الصبر

اللوحة القديمة، المعلقة في حجرة الجلوس، فوق الكنبة الكبيرة، اللوحة المصنوعة من القماش، المغزولة حروفها بخيوطٍ حريرية سوداء، الموضوعة في برواز خشبي بهت لونه من كثرة ما تراكم عليه من الغبار، فبدت الحروف الملتوية النحيلة في داخلها كأنها ثعابين سوداء، هذه اللوحة هي التي لم أكره شيئًا في الوجود كما كرهتها. في كل البيوت يعلِّق الناس شيئًا يبتهج له الضيوف أو يرحب بهم: أهلًا وسهلًا فعين الله ترعاك، ادخلوها بسلام آمنين. صورة رب البيت مع زوجته في ثوب الزفاف، أو في وسط العيال، صورة الابن مع تلاميذ المدرسة وأمامهم الناظر والمدرسون، أو حتى صورة ممثلة تبتسم للضيف وحده. أما نحن؟ ألم يجد أبي وأمي شيئًا غير «الصبر» يعلِّقونه في حجرة الجلوس؟ ألم يجدوا حروفًا أخرى غير الصاد الغليظة المنتفخة، والباء النحيلة التي لو هبَّت نسمة لأطارت النقطة من تحتها، والراء الطفيلية العديمة الشخصية التي تتشبث بالباء حتى لا تسقط مغشيًّا عليها؟! منذ أن فتحت عيني وأنا أراها وحدها في بيتنا. كئيبة وقديمة، وفي حدادٍ لا ينقطع. حاولت أن أضع إلى جانبها صورة ممثِّلة ساحرة العينين كنت مُتيمًا بها، فزمجر أبي وقال: الصور من الشيطان. وحين دافعت عن الممثلة وقلت له إنها متزوجة وصاحبة عيال شخط وقال: هل تريد أن تقطع الملائكة عن الدار؟ ولما كنت بالطبع حريصًا على أن تبقى الشياطين في الجحيم وتمرح الملائكة في بيتنا كما يحلو لها فقد أقلعت عن المحاولة، وفوضت أمري إلى الله.

هل قلت لكم إنني لم أكره شيئًا في الوجود كما كرهت هذه اللوحة؟ إن كلمة الكره لا تكفي. وحتى كلمات الحقد والغيظ والسخط والمقت وكلُّ ما ابتكرتْه اللغةُ لتنفِّس عن براكين الغضب المكبوت في الصدور لا يمكن أن تشفي غِلي من هذه الحروف السوداء اللعينة التي كانت أحسُّ بها تلتف حول رقبتي. هل تحبون أن تعرفوا السبب؟ اسمعوا إذن هذه الحكاية وحاوِلوا أن تعذروني.

كنت في تلك الأيام أحضِّر لامتحان الشهادة الابتدائية. وكان أبي لا يفتأ يردد: «الابتدائية حصن من حديد، لا يفتحه إلا كل صنديد.» ويقول لي بمناسبة وبغير مناسبة: اصبر يا ولدي، بالصبر تنول، واصبروا وصابروا. وكنت قد اكتشفتُ أن المذاكرة في حجرة الجلوس — المكان الوحيد البعيد عن ضجيج المطبخ وشخط أبي في أمي وشخط أمي في الخادمة — هي السبيل الوحيد للنجاح وبخاصة إذا جلست أمام لوحة الصبر التي كنت على الرغم من كرهي لها أو ربما بسبب هذا الكره نفسه، أستمد منها مع ذلك المزيدَ من الصبر على مكاره الحساب ومقالب الجغرافيا وفصول التاريخ. ولكنني سرعان ما اكتشفت أيضًا — وكأنني ما كنت من سكان البيت ولا عرفت شيئًا عن مخارجه ومداخله — أن نافذة حجرة الجلوس هي أنسب مكان أعاكس منه فوزية — وهي إن لم تكونوا قد علمتم حتى الآن ابنة جارنا عم علي موزع البريد — وأكلِّمها وتكلمني بوضوحٍ لا مزيد عليه، بل أستطيع إن سمحت الظروف وواتتني الجرأة أن أمد يدي فألمس يدها بل أعضها أيضًا إن شئت.

لا أريد أن أطيل عليكم فيما تعرفونه بأنفسكم ولا بد أنكم جربتموه أيضًا عندما كنتم مثلي تستعدون للابتدائية؛ فالليالي الطويلة التي كانت أمي تدخر لي فيها ما لذَّ وطاب ليغذيني ويفتح عقلي ولا يزورها النوم قبل أن تناولني فنجان الشاي الثقيل وتدعو على الكتب والذين كتبوها، وترفع يديها للسماء لكي يوقف الله لي أولاد الحلال، لم أكن في الحقيقة أقضيها عند خط الاستواء، ولا في مراعي الاستبس، ولا مع جيش رمسيس الأكبر، بل ولا حتى في قلعة محمد علي القريبة منا، بل محنيًّا على الشباك وعيني على نافذة فوزية — والكتاب بين يدي بالطبع على سبيل الاحتياط — حتى تكاد تخرج من محجرها من كثرة التلطع ولهفة الانتظار، فإذا ظهرت وأشارت بيدها الصغيرة مثل كف القطة وعبثت بضفيرتها الطويلة الفاحمة السواد التي طالما كانت تهتز فوق ظهرها فتهز قلبي معها، استغرقنا في حديثٍ هامس طويل لا يشترك فيه — وإن ظل صامتًا — سوى القمر، ولا يقطعه سوى نحنحة أبي عندما يأتي إلى البيت، أو طرقات أمي الضعيفة على الباب تسألني إن كنت أريد شيئًا أو تطلب مني أن أنام والصباح رباح.

أيام المذاكرة فاتت ولم تدخل كلمة في مخي. الامتحان اقترب ولم أستعد لشيء اللهم إلا للإنشاء العربي. وكيف لا والمنفلوطي كنت أحفظه عن ظهر قلب لينفع في خطاباتي الشفوية والتحريرية إذا لزم الأمر إلى فوزية؟! الامتحان على الأبواب وأنت لا تعرف الألف من كوز الذرة. رقم الجلوس في جيبك وأنت لا تميِّز أستراليا من أفريقيا، ولا تعرف الفرق بين خوفو والحاكم بأمر الله. الامتحان على الأبواب وأبوك يوصيك بالصبر وأمك ترقيك وتدعو لك طوب الأرض ولا تعرف أن وقعتك سوداء إن شاء الله.

القصد، كانت — بعيدًا عنكم — ليلة سوداء، ليلة جاء أبي إلى البيت — لم ندرِ ما الذي أخَّره عن العشاء فلم يحضر كما قالت أمي إلا نصف الليل — لا بد أنه أقام الدنيا وأقعدها وزلزل البيت من أركانه قبل أن أفتح عيني فأجده قاعدًا على سريري فوق رأسي تمامًا، عيناه تضجان شررًا، وجبهته ملبدة، وتقاطيع وجهه تصرخ بالتقزز والامتعاض. قم يا أفندي شف نمرتك.

وأنا أفرك عيني: أية نمرة؟ ثم وأنا أكتم تثاؤبةً كادت تفلت مني حين لمحت الجريدة مبسوطة على السرير: النتيجة ظهرت؟

وهو يضرب كفًّا بكف: طبعًا. عوضنا على الله!

وأمي تهدئه: اعمل معروف يا محمود، الولد يا عيني فزع من النوم!

وهو ينفجر صائحًا: نامت عليه حائط! بس شاطر يعاكس بنات الناس.

وهي تحاول أن تهدئه: بنات مَن يا محمود؟

الشرر يتطاير من عينيه، وصياحه يطير الجريدة: بنت الجيران يا ست هانم. ما بقى غير ساعي البوستة. أبوها اشتكى لي الليلة، لو كنت أعرف كنت قطعت رقبته!

وأنا أعتدل على السرير وأملأ صدري بالهواء: وما له أبوها؟ رجل مثل كل الناس. ثم إن حبي حب شريف!

ويده تصفع خدي. اخرس! أحبك عقرب!

في تلك الليلة أخذت أبحلق من خلال الدموع إلى اللوحة السوداء. الخطوط الغليظة تتلوى وتتشابك وتقفز من وراء الزجاج لتطبق على عنقي. إلى متى يذلونني ويدوسون على نفسي؟ ثم هل الحب حرام؟ وما ذنبي إذا كانت البنت فوزية أكلت عقلي وهوستني ضفيرتها السوداء ووجهها المسمسم وكلامها الحلو كالملبس؟! ألست أنا أيضًا بشرًا؟ أم أنني لست بشرًا؟!

كانت الصفعة لا تزال تطن كالنحلة على خدي، كحجر ثقيل أُلقي في الماء. ماذا أفعل؟ هل أقف أمام أبي وأرد عليه الكلمة كلمتين؟ مستحيل. هل ألقي عليه خطبةً مما أحفظ عن الكرامة والرجولة والشرف؟ أنا لست طويل اللسان. هل أدافع عن الحب وأستشهد بأحاديثَ للرسول وفيلسوف فرنسي كنت حفظت حكمة له عن ظهر قلب؟ ليس هذا وقته. إذن ماذا أفعل؟ لم يبقَ إلا هذه اللوحة الكريهة. أكسرها؟ أخشى أن يكسر أبي رقبتي. أنزعها من على الحائط وأخفيها؟ سوف يسأل عنها ويُخرِج عفاريته على البيت كله. لم يبقَ إذن — وهذا أضعف الإيمان — إلا أن أخفي حروفها الكئيبة بعيدًا عن عيني. لم يبقَ إلا أن أقلبها على ظهرها فلا أراها؛ إذ كيف أستطيع أن أصبر عليها وأنا لا أطيق الصبر على هذه العيشة؟

يبدو أن المناقشة بين أبي وأمي لم تكن قد انقطعت بخروجهما من حجرة الجلوس التي كنت قد اتخذتها مكانًا للنوم والمذاكرة منذ بدأت استعداداتي الفاشلة للامتحان. بل لقد زادت أصواتهما حدة حتى اخترقت الجدران إليَّ بينما كنت أتقلب على الكنبة، وأحاول أن أبرِّر سبب سقوطي بأسبابٍ عاطفية كنت أعرف كيف أقنع بها نفسي. وعندما انفتح الباب فجأة وجدت أمي تناديني بصوتٍ مختنق بالدموع: قم يا ابني، قم معي. قلت وأنا أقفز على الأرض وقلبي يتوجس خوفًا عليها: حصل خير يا أمي! فصرخت وهي تلتف في ملاءتها: وهل يحصل خير طول ما أنت على ظهر الدنيا؟ قم البس. وضعت قدمي في الحذاء وتشاغلت بارتداء ملابسي لكي أتحاشى النظر إلى وجهها الذي أحسست أن الدموع تغرقه.

قالت أمي: أبوك لا يريد أن نبيت فيها!

قلت متلجلجًا: يعني؟

قالت: على آخر العمر يطردني من بيته. طيب والله ما أنا قاعدة له.

رفعت عيني إليها وتمتمت في خوف: لكن؟

صاحت: لا لكن ولا حاجة. أنا عبدة واشتراني؟

قلت: وأين نذهب يا أمي؟

ارتجف صوتها: على بيت أهلي؟ أم أنا من غير أهل؟

قلت محاولًا أن أهدئها: لكن الدنيا ليل. والناس زمانها …

صاحت في حدة لم أتوقَّعها: قلت لك البس هدومك. وإلا والله أروح لوحدي.

قلت محاولًا الابتسام: كله إلا هذا. وهل أنا مت.

قالت في غضبٍ لم أعهده فيها: يا ليتك مت وأرحتني.

أردت أن أعاتبها فلم يطاوعني لساني، ورحت أضع ذراعي في جيوب الجاكتة.

قالت وهي تشدني من يدي: كله من تحت رأسك. ربنا يريحني منكم!

قلت: اصبري يا أمي. فصرخت والدموع تخنقها: أصبر عليه أو عليك؟ أصبر، أصبر، أصبر! يالله قدامي!

خرج أبي من حجرة النوم ووقف ينظر إلينا في تشفٍّ. قال في صوتٍ سقط على رأسي كالثلج: يالله! خلوني أشم نفسي يومين. يومين يا عالم أستريح من وجوهكم.

قالت أمي وهي تفتح الباب وتنظر إليه في تحدٍّ: إن شاء الله لن ترى وجوهنا. أنا لي أهل يعرفون شغلهم معك.

وتعالت ضحكة أبي من وراء الباب الذي صفعته أمي وراءها فزلزل البيت.

أبدًا لا أنسى مشيتي معها في الليل. يدي تتشبَّث بملاءتها. الدنيا عتمة والفوانيس القليلة مطفأة أو شاحبة. وما من حنطورٍ على مرمى البصر أو السمع. حتى النجوم غطَّت وجوهها تحت أغطية السُّحب. والقمر؟ ألا يحلو له الغياب إلا في هذه الليلة؟ وجسد أمي يرتجف. ورأسي — من الخجل — كأن ألف جردل وقع عليه. ويدها تسحب المنديل من صدرها كل لحظة. وفمي ينفتح ولا يخرج منه كلام.

أبدًا لا أنسى حين ذهبنا إلى بيت جدي. فتحت خالتي فاطمة بعد أن كلَّت يدي من الطرق على الباب: لم تجد الوقت لتتعجب — إن هي إلا ضربة يد على الصدر — ولم تجد أمي الوقت لتشرح وتفيض. الدموع يا أمي تخنقك. الصوت محبوس في الحلق. أين الذي يستطيع أن يخرجه؟!

وجَدي هناك على سريره الذي لم يغادره منذ أصابه الشلل (هل كان ذلك قبل أن أُولد؟ مَن يدري؟) وسعاله يقطع صدره بالسكاكين. وأمي تجيب على سؤاله الذي لم يقله. تبكي وتبكي لترد على تعجبه، لتنفخ الدفء في بروده. ثم صوته يخرج من بين السكاكين كالسيخ المحمي، لا بل كشلال ماء بارد: ليس عندي بنات تبيت بعيدًا عن بيتها.

– لكن يا أبي …

– ليس عندي بنات تبيت بعيدًا عن بيتها.

والصوت يجاهد ليفلت من بين الدموع: لكن هو الذي …

– ولو قطعك بالسكاكين.

– والعمل؟

– ترجعي لبيتك ولأولادك.

– إذا كان طردني من بيته؟

– هو حر في بيته.

– وشتم أهلي ولعن.

وهو يشعل سيجاره ويلتقط نفسًا ويسعل: الرجال لها كلام مع بعض.

– وبنتك؟

– بنتي لا تبيت بعيدًا عن زوجها.

وهي تستنجد: طيب ليلة واحدة لغاية ما يعرف أن الله حق.

وهو يشير إلى الباب الخارجي: ولا ساعة واحدة!

ثم ونحن عائدون: الدنيا عتمة. النجوم خبأت وجوهها عنا. القمر لا يرى الدموع على خد أمي. يدي المتشبثة بطرف ملاءتها تحس برجفة صدرها. الكلام مات. حتى الأفكار ابتلعتها العفاريت. والدنيا ليس فيها راحة.

عندما فتح أبي الباب، لمحت عينيه الواسعتين كجناحي نسر تهبطان على رأس أمي المطرقة. «عدنا يا أبي فوفِّر علينا الكلام. يكفي أن تقول: رجعتم؟»

ويفتح أبي غرفة الجلوس ويقول: تفضل يا بيك! ويرفع عينيه إلى الحائط فيرى اللوحة مقلوبة على ظهرها فيصرخ: من قلب اللوحة! هه؟ من قلب اللوحة؟! فأخلع حذائي وأقف على الكنبة وأسويها وأنا أقول: لا أحد يا أبي. لا بد أنها الريح.

١٩٦٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤