من مأزق … إلى مأزق!

بدأت حلقة الرجال تضيق حول الشياطين أكثر فأكثر، ونهض الساحر وهو يترنح من أثر إصابة كرة «عثمان»، وعلى الفور اندفع «أحمد» نحو الساحر وقيده من الخلف وصاح في الرجال: إذا تحركتم خطوة واحدة فسوف أقتله.

توقف زحف الرجال في فزع خشية على ساحر القبيلة، وظهر عليهم الغضب الشديد لما فعله «أحمد» بالساحر، وهمس «أحمد» للساحر بصوت رهيب أُؤْمُرهم أن يفسحوا لنا الطريق ويدعونا نمر بسلام وإلا قتلناك.

كان الرعب في عينَيِ الساحر، وصاح في القبيلة بكلمات غريبة، وعلى الفور تراجع الرجال وأسقطوا سهامهم ونبالهم وحرابهم من أيدِيهم، وأفسحوا طريقًا يؤدِّي إلى قلب الغابة.

هتف «أحمد» في رفاقه قائلًا: هيا بنا.

أسرع كلٌّ من الشياطين يتسلَّح بنبلة وعدد من السهام، وكذلك فعل «سالم» «وممدوح»، أمَّا «أحمد» فظل قابضًا على الساحر ودفعه للأمام قائلًا: هيا سِرْ معي.

وساروا جميعًا يغادرون الساحة والرجال يراقبونهم في صمت وقلق، وسألت «زبيدة» «أحمد»: هل سنأخذ هذا الساحر معنا؟

قال «أحمد» وهو يشدِّد قبضته عليه: هذه هي الطريقة الوحيدة لنأمن شرَّ هجوم رجال قبيلته علينا، فهم لن يجرءوا على إيذائنا طالما أنَّ الساحر في قبضتنا، وسيظلون يراقبوننا عن بُعد إلى أن نطلق سراحه، فيهاجموننا على الفور.

عثمان: وماذا سنفعل بهذا الساحر؟

قال «أحمد» وعيناه تلمعان: سوف يقودنا إلى الطريق خارج هذه الغابات.

شهق الشياطين بدهشة للفكرة المذهلة، وأكمل «أحمد»: لا أحد يعرف هذه الغابات كما يعرفها سكانها، وهذا الساحر لا بد وأنَّه يعرف طريق الخروج من هذه الغابات، وسوف نعود به إلى مكان سياراتنا الثلاث حتى يدلنا على طريق الخروج من الغابات فنواصل السباق.

قال «سالم» في قلق: وهل تظنُّ أنَّ الساحر سيطيعنا؟

– بالطبع سيفعل؛ لأنَّه يخشى على نفسه منَّا.

واخترقَتِ المجموعة الغابات مرة أخرى، وأحضر كلٌّ من الشياطين ثمرة جوز هند خضراء، قسموها إلى نصفَينِ، وأشعلوا في جوفها الطريِّ النارَ، فانطلقَتْ منها شعلة لطيفة، كأنَّها قبَس من نور، بدَّدَتِ الظلمة الحالكة حولهم … وأقبل النسناس «صديق»، فقفز إلى كتف «إلهام» وهو يصيح في ابتهاج … وقال «أحمد»: لا وقت لدينا للراحة، وعلينا الوصول إلى مكان سياراتنا قبل أن يفكِّر رجال القبيلة في طريقة لتخليص ساحرهم منا.

والتفتَ إلى الساحر قائلًا: سوف تطيعنا وتسير معنا، أليس كذلك؟!

أومأ الساحر برأسه في خوف، وقيَّدَتْه «إلهام» وساروا جميعًا عائدِينَ إلى مكانهم الأول، ترشدهم علاماتهم التي صنعوها في الأشجار، وتنير لهم شعلات جوز الهند الطريق … قال «عثمان» ضاحكًا: يا لها من فكرة … كيف لم تخطر ببالنا من قبلُ لمغادرة هذه الغابات؟!

واستمروا في سيرهم وهم يحسُّون بخطوات عديدة تتبعهم عن بُعد، ولا تجرؤ على الدنو منهم …

وما إن أشرقت شمس اليوم التالي حتى كانوا قد وصلوا إلى مكان سياراتهم.

أخرج «عثمان» أحد المسدسات من سيارة الشياطين، صوَّبه نحو الساحر الذي صرخ في هلع وظهر الرعب على وجهه، وأخذ يتضرع لهم قائلًا: لا تقتلوني … إنَّني ساحر مسكين ضعيف … أرجوكم لا تقتلوني.

أجابه «أحمد»: هناك وسيلة واحدة لنُبقي على حياتك … وهي أن تستقل معنا السيارات لتُرشدنا إلى طريق الخروج من هذه الغابات.

هتف الساحر: سأفعل … سأفعل.

– إذن، هيا بنا.

واستقلَّ «أحمد» و«عثمان» ومعهما الساحر سيارة الشياطين، بينما استقلت المجموعة الثانية، «إلهام» و«قيس» و«زبيدة» السيارة الكبيرة، و«سالم» و«ممدوح» سيارة السباق … وانطلقت السيارات الثلاث ترشدها تعليمات الساحر … وبعد ساعات قليلة، ظهرت لهم نهاية الغابات والطريق العام.

صاحت «إلهام» غير مصدقة: لقد غادرنا الغابات … غادرناها.

واحتضنَتْ «إلهام» «زبيدة» بفرحٍ طاغٍ، وقال «أحمد» للساحر باسمًا: لقد وفيتَ بوعدك … ونحن سوف نفي بوعدنا … تستطيع الآن أن تغادر السيارة.

لم يصدق الساحر أذنَيْه، وقفز خارج السيارة وانطلق يعدو إلى الغابات في سرعة، وعلى الفور ظهر عشرات ومئات من رجال القبيلة المختبِئِينَ، وأحاطوا به، وأخذوا يصيحون في فرح. وانطلق الشياطين والفريق العربي في طريق السباق بأقصى سرعتهم … وبدأ القلق والتوتُّر على النسناس «صديق» وسيارة «إلهام» توشك أن تغادر الغابات، وأخذ يعوي ويصيح بصوت متألم، وتأملته «زبيدة» بإشفاق وقالت ﻟ «إلهام»: إنَّ «صديق» حزين ولا يريد مفارقة الغابة التي ولد وتربى فيها.

نظرَتْ «إلهام» إلى النسناس بحزن، وقالت: سيصعب عليَّ فراقه؛ فقد تسبب في إنقاذ حياتي مرتَينِ … ولكن يبدو أنَّه لا مفرَّ من تَرْكه في المكان الذي يحبه.

وفتحَتْ له النافذة، فقفز «صديق» خارجها، وتعلَّق بأقرب غصن شجرة، وأخذ يصيح في مرح، على حين انطلقت سيارة «إلهام» بعيدًا، وقالت «زبيدة» ضاحكةً: ربما تقودنا إحدى المغامرات إلى هذه الغابات يومًا ما … عندئذٍ سيكون لدينا «صديق»، يمدُّ لنا يد المساعدة … فأحيانًا يكون الوفاء لدى الحيوان أكثر منه عند الإنسان.

ومرَّ بعض الوقت في صمت … وتساءلَتْ «إلهام» بقلقٍ: هل تظنُّون أنَّنا سنتعرض للهجوم مرة أخرى؟

زبيدة: أظنُّ ذلك … فلا بد أنَّ أعداءنا سيرصدون خروجنا من الغابات بعد أن قضينا بها يومَينِ، وسوف يبادرون بالهجوم علينا … وإن كنتُ أظنُّ أنَّ الهجوم هذه المرة سيكون هو الهجوم الأخير.

قال «قيس» في غضب: ونحن مستعِدُّون لهذا الهجوم … وسوف نعطيهم درسًا قاسيًا.

زبيدة: ولكن كيف ستكون وسيلتهم في الهجوم هذه المرة.

إلهام: مَن يدري؟ إنَّهم يفاجئوننا كل مرة بسلاح جديد يهاجموننا به … علينا أن ننتظر ونرى.

واستمرَّ الشياطين ورفيقاهما في الانطلاق وقتًا بدون أن يقطع عليهم الطريق أيُّ عائق … ومرَّت خمسة أيام بلا أيِّ مشاكل، والفريقان يزيدان من سرعتهما ويقلِّلان من ساعات الراحة بقدر ما يستطيعان، حتى استطاعا اللحاق بآخِر السيارات المتسابقة.

وقال «عثمان» بابتهاج: لقد أوشكنا على الوصول إلى نقطة النهاية في هذا السباق … إنَّ عدد السيارات التي استمرت حتى النهاية لا تزيد على سبع سيارات متسابقة.

أحمد: هل تفكر في الفوز بالسباق؟

– لِمَ لا؟ لقد لاقينا من المشقة والصعاب ما لم تصادفه أيَّة سيارة من سيارات المتسابقِينَ الآخَرِين.

– ولكن أليس من الغريب أنَّ أعداءنا لم يحاولوا الهجوم علينا مرة أخرى؟

– لعلهم لم ينتبهوا إلى نجاتنا من الأحراش، واستطاعتنا مغادرتها.

– أتظنُّ ذلك؟

قالها «أحمد» وهو يفكر بشدَّة، تُرى هل اعتقد مهاجمونا بضياعنا في الغابات الأمازونية واستحالة خروجنا أحياءً منها، فلَمْ يبذلوا جهدًا لمعرفة ما إذا كنا قد نجونا منها أم لا؟

وقال «عثمان» ﻟ «أحمد» متسائلًا: فيمَ تفكر؟

أحمد: لو لم نصادف أعداءنا المجهولِينَ فسأعتبر أنَّ مهمتنا قد فشلت.

– لماذا يا «أحمد»؟

– إنَّ هناك اعتبارَينِ … اعتبار عام، وهو أن نلقِّنَ هؤلاء الإرهابيِّينَ درسًا لن ينسوه بسبب تخطيطهم لقتل «سالم»، وحتى نعلمهم أنَّ القوة العربية لا يُستهان بها، وهي قادرة على التصدي لمَن يحاول إيذاءها أو العبث بها … أمَّا الاعتبار الآخَر فهو اعتبار شخصيٌّ … يخصُّ الشياطين.

أومأ «عثمان» برأسه موافقًا وهو يقول: معك حق يا «أحمد» … لقد كابدنا المشاق الصعبة في هذه الغابات الرهيبة، وصار لهؤلاء الإرهابيِّينَ في عنقنا دَيْنًا لا بد وأن نسدِّدَه لهم … إنَّني أتحرق شوقًا لمقابلتهم، وجَعْلهم يذوقون طعم «بطة».

أحمد: أظنُّ أنَّ «بطة» لن تُجدي معهم.

وساد الصمت مرةً ثانيةً، والسيارة تشق طريقها في الطريق الرملي الجبلي، وخلفها سيارة الفريق العربي وسيارة الشياطين الثانية، وعلى البُعد ظهرت عدة سيارات للسباق، وهي تجاهد لتَخَطِّي بعضها، مثيرةً خلفَها عاصفة من الرمال.

وقال «عثمان» بتوتر: إنَّني أحسُّ أنَّ الخطر يدنو مننا.

تلفت «أحمد» حوله وهو يقول: ولكنَّني لا أشاهد شيئًا عدا السيارات المتسابقة خلفنا.

عثمان: لا أدري … إنَّ إحساسي يتزايد، وأعتقد أنَّه لن يمر وقت طويل حتى نكون قد واجهنا الهجوم الأخير.

– ونحن مستعدون لهذا الهجوم …

وضغط فوق دواسة بنزين السيارة، فانطلقَتْ تزأر فوق الرمال، مثيرةً خلفها عاصفة من الرمال ومن الخلف، وعلى مسافة قريبة كانت سيارة «سالم» تتبع سيارة الشياطين، وخلفها سيارة «إلهام» «وزبيدة» «وقيس» المعاونة.

واتصلت «إلهام» بسيارة الشياطين لاسلكيًّا؛ لتطمئن عليهم، فجاءت الإجابة مطمئنة.

وضغطَتْ «إلهام» على أزرار لوحة إلكترونية في سيارتها حتى تعرف الطريق والمسافة الباقية للوصول إلى العاصمة «ليما» … كانت هناك مسافة لا تقلُّ عن ألف كيلومتر للوصل إلى نقطة السباق النهائية.

زبيدة: لم يتبقَّ الكثير … سنصل إلى النهاية خلال أربع ساعات على الأكثر … لقد أوشكنا على دخول حدود «بيرو».

إلهام: سوف يضيِّع ذلك منَّا فرصة ثمينة للفوز بهذا السباق.

التفتت «زبيدة» إلى «إلهام» متسائلة: ماذا تقصدين يا «إلهام»؟

– إنَّ فوزنا الحقيقي هو في نسف هؤلاء الإرهابيِّينَ المجهولِينَ، وليس في إتمام السباق.

– معكِ حق، وإن كان لا يبدو لهم أيُّ أثر حولنا.

وبدأت السماء تغرب في الأفق الدامي أمامهم، ويوشك الليل على الحلول … ومن بعيد وعلى آخِر أضواء النهار الغارب، شاهد الشياطين عددًا من المتاريس أمامهم تسدُّ الطريق لمسافة طويلة … وعددًا من الجنود، وسيارات الجيب تقطع الطريق … وكانت هناك لوحة كبيرة كُتب عليها بالإسبانية: «حرس الحدود».

توقفَتْ سيارة الشياطين والسيارتان الأخريان، وموتوراتها تزأر بشدة، كأنَّها حيوانات متوحشة حبيسة لا تطيق الانتظار … تقدم أحد الضباط باسمًا وفي يده كشَّاف قوي وهو يقول: مرحبًا بكم في «بيرو» … سوف نتأكد من أرقام سياراتكم، ثم نسمح لكم بالمرور فورًا … فإنَّ هناك بعضًا من تجار المخدرات جاءتنا معلومات أنَّهم سيحاولون تهريب بضاعتهم إلى داخل بلادنا متظاهرين بأنَّهم من المتسابقين.

وأومأ برأسه إلى عدد من جنوده فاندفعوا شاهرِينَ مدافعهم الرشاشة، وقال لهم الضابط: فتِّشوا جميع السيارات.

نظر «أحمد» إلى «عثمان» بقلق، وهمسَ «عثمان»: سوف يكون موقفنا حرجًا عند تفتيش سيارة «إلهام» «وزبيدة» فلا بد أنَّهم سيكتشفون أسلحتنا المخبأة فيها.

أحمد: دعنا لا نسبق الحوادث ولننتظر ما سيحدث.

ولم يكن بسيارة «أحمد» «وعثمان» مخبأ يمكن إخفاء مخدرات به … ولا في سيارة الفريق العربي الذي انتهى تفتيشها سريعًا … واتجه الجنود إلى السيارة الثالثة الكبيرة، وتعلَّقَتْ أبصار الشياطين بالسيارة في قلق وتوتُّر شديدَينِ وهم يتساءلون، تُرى هل سيكتشف الجنود الأسلحة أم لا؟

وكان ذلك مأزقًا لم يضعوه في حسبانهم أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤