القضية

كل مَن يمر على ميدان السيدة كان يراها. في عز الحر والشمس تلهب الوجوه وتخنق الأنفاس، وفي عز البرد والناس تهرب من المطر تحت مظلة التِّرام، يرونها متربعة على الرصيف، كأنها جذع شجرة قديمة مغروسة في الأرض، بملابسها السوداء المعفرة بالتراب، ورأسها الأبيض المنفوش الشعر، ووجهها المنتفخ الأسمر المحترق بشواظ الشمس، وصوتها الذي يجلجل ويدوي كأنما ينبعث من أسطوانة قديمة تردد عبارة واحدة لا تتغير: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود. وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوا الولد من أمه وأبوه. والقضية يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين. وعمه وخاله وأخوه راحوا المحكمة وقابلوا القاضي لأجل يشوف الطالع ويعد النجوم. السياسية والجاسوسية وبتوع التمثيل أخذوا الولد من أمه وأبوه. والقضية يوم تسعة شهر تسعة …

كانت الكلمات تخرج من فمها سريعة كالطلقات، بينما ترتفع ذقنها وتميل رأسها إلى الوراء وتجول عيناها المتعبتان التائهتان في يأسٍ بين الوجوه التي يتصادف أن تتحلق حولها أو تطل عليها من نوافذ الأوتوبيسات العابرة، تنفرج شفتاها الجافتان عما يشبه ابتسامة ليس فيها سخرية ولا فرح، كأنها تعرف سلفًا أنه لن يلتفت إليها أحد مهما ارتفع صوتها وطغى على أصوات التِّرام والمركبات وصياح الباعة والأطفال، أو كأنها تعرف أنها حتى ولو اهتم بها الناس أو جاءوا يسألونها عن حكايتها فلن تهتم هي بأحد.

كانت تلقي عباراتها كأنها تسمع درسًا تحفظه عن ظهر قلب، في لهفة وغلظة واندفاع مَن يخشى أن يفاجئه الموت قبل أن يتم كلماته المعدودة. وكان في عينيها اللذين بديا كدمعتين كبيرتين جافتين استسلام مفجع لواجبها القاسي، وشماتة رهيبة بمن يسوقهم الحظ إلى سماعها، وضراعة من يستغيث مع أنه يعرف أنه أُلقي به في الجُب ولن ينقذه أحد. وكان من عادة الناس أن يسمعوها كل يوم. تنبح وتهاتي كالكلب العجوز الذي فقد سيده، حتى أصبحت ظاهرة حية في الميدان، مثل الساعة البيضاء المعلَّقة في وسطه، والمخبأ المهجور الذي صار ملجأ للمتشردين واللصوص والشحاذين والذين لا يجدون دورة مياه قريبة، ومحطة التِّرام التي لا يغادرها الحلاقون الجالسون على الرصيف تحت مظلاتهم الصغيرة، وناظر المحطة الذي تلعلع صفارته في كل لحظة لتدير الحركة، وطوابير المنتظرين أمام محال السندوتش وشباك الترسو في السينما المواجهة لها. ولم يكن يخلو الأمر من مداعبة أحد السائقين أو الكمسارية لها، إرضاء لحب استطلاع الناس لا عطفًا على تلك التي يعرف بخبرته أنها لم تَعُد تفهم شيئًا عن العطف. كان يتقدم منها في حذر ويقف أمامها وجهًا لوجه وكأنه يحاول أن يثبت عينيه في عينيها التائهتين على الدوام. وكان يختلس لحظة الصمت التي تستريح فيها لتأخذ نَفَسها قبل أن تدور الدورة من جديد فيسألها في خبث الأطفال: الولد لقوه يا حاجة؟

فتجيب دون أن تنظر إليه: الولد أخذوه من أمه وأبوه.

ويسأل: مَن هم؟

فتقول وهي تدير عينيها الجامدتين في الوجوه المشفقة المتطلعة: السياسة والجاسوسية وبتوع التمثيل.

فيسأل في خبث: ومَن غيرهم يا حاجة؟

فتندفع قائلة في نَفَس واحد كأنه ليس هناك أحد يقاطعها: والإنجليز واليهود والملائكة وبتوع …

figure

فيضع الكمساري ذراعه على فمه ويسأل: والملائكة يا حاجة؟

فينطلق صوتها كالصاروخ: والملائكة والإنجليز واليهود …

فيقول الكمساري مبتهجًا بلذة الذهول البادية في عيون الأطفال: طيب الإنجليز واليهود وعرفناهم، لكن الملائكة؟

فتقف عيناها على وجهه لحظة وتنفرج شفتاها عن ابتسامةٍ متجمدة يائسة: أخذوا الولد من أمه وأبوه …

فيقول الرجل وهو يضرب كفًّا بكف: يا حاجة خلي الملائكة في حالهم. هم مالهم ومال الولد!

فتقول كأنها تعجب لجهله: قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوه من أمه وأبوه.

ويسأل الكمساري وهو يتهيأ للانصراف: والقضية يوم تسعة؟

فتكمل قائلة كأنها تتلقف الخيط من يده وتجذبه بشدة: يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين …

ويضحك الكمساري وهو يربِّت على كتفها: يعني النهاردة يا حاجة. حتى اسألي الناس كلها!

فترفع ذقنها وتميل برأسها إلى اليمين ويعود صوتها يرن كالنحلة: وأمه وأبوه قدام المحكمة منتظرين. راحوا للقاضي لأجل يشوف الطالع ويعد النجوم. يوم تسعة شهر تسعة سنة …

فيضحك الكمسارية وهم يجيبون على ناظر المحطة الذي ينادي عليهم: حاضر يا ريس … والله يا شيخة يوم تسعة بتاعك عمره ما هو جاي.

وليس بالطبع موقف بقية الناس من الحاجة — الله وحده يعلم متى وأين حجَّت — مثل موقف هذا الكمساري منها، بل إننا نستطيع أن نقول إن موقف كل واحد من هؤلاء الكمسارية يختلف بغير شك عن موقف زميله منها. صحيح أنهم تعودوا عليها كل يوم، أصبحوا وأمسوا عليها، وسمعوا قضيتها ألف مرة ومرة، ونادَوا عليها وداعبوها وضحكوا معها وأشفقوا عليها ونسوها ويئسوا منها في وقت واحد. ولكنها على كل حال كانت شيئًا ثابتًا في حياة الذين يعملون منهم على نفس الخط، كالأشجار والعمارات والتماثيل والميادين التي يمرون عليها كل يوم، ظاهرة يبتسمون لها وقد يرثون من أجلها أو يضحكون عليها، ولكنهم مع الزمن ينسون ابتسامتهم وضحكهم ورثاءهم ولا يلتفتون إليها إلا بقدْرِ ما يلتفتون إلى العمارات والتماثيل والميادين والحدائق والوجوه العجوزة التي رأوها ألف مرة ومرة. وطبيعي أن هذا يختلف عن موقف الأطفال — خصوصًا الأطفال — من الحاجَّة؛ فهم في الصباح عندما يكونون في طريقهم إلى المدارس لا ينسون أن يلتفتوا إليها باستغراب حتى ولو كان الواحد منهم قد سمع صوتها قبل ذلك، وعندما ينزلون في الميدان في طريقهم إلى بيوتهم أو في انتظار ترامٍ آخرَ يتحلقون حولها ويندهشون ويتطلعون في فمها المفتوح المتحرك على الدوام كأنهم ينتظرون أن يروا صوتها، ويستمعوا إلى حكايتها التي ربما يكونون قد سمعوها عشرات المرات. وبالطبع ينتظر الإنسان أيضًا أن يكون موقف الفلاحين القادمين من الأرياف أيام المولد لزيارة الست الطاهرة مختلفًا عن موقف الأطفال منها؛ فهم يسمعون صوتها من بعيد، ويطوفون حولها في دهشةٍ لا تلبث أن تتحوَّل إلى عطفٍ فرثاء فاشمئزاز فدعاء للست الطاهرة ولأولياء الله الصالحين أن يشفي الله عقلها ويشفي مرضانا نحن وجميع المسلمين. ومن المنتظر أيضًا أن يضع الواحد منهم يده في جيبه ويلقي في حِجْرها بما قُسم، وأن يحس بشيء من خيبة الأمل لأنها لا تأبه له، ولا ترفع صوتها بالدعاء ولا تضم يدها على عطيته بل تواصل الصياح الأزلي كثورٍ لاهث معصوب العينين يدور في الساقية فلا هو يمل من الدوران ولا الساقية تمتلئ: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود، قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوا الولد من أمه وأبوه. الملائكة وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. أخذوا الولد من أمه وأبوه …

وبالطبع أيضًا يسأل بعض الناس أنفسهم عن أصلها وفصلها، عن البيت الذي تسكن فيه والعيشة التي تعيشها، وإن كان هناك في الدنيا مَن يسأل عنها ويأخذ باله من فرشتها ولقمتها وهدمتها التي أصبحت مثل الهباب والطين. لكن الجميع، وهم معذورون، سيظلون في حيرةٍ من هذا التمثال الحي الذي يظهر فجأة في أيامٍ غير معلومة، فيتربع على الرصيف، وينطلق لسانه تحت تأثير زمبرك خفي تملؤه أيدٍ خفية، ويظل ينبح في حسه وينادي الحاضرين والغائبين دون أن ينتظر أو يكترث بأن يرد عليه أحد، ويخاطب العيون والوجوه بغير أن يهتم بأن تنظر إليه عين أو يستجيب له وجه، ويردد في صوتٍ يدور كأنه يخرج عن أسطوانة قديمة ومشروخة ومن سنين لم يُنفض عنها التراب: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود. قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوه من أمه وأبوه. والملائكة والشياطين وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. وأخوه وأبوه راحوا للقاضي وقال لهم القضية يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين.

١٩٦٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤