المدام

المدام التي أسكن عندها ضعيفة الذاكرة. لست أدري متى ولا كيف فقدت هذه الحاسة العجيبة التي تربط الإنسان بالزمان والمكان، وتذكِّره دائمًا أنه هو نفسه وليس أحدًا سواه! ولكني سأروي لكم هذه الحادثة التي جرت لي مع «فراو إرنست» ليلةَ استأجرتُ غرفتي عندها بعد وصولي إلى هذا البلد من سفر بعيد. فلم أكد أوقِّع على عقد الإيجار، وأمسح عن وجهي غبار الطريق حتى انطلقت أكتشف هذه المدينة الصغيرة، وأغوص في بحر الثلج المتراكم على شوارعها وحاراتها الضيقة، وأتفرج على مقاهيها وحاناتها التي تفوح برائحة الدخان والبيرة والنبيذ والسجق. وانتهى بي المسير إلى قبوٍ رطبٍ كأنه كهف من الكهوف التي يأوي إليها اللصوص في آخر الليل، تنحدر إليه سلالم خشبية واهية، تؤدي إلى بابٍ يبدو كأنه بوابة سجن مهجور. ولم أكن أدري وأنا أضع قدمي في هذا المكان العجيب أنني سأثير كل هذا الاهتمام؛ فقد خفتت الأصوات فجأة، وتوقفت الملاعق أمام الشفاه، والتفتت العيون الخضراء تتأمل القادم الغريب. على أنني قد اتجهت إلى المشجب متمهلًا فوضعت عليه معطفي المبتل، وسرت مزهوًا إلى إحدى الموائد كأنني اكتشفت فجأة في نفسي شيئًا لم أكن أفطن إليه. وأسرعت الخادمة الجميلة نحوي: ماذا يطلب الهر؟

– قدح من البيرة.

– فاتح أو داكن؟

ولم أكن أعلم أن البيرة ألوان، فأسرعت أقول: كما تريدين.

وتفرست الخادمة في عيني لحظة كأنها تسألهما: من أين؟

كانت الحركة قد دبَّت في جو الحانة منذ قليل، وعادت أصوات البشر والأكواب والملاعق يختلط بعضها ببعض من جديد. وأقبلت الخادمة بعد قليل تحمل صينية عليها زجاجة كبيرة ووجهها يتهلل بالسعادة. وملأت لي الكوب ثم رفعت عينيها إليَّ كأنها تستأذنني، ثم قالت: هل يسمح الهر؟

قلت: تفضلي.

– الهر من أفريقيا؟

قلت: نعم.

– من كينيا، أليس كذلك؟

فضحكت وقلت: وكيف عرفت؟

– الشعر الأسود، العيون السوداء.

قلت: لا، لم تخمني جيدًا.

قالت: يا إلهي! إذن فأنت من الحبشة؟!

قلت: لا، من مصر.

فضربت صدرها بيدها وقالت: آه! إيجبتن! الأهرام وأبو الهول!

قلت: تمامًا.

وامتد بنا الحديث عن التماسيح التي تسبح في النيل، والجِمال التي تركض في شوارع القاهرة، والحريم اللائي يعشن في قصر السلطان. ويبدو أن الحديث كان مسليًا للغاية؛ فسرعان ما اجتذب رواد الحانة. تقدمتْ أولًا سيدة عجوز فاستأذنت في مشاركتنا، ثم أقبل طالب قال إنه يدرس التاريخ القديم بالجامعة، وتَبِعه رجل مبتور الذراع قال إنه كان يحارب مع روميل في الصحراء، حتى أوشك رواد الحانة أن يلتفوا حولي وأنا أطلب كأسًا وراء كأس، وأستعين بكلِّ ما بقي في رأسي مما قاله معلم التاريخ. ومع السَّمر الطويل ينسى الإنسان الزمن. وقد نسيت نفسي والتفت فجأة إلى دقات الساعة وهي تعلن الواحدة. وانتزعت نفسي من الجمْع المتحلق حولي وأنا أعِدُهم بأن أعود مرة أخرى. وسرت أستقبل هواء الليل البارد، وأُهرع نحو كل عابر أجده صدفةً في طريقي لأسأله عن البيت الذي سكنت فيه اليوم لأول مرة. ورحت أترنَّم بأغنيةٍ جاءت على بالي، وأستعيد شعور الزهو الذي يجري مع الدم الحار في عروقي، وأقلِّب كلمات الأغنية وألحانها رأسًا على عقب! ووجدتني أخيرًا أقف أمام الباب، وأطابق الرقم على العنوان المكتوب في ورقة معي. ومددت يدي أدير مقبض الباب، غير أنه لم يُفْتح. إذن فهم يوصدون الأبواب هنا بالمفاتيح. ماذا أفعل يا تُرى والريح باردة. والثلج قد يسقط بين لحظةٍ وأخرى؟ ورحت أبحث بين الأسماء المكتوبة على الباب عن اسم الهر إرنست ووضعت يدي على الجرس. ورن الصوت في البيت كلِّه كأنه إنذار رهيب. لكنَّ أحدًا لا يفتح. إذن فلأضغط عليه مرة أخرى. وانفتحت النافذة في الطابق العلوي، أطلَّ منها رأسٌ رأيت الشعر الأبيض الذي يجلله على ضوء مصباح الطريق: هالو.

– هالو.

– من؟

– أنا يا مدام.

– فيلهلم؟!

– فيلهلم مَن؟

– متى عُدتَ يا حبيبي؟ الآن!

– نعم. الآن فقط، آسف لأنني تأخرت.

– فيلهلم، فيلهلم. فيلهلم عاد يا إرنست. ألم أقل لك؟

استعنت بالكلمات القليلة التي أعرفها من اللغة الألمانية، وقلت: أنا محمود يا مدام!

ولكنها كانت قد اختفت من النافذة، وهبت عليَّ نسمة باردة فارتجفت مفاصلي. ورفعت رأسي إلى السماء فوجدت القمر يختنق بين أكوام السُّحب الداكنة. وعاد الرأس الذي تجلله الشعرات البيض يطل من النافذة: هالو.

قلت: هالو يا مدام!

ورن الصوت الخافت على أرض الشارع: بابا صحا من نومه، سينزل إليك حالًا يا حبيبي.

وأحكمت ياقة المعطف حول رقبتي. وعاد الصوت يقول: فيلهلم. فيلهلم، هل عُدتَ الآن يا حبيبي؟ في قطار الليل؟ لِمَ لمْ ترسل برقيةً لننتظرك على المحطة؟

لم أكد أفهم شيئًا مما تقول. وانطلق الصوت من جديد: كنت أعرف أنك ستعود. قلبي حدثني بهذا. لم ينسك. لن ينسك أبدًا. كل يوم أنتظر أن تعود. كل ليلة إلى جانب النافذة. أنتظر لأسمع يدك وهي تعبث بالمفتاح. أنتظر أن تدخل عليَّ وتقبلني وتقول لي: مساء الخير يا أمي. أنتظر بلا عشاء حتى تأتي في آخر الليل.

قلت في نفسي هي تهرف بشيء لا يعنيني. ربما فاضت بها الذكريات فانطلقت تتحدث عن شيء لا أفهمه. وتجمَّع تعب النهار وسهر الليل فأسندتُ رأسي إلى الحائط. وهبَّت عليَّ نسمة باردة فارتعشت؛ وعاد الصوت يتدفق من جديد بكلامٍ لا أدريه: الدنيا برد يا حبيبي؟ كيف كنت تعيش إذن في سيبريا؟ آه! سيبريا بعيدة. بعيدة في آخر الدنيا. هكذا قال لي أبوك. البرد والليل. الليل والوحدة. وأنت والجنود. وحدكم في الثلج. لِمَ أرسلوك إلى سيبريا؟ ما شأننا نحن وسيبريا؟ اللعنة على البنادق والجنرالات. آه يا فيلهلم! زمن أسود. هذا ما كنت أقوله دائمًا. زمن أسود. وحرب سوداء. وناس قلوبهم سود. فيلهلم، يبدو أنني كنت قد استغرقت في حُلْم مخيف صحوت منه على هذا النداء. فضحكت وقلت: فيلهلم مَن يا مدام؟

– فيلهلم ولدي.

– يا مدام أنا محمود!

– ماذا تقول؟ ألست أنت فيلهلم؟

– لا أنا فيلهلم ولا أعرفه!

– ألم تَعُد الآن من سيبريا؟

– سيبريا؟ أنا عائد من الحانة!

– مستحيل؛ صوتك، وجهك، عودك، أنت فيلهلم، فيلهلم.

– يا مدام أنا محمود، أقسم لك!

– محمود؟! ما هذا؟!

وبدأ الثلج ينهال على رأسي. ونُتَف كأنها حبات من القطن تتعلق بمعطفي: يا مدام الدنيا برد! افتحي الباب!

وسمعتها تنشج وهي تقول: إذن فلست فيلهلم؟

قلت وأنا أهز رأسي: لا والله! اسمي محمود.

صاحت غاضبة: محمود! أنا لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.

قلت: يا مدام أنا الساكن الجديد. حضرت اليوم، واستأجرت الحجرة التي لديك، ودفعت لك خمسين ماركًا.

قالت: أنا لا أذكر شيئًا. ليس عندي سكان.

تصورت حالي إذ قُدِّر لي أن أقضي الليلة أمام الباب في البرد والثلج والظلام فهتفت: يا مدام أنا حضرت اليوم بالنهار الساعة الثانية عشرة. معي حقيبتان، واحدة صغيرة والأخرى كبيرة. سألتني عن اسمي وبلدي وكتبته على ورقة صفراء، قطعت نصفها وكتبت لي عليه عنوان البيت، رقم ٢٥ أليس كذلك؟!

– أنا لا أذكر شيئًا. ومن أي بلد تقول؟

– من إيجبتن.

– آه إيجبتن!

– تمام يا مدام!

– في سيبريا، أليس كذلك؟

– سيبريا؟ لا يا مدام، سيبريا بعيدة جدًّا.

– وأين إيجبتن إذن؟

ووقفت أصوِّر لها خريطة الدنيا في الهواء، أشير بذراعي يمينًا ويسارًا إلى أعلى وإلى أسفل، وأحدِّد لها موقع النيل ينحدر من جبال الحبشة إلى البحر الأبيض، الصحراء على جانبيه من الشرق والغرب. كان البرد يلفح جلدي ويخترق عظامي، وأنا أشير كالبهلوان في كل اتجاه، أنحني وأقف وأمد ذراعي في الهواء والثلج يتساقط على رأسي، ويشتد شيئًا فشيئًا حتى يصير عاصفة رهيبة.

ها أنا ذا في هذا البلد الغريب، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أقف أمام بابٍ لا يريد أن يفتح لي. وأشرح درسًا في الجغرافيا لامرأةٍ ضاعت منها الذاكرة!

قالت المدام بعد أن فرغتُ من شرحي: كلُّ ما قلته يؤكد لي أن «إيجبتن» في سيبريا!

– سيبريا؟!

– نعم، نعم. ابني فيلهلم. فيلهلم ابني الوحيد. لا بد أنك رأيته. ألا تعرفه؟

قلت يائسًا: لا!

قالت: لا بد أنك قابلته في الحرب. كل الشباب ذهب إلى الحرب، لا بد أنك رأيته هناك. هو يشبهك. صورته مثل صورتك، شعره أشقر طويل، طوله ١٧٨ سنتيمترًا، وصدره تسعون. فيلهلم ابنٌ طيب. في الصباح يقول لي صباح الخير يا ماما ويقبلني على جبيني، وفي المساء يقول لي مساء الخير يا ماما ويقبلني على جبيني. وحين لبس بذلة الجندية قال لي سأعود يا ماما، سأعود وأتزوج حبيبتي كلارا. ولكن كلارا تزوجت، مسكين يا فيلهلم! تزوجت من موظف بالبنك؛ لأن النساء تنسى سريعًا. تنسى سريعًا يا فيلهلم!

كنت قد أسلمت أمري لله، وجلست على الرصيف. لممت أطراف معطفي على جسدي، وأحكمت ياقة المعطف حول عنقي، وقلت أستسلم لمصيري وأقضي الليل هنا؛ فأنا لا أعرف هذا البلد، ولو رحت أبحث عن فندق يأويني فلن أجده قبل طلوع الصباح. وكنت قد تهيأت للنوم حين طرق سمعي صوتٌ خشن: هالو! هالو!

والتفت لأجد رأسًا أخرى تطل من النافذة.

– سأنزل حالًا.

وسمعت صرير المفتاح في باب الشقة، وتتابعت بعده ضربات قدمَين تهبطان درجات السُّلم. وانفتح الباب وأطل منه وجه صارم. قلت لا شك أن صاحبه هو الهر إرنست — فلم يكن بالبيت حين أتيت إليه — وفي يده سلسلة طويلة تتدلى منها مفاتيحُ كبيرة كأنها مفاتيح سجَّان: مساء الخير.

قلت: مساء الخير يا سيدي.

– لا تؤاخذنا يا هر. تفضل، تفضل.

وتقدمني على السُّلم وهو يقول: كنت نائمًا. آه! أنا في العادة نومي ثقيل، ثقيل جدًّا، لا تؤاخذنا يا هر. زوجتي قالت إنك سكنت اليوم عندنا، تفضل، تفضل.

دخلت غرفتي وفرحت بالدفء يستقبلني كأنه أمٌّ رحيمة: لا تؤاخذني يا هر. ولكن لا تنسَ المفتاح مرة أخرى، لا تنسَ المفتاح.

قلت: نعم يا سيدي. لا يصح أن أنساه مرة أخرى. لا يصح أبدًا.

١٩٥٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤