في خطر

كُتبت في ذكرى العدوان الثلاثي على الوطن

كنت قد تلقيت البرقية من أبي في المساء. أجهشت بالبكاء عندما فضضتها وقرأت فيها: «أمك في خطر. احضر حالًا.» وعندما أسرعت السيدة التي أسكن عندها من المطبخ لتعرف ما الخبر أخفيت وجهي بعيدًا ومسحت دموعي بسرعة. سألتني: خير! حصل شيء لا سمح الله؟ قلت وأنا أتجه إلى غرفتي: خير إن شاء الله، أنا مسافر. وعندما ألحَّت في السؤال قلت لها: تلغراف من البلد، يظهر أن أمي مريضة. ورحت أرتدي ملابسي على عَجَل، بينما أم محمد تدعو الله لي بالسلامة، وأن يعيدني مجبور الخاطر.

لم أكد أصل إلى المحطة حتى وجدت تاكسيًا في الانتظار. أدخلت رأسي من النافذة وقلت في لهفة: المنصورة؟ قال السائق في صوت خشن: نفر واحد؟ قلت: نعم. مستعجل جدًّا. سأدفع الفرق. ولم يتركني أكمل عبارتي، فصاح في غلظةٍ لم أعرف سببها: طيب ادخل. جلست إلى جانبه في الكرسي الأمامي. كنت مشغولًا بنفسي عن كل شيء حولي. أتحسس جيبي كل لحظة وأُخرِج منه البرقية لأقرأها ثم أُدخِلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها، ثم أدخلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها من جديد، كأنني أتمنى لو تغيرت حروفها، لو قلت لي مثلًا أمك بخير، لو خانتني عيناي فلم تقعا على كلمة الخطر الراقدة في جيبي كالغول. ونبهتني أصواتُ حديثٍ في العربة إلى المقعد الخلفي. التفتُّ فوجدت هناك امرأتين، تلبس إحداهما السواد وتلف حول رأسها طرحة سوداء، أما الأخرى — وقد رجحت أن تكون ابنتها — فقد كانت مائلة إلى السمنة، ذات وجه أبيض محمر الخدود واسع العينين تلمع فيهما السعادة، ولم أتبين من نظرتي السريعة إلا أنها كانت ترتدي بلوزة رمادية مفتوحة، يتدلى على صدرها عقد من الفل تفوح رائحته في أرجاء العربة. قالت السيدة الكبيرة: قلت لك نسافر من ساعتها. أنت السبب. قالت الصغيرة: أنا أو الخياطة؟ قالت الأخرى: كنت قعدت على دماغها بدل الجري في المحلات. أجابت الصغيرة: يعني نخبط المشوار ونرجع من غير الفستان. قالت السيدة الكبيرة في عصبية: زمان المعازيم وصلوا من الصبح. تدخَّل السائق في الحديث بغير أن يحرِّك رأسه الكبير وقال بصوته الخشن: مستحيل يا ست هانم، السكك ملغمة. سألت السيدة الكبيرة: ملغمة؟! فقال السائق وهو يثبِّت عينيه القاسيتين على الطريق: «دبابات ومصفحات وطيارات. ألم تسمعوا الأخبار من الصبح؟» قالت السيدة في أسًى: سمعنا يا ابني. ربنا يجازي أولاد الحرام. إنما الناس زمانها سبقتنا على الفرح. أصل عقبال عندك … ولم يتركها السائق تكمل حديثها، فقال وهو يدير مفتاح الراديو: إن شاء الله نرميهم في البحر!

انطلقت الأصوات تهدر من الراديو. موسيقى عسكرية صاخبة. حناجر تنشق هاتفة: الله أكبر. تصرخ كأنها تنقضُّ على مدينة نائمة فتوقظها أو تستنفر قطعانًا خالية البال لتنتبه إلى الوحش الذي يوشك أن يفترسها. والتوتر والوجوم والسخط يكاد يخنق حتى وجه الشمس الغاربة. وأنا أطل من نافذة العربة لكيلا يرى أحد دموعي، وأتحسس جيبي ربما للمرة المائة لأتحقق من حروف البرقية. تُرى هل هي في خطر حقًّا أم ماتت وانتهى الأمر؟ هل كذبوا عليَّ أيضًا في هذه المرة، أم خافوا عليَّ من الصدمة؟ هل أجدها راقدة على الفِراش، فأقبِّل وجهها العجوز وأشم رائحة جلدها المميزة بطعم الملح والعَرَق وأجلس إلى جوارها أراقب صدرها يعلو ويهبط، أم فات الأوان؟ ثم ماذا أفعل لو وجدتها أسلمت الروح ودفنوها وانتهى الأمر؟ لا يمكن أن يحدث هذا. لا يمكن أن يدفنوها قبل حضوري. لا يمكن أن يكونوا مجردين من الإحساس إلى هذا الحد. قال السائق: سمعت البلاغ الأخير؟ قلت: هل هناك جديد؟ قال وهو يلتفت إليَّ فأرى وجهه الضخم ورقبته الغليظة: قضينا على أول موجة. قلت: الحمد لله. ولكن الحالة خطرة. أطلق ضحكة خشنة وقال: عليهم هم. نحن في بلادنا ولا يمكن يمسوها.

انطلق صوت المذيع الشاب كالعاصفة. كان يدوي في أذني كإعصار من النار وهو يقول: اضرب يا أخي. اضرب أعداء الله، أعداء الوطن، أعداء الإنسان. اضرب بكل قوتك. اقتلهم قبل أن يقتلوك. قالت السيدة الكبيرة. يا ساتر يا رب. الله يقطع الإنجليز وسنينهم. وتأوهت الصغيرة بصوتٍ لم أتبينه. ومرَّت إحدى عربات الجيش فزعق السائق: الله ينصركم. وغابت الشمس في الأفق الغربي وبدأ الطريق يظلم. وانطلقت أصوات الموسيقى العسكرية تهدر من الراديو.

كنا قد وصلنا بنها عندما أضاء السائق المصابيح الأمامية. وكان الناس متجمعين على الطريق يتابعون الأخبار ويطالعون الصحف. ولم يكن من العسير أن نلاحظ الوجوم على كل وجه، والعصبية في كل خطوة، والقلق في كل العيون. سيكون الليل قد جاء عندما أدخل القرية. وسيكون عليَّ أن أعبر السكة الحديدية وأنحدر على الطريق الزراعي قبل أن يطالعني أول بيت فيها. هل أنسى آخر مرة تركت القرية؟ كانت أمي تقف على الباب، تطل برأسها على الطريق في انتظار العربة التي تقلني إلى المدينة. وعندما قبَّلتها لآخر مرة نظرت من النافذة ورأيت عينيها الحزينتين تشيعاني إلى آخر لحظة. ظلَّت واقفة في مكانها حتى اختفت العربة وانعطفت على الطريق الزراعي. كنت قد أفهمتها أنني سأدخل الجامعة وقلت لها إنني سأدرس تاريخ بلادنا هناك. وعندما قالت لي شد حيلك واغرورقت عيناها بالدموع لم أملك أنا أيضًا أن أمنع نفسي من البكاء. لم تكن مريضة عندما تركتها، فمن أين جاءها المرض؟ صحيح أن وجهها كان ذابلًا ونَفَسها متقطعًا، ولكن هكذا كل الوجوه في قريتنا. عجيب ألا نفطن إلى أقرب الناس إلينا أو نهتم بمرضهم ونسألهم عن حالهم. كل هذا ولم تنقضِ بضعة أيام على سفري. لو أنها كاشفتني بمرضها فهل كنت أبقى إلى جانبها؟ أم إن الطموح يعمينا دائمًا عن أحب أحبابنا؟

صوت المذيع ما زال يهدر. الغضب الهائل يلهب الكلمات فترتعد وتنفجر: اضربهم يا أخي. اضربهم قبل أن يدنسوا أرضك. اقتلهم قبل أن يهتكوا عرضك. اقتلهم باسم أمك وأبيك وإخوتك وأولادك. اقتلهم باسم وطنك وتاريخك ومستقبلك. اقتلهم باسم الملايين المحرومين … والشهداء والمظلومين.

نعم يا أمي سنقتلهم. سنرد المعتدين عن بابك. وهل يكونون أقوى من بختنصر والإسكندر؟ هل يكونون أعتى من بطليموس ولويس التاسع؟ نعم أنا معهم قادم إليك. سنقف حراسًا على حائط العجوز. سنجذب أجراس النحاس المعلقة عليه. وسيأتي الناس يا حبيبتي من أسوان إلى العريش ليحموك ويردوا المعتدي عنك. الشيخ والطفل والمرأة سيأتون. المتعب من الحياة لن يتعب والعازف الأعمى على القيثارة لن ينعى الحياة. وستجمع إيزيس الجميلة أشلاء روحنا من تحت أقدام الغاضبين. صحيح أن النقاب على وجهها ملطَّخ الآن بالوحل. صحيح أن ثقوب الرصاص تملؤه والتراب الذي تثيره أرجل المشاة يعفره. لكن إيزيس لن تهدأ حتى تعثر عليه وتضم أشلاءه. إيزيس يا حبيبتي لن تهدأ حتى تبعثي من جديد. وعندما نطارد «معات» الظلم من سطح الأرض، سيعود الحق والعدل مرة ثانية. وستنهضين من على فراشك وتعانقي ابنك.

قال السائق في صوت حزين: الحالة خطر.

تحسست البرقية في جيبي وقلت: نعم. الحالة خطر.

قاطعتنا السيدة الكبيرة في المقعد الخلفي وقالت: صلوا على النبي. إن شاء الله ربنا يخزيهم وينصرنا عليهم.

صاح السائق: ربنا ينصرك يا حاجة.

قالت السيدة الكبيرة: البنت يا عيني فرحها الليلة.

اعترضت السيدة الصغيرة قائلة يا ماما. فهتف السائق: ربنا يتمم بخير ونشرب الشربات.

أظلم الطريق تمامًا فلم نَعُد نرى إلا ما يُسلَّط عليه ضوء المصباح. الأشجار وأعمدة التليفون تفر بجانبنا مذعورة، ولفحات البرد تهب على وجوهنا فننكمش في ثيابنا. هل تحسين يا أمي الآن بالبرد أم تُراك جسدًا باردًا ملقًى على فراش بارد. ما أشد خجلي من هذه الأفكار! لكن أبي هو المسئول عن كل ذلك. لو أنه قال الكلمة الواضحة لأراحني. ثم ماذا أفعل لو وجدت السرادق أمامي؟ هل أملك أن أدخله وأواجه الناس وأصافحهم؟ هل ستسعفني عيني بالبكاء أم سأتجمد كما حدث لي عندما مات عمي ومت من الخجل أمام الأغراب الذين امتلأ بهم البيت؟ وماذا يفعل أبي حين يراني؟ هل تراه الآن إلى جانب أمي؟ أم في السرادق يتلقى العزاء ويشرف على توزيع القهوة وترتيب مكان يبيت فيه الضيوف؟ هل سيعانقني ويبكي أم سأسبقه أنا إلى البكاء وأرتمي على صدره؟ وكيف يا ترى يبدو الآن منظره منذ أن رأيته آخر مرة منذ شهور؟

آه يا أمي! لا بد أن أبي ما يزال كما هو من ثلاثة آلاف سنة، من أربعة، من خمسة وستة آلاف، يخرج كل صباح إلى الحقل ويعود إلى الكوخ، يتزوج ويخلف الأولاد، ينام هو وهم والجاموس والدواجن تحت سقف واحد. العمدة وشيخ البلد، صاحب الأرض وكاهن المعبد، ممثل السلطة وجناب اللورد، أفندينا في القصر العالي والملك الإله في القصر الكبير، الشقاء يا أمي كما هو، والصبر عليه كما هو. آه لو وجدتك حية، لو وجدت فيك النفس، إذن لحكيت لك كما كنت تحكين لي في ليالي الشتاء، لحكيت لك كلَّ ما أعرف، كلَّ ما نسيت. وسيجلس أبي على الحصيرة ويسبِّح بحمد الله ويستمع إليَّ. سقط فرعون وسدنة المعبد، اندحر بطليموس والإمبراطور، ذهب الخليفة والمملوك، زال الباشا والبك، انهزم راعي الهكسوس ونفقت خيول الفرس، امتص التراب دم فارس الصليب وغمر الطمي أطباق الجثث البيضاء والسمراء والسود. وبقيت يا أمي كما كنت، وبقي أبي كما هو؛ الهدمة الزرقاء على جسده، كسرة الخبز في يده، طعم المش على لسانه، الرمد في عينيه والنكتة على شفتيه، يضحك على حكامه المتوحشين، ينتصر على ظَلَمَته ولو بعد حين؛ لأنه يا حبيبتي لا يستحق الظلم من الخالق ولا من المخلوق.

قال السائق: الحمد لله.

سألت: وصلنا؟

قال: كله بأمر الله. المهم أن العروسة وصلت هي وأمها.

والتفت ورائي فلاحظت أن السيدتين اللتين كانتا تشغلان المقعد الخلفي قد اختفتا. ولم أدرِ كيف فات عليَّ أن ألاحظهما وهما يغادران العربة ولا كيف فاتني أن أودعهما بتحية مناسبة. قلت أداري خجلي: يظهر أنني رحت في نومة. ضحك السائق ضحكته الخشنة وقال: النائم مصيره يصحى. المهم حمدًا لله على السلامة.

كنا قد وصلنا حقًّا. نزلت على الطريق الزراعي وعبرت خط السكة الحديدية وأنا أجري. كل شيء كان يضطرب في كياني. والدموع التي حبستها طوال الطريق كأنها أحجار انحدرت في جوفي. وعندما وصلت إلى البيت فتح أبي الباب. وأخذني بالحضن وقال وهو يبتسم: حمدًا لله على السلامة. قلت: أمي. أين أمي؟ قال وهو يضحك: بخير. اطمئن (ثم وهو يتحسس ذراعي القوية) ادخل عندها. الدكتور هناك. أمك محتاجة لنقل دم.

١٩٥٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤