عَبْدُ اللهِ البَرِّي وَعَبْدُ اللهِ البَحرِّي

(١) عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ

كانَ «عبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» رَجُلًا فَقِيرًا جِدًّا. وَكانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلادٍ يَسْعَى — كُلَّ يَوْمٍ — لِلْحُصُولِ عَلَى قُوتِهِمْ. وَلَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَيْرَ شَبَكَتِهِ الَّتِي يَصْطادُ بِها السَّمَكَ مِنَ البَحْرِ وَيَبِيعُهُ ثُمَّ يَشْتَرِي — بِثَمَنِهِ — ما يَقْتَاتُ بِهِ هُوَ وَأَوْلادُهُ العَشَرَةُ وَزَوْجُهُ الفَقِيرَةُ.

وَما زالَ كذلِكَ حَتَّى مَاتَتْ زَوْجُهُ؛ فَحَزِنَ لِمَوْتِها أَشَدَّ الحُزْنِ. ولكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الحُزْنَ لا يَنْفَعُ، فَأَسْلَمَ أَمْرَهُ للهِ، وَصَبَرَ عَلَى قضائِهِ، ورَضِيَ بِما قَسَمَهُ لَهُ.

•••

وَذَهَبَ — فِي اليوْمِ الثَّانِي — مُبَكِّرًا إلَى البَحْرِ، بَعْدَ أَنْ أَوْصَى ابْنَتَهُ «أَمِينَةَ» بِإخْوَتِها. وَكانَتْ «أَمِينَةُ» بِنْتًا مُؤَدَّبَةً ذَكِيَّةً، فَعُنِيَتْ بِإِخْوَتِها خَيْرَ عِنايَةٍ.

وَقَدْ أَصْبَحَتْ لَهُمْ — بَعْدَ مَوْتِ أُمِّها — والِدَةً ثانِيَةً، تَغْمُرُهُمْ بِعَطْفِها وَحَنانِها، وَتُؤَسِّيهِمْ، وَتَسْهَرُ عَلَى خِدْمَتِهِمْ، وَتَقُومُ بِكُلِّ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ.

(٢) عَلَى شاطِئِ الْبَحْرِ

وَلَمَّا وَصَلَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» إِلَى شاطِئِ الْبَحْرِ، أَلْقَى شَبَكَتَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَخْرَجَها، فلَمْ يَرَ فِيها شَيْئًا مِنَ السَّمَكِ. فَأَلْقاها فِي البَحْر — مَرَّةً ثانِيَةً — ثُمَّ أَخْرَجَها؛ فَلَمْ يَجِدْ فِيها سَمَكَةً مَّا. ثُمَّ أَلْقاها مَرَّةً ثالِثَةً. وَصَبَرَ عَلَيْها قَلِيلًا. وَلَمَّا جَذَبَها وَجَدها ثَقِيلَةً؛ فَفَرِحَ بذلِكَ، وَظَنَّ أَنَّها مَمْلُوءَةٌ بِالسَّمَكِ. وَلكِنَّ فَرَحَهُ لَمْ يَطُلْ، فَقَدْ وَجَدَها — بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَها مِنَ البَحْرِ — مَمْلُوءَةً بالرَّمْلِ وَالحَشَائِشِ وَالوَحَلِ فَرَمَى ما فِيها، وَنَظَّفَها وَغَسَلها، ثُمَّ أَلْقاها مَرَّةً أُخْرَى — وَهُوَ يَرْجُو أَن تَصْطادَ شَيئًا مِنَ السَّمَكِ وَصَبَرَ عَلَيْها مُدَّةً طَوِيلَةً، وَجَذَبَها، فَرَآها ثَقِيلَةً جِدًّا.

فَفِرِحَ بذلِكَ، وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «لا شَكَّ فِي أَنَّ شَبَكَتِي قَدِ امْتَلأَتْ سَمَكًا فِي هذِهِ المَرَّةِ.» ثُمَّ جَذَبَها — بِكُلِّ قُوَّتِهِ — حَتَّى أخْرَجَها بَعْدَ عَناءٍ شَدِيدٍ. فَرَأَى فِيها جَرَّةً مَمْلُوءَةً بِالطِّينِ وَالْحَصَى.

فَحَزِنَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» أَشَدَّ الحُزْنِ، وَتَألَّمَ لِسُوءِ بَخْتِهِ. وقالَ فِي نفْسِهِ: «إنَّ الفَرَجَ يَأْتِي بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَلا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ. فَإِنَّ اللهَ — سُبْحَانَهُ — لَنْ يَتْرُكَنِي وَأَوْلادِي بِلا قُوتٍ، فِي هذا اليَوْمِ الذِي لَمْ أَرَ لَهُ شَبِيهًا طُولَ عُمْرِي».

ثُمَّ رَمَى الجَرَّةَ، وَنَظَّفَ شَبَكَتَهُ وغَسَلَها، وذَهَبَ بِها إلَى مَكانٍ آخَرَ وَأَلْقاها فِي البَحْرِ، فَلَمْ تَصْطَدْ شَيْئًا.

وَما زالَ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَكانٍ إلَى آخَرَ، ويُلْقِي شَبَكَتَهُ — مِنْ غَيْرِ فائِدَةٍ — حَتَّى جاءَ وقْتُ المَساءِ، ولَمْ يصْطَدْ سَمَكَةً واحِدَةً. فَرَجَعَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» أدْراجَهُ إلَى البَيْتِ، وَهُوَ مُتَأَلِّمٌ مَحْزُونٌ لِما لَقِيَهُ فِي ذلِكَ اليَوْمِ المَنْحُوسِ.

(٣) عَبْدُ اللهِ الخَبَّازُ

وَما زالَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» سائِرًا فِي طَرِيقِهِ — وَهُوَ مُتَأَلِّمٌ مَحْزُونٌ — يُفَكِّرُ فِي أَوْلادِهِ العَشَرَةِ الَّذِينَ تَرَكَهُمْ فِي البَيْتِ مِنَ الصَّباحِ — بِلا طَعامٍ — حَتَّى وَصَلَ إلَى دُكَّانِ خَبَّازٍ غَنِيٍّ مَعْرُوفٍ، اسْمُهُ: «عَبْدُ اللهِ الخَبَّازُ» فَرأَى النَّاسَ مُزْدَحِمِينَ عَلَى دُكَّانِهِ لِشِراءِ الخُبْزِ. وَرَأَى «عَبْدَ اللهِ الخَبَّازَ»، مَشْغُولًا بِالبَيْعِ.

وكانَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» جائِعًا لَمْ يَذُقْ طَعامًا فِي نَهارِهِ. فلَمَّا رَأَى الخُبْزَ أَمامَهُ — وَهُوَ خارِجٌ مِنَ الفُرْنِ — اشْتَهَتْهُ نَفْسُهُ، وَذَكَرَ أَوْلادَهُ العَشَرَةَ الجائِعينَ، فَتَحَسَّرَ لِفَقْرِهِ وعَجْزِهِ عَنْ شِراءِ ما يَقْتَاتُونَ بِهِ. ولكِنَّهُ صَبَرَ عَلَى قضاءِ اللهِ، وعَلِمَ أَنَّ رِزْقَهُ لا بُدَّ آتِيهِ.

وكانَ «عَبْدُ اللهِ الخَبَّازُ» صاحِبُ هذا الفُرْنِ رَجُلًا مُحْسِنًا كَرِيمًا مُحِبًّا لِلْخَيْرِ. فَلَمَّا رَأَى «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادَ» واقِفًا أَمامَ دُكَّانِهِ، مَحْزُونًا مُتَأَلِّمًا، يَنْظُرُ إِلَى الخُبْزِ بِلَهْفَةٍ وحَسْرَةٍ، عَرَفَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتاجٌ جائِعٌ، وأَدْرَكَ أَنَّ نَفْسَهُ تشْتَهِي الخُبْزَ، ويمْنَعُهُ الخَجَلُ والحَياءُ مِن السُّؤَالِ. فَناداهُ بِرِفْقٍ وهُو يَبْتَسِمُ لَهُ: «مَرْحَبًا بِكَ أَيُّها الصَّيَّادُ، تَعالَ إلَيَّ أَيُّها الرَّفِيقُ العَزِيزُ، هَلُمَّ يا صاحِبِي، فَخُذْ ما تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنَ الخُبْزِ.»

فَسَكَتَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ»، وظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَماراتُ الارْتِباكِ والخَجَلِ. ولَمْ يَجْرُؤْ عَلَى طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الخُبْزِ، لأَنَّهُ كانَ — عَلَى فَقْرِهِ — عَزِيزَ النَّفْسِ، ولَمْ يَتَعَوَّدِ المَسْأَلَةَ فِي حَياتِهِ قَطُّ. فَقالَ لَهُ «عَبْدُ اللهِ الخَبَّازُ»، وقَدْ أَدْرَكَ ما يَجُولُ فِي نَفْسِهِ: «لا تَخْجَلْ يا صاحِبي، فَلَن أُطالِبَكَ الآنَ بِثَمَنِ ما تَأْخُذُهُ مِنَ الخُبْزِ.»

فَتَشَجَّعَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» قَلِيلًا، وقالَ لَهُ: «الحَقُّ يا سَيِّدِي أَنَّنِي خَجِلٌ مِنْكَ. فَلَيْسَ مَعِي نُقُودٌ أَشْتَرِي بِها ما أَحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ الخُبْزِ فِي هذا اليَوْمِ. فَإذا شِئْتَ أَعْطَيتُكَ شَبَكَتِي، لِتَكُونَ رَهْنًا عِنْدَكَ بِما آخُذُهُ مِنَ الخُبْزِ لأَطْفالِيَ العَشَرَةِ الصِّغارِ، الَّذِينَ تَرَكْتُهُمْ مِنَ الصَّباحِ بِلا طَعامٍ، حَتَّى يُيَسِّرَ لِيَ اللهُ، فَأُعْطِيَكَ ثمَنَ ما أَخَذْتُهُ مِنَ الخُبْز.»

فَزادَ عَطْفُ الخَبَّازِ وَتَأَثُّرُهُ، فَقالَ لَهُ مُترَفِّقًا مُبْتَسِمًا: «وَمِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ عَلَى الْمالِ، إذا أَخَذْتُ مِنْكَ شَبَكَتكَ الَّتِي تَصْطادُ بِها؟ كلَّا، لا تُقْلِقْ بالَكَ يا صاحِبِي بِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ، وَتَعالَ فَخُذْ ما تَشاءُ مِنَ الخُبْزِ، ثُمَّ أَحْضِرْ لِي بِثَمَنِهِ سَمَكًا — مِمَّا تَصْطادُ — مَتَى يَسَّرَ اللهُ لكَ.»

وَلَمَّا رَأَى الخَبَّازُ تَرَدُّدَ الصَّيَّادِ وَارْتِباكَهُ وحَياءَهُ أَعْطاهُ ما يَكْفِيهِ — هُوَ وَأوْلادَهُ العَشَرَةَ — مِنَ الخُبْزِ، وقالَ لَهُ: «خُذْ هذِهِ النُّقُودَ — يا صاحِبِي — فَاشْتَرِ بِها لأَوْلادِكَ العَشَرَةِ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ والفاكِهَةِ والحَلْوَاء.» فَشَكَرَهُ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» عَلَى كَرَمِهِ ومُرُوءَتِهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَعْطاهُ لَهُ. وانْصَرَفَ وَهُوَ فَرْحانٌ، واشْتَرَى لأَوْلادِهِ أَطْيَبَ المَآكِلِ. وَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ، وَقَدْ تَبَدَّلَ يَأْسُهُ أَمَلًا وَحُزْنُهُ سُرُورًا.

(٤) أيَّامُ النَّحْسِ

وفِي اليَوْمِ التَّالِي، ذَهَبَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» إلَى البَحْرِ. وظَلَّ يُلْقِي شَبَكَتَهُ فِيهِ، ثُم يُخْرِجُها، فَلا يَجِدُ فِيها شَيْئًا مِنَ السَّمَكِ. وَمَا زَالَ كَذلِكَ حَتَّى خَيَّمَ اللَّيْلُ، فَارْتَدَّ راجِعًا إلى بَيْتِهِ. ولَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ دُكَّانِ «عَبْدُ اللهِ الخَبَّازِ»، أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ حَتَّى لا يَراهُ. ولكِنَّ الخَبَّازَ رَآهُ، وَهُوَ يُسْرِعُ فِي خُطاهُ، فَأَدْرَكَ أَنَّ خَجَلَهُ وَحَياءَهُ يَمْنَعانِهِ مِنْ طَلَبِ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنَ الخُبْزِ والمالِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ. فَناداهُ: «تَعالَ يا صاحِبِي الصَّيَّادَ، فَقَدْ نَسِيتَ أَنْ تَأْخُذَ الخُبْزَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ.» فَعَادَ إلَيْهِ الصَّيَّادُ وهُوَ مُرْتَبِكٌ، وقالَ لَهُ، والخَجَلُ ظاهِرٌ عَلَى وَجْهِهِ: «كَلَّا، لَمْ أَنْسَ شَيْئًا يا سَيِّدِي، ولكِنَّ الخَجَلَ قَدْ مَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ، لأَنَّنِي لَمْ أَصْطَدْ شَيْئًا مِنَ السَّمَكِ فِي هذا اليَوْمِ وَلِهذا لَمْ أُعْطِكَ ما اقْتَرَضْتُهُ مِنَ المالِ، وَلا ثَمَنَ ما أَخَذْتُهُ مِنَ الخُبْزِ».

figure

فَقَالَ لهُ الخَبَّازُ، مُتَرَفِّقًا مُبْتَسِمًا: «لا تُقْلِقْ بالَكَ يا أَخِي، فَإِنِّي لَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا — مِنَ المالِ أَوِ السَّمَكِ — إلَّا إذَا تَبَدَّلَ عُسْرُكَ يُسْرًا، وإِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللهِ أَلَّا تَخْجَلَ مِنْ طَلَبِ كُلِّ ما تحْتاجُ إلَيْهِ مِنِّي. ثُمّ أَعْطاهُ — مِنَ الخُبْزِ والمالِ — مِثْلَ ما أَعْطاهُ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ، فَأَخَذَهُ الصَّيَّادُ شاكِرًا واشْترَى لأَوْلادِهِ شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ والحَلْوَاءِ والفاكِهَةِ. وظَلَّ الصَّيَّادُ — فِي كُلِّ يَوْمٍ — يَذْهَبُ إلَى البَحْرِ ويُلْقِي فِيهِ شَبَكَتَهُ طُولَ النَّهارِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْطَادَ شَيْئًا. فيَذْهَبُ لَيْلًا إلَى دُكَّانِ الخَبّازِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنَ الخُبْزِ والْمالِ، ويَشْتَرِي لِأوْلادِهِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ. وَما زالَ كَذلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

(٥) بَيْنَ الصَّيَّادِ وَابْنَتِهِ

فَلَمَّا جاءَ اليَوْمُ الحادِي والأَرْبَعُونَ، جَلَسَ الصَّيَّادُ يُفَكِّرُ فِيما لَقِيَهُ مِنَ الكَسادِ. فَحَزِنَ وتَأَلَّمَ، ثمَّ بَكَى مِنْ شِدَّةِ الحُزْنِ والأَلَمِ. فَسَأَلَتْهُ ابْنَتُهُ «أَمِينَةُ» وهِيَ مَحْزُونَةٌ لِحُزْنِهِ: «مِمَّ تَبْكِي يا أَبَتِ؟» فَقَصَّ عَلَيْها قِصَّتَهُ كُلَّها. فقالَتْ لَهُ: «وَهَلْ أَظْهَرَ لَكَ الخَبَّازُ شَيْئًا مِنَ النُّفُورِ أَوِ الإِعْراضِ؟ وهَلْ آذاكَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ يا أَبَتِ؟» فَقالَ لَها الصَّيَّادُ: «كَلَّا يا بِنْتِيَ العَزِيزَةَ، بَلْ هُوَ — عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذلِكِ — يَهَشُّ لِي كُلَّما رَآنِي، ويَبْتَسِمُ مُتَرَفِّقًا عَلَيَّ. ولكِنَّنِي خَجِلٌ جِدًّا لأَنَّنِي لَمْ أُعْطِهِ شَيْئًا مِمَّا اقْتَرَضْتُهُ مِنْهُ. وقَدْ مَرَّ بِي أَرْبَعُونَ يَوْمًا لَمْ أَصْطَدْ فِيها سَمَكَةً واحِدَةً أُهْدِيها إلى هذا الخَبَّازِ المُحْسِنِ الَّذي غَمَرَنِي بِكَرَمِهِ. ولَقَدْ هَمَمْتُ مِرارًا بَتقْطِيعِ شَبَكَتي ورَمْيِها حَتَّى لا أُتْعِبَ نَفْسِي بِها كُلَّ يَوْمٍ عَلَى غَيْرِ جَدْوَى.» فَقالَتْ لَهُ: «عَلَى الإِنسانِ أَنْ يَسْعَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إدْراكُ النَّجاحِ، وَلا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى قَضاءِ اللهِ. وَيَجِبُ عَلَيْكَ — يا أَبَتِ — أَنْ تَحْمَدَ اللهَ عَلَى لُطْفِهِ بِكَ، فَقَدْ عَطَفَ عَلَيْكَ قَلْبَ هذا الخَبَّازِ المُحْسِنِ فِي أَيَّامِ الضِّيقِ. وَلا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ اليُسْرُ بَعْدَ العُسْرِ، والفَرَجُ بَعْدَ الضِّيقِ.

figure

وَمَنْ يَدْرِي؟ فَلَعَلَّ هذا اليَوْمَ يَكُونُ خاتِمَةَ أَيَّامِ النَّحْسِ، وَفاتِحَةَ أَيَّامِ اليُسْرِ والفَرَجِ.»

(٦) جُثَّةُ الحِمارِ

فخَرَجَ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» مِنْ بَيْتِهِ، وَهُوَ مُسْتَبْشِرٌ بِما قالَتْهُ ابْنَتُهُ لَهُ. وَلمَّا وصَلَ إلى البَحْرِ، أَلْقَى شَبَكَتَهُ فِيهِ، وصَبَرَ عَلَيْها قَلِيلًا، ثُمَّ جَذَبَها، فَوَجَدَها ثَقِيلَةً جِدًّا. فَقالَ فِي نَفْسِه: «لا شَكَّ أَنَّ أيَّامَ النَّحْسِ قَدِ انْقَضَتْ، وَجاءَ وَقْتُ الفَرَجِ.» ثُمَّ جَذَبَ الشَّبَكَةَ بِقُوَّةٍ حَتَّى أَخْرَجَها — بَعْدَ تَعَبٍ شَدِيدٍ — فَوَجَدَ جُثَّةَ حِمارٍ مَيِّتٍ. فَانْقَلَبَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ حُزْنًا وَغَمًّا، وقالَ فِي نَفْسِهِ: «لَقَدْ كُتِبَ عَلَيَّ الشَّقاءُ وَالنَّحْسُ. وَما أَحْسَبُنِي أَصْطادُ شَيْئًا بَعْدَ اليَوْمِ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ البُؤْسِ وَأَوَّلُ أَيَّامِ الفَرَجِ، فإذا بِهِ أَشَدُّ الأَيَّامِ نَحْسًا. فَإنَّنِي لَمْ أَصْطَدْ — فِي حَيَاتِي كُلِّها مِثْلَ هذا الحِمارِ المَيِّتِ، الذِي كادَتْ تُهْلِكُنِي رائِحَتُهُ الكَرِيهَةُ.»

وَهَمَّ بِتَقْطِيعِ شَبَكَتِهِ وَرَمْيِهِا، والرُّجُوعِ إلى بَيْتِهِ يائِسًا مِنْ كُلِّ خَيْرِ. وَلكِنَّهُ ذَكَرَ نَصِيحَةَ ابْنَتِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الشِّتاءَ — إذا اشْتَدَّ بَرْدُهُ القارِسُ — جاءَ بَعْدَهُ الرَّبِيعُ البَهِيجُ، وَأَنَّ الصَّيْفَ — إذا اشْتَدَّ حَرُّهُ اللَّافِحُ — جاءَ بَعْدَهُ الخَرِيفُ الجَمِيلُ، وَأَنَّ البُؤْسَ — إذا اشْتَدَّ ضِيقُهُ وَاسْتَحْكَمَ — أَعْقَبَهُ الفَرَجُ. فَصَبَرَ عَلَى قَضاءِ اللهِ، وَأخْرَجَ منْ شَبَكَتِهِ جُثَّةَ الحِمارِ المَيِّتِ وَرَماها. ثُمَّ نَظَّفَ الشَّبَكَةَ وَذَهَبَ بِها إلى مَكانٍ آخَرَ مِنَ البَحْرِ يَتَلَمَّسُ رِزْقَهُ فِيهِ.

(٧) عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ

ثُمَّ أَلْقَى الصَّيَّادُ شَبَكَتَهُ فِي البَحْرِ، بَعْدَ أَنْ دَعا اللهَ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ. وَصَبَرَ عَلَيْها مُدَّةَ طَوِيلَةً، ثُمّ جَذَبَها فَرَآها ثَقِيلَةً جِدًّا. فَظَلَّ يَجْذِبُها بِكُلِّ قُوَّتِهِ، حَتَّى أَخْرَجَها. فَوَجَدَ فِيها رَجُلًا عَجِيبَ الخِلْقَةِ، غَرِيبَ الشَّكْلِ، جِسْمُهُ جِسْمُ إنْسانٍ، وَلَهُ ذَيْلٌ طَوِيلٌ كَذَيْلِ السَّمَكِ. فَخافَ الصَّيَّادُ عَلَى نَفْسِه، وَظَنَّهُ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ، فَصَرَخَ مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ وَالرُّعْبِ، وَأَرَادَ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ. وَلَكِنَّ ذلِكَ الرَّجُلَ ناداهُ مُتَلَطِّفًا، وَقالَ لَهُ بِكَلامٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ: «لا تَخَفْ عَلَى نَفْسِكَ مِنِّي يا صاحِبِي، فَأَنا إنْسانٌ مِثْلُكَ، وَلَسْتُ عِفْرِيتًا كَما تَظُنُّ. وَأَنا أَعْبُدُ اللهَ كَما تَعْبُدُهُ. وَإنَّما أَنْتَ إنْسانٌ بَرِّيٌّ: تَعِيشُ فِي البَرِّ، وَأَنا إنْسانٌ بَحْرِيٌّ: أَعِيشُ فِي البَحْرِ.»

فاطْمَأَنَّ الصَّيَّادُ حِينَ سَمِعَ كَلامَهُ، وَزالَ عَنْهُ الخَوْفُ.

(٨) الفَرَجُ بَعْدَ الضِّيقِ

ثُمَّ سَأَلَهُ «عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ» عَنِ اسْمِهِ، فَقالَ لَهُ: «اسْمِي عبدُ اللهِ البَحْرِيُّ. فَما اسْمُكَ أَنْتَ؟» فقالَ لَهُ: «اسْمِي عَبْدُ اللهِ الصَّيَّادُ.» فَقالَ لَهُ: «أَنْتَ تَعِيشُ فِي البَرِّ، فَأَنا أُسَمِّيكَ مِنَ اليَوْمِ: «عَبْدَ اللهِ البَرِّيَّ». وَسَنَكُونُ صَدِيقَيْنِ — مِنْ هذا اليَوْمِ ونَحْلِفُ عَلَى الوَفاء جَميعًا، ونَلْتَقِي فِي صَباحِ كُلِّ يَوْمٍ. فَتُحْضِرُ لِي أَنْتَ ما تَخْتارُهُ مِنْ فَواكِهِ البَرِّ، وأُعْطِيكَ ما تُحِبُّهُ مِنْ كُنُوزِ البَحْرِ.»

فَفَرِحَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» بِذلِكَ، وأَعَادَهُ إلى البَحْرِ. فَغابَ عَنْهُ مُدَّةً قَلِيلةً ولَمْ يَعُدْ. فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «لَقَدْ خَدَعَني هذا الرَّجُلُ. ولَوْ أَخَذْتُهُ مَعِي وَعرَضْتُهُ فِي السُّوقِ، لَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ هَيْئَتِهِ الغَرِيبَةِ. فَجَمَعْتُ مِنْهُمْ مالًا كَثِيرًا. وبَيْنا هُوَ يَتَأسَّفُ عَلَى ضَياعِ هذهِ الفُرْصَةِ النَّادِرَةِ، إذْ خَرَجَ إلَيْهِ «عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ» وَيَداهُ مَمْلُوءَتانِ بِالياقُوتِ والزُّمُرُّدِ والمَرْجانِ. فَفِرحَ بِذلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَرَفَ صِدْقَهُ فِيما قالَ. ثُمَّ وَدَّعَهُ، بَعْدَ أَنْ وَعَدَهُ بِإِحْضارِ سَلَّةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالفَاكِهَةِ فِي اليَوْمِ التَّالِي فَقالَ لَهُ «عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ»: «إذا لَمْ تَجِدْنِي، فَنادِنِي بِاسْمِي، لأَخْرُجَ إلَيْكَ تَوًّا.»

وَانْصَرَفَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» وَهُوَ فَرْحانٌ بِما نالَ مِنْ ثَرْوَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَكُنْ يَحْلُمُ بِها طُولَ عُمْرِهِ.

(٩) وَفاءُ الدَّيْنِ

وَلَمْ يَنْسَ فَضْلَ صَدِيقِهِ الخَبَّاز عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ إلَى دُكَّانِه، وَناداهُ. وَقَسَمَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الخَبَّازِ ما مَعَهُ مِنَ الَّلآلِئِ بِالسَّوِيَّةِ. فَفَرِحَ الخَبَّازُ بِهذهِ الثَّرْوَةِ العَظِيمَةِ أَشَدَّ الفَرَحِ، وَشَكَرَهُ عَلى وَفائِه، وَحَمَلَ إلى بَيْتِه كُلَّ ما فِي دُكَّانِه مِنَ الخُبْزِ، وَأَعْطاهُ كُلَّ ما عِنْدَهُ مِنَ النُّقُودِ. وذَهَبَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» إلى السُّوقِ فاشْتَرَى مِنْ أَطايِبِ الْمَآكِل وَالْفاكِهَةِ وَالحَلْوَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَعادَ إلى أَوْلادِهِ وَهُو مُبْتَهِجٌ.

وَفَرِحَتْ «أَمِينَةُ» وَإخْوَتُها بِما نالَهُ أَبُوهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ.

(١٠) بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ

وَذَهَبَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» صَباحَ اليَوْمِ التَّالِي إِلى صَدِيقِهِ «عَبْدِ اللهِ البَحْرِيِّ» وعَلى رَأْسِهِ مِشَنَّةٌ مَمْلُوءَةٌ بِأَطْيَبِ الفَاكِهَةِ

ولَمَّا وصَلَ إلى البَحْرِ نادَى: «يا عَبْدَ اللهِ البَحْرِيَّ».

فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وسَلَّمَ عَلَيْهِ، وأَخَذَ مِنْهُ ما أَحْضَرَهُ مِنَ الفاكِهَةِ. وَمَلأَ لَهُ السَّلَّةَ مِنْ كنُوزِ البَحْرِ وَنَفائِسِه، فَذَهَبَ بِها إلى البَيْتِ، وأَخَذَ مِنْها بَعْضَ اللَّآلِئِ لِيَبِيعَها فِي السُّوقِ. فلمَّا رَأَى الجَوْهَرِيُّ ما مَعهُ، ظَنَّ أَنَّهُ سارِقٌ، فَنَادى رجالَ الشُّرْطَةِ لِيَقْبِضُوا عَلَيْهِ. وذَهَبُوا بِهِ إلى المَلِكِ، بَعْدِ أنْ أَهانُوهُ وضَرَبُوهُ. فَسأَلَهُ المَلِكُ مُتَعَجِّبًا: «مِنْ أَيْنَ أَحْضَرْتَ هذِه النَّفائِسَ؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ كُلَّها. فَأَسَّاهُ المَلِكُ، ووَبَّخَ الْجَوْهَرِىَّ ورجالَ الشُّرْطَةِ، وَعاقَبَهُمْ على فِعْلِهِم. ورَأى ما أَعْجَبَهُ مِنْ حُسْنِ أَدَبِهِ ووَفْرَةِ عَقْلِهِ، فَقالَ لَهُ: «إِنَّ المالَ — يا وَلَدِي — يَحْتاجُ إلى الجاهِ لِيَحْمِيَهُ مِنْ أَذَى السُّفَهاءِ والأَشْرارِ. وسَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وَأَجْعَلُكَ وَزِيرِي، فَلا يَجْرُؤُ أَحَدٌ على إِيذَائِكَ، بَعْدَ اليَوْمِ.»

(١١) وَفاءُ الصَّدِيقَيْنِ

وأَصْبَحُ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ وَزِيرَ المَلِكِ وَصِهْرَهُ، وَنَقَلَ أَوْلادَهُ إِلى القَصْرِ مُعَزَّزِينَ مُكَرَّمِينَ.

وَلكِنَّهُ لَمْ يَنْسَ صَديقَهُ «عَبْدَ اللهِ الخَبَّازَ»، الَّذي آساهُ فِي أَيَّام مِحْنَتِهِ. فَذَهَبَ إلى مَخْبَزِهِ، فَرَآهُ مُغْلَقًا. فَسَأَلَ النَّاسَ عَنْ بَيْتِه حَتَّى اهْتَدَى إِلَيْه، وعَلِمَ أَنَّهُ مَرِيضٌ فَناداهُ. فَلَمَّا سَمِع الخَبَّازُ نِدَاءَهُ أَسْرَعَ إلَيْهِ وَعانَقَهُ، وهُوَ فَرْحَانٌ بِقُدُومِهِ. فَسَأَلَهُ: «لِماذا أَغْلَقْتَ دُكَّانَكَ؟» فقالَ لَهُ: «عَلِمْتُ ما لَحِقَ بِكَ مِنَ الإِهانَةِ؛ فَتَأَلَّمْتُ لِذلِكَ أَشَدَّ الأَلَمِ، ومَرِضْتُ بِسَبَبِ حُزْنِي عَلَيْكَ.» فَشَكَرَهُ عَلى وَفائِهِ، وقَصَّ عَلَيْهِ ما حَدَثَ لَهُ، وزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ «أَمِينَةَ»، وقَدَّمَهُ إلى المَلِكِ، وذَكَرَ لَهُ وَفاءَهُ وفَضْلَهُ عَلَيْهِ.

فَأُعْجِبَ المَلِكُ بِوَفائِهما إعْجابًا شَدِيدًا، وجَعَلَ «عَبْدَ اللهِ الخَبَّازَ» وَزيرًا مَعَ صِهْرِهِ «عَبْدِ اللهِ البَرِّيِّ».

(١٢) عَجائِبُ البَحْرِ

وكانَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» يَذْهَبُ — كُلَّ صَباحٍ — إلى صَدِيقِهِ «البَحْرِيِّ» بِمِشَنَّةٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْفَاكِهَةِ، ويَعُودُ بِها مَمْلُوءَةً بِالأحْجارِ الكَرِيمَةِ. وَفِي ذاتِ يَوْمٍ جَلَسا يَتَحَدَّثانِ، فَدَعا البَحْرِيُّ صَدِيقَهُ البَرِّيَّ لِيُرِيَهُ عَجائِبَ البَحْرِ. فَخَلَعَ مَلابِسَهُ، ودَهَنَ جِسْمَهُ بِمَرْهَمٍ عَجِيبٍ أَحْضَرَهُ لَهُ، حَتَّى لا يُؤْذِيَهُ الماءُ. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُ فِي قَرارِ البَحْرِ. ورَأَى ما يَحْوِيهِ البَحْرُ مِنْ كُنُوزٍ، ومِنْ سَمكٍ مُخْتَلِفِ الأَنْواعِ والأَلْوانِ، مِنْهُ ما يُشْبِهُ — فِي خِلْقَتِهِ — الجامُوسَ والبَقَرَ، ومِنْهُ ما يُشْبِهُ الكِلابَ، ومِنْهُ ما يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْتَلِعَ الجَمَلَ أَوِ الْفِيلَ، ولكِنَّهُ يَنْفُرُ مِنَ الإِنْسانِ، ويَهْرُبُ منْهُ إذا رَآهُ. وكانَ يَرى — كُلَّ يَوْمٍ — عَجائِبَ وغَرائِبَ لا تُوصَفُ.

figure

(١٣) كِذْبَةُ «البَرِّيِّ»

وكانَ يأْكُلُ — كمَا يأْكُلُ صَدِيقُهُ «عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ» — سَمَكًا، نَيِّئًا، فَسَئِمَتْ نَفْسُهُ ذلِكَ الطَّعامَ، وأَرادَ الرُّجُوعَ إلى البَرِّ. فَذَهَبَ بِصَدِيقِهِ إِلَى بَيْتِهِ — وهُوَ كَهْفٌ فِي قَرارِ البَحْرِ — وأَراهُ أَوْلادَهُ وهُمْ يُشْبِهُونَهُ فِي الخِلْقَةِ.

فَعَجِبَ مِنْ أَذْنابِهِمْ، وعَجِبُوا مِنْهُ إذْ رَأَوْهُ بِلا ذَنَبٍ. وسَألُوا أَباهُمْ: «مَنْ هذا الأَبْتَرُ؟» فَقالَ لَهُمْ: «إِنَّ سُكَّانَ البَرِّ لَيْسَ لَهُمْ أَذْنابٌ.» فَعَجِبُوا مِنْ ذلِكَ. وبَيْنَا هُمْ جالِسُونَ، إِذْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ أَحَدِ جِيرانِ «عَبْدِ اللهِ البَحْرِيِّ»، يَعْرِضُ عَلَى ضَيْفِهِ أَنْ يزُورَهُ فِي بَيْتِهِ. فَقالَ البَرِّيُّ لِلْبَحْرِيِّ: «لَقَدْ سَئِمَتْ نَفْسِيَ البَقاءَ فِي البَحْرِ، وَلا أُريدُ الذَّهابَ إلى جارِكَ، فَقُلْ لِرَسُولِهِ: إِنَّنِي قَدْ عُدْتُ إلَى البَرِّ أَمْسِ.» فَصاحَ «عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ» غَاضِبًا: «أَنْتَ تَكْذِبُ، وتريد مِنِّي أَنْ أَكْذِبَ؟ إنَّ الرَّجُلَ الّذِي يكْذِبُ لا وَفاءَ لَهُ، ولَنْ أُصاحِبَكَ بَعْدَ اليَوْمِ.»

وَصاحَ أَوْلادُهُ: «هذا عَجِيبٌ! هذا رَجُلٌ يَكْذِبُ، ومَا سَمِعْنا طُولَ عُمْرِنا أَنَّ رَجُلًا يَكْذِبُ.»

فَخَجِلَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» أَشَدَّ الخَجَلِ، وَعادَ بِهِ «عَبْدُ اللهِ البَحْرِيُّ» إلى الْبَرِّ، ولَمْ يخْرُجْ إلَيْهِ بَعْدَ ذلِكَ اليَوْمِ.

خاتِمَةُ القِصَّةِ

عادَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» إلى بَيْتِهِ، فَسَأَلَهُ المَلِكُ عَنْ سَبَبِ غَيْبَتِهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ كُلَّ ما حَدَثَ، فَعَجِبَ منْ قَوْلِهِ أَشَدَّ العَجَبِ.

ثُمَّ عاشَ «عَبْدُ اللهِ البَرِّيُّ» مَعَ زَوْجِهِ وأَوْلادِهِ مَسْرُورِينَ، ولكِنَّهُ لَمْ يَنْسَ كِذْبَتَهُ.

و كانَ يَخْجَلُ كُلَّما ذَكَرَها أَشَدَّ الخَجَلِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤