«غابة الموت»!

عندما التفت «أحمد» نحو صرخة «إلهام» أدرك أنَّه ليس بإمكانه أن يفعل شيئًا، فلم يكن يفصله عن النَّمر الواثب عليه إلا أقل من خمسة أمتار يقطعها النَّمر في أجزاء من الثانية، وهو منطلق كالقذيفة نحوه، ومحاولة إطلاق الرصاص عليه تبدو بلا جدوى، لأنَّ شيئًا لا يستطيع أن يسبق النَّمر المخيف، كما أنَّ أيَّة محاولة للهرب لن تُجدي، فلا شيء يفوق ذلك النَّمر سرعةً بمخالبه المرعبة، الممددة للأمام …

لم يتحرك «أحمد» من مكانه، وجمد الشياطين كأنَّهم خطوط فوق لوحة مرسومة … ولكن قبل أن تصل مخالب النَّمر نحو «أحمد» انتبه الشياطين للخطر الرهيب، وأفاقوا من جمودهم الذي لم يستغرق إلا أجزاءً قليلة من الثانية … وفي نفس اللحظة حدث شيئانِ معًا … كرة «عثمان» المطاطية الرهيبة «بطة»، والتي انطلقت كقذيفة الموت نحو النَّمر ما بين عينيه، وأصابته في ضربة رهيبة، كأنَّها طلقة رصاص … وفي نفس اللحظة كان منجل «إلهام» قد طار في الهواء نحو صدر النَّمر الواثب لينغرز فيه … وفوجئ النَّمر بالهجوم المباغِت … الكرةُ التي أصابته بين عينَيْه فآلَمَتْه وأفقدَتْه التركيز والرؤية الصحيحة … والمنجل الذي انغرز في بطنه فسقط فوق الأرض لا يبعد عن «أحمد» غير سنتيمترات قليلة، وزأر زئيرًا متوحشًا موجعًا، وابتعد والدماء تسيل من جرحه الكبير.

واندفع بقية الشياطين ومعهم «سالم» و«ممدوح» يطمئنون على «أحمد»، فقال يطمئنهم باسمًا: لا شيء، إنَّ الوقت لم يتَّسِعْ له حتى يلمسني، مسكين هذا النَّمر … إنَّه غير معتاد على ملاقاة الشياطين في غابته البكر …

استعاد «عثمان» كرته الرهيبة وهو يقول: لقد بدأتُ أفكِّر جديًّا في اعتزال مهنتنا والمعيشة في هذه الغابة كما فعل طرزان …

انفجرَتْ «زبيدة» ضاحكة وهي تقول: ستكون طرزان أسمر اللون …

عثمان: هذا من باب التجديد.

وانفجروا جميعًا ضاحكِينَ، وغابَتْ عنهم لحظات التوتُّر والقلق التي عاشوها منذ لحظات … وقالت «إلهام» ﻟ «أحمد» حمدًا لله أنَّني تصرَّفْتُ في اللحظة المناسبة …

قال «أحمد» باسمًا: حقًّا، لقد نجوتُ بأعجوبة.

إلهام: لم أشعر من قبلُ أنَّ الموت قد يكون قريبًا منَّا إلى هذه الدرجة … ولعل هذا الإحساس وتوتُّري المستمر منذ دخلنا هذه الغابة هو الذي دفعني إلى التصرُّف في الوقت المناسب.

أحمد: إنَّني مدين لكِ بحياتي.

إلهام: لقد أنقذتَ حياتي من قبلُ عشرات المرات … والشياطين لا يدينون لبعضهم، وسرُّ قوتهم وانتصارهم في مواقفهم الإنسانية وسرعة نجدتهم لبعضهم …

بعد قليل، أسرعت «إلهام» نحو «زبيدة» و«عثمان» و«قيس» الذين شرعوا في تسوية الأرض وتغطيتها بالأعشاب، والتأكُّد من خلوها من الحشرات للنوم … وأحضرت «إلهام» بعض الأعشاب الجافة وأوقدت فيها النار وهي تقول: هذه النار ستبعد عنا الحيوانات المفترسة، وستمنحنا الدفء والضوء …

أحمد: هذا صحيح … وإن كانت ستجذب لنا عددًا لا نهاية له من الحشرات التي سيجذبها الضوء … ولم يكد «أحمد» يتم عبارته حتى صرخ «عثمان» وأخذ يقفز بجنون، وهو يقفز قفزات عجيبة ممسكًا بذراعه بطريقة مؤلمة … واندفع الباقون نحوه بقلق وهتف «أحمد» به: ماذا حدث يا «عثمان»؟!

توقف «عثمان» عن الصراخ والقفز وأشار إلى ذراعه العارية التي ارتصَّ فوقها عدد من الحشرات السوداء التي بدَتْ وكأنَّها انغرزت في ذراعه العارية … وصاح «عثمان» بألم شديد: إنَّ يدي تؤلمني، كأنَّ بها آلاف الإبر توخزني … هذه الحشرات الملعونة تسبب لي ألمًا لا يطاق ولا أستطيع إبعادها عن ذراعي …

أخرج «أحمد» سكينًا صغيرًا وهو يقول: سوف أنتزعها من ذراعك.

صاحت «إلهام» محذِّرةً: لا يا «أحمد» لا تستعمل أي سلاح.

توقَّفَ «أحمد» مندهشًا، واقتربَتْ «إلهام» وهي تقول: هذه حشرة العلق … إنها تدفن رأسها تحت الجلد، وتمتص الدم، ومحاولة إبعادها بالسكين سينتج عنها إبعاد جسم الحشرة، على حين يظل رأسها مدفونًا تحت الجلد يسبب ألمًا فظيعًا.

صرخ «عثمان» بألم وغضب: وما العمل مع هذه الحشرات الملعونة …

إلهام: لقد حذرتك من قبلُ يا «عثمان» بعدم تعرية ذراعيك.

أحمد: المهم أن نجد حلًّا للموقف الآن؟

ردَّت «إلهام»: ليس هناك سوى وسيلة وحيدة للتخلُّص من هذه الحشرات … وأرجو أن يتحمل «عثمان» آلامها.

ردَّ «عثمان» بألم: إنَّ كل شيء محتمل عدا وخزات هذه الحشرات اللعينة …

أمسكَتْ «إلهام» بغصن مشتعل وقربته من ذراع «عثمان»، ومسَّت به الحشرات الملتصقة به، وأغمض «عثمان» عينَيْه متألمًا … وفعلَتِ الحرارةُ فِعلها، فأخذت الحشرات تُخرج رءوسها من تحت جلد «عثمان» ثم تقفز مبتعدة، إلى أن ابتعدت كلها … جلس «عثمان» فوق الأرض، وقد ظهرت نقاطٌ من الدم فوق ذراعه، وربطَتْ «زبيدة» ذراعه وهي تقول: من المؤسف أنَّه لا توجد لدينا أيَّة وسائل لتطهير الجروح هنا …

ولم يرد «عثمان»، بل أغمض عينَيْه لشدة ألمه، وغرق في النوم … وتمدَّد الباقون بجواره، على حين ظهر الألم على وجه «سالم» وقال ﻟ «أحمد»: إنَّني آسف لأجلكم … كل هذا حدث من أجلي.

أحمد: لا عليك … هذه هي حياتنا المعتادة، إنَّها مزيج من الخطر والألم والنصر؛ فلا تعتذر عن شيء لا حيلة لأحد فيه.

وتمدَّد الجميع نائِمِينَ عدا «أحمد» و«إلهام» اللذين بقيا للحراسة. وشردَتْ عينا «إلهام»، وظهر فيهما ألم عميق، حتى كادت تطفر منها الدموع، فقال لها «أحمد» بقلق: «إلهام» … فيما تفكرين؟

التفتَتْ «إلهام» نحو «أحمد» وجاهدَتْ لكَبْتِ دموعها وهي تقول: «أحمد» … أتظنُّ أنَّنا سنخرج أحياء من هذا المكان.

أحمد: لقد اعتدنا دائمًا أن نبدأ مغامراتنا بدون أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.

– ولكن هذه المرة تختلف تمامًا …

وقفز أمامها نسناس صغير لطيف الشكل، راح يرمقهما بنظرات فضولية، ثم توقف أمام النار كأنَّه يستدفئ بها … ابتسم «أحمد» ونظر إلى «إلهام» وقد أشاع وجود النسناس بينهما شيئًا من الراحة والهدوء، وقال «أحمد» «لإلهام»: علينا أن نكون طبيعيَّينِ هنا مثل النسناس … هذه هي وسيلتنا الوحيدة للنجاة والخروج من هذه الغابات …

إلهام: ولكن هذه الغابات تمتد ملايين الكيلومترات ولا نهاية لها، ولم يدخلها إنسان ويخرج منها حيًّا …

قال «أحمد» برفق: سنكون أول مَن يفعل ذلك، بإذن الله، وها أنت تَرَيْنَ أنَّ الأمور ليست سيئة تمامًا …

عادت «إلهام» تسأل: ورقم «صفر»، أتظنُّ أنَّه يعرف بما جرى لنا؟

أحمد: هذا مؤكد … لا شك أنَّه يتابع سيارات السباق واكتشف اختفاء سياراتنا، وأدرك أنَّنا توغلنا في الغابات …

إلهام: وهل تظنُّ أنَّه سيرسل بقية الشياطين لإنقاذنا؟

حدَّق «أحمد» في النار المتوهجة أمامه بجمود وقال (كأنَّه يعترف بالحقيقة): المشكلة هي كيف سيعثر بقية الشياطين علينا … أو كيف سنعثر نحن عليهم؟

وكان سؤالًا بلا إجابة، وفجأةً قفز شيء ضخم من أمامهم طائرًا في الهواء، وفزعت «إلهام».

فقال «أحمد» يطمئنها: إنَّه خفاش عملاق … بعض الخفافيش التي تعيش هنا يبلغ طولها حوالي متر … وبعض السحالي يصل طولها إلى متر ونصف، كما أنَّ هناك نوعًا من الثعالب تعيش هنا لها ما يشبه الأجنحة، وتستطيع الطيران في خفة بين أغصان الأشجار …

فجأةً تعالى عواء وصريخ على بُعد … كان الصوت عاليًا حادًّا … وسرعان ما جاوبته صرخات مماثلة حادة عالية ذات ضجيج يصمُّ الآذان، حتى كأن كل ركن في الغابات حولهم انطلق يعوي ويصرخ بطريقة مفزعة … وتساءل «أحمد» بدهشة: ما هذه الأصوات؟

إلهام: إنَّها النسانيس العوَّاءة … وهي نوع من النسانيس الصغيرة لها قدرة عالية على الصراخ والعواء بأصوات عالية، ولا تتعب من الصراخ أبدًا … وسادَتْ لحظات من هدير العواء والصراخ الذي يصمُّ الآذان … وكما تعالى العواء فجأةً، سكن وساد المكان صمت رهيب … واقترب نسناس صغير من «إلهام» فمدَّت يدها إليه، فقفز نحوها في اطمئنان، فربتت عليه في ودٍّ، فقال «أحمد» ضاحكًا: ها قد بدأنا في تكوين أولى الصداقات في هذه الغابة …

إلهام: مَن يدري … لعله يكون فألنا الحسن في مغادرة هذه الغابات …

وأخذت تمسح فوق رأس النسناس الصغير الذي أغمض عينَيْه واستكان بين ذراعَيْها، وبدا كأنَّه قد نام … وتثاءبت «إلهام» أيضًا، فقال «أحمد» لها: تستطيعين أن تنامي يا «إلهام»، وسأبقى للحراسة وحدي … أنتِ متعبة، وأنا لا أحس بأيِّ رغبة في النوم الآن!

ابتسمَتْ «إلهام» شاكرةً ﻟ «أحمد»، وتمدَّدَتْ فوق الأرض العشبية، والنسناس الصغير بين ذراعَيْها، ولكن فجأةً قفز النسناس صارخًا بجنون من بين ذراعَيْ «إلهام»، وأسرع إلى أقرب شجرة، وبقفزة واحدة صار فوق أغصانها، وواصل صياحه وصراخه في رعب … وفزعت «إلهام» ونظرَتْ إلى «أحمد» متسائلةً عن سبب صياح النسناس ورعبه … وقبل أن يجيبها «أحمد» بشيء وقع بصرها على ثعبان من فصيلة «الأناكوندا» الرهيب، يبلغ طوله أكثر من ستة أمتار … وكان الثعبان الرهيب قد زحف حتى صار على مسافة لا تزيد على المتر من «إلهام»، ورفع رأسه الرهيب نحوها، وعيناه تشعَّان كالماس المصقول … وأحسَّتْ «إلهام» بالشلل ولم تستطع حتى التنفس … وبدا واضحًا أنَّ أيَّ حركة منها سوف يتبعها هجوم الثعبان عليها بسرعة البرق ليعضها عضة واحدة … تؤدِّي للموت خلال ثلاث ثوانٍ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤