيد. ومن فوق السطح رأى الطيارة وهي تَمرقُ في الفضاء، وأزيزها يملأ الجو، ولمح سائقها في حجم اللعبة الصفيح، ورأى القمر في الليل، ورصَد ظهور ليلة القدر، ليكون من أهل الحظوة والسعادة. ورأى أيضًا فتوَّات الحواري وهم يتصارعون كالوحوش، كما رأى التاريخ في مواكب ثُوَّاره وسمع هُتافاتهم، وشاهَد أعداءهم وهم يُطلِقون الرَّصاص بلا رحمة. وفي الليالي الحلوة والنجوم تُزهر، تَفْرِش الأم فروة تحت اللبلابة، فيَتربَّع أمامها على ضَوء مصباحٍ يشتعل فوق الطبلية، ليسمع حكايات الإنس والجان. ومع أن أكثر الوقت يمضي في وحدة إلا أنه لا يمضي في صمت. حواره متصل دائمًا مع الكتاكيت، والدجاج، والأرانب، والنَّمل، ومع الجماد أيضًا كالكرسي، والطشت، والسلَّم، والتمثال الصفيح، ويتجاوز ذلك إلى الخيالات والأشباح. ولكن السطح أيضًا كثيرًا ما يكون ملتقى الأهل والجيران، فيحلو السمَر ويطيبُ الغناء، ويكثُر اللعبُ مع الأقران من الذكور والإناث. وتلك العروس الصغيرة بنت أم علي الداية التي قادتهما الغريزة الكامنة الغامضة إلى طريق اللهفة المحفوفِ بالنشوة والحذَر.

•••

وموسم القرافة من مواسم الأفراح! أليس موسم الفطائر والزهر والريحان، والمسيرة بصحبة الوالدين في مهرجانٍ حافل من النساء والرجال والأطفال؟ ويُطالِعكَ باب الحوش المفتوح على مِصراعَيه، فُرشَ مدخله بالرمل ورُشَّ الماء. يضعون السِّلال في حجرة الرحمة، ويُهرَعون إلى القبر ليُغطُّوه بالأزهار. إنه قائم بشاهدَيه كما كان لا يتغيَّر، غارق في صمته وغموضه، مثيرٌ للحَيْرة وحب الاستطلاع. يُمعن النظر في قاعدته لعله يَطَّلِعُ من مَنفذٍ عما في جوفه. جدود وأقارب لم يَرَهم، يرقدون في سلام، ويتَلقَّون من الزيارة والتلاوة أُنسًا ورحمة. والوالدان يخاطبان القبر بكلامٍ غريب وكأنَّهما يُخاطبان أحياءً يسمعون ويستجيبون. ويُتلى القرآن، وتُوزَّع الرَّحمة على الفقراء والشحَّاذين. ويتسلل إلى الخارج فيجد نفسه بين كثيرين من أقرانه، فيتجاذبون أطراف الأساطير، كلُّ شيء يدعو للفرح؛ فلماذا تدمع العيون؟!

•••

ولكن ما شأنُ هذه الجارة التي تلُوح أحيانًا فوق سطحها المُلاصق لسطح بيتنا؟ تسقي الزَّرع أو تُزقِّق الحمام، لها وجهٌ أبيض منير، وشعرٌ أَسودُ غزير تَضُمُّه في ضفيرةٍ طويلة مسترسلة، نظرتها جدَّابةٌ باسمة، وروحها خفيفةٌ فاتنة. هي أكبر منه بزمنٍ طويل، ولكن أمه تُخاطِبها كما تُخاطِب ابنةً لها. تُداعِبه بأَحلى الكلام، وتُتحِفُه بين الحين والحين بالملبن ونبُّوت الغفير، وإذا زارت أُمَّه بصحبة أمها رفعته بين يديها وقبَّلَته. وهو يخجل منها، ويرغب في المزيد منها. وكُلما صفا له الوقت ملأَت خياله، ومرةً قالت له أُمه بحضور أبيه: أنت تنظُر إلى أبلة طول الوقت تريد أن تأكلها.

فقال: إنها جميلة.

– وماذا تريد منها؟

تحيَّر قليلًا، ثم قال: أن أتزوَّجها!

فضحك الأب وقال: خيَّبكَ الله .. انتظِر حتى تعرف كيف تكتُب اسمكَ دون أخطاء.

•••

ويعشَق رمضان، والعيدَين، ويُحب الأيام في انتظارها. والكرار أوَّل ما يُبشِّرنا باقتراب شهر رمضان حين تُرصَّ بجنباته أجولة الياميش. وتهفو نفسه للصيام، ولكن الأم تمتنع عن إيقاظه وقت السحور. وتسمح له بالصوم عدد الساعات التي يستطيعها، فتدَرَّب عليه رويدًا حتى شرع فيه جادًّا في السابعة ومعه الصلاة. وتلاشت آلام الصوم في مسرَّاتٍ لا حصر لها؛ السحور، والإفطار، والفوانيس، واللعب ما بين الميدان والحسين وترديد الأناشيد. في الأيام الأخيرة من الشهر يمضي به أبوه إلى السكة الجديدة، إلى محلَّي جاكويل وجوستر، فيشتري له بدلةً جديدة وحذاءً جديدًا يحفظهما لصباح العيد، ويتفحَّصُهما بحنان، ويشمهُما بوجدٍ متلذذًا برائحة الجلد والقماش الجديدَين. وحلق الشعر، والحمَّام، وأخذ الزينة الكاملة، والانطلاق إلى ميدان الأفراح، والزمامير، والأراجيح، والكعك والغُريبة، والعديَّات، وزيارات الأقارب والأحباب. وسينما الكلوب المصري، وشارلي شابلن وماشست. أمَّا عيد الأضحى فيَشهَد صداقةً جديدة مع الخروف كما يَشهَد الغدْر به في فجر اليوم الموعود، إفطاره شواء وغداؤه فتَّة ورقاق، وفي تلك الأيام بدأ حُب الله يطرق القلب الصغير مع حب الجارة المليحة واهبةِ القُبلات والملبن.

•••

ولذة الحواس أشملُ من الطعام والحلوى. أوَّل خضرة أطلَّت من تكعيبة اللبلاب، وأُصص القرنفل. والتروللي يشُقُّ طريقه في حقول حدائق القُبة، يَدفَعُه سائقه الحافي. الخُضرة والأزهار تهَب القلب فرحةً طائرة ومناجاةً عذبة، والجداولُ تُوقِظ ذكريات الرُّوح. وروائحها الفاتنة عَرفَها أوَّل ما عرفها عند تقطير ماء الزَّهر والورد من خزَّان المياه في حمَّام البيت القديم. أمَّا مسرَّة الأذن فحديثُها يطول. تنهمر من الأفراح والليالي الملاح، والفونوغراف مردِّدة تلاوةَ المقرئين، وطقاطيق العوالم، وأغاني عبد الحي حلمي، والمنيلاوي، وصالح، ومنير، والبنا، وسيد درويش، فيما سبق أم كلثوم وعبد الوهاب، ولكلِّ مَسرَّة موضعٌ تعيشُ فيه وتبقى.

•••

وسينما الكلوب المصري متى وكيف ملكَت الفؤاد؟ كيف انضمَّت إلى رصيد الحُبِّ والأحباب حكايات الغرب الأمريكي، وخفَّة شارلي شابلن، وقوة ماشست، وجمال ماري بكفورد؟ سحرٌ وحُلم، حسبتُه أوَّل الأمر حقيقة وأنه يُوجد في مكانٍ ما وراء الشاشة في خان جعفر أو حارة الوطاويط. سلَّمتُ بعد ذلك بأنها صور، ولكنها منقولة عن وقائعَ حقيقية لا رواياتٍ خيالية. وددتُ لو أقضي العُمر أمَامَ الشَّاشة مع الأبطال. وعَشِقتُ ماري بكفورد، وأرضاني تشابُهٌ مراوغٌ بينها وبين جارتي المليحة. وصدَّقتُ بكل حماس أنَّ وليم هارت اسمه الحقيقي عليٌّ الديان، وأنه أصلًا من باب الشعرية! وجيء لي بجهازِ عرضٍ صغير يُدار باليد، ويُضاء بمصباحٍ غازي، ويُزوَّد بشرائطَ قصيرة منزوعة من الأفلام في غفلة من أصحابها، فرُحتُ أُديره في غرفة السطح الصغيرة التي أصبحَت بفضله مرتادًا لبنات الحي الصغيرات.

•••

وتقليد التجارب المثيرة لذَّة أيضًا. الأب أوَّل من قَلَّدتُ والأم أيضًا. وقُبل ذلك فترةً يسيرة ثم انقطع بالزَّجر. وسيدنا شيخ الكُتَّاب ومِقرعتُه، ألُفُّ المنديل حول رأسي كعمامة، أتربَّع على صندوق، وتجلس الخادم على الأرض بين يديَّ، أُحاكي صوته وأُلَوِّح بالعصا، وأُلقي الدَّرْس، وأسمِّع وأعاقب آخذًا ثأري من كل ما لحقني في يومي الثقيل، أو أُغطِّي الصندوق بملاءة فيكون قبرًا، وأخاطبه كما يُخاطب والدي القبر: «السلام عليك يا أبي، والسلام عليك يا أمي»، وأتلو ما تَيسَّر، وتنزعج أمي لذلك غاية الانزعاج وتنهال عليَّ باللكمات. وأُقلِّد الفتوَّات لاعبًا بالعصا في الهواء، وأُقلِّد المتظاهرين هاتفًا بحياة سعد، وسقوط الحماية، وأُقلِّد الباعة، والعوالم، وبعض الزائرات ذوات اللوازم الغريبة، وأحيانًا أُقلِّد «الردح» الذي يصدم سَمْعي في الميدان، ويهزُّني ما أثيره من سخط أو إعجاب تبعًا للظروف والأحوال.

•••

والجولات السعيدة في مساكن الإخوة والأخوات، تنطلق بنا من الحي العتيق إلى أحياءٍ جديدة كالحدائق، والسكاكيني، والظاهر، وغمرة، في مسكنٍ ألقى رجلًا غريبًا، وفي آخر أجد امرأةً غريبة، ولكننا نُقَابَل عند الجميع بالحُب والترحاب. وهناك المواليد الجُدد، يرقدون في المهد أو يَحْبون، وأنا بالقياس إليهم رجلٌ بالغ الرُّشد. وتنهالُ عليَّ القُبلات والحلوى، وأُلاعب الصغار تحت رقابةٍ مشدَّدة. وتختلف درجات الحب بالنسبة إليَّ بين بيت وبيت، فبيتٌ يتراءى لي وكأنه امتداد لبيتي في أُلفته وحرارته، وآخر لا يخلو من شيء من التحفُّظ الذي لا يشعر به سواي، ولكنها بصفةٍ عامَّة أُسرةٌ متماسكة مُتوادَّة مُتحابَّة، لا أذكُر أنْ نبَت في أرضها الخضراء شوكةٌ واحدة، وشدَّ ما أحببتُهم جميعًا كما أحبُّوني.

•••

ودنيا الآثار العجيبة طفتُ بأرجائها المترامية، قبل أن ألتحق بأية مدرسة. وعندما عُدت إليها في الرِّحلات المدرسية كانت عودةً إلى أرض العجائب، التي نُقشَت رموزها في القلب والخيال إلى الأبد. الخطوة الأولى بدأتُها مع الأب، ثم وقعَت الأم في شباكها، فصارت من طقوس تقواها الأضرحة والمساجد الأثرية، وبعض الكنائس، وتكايا الصوفية، والأهرام، ودار الآثار الفرعونية، والإسلامية، والقبطية، كم حرَّكتْ من خيالي وأثارت من شجوني. وحديث أبي عنها موجزٌ جدًّا وجاف، أمَّا الأم فلا أدري من أين جاءت بكل تلك الأساطير عنها. وأطولُ وقتٍ قضيناه في حجرة المومياوات المُحنَّطة، تنحني فوق التابوت متفحِّصة المومياء بخشوع وأسًى، وأسألها: أهم أحياء؟

فتقول: أموات من زمن بعيد.

– هل أهلُنا في القبر مثلهم الآن؟

فتقول بجدية: الله أعلم بحالهم.

وأسأل باهتمام: هل كلنا سنموت؟

فتقول باسمة: بعد عُمرٍ طويل إن شاء الله.

ولعلَّ جوابَها طمأَن قلبي!

•••

والصداقة من نِعَم الحياة الكبرى. دائمًا وُجد الصديق، فوق السطح، في الميدان، في الحارة. ومنهم العابر، والمقيم. من العابرين أقرباءُ ينزلون عندنا إذا جاءوا من الرِّيف، ومن أبناء العم والعمة. نلعبُ معًا في البيت وخارجه، وأكون لهم مُرشدًا لحي الحسين فيسيرون ورائي كالسُّياح — ونحن نُقزقز اللب — من بيت القاضي إلى خان جعفر، إلى الحسين، والسكة الجديدة، والغورية، والصاغة، والنحَّاسين، والوطاويط، وقُرمز، والكبابجي، وبين القصرين، وحارة الشوامِّ، وقصر الشوق، والسُّكرية؛ ثم نتفرَّج على المجاذيب عند الباب الأخضر. أمَّا المقيمون فكثرةٌ تُرهِق الحصر، ولكن يتَّصفون باللُّطف والمسالمة في أغلب الأحوال. يُحِبُّون السباق والجري وراء عربات الرش، وحكي الحكايات، والترنُّم بالأغاني الجماعية، يتَميَّز بينهم بالأناقة أبناء دكتور العيون، والشيخ بشير والد فاتنتي. ولم يخلُ التجوال مِن لقاء مَن نُطلِق عليهم أبناء الشوارع، وهم رغم أسمالهم البالية، وأقدامهم الحافية على قَدْرٍ كبير من خفَّة الرُّوح، أما خَرْقُهم للتقاليد المرعية فلا حدود له، يُردِّدون الأغاني الفاحشة فنشعر بالفطرة أنها تُرشِّح من يحفظها للنار وبئس القرار. ويوم يمر دون لقاء مع أولئك أو هؤلاء لا يُحسب من العُمر.

•••

حتى تلك السن المُبكِّرة جدًّا لم تخلُ من الحَوَمان حول الجنس الآخر، والانسياق مع جاذبية المغامرات الخاطفة، واكتشاف كنوز الفواكه المحرَّمة، تتم في حذَر يفضح الشعور بالإثم، والوعي لحدٍّ ما بالذنب. ودعكَ من فاتنتي التي تتخايل في حِصنها كالحُلم، فهناك حجرة السطح وبئر السلَّم يشهدان حوادث مثيرة وغير نادرة، فضلًا عن أن سِحر النِّساء ينفُث نداءاته الغامضة في عمق وسرية وبلا انقطاع، وغير مُفرِّق بين غريبة وقريبة، يافعة أو ناضجة.

•••

فترةٌ خاطفة تبدو لعين الحالم خطوةً أولى في طريق بلا نهاية. خطوةُ تمهيدٍ ليس إلا، ثم تتلوها المدرسة، والمُراهقة، والشباب، والنُّضج، والشيخوخة، الحياة بكل أبعادها المتاحة. لكن مَهْلًا .. هي فترة قصيرة ولكنها تحمل أجنَّة احتمالات لا تُعد. تشهد مولد الأسئلة الخالدة، والحب، والجنس، والصداقة، والقيم، والحياة، والموت، في رحاب ذي الجلال. ألحانٌ أساسية تنمو وتتنوَّع مع العُمر، تتلقَّى من البحر الثريِّ أمواجًا متدافعة، وآفاقًا مُترامية. تُوزِّعنا الأهواء والتأمُّلات، الحُلم والأفعال، الانكماش والاندفاع، ولا نتخلَّى عن الرغبة الأبدية في الاهتداء إلى مصباحٍ يضيء لنا طريق المصير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤