الفصل الخامس

كانط والقانون الأخلاقي

رأينا أن أنصار مذهب الخير في القرن الثامن عشر كانوا مؤيدين لفكرة الحب مع إدراك قوي بأوجه قصورها؛ فالعواطف شأنها شأن الذاكرة تَفْتُر كلما ابتعدت أكثر عن الشيء الذي يُحركها. وعلى أيِّ حال فإن العاطفة في الأنظمة الاجتماعية التي تسودها المصلحة الشخصية في شُح مزمن. ولا يعني هذا أن العواطف لا يمكن أن تكون عامة. وقد أشار ريتشارد سينيت إلى مفارقة في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وهي أن العواطف الخاصة اعتُبرت طبيعية — بعكس زيف الثقافة العامة — ومِن ثَمَّ كانت تُعتبر عامة. ويكتب سينيت: «لقد كان العامُّ ابتكارًا بشريًّا؛ أما الخاص فكان حالة بشرية.»1 لقد كانت أكثر الكيانات خصوصية — العائلة — هي التي كانت «مهد الطبيعة»؛ حيث مثَّلت بيئة ديمقراطية للقلب. إن هنا — كما يقول سينيت — يجد الفرد باختصار ما سيُعرف لاحقًا بالحقوق الطبيعية.
من هذا المنطلق يُمكن للخاص بأن يُصدِر أحكامًا على العام. يكتب سينيت: «بتعريف عمليات نفسية معينة بأنها لا يمكن التعبير عنها في السياق العام، وبأنها ظواهر شبه دينية متجاوِزة لا يمكن لترتيبات العادة خرقها أو تدميرها أبدًا، بَلْوَر [مواطنو القرن الثامن عشر] لأنفسهم طريقًا واحدًا — وليس الطريق الوحيد — لكنه طريق ملموس يمكن أن تتجاوز فيه الحقوق الطبيعية استحقاقات أي مجتمع بعينه.»2 فنحن غير متروكين لثقافة أو عادات يجب أن تظل فيها مصادر النقد الاجتماعي الراديكالي غامضة. بل إننا — كما هو حال مُنظِّري الحس الأخلاقي — نتمتَّع بموقع حكم راسخ في الطبيعة ذاتها. إلا أنَّ تلك العواطف — وهي التي «لا يُمكن التعبير عنها في السياق العام» — محيِّرة بقدر ما هي جَيَّاشة.
توجد إشكالية أخرى تقترن بهذه النقطة، وقد أشرنا إليها مسبقًا؛ إذ رغم أن العواطف الطبيعية عامة في جوهرها فهيَ كما رأينا لا تُفعَّل إلا على المستوى الخاص. وهذا يؤدي إلى المشكلات مع الغرباء، مع هؤلاء — كما يقول سينيت — المنتمين ﻟ «مجموعة الغرباء»، وهي المدينة في القرن الثامن عشر، الذين يصعب جدًّا فهمهم من إشاراتهم السيميائية الخارجية. ويقول سينيت إنَّ القرن الثامن عشر «كان عصرًا يبذل الناس فيه جهودًا كبيرة لتجميل علاقاتهم بالغرباء وتعريفها، المهم أنه كان عليهم بذل جهد.»3 ولا تزال الفكرة الحديثة لحشد من الآخرين المجهولين تحظى بمعارضة، إلا أنها أيضًا تتجاوز باطِّراد حدود المجتمع المعروف؛ إذ يُمكن للفرد أن يُحَيِّيَ غريبًا في الشارع طالما لم يفهم أن هذا يدلُّ على استحقاق مُلِحٍّ عليه. إن هذه التحيات ليست أكثر «صدقًا» من كلمات المُمثل، إلا أن هذا لا يعني أن الفرد غير مرتبط عاطفيًّا بالموقف محل النقاش كما في المسرح. لقد كانت الاستعارات المنمقة تُستخدم في تحية الآخرين لكن بطريقة لا تَمييز فيها، بما يدلُّ على عدم معرفة بتاريخ حياة الآخر ولا بظروفه المادية. وقد وفرت الطبقة الاجتماعية ما يُمكن أن نسميَه أُلفة غير شخصية، كما هي أحيانًا في يومنا هذا؛ فالنبلاء يعرفُ بعضهم بعضًا حتى من بعيد. لكن مع تكاثر درجات الطبقة الوسطى في المدن الحضرية الجديدة زادت حدة مشكلة الهُوِيَّة المجهولة.
إذن ثمة حاجة للتعويض عن عُيوب الشعور الطبيعي، ومن بين أشكال هذا التعويض القانون؛ فالقانون، أو بالأعم النظام الرمزي الذي يَنبني عليه، طريقة رئيسية نضبط من خلاله سلوكنا تجاه من لا نعرفهم، فهو آلية مثل السوق لتنظيم تعاملنا مع الآخرين المجهولين لنا، تضمن (وهنا يتجلى التشبيه بالسوق) أنه إن لم نَفْتَتِن بهم أو ننجذب إليهم جنسيًّا فعلى الأقل سنتعامل معهم بعدل. وهذا بالتأكيد دافع أقل قبولًا للفضيلة من الود؛ لكنه أكثر إنصافًا وجدارة بالثقة. يُحقِّر هيجل في كتابه «فلسفة الحق» من تلك النظريات الرومانسية التي «تُلغي الفكر وتلجأ بدلًا منه إلى الشعور والحماس والقلب.»4 فالقانون في العصور الحديثة — باعتباره منبر القضاء الذي نقف أمامه سواسية — عدوُّ الامتيازات، وهي كلمة تعني «القانون الخاص». كذلك ولأن القانون والعقل والنظام الرمزي يتجاوزون المصالح والرغبات الشخصية، فمِن المُمكن أن يقدموا نقدًا لها، وهو ما لا يَنطبِق على النظام الخيالي؛ إذ يُمكننا مثلًا أن نسأل عما إذا كانت رغبة معينة منطقية أم لا، وهو سؤال لم يكن ليَحظى بشرعية عند هوبز أو هيوم أكبر من عند جيل دولوز.
ولأن القانون يجب أن يكون وسيطًا بين أفراد كثيرين، وكل منهم له مصالحه ورغباته الخاصة، فعليه أن يتحلَّى بفضيلة التحفظ مستهدفًا أن يقول أقل ما يُمكن. فأولئك الساعون للالتزام به يغرقون مِن ثَمَّ في توتُّر عصبي بشأن ما إذا كانوا يلتزمون به أم لا، وكيف يعرفون ذلك على أي حال، وما إذا كان هذا تصورًا منطقيًّا من الأساس أم لا؛ فالقانون إن صح التعبير يشمل تحت مظلته الكثير من الرجال والنساء لذلك يجب أن يكون محتواه عامًّا، فكلما قل محتواه تحديدًا، زادت قدرته على تحقيق هدفه. ومن هذا المنطلق تشبه القوانين الأخلاقية القوانين الفيزيائية التي ما هي إلا علاقات رياضية يمكن التعبير عنها بقدر قليل من المعلومات.5 فلِكَي يُمثِّل القانون أساسًا للوحدة الإنسانية يجب أن يتغاضى على نحوٍ منهجي عن اختلافاتنا؛ فنحن — عند الأرسطيين والتوماويين — نتمتع بطبيعة عقلانية مشتركة، لكن هذه الطبيعة عند أنصار مذهب الخير تقلصت إلى مجموعة من المشاعر التي نتشاركها، الخالية من أي أساس عقلي. أما عند الكانطيين، فقد زاد تقلُّص النطاق الإنساني المشترك إلى مجموعة من الإجراءات الشكلية المشتركة، بينما لا يرى بعض الحداثيِّين وما بعد الحداثيين سوى الاختلاف بين البشر.

ولكي يكون من المُمكن وجود جماعة من الأفراد في مجتمع ممزق فيجب أن يتجرد القانون عن أي شيء يخصُّ مَن هم تحت حكمه. وميزة ذلك أن القانون لا يستجيب لهؤلاء الذين يَسعَونَ لتأكيد سلطتهم واستغلالها؛ لكن الخطورة هي أن يئول الحال إلى تكوين مجموعة كبيرة من الرموز الكودية، فيبدو الأمر وكأنما يجب محوُ الناس واستنساخهم إن أردنا أن تتحقق المساواة والعمومية فعلًا، فكل فرد يعدُّ فريدًا ومستقلًّا؛ ولكن لأن جميع الأفراد يُثنى عليهم بهذه الصورة دون تمييز، فإن هذه القيمة تظل على شفا مناقضة ذاتها، فالكل سواسية؛ لكن ذلك كما سيبدو ليس إلا لأنهم اختُزِلُوا في خيالات مآتة مفرغة من مضمونها.

مع ذلك فإن مفهوم القانون هذا وسيلة عبقرية لتحقيق العمومية في وقت تتعثر فيه الوسائل التقليدية لتحقيق ذلك — كفكرة الطبيعة البشرية المشتركة على سبيل المثال — لأسباب ليس أقلها الرحالة المتحدِّثون عن التنوع الإنساني، إلا أن هذا يعني أننا الآن بحاجة للتفكير والتعقُّل من أجل وضع الآخرين في الاعتبار، فقد ضاعَت سمة العفْوية أو اللامبالاة البرجوازية المبكرة بلا رجعة. ومع دخول الطبقة البرجوازية في أوروبا لعصر تراكم رأس المال الصناعي، بما فيه من العمال المجهولين والمنافسين غير المعروفين والصراعات الطبقية المحْتَدَّة، تراجعت فكرة النُّبْل لتفسح المجال أمام ساحة القضاء أو السياسة باعتبارها نموذجًا للخطاب الأخلاقي.

هذا هو القانون الأخلاقي الشهير لإيمانويل كانط، الذي يخضع له كلُّ الناس بنفس الصورة، والذي يتمتع بقوة الأمر الإلهي الكاملة بينما يظل شأنًا دنيويًّا خالصًا، فهذا القانون، مثل الرب، من المسَلَّمات؛ فلا يمكن اختزاله إلى أي مبدأ أكثر أولية وهو لا يخضع للتفسير المنطقي. فنحن لا نكون أفرادًا عند لاكان، كما رأينا، إلا تحت حكم قانون يحقق التكامل بين وجودنا ووجود الآخرين. وبينما نتجه إلى دواخل النفس إن جاز التعبير في النظام الخيالي، فالآن يَلتفت كلٌّ منا إلى الخارج باتجاه سلطة تربطنا جميعًا معًا بهُوِيَّات مجهولة. يرى كانط أن الفرد لا يكون إنسانًا حقًّا — حرًّا وعقلانيًّا ومستقلًّا — إلا بالخضوع لسيادة قانون يُنظم ويُوفِّق بين أهداف الفرد وأهداف الكائنات الحرة العاقلة الأخرى. والفرق بين الفيلسوفين في هذا الصدد هو أن كانط يرى أن هذه الحرية موجودة على النطاق الباطن، في مستوًى حدسي لا يُمكن للعقل الواعي الوصول إليه، بينما يرى لاكان أننا في هذا النطاق الباطن أو اللاواعي نتمتَّع بأقل قدر من الحرية. لكن أيًّا كان الاختلاف فإننا دخلنا إلى منطقة نعرف فورًا أنها حديثة؛ ثقافة العلاقات العقدية والمصلحة الذاتية المستنيرة والقواعد الأخلاقية والقوانين العادلة وتعظيم المنفعة واحترام استقلال الآخرين والمعايير التوافقية والإجراءات المنطقية، فهو نظام بعيد كل البُعد عن الآنية الحسِّية للنظام الخيالي؛ لكنه كذلك — كما سنرى لاحقًا — هو عين ما يُدافع عن أكثر منظومة أخلاقية يرفضها النظام الواقعي.

لقد عبَّر كانط في أوائل حياته العملية عن إعجابه بطريقة البحث الأخلاقي عند شافتسبري وهتشسون وهيوم واصفًا هذه الرؤية الأخلاقية بأنها «أفضل اكتشافات عصرنا». إن ما أبهره في هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين (وهي مفارقة كبيرة بالنظر إلى رفضه لاحقًا للأخلاق الأنثروبولوجية) هو انشغالهم بما يحدث وليس بما يَجب حدوثه؛ أي إنهم لم ينطلقوا من الفرضيات المجردة بل من الطبيعة الإنسانية.6 لكن يحذر كانط في عمله «نقد العقل الخالص» من أنه لا شيء أكثر استحقاقًا للوم من السعي لاستخلاص القوانين التي تحدِّد ما يجب أن يكون مما هو قائم بالفعل، ففي نظام اجتماعي يتميَّز بالفردية الأنانية لا شك أن هذا حذر حكيم. إن هلع كانط من التجريبية هو تعليق ضمني، من بين أشياء أخرى، على محيطه الاجتماعي، فإن حاول الفرد استخلاص القيم من الحقائق في هذا السياق فقد ينتهي به الحال بالقيم الأقل استساغة، فالقيم يجب أن تُفصَل عن العالم — حيث إنها أبعد ما يكون عن الوصف المجرَّد له — لأسباب منها (في المجتمع عامةً إن لم يكن عند كانط خاصة) أن تتمكَّن من تقنينه.
لم يكن كانط بكل تأكيد ليَبني على الأرضية غير المتماسكة للنظرية الأخلاقية البريطانية، رغم أنه تأثَّر كثيرًا بفكرة شافتسبري القائلة إن المبادئ الأخلاقية الأساسية لا يُمكن أن تكون مسألةً تَعتمِد على التفضيلات الذاتية، بل يجب أن تكون ملزمة على نحو عامٍّ؛ إذ يؤمن كانط، شأنه شأن شافتسبري، بأن الأخلاق تتضمَّن المشاعر، والتي هي في رأيه الاحترام والغضب والحصافة والتضجُّر والتقدير والندم وما شابه، فنحن لدينا القدرة على الشعور بالسرور لتحقيق واجبنا الأخلاقي. في واقع الأمر، إن هذا الإحساس بالرضا مشروع ومرغوب معًا لكن هذه العواطف لا يمكن أن تُمثِّل دافعًا لأفعالنا. وقد اعتقد هيجل نفس الشيء؛ فالرغبة لا يمكن أن تكون عاملًا في فعل الصواب، بل إن ما نشعر به في هذه الظروف هو الألم قبل كل شيء؛ فالقانون الأخلاقي يعترض بصرامة على ميولنا الطبيعية، وهذه طريقة أدركنا بها وجوده الجليل. كما يفسح كانط بعض المساحة في فكره الأخلاقي للسعادة؛ لكن رغم أن السعادة هي جزاء الفضيلة في الحياة الآخرة — إن لم يكن في الحياة الدنيا في أغلب الأحيان — فلا يُمكنها أن تكون الدافع المحرِّك نحوها. فالسعادة ما هي إلا فكرة تجريبية وليست قيمة مثالية عند العقل، وهي لا تقوم على مبادئ؛ فعلى الفرد أن يُكافح من أجل الرضا العام؛ لكن الرضا الذي يرتبط ويتسق مع أطهر المبادئ الأخلاقية، فهو لا يؤمن بأن المبادئ الأخلاقية يمكن أن تنبني على الإحساس أو العاطفة أو السعي نحو الرفاهة؛ فالحواس لا تتيح لنا الوصول إلى حقيقة أنفسنا ولا إلى جوهر الأشياء برغم ما قد يزعمه أنصار مذهب الخير عن الاتحاد البَدَهي بين رُوحين من أصل واحد. فالإحساس ليس أساسًا للمعرفة الذاتية، فالكائن الأخلاقي ينتمي لعالم المعقول لا عالم المحسوس؛ إذ يجب علينا ألا نضع مبدأ السعادة في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بالواجب؛ فحسُّ الفضيلة يجب حتمًا أن يكون أكثر من التشوق للرضا. فعلى الإنسان أن يتصرف تبعًا لمبدأ وليس ما يُسميه كانط باحتقار «التعاطف المؤثر». وهو في هذا يختلف مع تيودور أدورنو الذي يكتب أن «الأساس الحقيقي للأخلاق موجود في الشعور الجسدي، في التماهي مع الألم الذي لا يُحتمل.»7
بل إن كانط بلغ به الأمر أن رفض هذا الجهد البريطاني في الفكر الأخلاقي باعتباره محاولة فاشلة لاستخلاص مفهوم الفضيلة من التجربة؛ فالتجرِبة عنده كما هي عند سبينوزا أساس أكثر تغيرًا واحتمالية من أن يُبنى عليها الحكم الأخلاقي، تمامًا مثلما أنها أساس هش في ذاته لمعرفة الحقيقة بموضوعية، فهي كما يقول كانط «شيء بشع ملتبس» تعارض كل صيغة منتظمة. فالإحساس مُرشِد لا يُعتمد عليه إطلاقًا، والأخلاق أسمى من الطبيعة ولا يمكن أن يكون مصدرها الجسم أو أحواله التجريبية، فالمشاعر والنزعات والميول لا يمكن أن تُوصلنا إلى أي مبادئ موضوعية. يشير كانط باستخفاف — ويقصد هتشسون — في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» إلى «حس مزروع» أو «حاسة خاصة مُفترضة» ساخرًا من أن «هؤلاء الذين لا يُمكنهم «التفكير» يظنون أنهم يمكنهم مساعدة أنفسهم بالشعور.»8 ويصرُّ، وهو يقصد نفس المذهب الأخلاقي، على أن المحاكاة لا مكان لها إطلاقًا في قضايا الأخلاق.
إلا أنه يُقرُّ بأن نظرية الحس الأخلاقي، وإن كانت مضللة، فهي تولي الحياة الأخلاقية احترامًا يليق بها، فكأن هؤلاء الفلاسفة طيبي القلب — وإن كانوا مُضلَّلي الفكر — يشعرون في حضور الآخرين بالسرور والتقدير اللذَين ينبغي عند كانط ادخارهما للقانون الأخلاقي عامةً. إذًا فهذه العواطف ليست غير لائقة بقدر ما هي في غير محلها. ويُقر بأن هناك أرواحًا «في غاية التعاطف والانسجام لدرجة أنها، بلا أي دافع من الكبر أو المصلحة الشخصية، تشعر بالرضا الداخلي في نشر السرور من حولها وتسعد برضا الآخرين طالما أنه من عملها.»9 إلا أن مثل هذا التعاطف في نظر كانط لا يَمُتُّ للأخلاق بِصِلَة، شأنه شأن اشتهاء رشفة من خمر؛ فالأفعال التي تُؤدى في سبيل القانون هي وَحْدَها التي يمكن اعتبارها أخلاقية؛ فالإنسان عليه أن يكون خيِّرًا بدافع الواجب لا التعاطف؛ إذ يجب الامتناع عن فعل الأشياء فقط لأنك تريد فعلها، ويُخبرنا بأن الاحتياجات والنزعات لها «سعر سوقي» لكن ما هو ثمين في ذاته لا يُقدَّر بثمن.
ابتكر ألكسندر بومجارتن في منتصف القرن الثامن عشر علمًا جديدًا غريبًا يسمى علم الجمال، كان الهدف منه بلورة حياتنا الحسِّية وتنظيمها واختزال عالمنا الجسدي إلى نظام شبه قانوني نوعًا ما؛ فالحواس — التي نبذتْها في فظاظة بعضُ مدارس العقل التنويري — أخذت تتسلَّل من جديد من الباب الخلفي متنكرة في صورة علم للإدراك. لكن هذه الدراسة المنهجية لحياتنا الحسية لا يمكنها أن تفضي بنا إلى العالم الأخلاقي؛ فطيبة القلب ليست قضية أخلاقية شأنها في ذلك شأن مفهوم التثليث. وكتَب كانط في «نقد العقل العملي»: «إنه لشيء جميل أن نفعل الخير للناس بدافع حبِّهم وبدافع حسن النية المتعاطفة، أو بدافع من حب النظام، لكن ليست هذه هي القاعدة الأخلاقية الحقَّة.»10 فالشفقة والرحمة ورقة القلب كلها سمات جيدة، لكنها إن كانت السبب وراء أفعالنا بدلًا من فكرة الواجب فإنها تصير، بحسب كلمات كانط، عبئًا على أصحاب التفكير السليم الذي يَرغب بالتبعية في التخلُّص منها، وأن يخضع لقانون العقل وَحْدَهُ، فهذه المشاعر مثال على ما يُسميه «الحب المَرَضي». ويصر جاك لاكان هو الآخر، متحدثًا عن النظام الواقعي وليس النظام الرمزي، على أن «المشاعر خادعة باعتبارها دليلًا للنظام الواقعي.»11 فإن جردنا الأخلاق من كل العواطف — بحسب زعمه — فسينتهي بنا الحال إلى رؤية رجل مثل كانط، أو رجل مثل ساد، في هذا الخصوص. لا يرى كانط أن فِعْلَيِ التنازل والمثالية يمكن أن يكونا هما ذاتهما مصدرًا للذة شهوانية كامنة. إننا لا نواجه من يُجرِّدوننا من متعتنا بغير عاطفة بُغْض.

إذًا تتمتع الرؤية الأخلاقية البريطانية بسحر جمالي معيَّن، لكنها خيار عاطفي بصورة زائدة. يرى كانط أن الخير ما هو إلا نزعة؛ فهو لديه حذر بروتستانتي من القيم التي تُكتسب بسهولة من دون الصراع الداخلي والانتصار على النفس. وينظر كانط بعين الإعجاب لقلق البرجوازيِّين من ذوي الفكر الذين يُصارعون ضمائرهم وليس التلقائية المرحة للأرستقراطيين، فهو لا يُعجبه عدم الاكتراث الجريء المُتعجرِف الراقي الذي عُرف في عصر النهضة باللامبالاة؛ فالأشياء الثمينة هي التي تجهد في طلبها؛ لذا فالطبيعة الرحيمة التلقائية حقيقة وراثية — وليست أخلاقية — عن البشر. وبينما يرى أرسطو أن أولئك الذين لا يُحصِّلون الرضا من الأفعال الفاضلة هم في الحقيقة ناقصو فضيلة، ويُصرُّ ديفيد هيوم على أن هذه المتعة عين الدليل على الفضلاء، يرى كانط أن أولئك المتَّصفين بالبرود، ويتمكنون رغم ذلك من فعل الخير، يتمتعون بالحظ الأوفر من الأخلاق. فكلما زادت مجاهدتنا للنزعات التلقائية لدينا أصبحنا أكثر جدارة بالثَّناء أخلاقيًّا؛ فالمتعة دافع دُونيٌّ في نظرته الناقدة القاسية، بعكس شافتسبري وهتشسون. وحيث إن نوبات التعاطُف المفاجئة هذه لا تشمل أفعالًا إرادية فهي لا تُعتبَر استجابات أخلاقية على الإطلاق، فالإحساس يُعد بصورة كبيرة عدوًّا لما هو أخلاقي، وما لا يُستلهَم من الواجب يجب أن يُفعل بدافع المتعة الخالصة حتمًا. إنها رؤية حياتية قائمة على الصرامة، إن لم تكن مؤذية، فهي لا تُفيد. فكما هو الحال مع السجائر، من الأفضل في المجمل ألَّا تجدَ السلوك الفاضل ممتعًا بصورة زائدة عن الحد.

قضَت أطروحة كانط المضادة على قدر كبير من المساحة البينية المشتركة بين النزعة الطبيعية والالتزام. ومن بين ما استُبعد كان المفهوم الأرسطي الخاص بالنزعة الأخلاقية التي ليست مسألة خاصة بالواجب المجرد ولا بالدافع الشعوري ولا العادة التلقائية ولا الفعل الإرادي الشاق؛ فالنزعات تتضمن عواطف؛ لكنها عواطف مقترنة بأحكام وموجهة نحو فعل محتمل، وليست نوبة أو وخزة داخلية تغذيها النزعة العاطفية لذاتها؛ فلكي نحسن التصرف فعلًا، علينا أن نمتلك أحكامًا ومشاعر ومواقف سليمة؛ لكن ما يهم في النهاية هو حسن التصرف. بهذه الصورة فإن الدافع الأخلاقي العقلي البحت عند كانط يُقدِّم تصورًا ناقصًا عن الفضيلة بقدر تصور أنصار مذهب الخير البدهي البحت، الذي يبدو أنه لا يترك سوى مساحة قليلة للتقييم العقلاني؛ فالنزعات ليست نوبات عمياء من الشعور التلقائي، بل هي حالات يجب بذل الجهد لاكتسابها وتهذيبها وممارستها ومراقبتها إلى أن تصير الأفعال التي تدفعنا إليها سهلة واعتيادية. فالرحمة والعطف والرغبة في العدل ليست مجرَّد مسائل تتعلق بالتفكير المفاهيمي، ولا هي تتبع وخزة جوع أو نوبة حسد مفاجئة، بل هي تشمل كلًّا من العقل والعاطفة، والفكر والشعور. كما لا يمكن لهذه المَلَكات أن ترتبط بتعاملاتنا مع من نعرفهم ومن لا نعرفهم، فنحن نتأثر بمصائب الغرباء ونحزن بدافع قربنا مِمَّنْ حولنا. لقد أصاب كانط في رؤيته أن أنصار مذهب الخير يُخاطرون بعزل أنفسهم عن الأخوَّة العامة؛ لكنه أخطأ في تصوره أن التفكير المجرد وَحْدَهُ يمكن أن يأخذنا لما هو أبعد من عواطفنا الداخلية.

يقول أرسطو في عمله «الأخلاق النيقوماخية» إن حسن النية أو الإرادة الخيِّرة تشبه الصداقة لكنها لا تُماثلها تمامًا، حيث يمكن أن تُكِنَّها لمن لا تَعرفهم. أما مفهوم حسن النية عند كانط — في بحثه عن مبدأ جماعي يَتجاوز الأمور الشخصية عند أسلافه البريطانيين — فينبغي أن يؤدِّي دورًا محوريًّا جدًّا. لكن من الخطر الاعتماد الزائد في الأمور الأخلاقية على قضايا الدافع والإرادة؛ وحيث إنَّ الفعل الصالح عرضة للشك في دوافعه فإن كانط أخطأ في افتراض أن الإرادة لها اليد العُليا في المسائل الأخلاقية؛ فالأهم في مثل هذه المسائل هو ما تَفعله وليس ما تريده أو تنويه، فإعطاء بعض النقود للمُشرَّدين في الطرقات بهدف إراحة ضميرك أفضل بكثير مِن إعراضك عنهم. كما أنَّ فكرة كانط، التي اعتبرها حقيقية، عن الإرادة تبدو بعيدة كل البُعد عن أن تَحظى بالاستحسان مقارنة — مثلًا — بمفهوم الإرادة عند توما الأكويني. فالإرادة عند الأكويني ليسَت دافعًا عقليًّا غير مشروط، بل هي نوع من التوجُّه الأوَّلي في وجودِنا، ونزعة داخلية إلى الخير أو الطبيعي موجَّهة نحو صلاح المعيشة؛ فبالنظر إلى وجودِنا الجسدي فنحن لدينا رغبة في الخير ليسَت اختيارية في حدِّ ذاتها؛ فمسائل الاختيار كما رأى الأكويني تَعتمِد في النهاية على تكوين أجسادنا المادي؛ فهو مفهوم للإرادة يتمتَّع بقبول أكثر من معظم نظائره الحديثة.12
يقع كانط في خطأ جوهري في كتاباته الأخلاقية، وهو افتراضُ أن الفرق الأخلاقي المهم هو الفرق بين النزعة الطبيعية والالتزام. وكذلك — كما سنرى لاحقًا — حال بعض أنصار النظريات الأخلاقية الخاصة بالنظام الواقعي في يومنا الحالي الذين يظلُّون من هذا المنطلق كانطيين مُنغلِقين. فإن لم تكن فاعلًا عقلانيًّا، فإنك إذن أناني همُّك تحصيل اللذَّة. لكن لم يكن كانط ليَقبل بأن الرغبة في فعل شيء — بشرط ألَّا يكونَ مؤذيًا — سبب جيد تمامًا لفعله. على أيِّ حال، فحتى الحيوانات يُمكن أن تتصرَّف بدافع أكثر من مجرَّد اللذَّة الخالِصة من وقتٍ لآخر، حتَّى وإن كانت تواجه صعوبة في استيعاب الأمر أو الواجب المُطلَق. إن كانط قبل غيره هو مَن وضَع الفكر الأخلاقي على الطريق الذي أدَّى إلى المساواة الزائفة بين الأخلاق والواجب، وهو مزيجٌ نجد آثاره تمتدُّ حتى إيمانويل ليفيناس وجاك دريدا. (إلا أنه لا توجد — كما يُذكِّرنا بيرنارد ويليامز — كلمة يونانية قديمة ﻟ «الواجب».)13 يَفترض كانط أن الأخلاق تَشمل قيمةً ما غير مشروطة، شأنه في ذلك (كما سنرى) شأن فلاسفة الأخلاق اللاكانيين، وإلا فسنكون عرضة — في نظر كانط إن لم يكن عند لاكان كذلك — للوقوع في فخِّ النِّسبية الأخلاقية. ولا يبدو أن من يُقدِّمون هذا الطرح يُدركون أن المؤمن بالمذهب النِّسبي عادة ما يكون الوجه الآخر للسُّلطوي، الابن الأوديبي الثائر على الأب الخارق للطبيعة. فالذين يؤمنون بأن القيمة الأخلاقية يجب أن تكون مجرَّدةً، يرون أن ما يَقصُر عن الحالة المجردة سيكون حتمًا كالفوضى المُرعبة، فهم لا يرون أن العقلانية والفوضى متلازمان، وتكون الفوضى في أغلب الأحوال هي ما يستبعده النظام العقلاني.
من الصعب المبالغة في تصوير النتيجة الراديكالية العجيبة لطرح كانط؛ فأن تعيش حياتك مثل نيلسون مانديلا مثلًا يحركك الغضب والشفقة من أجل تغيير حال الملايين غير المعروفين لك شيء جيد تمامًا؛ لكنه ليس بأي حال أفضل من التأكد أن امتناعك عن سرقة ثمرة خوخ لا يكون بدافع خوفك من بائع الفاكهة بل لأنك تلتزم بفعلك بقانونٍ يُمكن أن يُلزم كل السارقين المُحتمَلين كذلك. إن في هذا الفعل — وليس في إعطاء كسرة خبز لسائل بدافع الشفقة — يكمن الجمال الأخلاقي الحقيقي، أو ما قد يُسمِّيه كانط السمو الحقيقي (لأن القانون الأخلاقي مثل الرب يتجاوَز التمثيل التصويري). هذه الفكرة مُدهشة بقدر ما هي قاسية. فهي تضمن — في أكثر صورها تطرفًا — إطلاق الحكم السار الجاف الذي أصدره بيرنارد ويليامز على العقلاني المُتطرِّف ويليام جودوين «برفضه العقلاني الصارم احترام أي اعتبار يراه الإنسان العادي قهريًّا.»14
كم من الغريب أن نتصور — كما فعل كانط — أننا إن حَرَّكَنا الحب أو الرحمة فإننا غير أحرار! يمكننا الزعم بأن رؤيته للإنسانية سامية جدًّا ووضيعة جدًّا في آنٍ واحد. أو بعبارة ميلان كونديرا، ملائكية جدًّا وشيطانية جدًّا في نفس الوقت؛15 إذ توجد الاثنتان بصفة عامة جنبًا إلى جنب؛ فعندما يكون الوجود الاجتماعي «شيطانيًّا» تحكمه الشهوات والمصالح الشخصية، ستظهر عامةً حاجة مُوازية لأيديولوجيا «ملائكية» لتعطي الشرعية لهذه الحقيقة، فالقيمة الأخلاقية ستحتاج للاحتكاك بأقل قدر مُمكن مع الحقيقة التجريبية. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة، وهي أحد المجتمعات التي تموج بالمادية، يستحوذ عليها أيضًا خطاب عامٌّ جادٌّ أخلاقيٌّ سامٍ بصورة هزلية. ثمة رؤية أقل سموًّا بعض الشيء عن رؤية كانط تخلط بين الضمير والعاطفة، يطرحها الفيلسوف الإنجليزي جوزيف باتلر، الذي تحظى عنده العاطفة التلقائية بالاستحسان، لكنها تزداد قيمة عندما تستقر في مبدأ ثابت.

إلا أن رؤية كانط أكثر جمودًا من هذا؛ إذ لا يُمكن استخلاص قانون عام حقيقي من الرغبة المشتركة في تحقيق السعادة؛ حيث إنَّ كل شخص يرغب في تحقيق السعادة بطريقته الشخصية الخاصة؛ ومِن ثَمَّ يظل المنطق الأخلاقي أسيرًا للخصوصية العمياء، فيجب أن يكون ثمة أساس أكثر إطلاقًا وعمومية للأخلاق من هذا، صورة علمانية نوعًا ما للرب المطلق الذي شأنه شأن كل القيم المطلقة أن يَحمل مقوِّماته بالكامل في ذاته. فكما أن الربَّ هو السبب الأبدي في وجود ذاته، كذلك القانون الأخلاقي عند كانط الذي هو غاية الجميع بالضرورة لأنه غاية في نفسه، فهو كل ما يُمكن أن ترنو إليه إرادة البشر، بعيدًا عن تطلُّعاتهم وميولهم وهو بالتبعية ما يمكنهم كذلك أن يريدَه بعضُهم لبعض. من هنا يأتي الأمر المُطلَق المشهور: لا تتصرَّف إلا تبعًا لقاعدة يُمكن اعتبارها قانونًا عامًّا، فإن كانت بشريتك تعني أن تكون عقلانيًّا، إذن فالتصرف العقلاني حتمًا هدفه إلزام سائر من سواي بطريقتي في التصرف؛ فالحرية هي تحرير النفس من كل الأشياء والرغبات المحتملة، وكل ما يسمى بالمصالح «المَرَضية» في سبيل عدم التصرف إلا تبعًا لقانون يضعه الفرد لنفسه، قانون واضح تحيط به هالة تجعله هدفًا في ذاته من دون أي اعتبار للطبيعة المميزة لهذا الفرد أو ذاك؛ ومِنْ ثَمَّ تجعله يُطبق تطبيقًا عامًّا. ولأننا نفرض هذا القانون على أنفسنا فهو يمثل أساس حريتنا؛ حيث إن الحرية مُرادِفة لتقرير الذات. سينتاب الأجيال اللاحقة شكٌّ أكبر في هذا الادعاء؛ حيث سيشكُّون في أن القوانين التي نفرضها على أنفسنا هي عامةً الأكثر قسرية وصرامة من غيرها. ثمة بعض القسر — كما يرى تيودور أدورنو — في حرية كانط التي من المفترض أنها غير مرضية في ظل القانون، وهو ما سيُسمِّيه فرويد الأنا العليا.

إنَّ هذا في واقع الأمر هو الجانب الخفي البغيض لنظرية أخلاق كانط التنويرية. فلأنه لا يمكننا أبدًا تبرير أفعالنا أمام القانون، فهو يُنمِّي فينا إحساسًا دائمًا بالقلق أو الغربة، وهو ما لا يقل عن الإحساس بأننا خاضِعون؛ فالقانون الأخلاقي إله قاسٍ، فهو — في أقصى درجات ساديته القاسية — يَختزلنا بترهيبه عديم الحس لنا إلى كائنات معدومة الوجود، وأشياء لا أهمية لها، وأجزاء من المادة لا معنى لها؛ فالمعادل للقانون الأخلاقي السامي هو الإنسان باعتباره بقايا وفضلات وكتلة من السلبية الخالصة. فالذات إذ تمر بانعدام الإحساس القاتل هذا — لأن القانون خالٍ تمامًا من المادة — تُعاني من كارثة أو انهيار للمعنى، انهيار يمثل حالة طوارئ دائمة وليس نوبة ذعر مؤقتة. ومن هذا المنطلق، يحتوي القانون الرمزي في جوهره على ما سيُسمِّيه لاكان النظام الواقعي، أي الحالة التي نكون فيها مُعدمين، مُنتزَعين من مكاننا، واقعين في هاوية اللامعنى، يسحقنا جوهر قاتل من انعدام المعنى أقرب إلينا من أنفاسنا.

ثمة توتُّر في لبِّ الفكر الأخلاقي بين العام والخاص؛ فالسلوك الأخلاقي شأن مادي، يرتبط باحتياجات الإنسان الفاني ورغباته، وهو جزء من تواصلهم التعبيري أو الرمزي؛ ومِن ثَمَّ فهو بالضرورة خاص؛ لكنه من المُفترض أن يمتدَّ إلى ما وراء هذه الخصوصية، إلى فضاء أكثر عمومية. وسيبدو من الغريب أن نقول إن التعذيب مُباح لي لكن غير مُباح لك، أو أن نُساوي بين عبارات مثل «اقتلاع العين حرام» وتعبيرات تخص الذوق الشخصي مثل «الكرنب مقزز»، فالأخلاق شأنها شأن اللغة واسعة في عموميتها ومتناهية في خصوصيتها، فهي تتضمَّن مفاهيم خاصة كما تتضمَّن مفاهيم عامة. يُفرِّق جيه إم بيرنشتاين بين «الأخلاق» — أي ما يُسمِّيه المبادئ العامة «المركزية» — وتلك المفاهيم «الأخلاقية» الوصفية أو التقييمية السابقة منطقيًّا على هذه القيم العامة التي إن كانت ضرورية فهي هزيلة.16 لقد أدرك ما عُرف لفترة قصيرة في ستينيات القرن العشرين ﺑ «الأخلاق الموقفية» — وهي تيار من اللاعمومية الأخلاقية يفضله بعض المسيحيين ذوو الفكر المتحرِّر — مشكلة أنه ما من موقف إنساني يُمكن تحديده بدقة، وأن كل موقف يتمتع بخصائص هي أبعد ما تكون عن أن تُميِّزه. كذلك إن كان معنى كلمات مثل «الحب» و«العدل» لا يُمكن فهمه إلا في مواقف لا يمكن مقارنة كلٍّ منها بالآخر، فإن هذه الكلمات تُفرَّغ من التطبيق العملي كله لها تاركةً إيانا تائهين في بحر من الاسمية الأخلاقية. وإن لم يكن ثمة علاقة لازمة بين فكرة العدالة ونمط سلوك ثابت عبر مختلف المواقف، فإن أي نمط سلوك — بما في ذلك قطع رأس كل من يتجاوز سن الستين مثلًا — يمكن القول إنه يتفق معها. على الجانب الآخر، فإن أي نظرية أخلاقية تُنَحِّي جانبًا سياقات محددة جملة واحدة لا تستحق الوصف بأنها أخلاقية. سنعود لهذه المعضلة بعد قليل، عندما نتناول رؤية شكسبير لها.

تُعدُّ الأخلاق في رؤية كانط شأنًا فرديًّا وعامًّا، وبهذا فهي تُشبه الأحكام الجمالية؛ فالفعل الأخلاقي هو فعل يخصُّني حصريًّا وكليًّا، إلا أن اللحظة التي أكون فيها نفسي بلا مُنازِع هي نفسها اللحظة التي لا أكون فيها سوى مُمثِّل لقانون عام. ومن المهم للفرد أن يكون حيوانًا عامًّا، ونحن نكون في أفضل حالاتنا عندما نتصرف على هذا الأساس؛ فثمَّة شيء غير بشري أو غير شخصي يكمن في أعماق الذات يجعلها على ما هي عليه. ورغم أن هذه القوة السامية المُستحيل فهمها عند أوجستين والأكويني هي الرب، وعند أتباع فرويد هي الرغبة، فإن كانط يُسمِّيها القانون الأخلاقي؛ فهناك إذن مسار مباشر عنده من الفردي إلى العام، رغم أنه مسار لا يُمكن أن نسلكه إلا على حساب الخصوصية الملموسة.

إذًا فالعمومية المجردة والخصوصية المتناهية وجهان لعملة واحدة، فالأفراد هم القوة المحرِّكة لهذه الحضارة لكن تجرُّدهم من كينونتهم القوى المجرَّدة التي يُصدرونها؛ فالحرية تعني عدم فرض أي مبدأ لا يُشرِّع للنفس، إلا أن تقرير الذات ذلك في حد ذاته يهدد باختزال الفرد إلى طوطولوجيا عديمة المعنى. إن الأمر راجع للرجال والنساء ليمنحوا أنفسهم قيمة لا أن يجدوها — كما في النظام الخيالي — مُقدَّمة من العالم أو من الآخر، فالنظام الرمزي الذي يُقدِّمه لنا كانط قائم بذاته تمامًا؛ إذ لا يقوم لا على الطبيعة ولا على ما وراء الطبيعة، فحتى الأوامر الإلهية يجب أن تمرَّ على العقل البشري ليستبعد الأخطاء المنطقية منها. يبدو الأمر وكأننا لا نرتكز الآن إلا على أنفسنا، وإن كانت هذه من سمات نُضجنا الأخلاقي؛ إذ نتخلَّى عن اعتمادنا الخيالي الطفولي على الآخرين وعلى الكون، فهي كذلك علامة على اغترابنا عن الطبيعة التي لم يَعُد لها أي علاقة بشيء سامٍ مثل القيمة بعد أن اختُزلت في مجرد حقيقة أولية؛ لذا فإن المبدأ المعاصر الشهير «قيمتي أستمدها من نفسي وَحْدَها!» لا تفصله سوى شعرة عن أنين القائل: «أشعر بوَحْدَة شديدة في هذا العالم!»

إذًا فالتصرف الأخلاقي لا يوجهه سوى العقل والواجب الذي يحدده، وليس مجموعة الدوافع المختلطة (المتعة والرغبة والسعادة والمنفعة والرفاهية وغيرها) التي نَكتسِبها من الآخرين أو من العالم من حولنا أو من شهواتنا الفطرية والتي لا تَليق مِن ثَمَّ بالبشر الذين مصائرهم في أيديهم بالكامل. فالفعل الأخلاقي الحقيقي لا علاقة له بنتيجته، وهو افتراض أخلاقي غريب بالتأكيد؛ ففي طوطولوجيا متسامية، علينا أن نتحلى بالأخلاق؛ لأنه من الصحيح أخلاقيًّا أن نفعل هذا. إن ما يجعل الفعل أخلاقيًّا، شأنه شأن ما يجعل شيئًا ماديًّا سلعة، هو شيء يُجسِّده هذا الفعل يعلو ويتخطى أي سمة مميزة يتَّسم بها، وهو اتساقه المقصود مع قانون يُمكن تعميمه، فالإنسانية لا سبيل لها إلى الكيانات الغيبية المشئومة مثل الخير الأسمى، وهي التي تَستعصي عليها مثل الآخر اللاكاني الكبير، فلا يبقى بديل ممكن لهذا الشيء المفقود — بالنظر إلى أنه يجب أن يكون مطلقًا تمامًا — سوى الصورة المطلقة من القانون الأخلاقي؛ فالقانون إذًا يملأ فراغًا — أي غياب الخير الأسمى أو جسد الأم — بفروضه الأبوية؛ ومن هذا المنطلق فإننا نتحدث عن تحول من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي.

إن الأخلاق أو العقل العملي شأنه شأن العمل الفني مستقل وقائم بذاته، فهو يحمل الغرض منه في ذاته ويرفض كل منفعة ويزدري كل نتيجة ولا يقبل أي جدل. وكما الحال عند سبينوزا، تتدنى المُصطلحات الرئيسية للمذهبين الخيري والعاطفي في القرن الثامن عشر — المتعة والعاطفة والبديهة والإحساس والإشباع والخيال والتصوير — غالبًا إلى درجة اللاأخلاقية. (يُمكننا أن نقول إن هذه الكلمات تنتمي كذلك إلى لغة علم الجمال.) إذًا فنحن نتحدث عن نظرية أخلاقية تتجاوز مبدأ المتعة؛ فالفعل الأخلاقي لا علاقة له بتوفير صور حية للخيال، ففكرة هيوم عن أننا نحتاج لمثل تلك الصور الحية لتَحفيز تصوُّراتنا الأخلاقية الخاملة مرفوضة دون جدال. وفي المقابل يرى كانط أن هذه «الصور والأدوات الطفولية» ليست فقط غير لائقة بالمخلوقات العاقلة مثلنا، بل يرى أيضًا أنها تُقلِّل من عظمة وسمو القانون الأخلاقي ومِن ثَمَّ تُضعف قوته الهائلة. من الممكن ألا توجد صورة محفورة للعقل أو الحرية الإنسانية؛ فالغموض الكلي للحرية — كما يرى كانط المتمرد في كتابه «نقد مَلَكة الحكم» — يجعل التصوير الإيجابي كله مستحيلًا، فهي ظاهرة حدسية خالصة يكون إدراكها على المستوى العملي وَحْدَهُ وليس بالصور الحسية؛ فنحن نعلم أننا أحرار لأننا نرى أنفسنا نتصرَّف بحرية بجانب أعيننا؛ لكن هذه الحرية شأنها شأن شبح الآخر الذي يسير إلى جانبك في قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب» تختفي تمامًا إن حاولت النظر إليها مباشرة.

يثير هذا بالتأكيد مشكلة في نظام اجتماعي قائم على طبقة وسطى تَعتبِر الحرية فيه محورية؛ فالقيمة الأثمن تنفلت الآن من شبكة التصوير لتصبح نوعًا من الرمز الكودي الموحي أو مجرد أثر للسمو؛ فالذات — التي هي المبدأ الأساسي للقضية كلها — تتملص من تصنيفاتنا ولا تظهر ضمنَها إلا مجرد شيء يشبه التجلي الصامت أو الصمت الموحيِ، أي حضور يصطدم دون صوت بحدود فكرنا؛ إذ لا يُمكن الإحساس بها إلا باعتبارها نوعًا من الزيادة الفارغة أو سموِّ شيء دقيق. إذًا فالإنسان البرجوازي وهو في ذروة قوته يعمى عن ذاته؛ حيث إن حريته — التي هي جوهر تفرده — بطبيعتها لا يمكن تحديدها. فكل ما يُمكننا زعمه عن الذاتية — ذلك الفراغ الغريب الذي يُكوِّننا — هو أنها أيًّا كانت فهي ليست مثل الشيء على الإطلاق؛ ومِن ثَمَّ فهي تُحيِّر الإدراك؛ فالعارف والمعروف لا يتشاركان نفس النطاق، فمشروع العلم ممكن بصفة كبيرة، لكن العالِم باعتباره ذاتًا لا ينتمي للمجال الذي يدرسه، فحتى الأشياء التي يدرسها العالِم لا يمكنه أن يدركها إلا بصورها المُشاهَدة؛ لذا فإن اللاهوت السلبي للإنسان — إن جاز التعبير — هو وَحْدَهُ الممكن.

إذًا يبدو الأمر وكأن الذات تُطرَد من عين النظام التي تحفظ تماسكه باعتبارها كانت أصله ومُكمِّله يومًا ما، فهي أصل النظام بكامله، وكذلك هي ثُقبٌ أسود في مركزه. فالقوة التي لا يمكن تصورها هي سلبية مطلقة في الوقت ذاته. ومحاولة رسم شكل محدد لهذا الطيف كمحاولة القفز على ظلِّنا؛ فالذات لا يمكنها أن تكون «جزءًا» من العالم إلا بقدر ما تمثِّل العين جزءًا من مجال الرؤية، فالذات عند كانط ليسَت ظاهرة بداخل الواقع بل هي نقطة فوقية مطلة عليه. وهي، عند كانط في ثورته الكوبرنيكية، ما يسعى من خلالها لإعادة العالم المادي إلينا؛ لكن الذات «في جوهرها» خلال تلك العملية تَنزلق من فوق حدود المعرفة وتغرق في الكيانات المدفونة المعروفة بالحدسيات التي لا يُمكن الحديث عنها. فالذات ليست بشيء يخضع للإدراك، شأنها شأن الملائكة الحارسة أو المثلثات المربعة مثلًا؛ إذ تجد الطبقة البرجوازية نفسها وهي في أَوجِ قوتها أن نفس النظام الاجتماعي الذي وضعَتْه، قد أقصاها لتعلِّق بين الذات المستعصية على الاختراق من ناحية وبين الشيء غير المعلوم من الناحية الأخرى.

إن الذات البشرية؛ إذ هي مُحدَّدة بصرامة من الخارج لكن حرة الاختيار من الداخل، حرة ومغلولة معًا. ويرى سبينوزا أن هذين الجانبين من وجودها متلازمان؛ فالحرية تكمن في معرفتها أنها مقيَّدة، وهي ثمرة كفاح الإنسان المترتِّب عليها ليُصبح حر الإرادة، فهي تعني التوقُّف عن اعتبار النفس كائنًا معزولًا واعتبارها جزءًا من نظام يقوم على الضرورة. ويُؤيِّد كانط تلك الحتمية عند سبينوزا — مجرَّدة من أسسها الميتافيزيقية — بل يضيف إلى عِلِّيَّات الطبيعة الراسخة مجالًا ساميًا للروح. وهو بذلك يحفظ الحرية على حساب إمكانية فهمها، فهي في نظر سبينوزا أمر خيالي أو خرافي. أما في نظر كانط فهي فرضية ضرورية؛ فالحكمة في رأي الفيلسوف الهولندي تكمن في تأمل هُوِيَّتنا في الطبيعة. أما نظيره الألماني فيرى أنها قضية ترسيخ استقلالنا عنها.

•••

إذن فكانط — في خطوة جريئة — ينقل قضية الأخلاق بكاملها من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، وهذا يعني كذلك الانتقال من المضمون إلى الشكل، أو من الموضوعي إلى الإجرائي. ويتضمَّن هذا انتقالًا من القدرة على دعم أخلاقك بشيء يتخطاها — كالرب والطبيعة والتاريخ — إلى الفوائد غير المؤكدة للتحرُّر الأبدي من أي أساس مماثل. ويعلن كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» أن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تُطهَّر من المحتوى التجريبي والأنثروبولوجي بالكامل. وبما أن أي فعل من أفعال الإرادة التي تُحفِّزها ميول أو أشياء تجريبية هي أفعال «مَرَضيَّة»، فإن فعل الخير الأسمى الوحيد هو الإرادة الخالصة للخير نفسه. وإرادة الخير ليست إرادة شيء مُحدَّد، بل أن يتصرف الإنسان بما يتفق مع القانون الأخلاقي؛ لذا فإن هذا القانون لا يُقدم شيئًا سوى الإعلان عن نفسه، فهو — كما كتب كافكا إلى صديقه جريشوم شولم — يتمتَّع «بشرعية لكن لا مدلول له». فالوسط إن جاز التعبير هو ذاته الرسالة، فتعاليم القانون الأخلاقي مُطلَقة لكنه لا يبين لنا ماذا نفعل، فمثل ناظر مدرسة متحرِّر الفكر يسعى لتعزيز المبادرة الشخصية بين تلاميذه، هو يُوضِّح لنا السمات العامة التي ينبغي أن تُميِّز أفعالهم لكنه لا يبين عمدًا محتواها؛ فالمُتنوِّرون لا يحتاجون لأن يتمَّ إعطاؤهم قائمة بالأوامر الأخلاقية من موضع سلطة عليهم. إن الذين يحتاجون لهذه الأوامر غير قادِرين للسبب نفسه على أن يفهموا مغزاها أو يُنفِّذوها؛ إذ إن المرء يتردَّد في قبول الطعام من طباخ يحتاج إلى تعليمات مفصلة عن كيفية التعرُّف على حبة قرنبيط مثلًا.

قد يبدو القانون الكانطي في فراغِه أو طوطولوجيته مختلفًا عن أوامر الرب غير المشروطة التي يحلُّ محلَّها، باعتباره معبودًا يُملي أوامره بصيغة دقيقة غير مريحة، إلا أنه من ناحية أخرى لا يكاد يختلف عنه إطلاقًا؛ إذ إن ما يُسمى بالوصايا العشر ما هي إلا طريقة يَهْوَه في قول: «هكذا تكون محبَّتي.» فطلب الرب الأساسي ليس امتناع الإنسان عن السرقة أو الزنا بل أن ندعه يُحبُّنا لكي نتمكن بفضل نعمته تلك من أن نبادله الحب. إذًا فطوطولوجيا القانون الرمزي — «يجب أن تطيع؛ فالقانون في النهاية هو القانون والواجب هو الواجب» — هي طوطولوجيا حبٍّ عبثيٍ وفراغ سموٍّ مطلقٍ، فإن كان للقانون محتوى محدَّد فسيُمكن دائمًا مساومته وتملُّقه وتقديم الإذعان المطيع لقاء جزاء كبير. ولكن لأن شريعة موسى هي قانون الحب، فيجب على مضمونها أن يتخطى شكلها. إن ما يحبط فريسيي هذا العالِم هو صمت هذه الفضاءات السرمدية.

إذن فالأمر الإلهي — شأنه شأن الأمر المطلق عند كانط — يخلو تمامًا من المضمون، فهو كعبارة القدِّيس أوجستين «أَحِبَّ وافْعَل ما شِئتَ.» فهو يشير باقتضابه إلى سمو الرب عما هو بشري، فمن السمو ألا يفرض الرب أوامر مُقيِّدة على مخلوقاته كما تفعل الأنا العليا السادية المبالغة في عدم واقعيتها لأنه لا يحتاج إليها. فحبه — باختصار — خالٍ من الرغبة. إن هذه — وليس القانون الأخلاقي عند كانط — هي الصورة الحقيقية لعدم المشروطية؛ فالحب الإلهي يعني عدم انتظار مقابل؛ ولهذا تكون مشاركتنا في هذا الحب في أعمق صورها عندما نتمكَّن من أن نحب دون شكر أو من طرف واحد. فإن كان يَهوَهْ في العقيدة المسيحية اليهودية ليس هذا المُستبِدَّ المتعالي الذي يفرض قيودًا شديدة الثقل على كاهلنا؛ فذلك يرجع من بين أسباب أخرى إلى أنه لا يحتاج إلى العالم؛ وهو ما يَعني أنه خلقه دون أن ينتظر مقابل، بدافع الحب لا الاحتياج؛ فالخلق هو الفعل المجاني الأول، فهي مسألةُ «متعة»؛ وهو ما يعني أنها مسألة لذة «لا طائل منها» بعبارة لاكان، فالوجود هبة وليس قدرًا؛ فلا ضرورة عند الرب لخلق أدقِّ جُسَيم مادي، بل إنه بعد إعادة النظر الناضجة في الأمر ربما يندم على فعلته هذه أشد الندم. وإن كان الآخر الكبير عند لاكان ذا رغبة في ذاته، فإن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية ليس كذلك؛ وحيث إنه بالتبعية ليس لديه احتياجات عُصابية فهو لا يأمر بأن نتقرب إليه بالقرابين التي تأكلها النار أو الأوامر المتعلِّقة بالطعام والشراب أو السلوك المعصوم أخلاقيًّا، بل علينا أن ننحِّيَ جانبًا هذه المساومات الرديئة ونتقبل الحقيقة التي لا تُحتمَل، وهي أنه يغفر لنا دائمًا. فلسنا بحاجة إلى الانغماس في القلق البروتستانتي من أجل استيضاح ما يأمرنا به؛ إذ إنه لا يأمرنا بشيء أكثر من الحب. ولأنَّ الحب أمر عملي ومحدَّد فيجب أن يكون بالإمكان صياغته صياغة قانونية، إلا أن الذين يُعَرِّفونه بتلك الصيغ يُخطئون بقدر الذين يجعلونه مفهومًا مجردًا.

لا تنبع القيمة الأخلاقية — عند كانط شأنه شأن سبينوزا — من تأمُّل بعضِنا بعضًا في إطار خيالي، ناظرين إلى الآخرين من خلال ثنايا الذات المتقدة، بل تعتمد على النظر إلى النفس من الخارج، من المنظور اللاعاطفي للقانون الأخلاقي نفسه؛ وهو ما يعني النظر إلى النفس باعتبارها ذاتًا عامة؛ ومِن ثَمَّ معاملة النفس كمعاملة الآخرين. يرى كانط أنه لا يوجد فرق واضح بين الغرباء والأقرباء. فإن تعاملت مع الآخرين كما لو كانوا مكاني، فأنا أنظر لنفسي باعتباري غريبًا نوعًا ما. ومن الناحية الأخلاقية، فإننا أصدق ما نكون على حقيقتنا عندما نتصرف كما لو كنا أي شخص. إنني عندما أنقسم إلى شخصين وأنظر لنفسي من موقع النظام الرمزي نفسه، متفحِّصًا ذاتي بنظرة الغريب المحايدة، عندها فقط أكون مطابقًا لنفسي حقًّا. وهذه الرؤية أبعد ما يكون عن الرؤية الأخلاقية العاطفية عند هيوم أو سميث، وإن كان كلٌّ منهما مثاليًّا على طريقته الخاصة. إن لمح أنصار مذهب الخير في حالات التعاطُف نعيمًا يُعد كعيد حافل مثالًا للمدينة الفاضلة، فإن بعضًا من خلفائهم الأقل توهمًا عند مواجهتِهم نظامًا اجتماعيًّا مفككًا لا يشجع التواصلَ الاجتماعي اضْطُرُّوا إلى النُّزول بمدينتهم الفاضلة إلى مستوًى أكثر عمقًا حيث منطقة البديهة الغائمة التي هي الوطن المثالي للذوات العاقلة الحرَّة ولغاياتهم المتكاملة المتناغمة.

بل إنها تتشكَّل على مستوًى أعمق من هذا، فإن كان كانط الذي هو متشائم في المجمل تجاه الإنسانية يحتاج إلى فكرة الرب؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أن احتمال اجتماع الفضيلة والسعادة في العالم الآخر أكبر بكثير من هذا العالم، إلا إن كنا ننظر إلى عالم الرواية الذي برز حديثًا؛ فالفجوة بين ما هو مثالي وما هو واقعي تتَّضح في تعليقه بأن الأمر المطلق يظل ملزمًا حتى وإن لم ينجح أي شخص في الالتزام به. في حقيقة الأمر، إن نجاح أي شخص في الالتزام فعلًا به من عدمه يظل مسألة غير مَحسومة، فكيف يُمكننا التأكد أصلًا من أن تصرفاتنا كانت من دون أدنى قدر من الدافع «المَرَضي»؟ فهل نحن غير مذنبين أمام الرب؟ إن القانون الأخلاقي — كما يعلم كانط — شيء مستحيل، وهي سمة يشترك فيها، كما سنرى، مع النظام الواقعي عند لاكان.

تتشابَك المتعة والقيمة الأخلاقية، وحب الذات والتعاطف، والتجريبي والمثالي في كتابات هتشسون وهيوم. أما مع كانط فيجب إبعاد المدينة الفاضلة أكثر وأكثر عن عالم دنيوي حسي لدرجة تظل معها كيفية تحقيق المدينة الفاضلة فيه — أي كيف للوجود البديهي أن يحلَّ محل الوجود الحسي — شيئًا غامضًا. يبدو الأمر وكأنه يجب حماية القيمة المطلقة من شرور النظام الواقعي بإبقائها مدفونة دائمًا. إذًا فمِن المفارقة أن القانون الأخلاقي — الذي ينظر للرجال والنساء باعتبارهم أفرادًا يُمكنهم التعامل بتجرد فيما بينهم — يقوم في معظمه على الواقع التجريبي؛ على عين مجتمع السوق الذي ينتقده بشدة، فالفعل الأخلاقي حقًّا — كالسلعة — هو نموذج للتبادُل؛ لكن هذا في السياق الأخلاقي يعني معاملة النفس والآخرين باعتبارهم غاية في ذاتهم، وهي عقيدة تختلف كل الاختلاف مع منطق السوق، ففي مقابل المصلحة الذاتية التي تَحكم المعاملات التجارية، يقدم أنصار مذهب الخير البريطانيون العاطفة والشعور. أما الفيلسوف الألماني فهو يقلب منطق السوق على عَقِبَيْهِ.

تتشابَه الرؤية الأخلاقية المتجردة لكانط — بكل تقشُّفها المرهق — من بعض النواحي مع المفهوم المسيحي للحب أكثر مما تتشابه مع عالم شافتسبري وهتشسون المتناغم؛ إذ يُصرُّ كانط على أن عمل الخير حيثما أمكن واجب لا اختيار. وقد أصاب في رؤيته أن الحب ليس قضية عاطفية بالأساس؛ أي إننا إن اعتمدنا على مثل هذه الرغبات الطارئة فنحن على الأرجح نقيد عملنا الخيري بدائرة ضيِّقة كثيرًا. وفي المقابل يتحدَّث — وهو يستحضر العهد الجديد في ذهنه — عن «الحب الذي يمكن السيطرة عليه» ويفرق بينه وبين هذا الحب المنعدم الأساس الذي هو تلقائي و«مَرَضي». ويستبعد سورين كيركجارد بالمثل الحب المبني على نزعات الحنان الطارئة لصالح حب يتمتع بالثبات الأبدي للقانون. ويكتب «لما يصبح الحب واجبًا، عندها فقط يأمن الحب كل تغيُّر إلى الأبد …»17 ويميز القديس بولس بين القانون والنعمة، مهاجمًا الأول، لكنه يفرق كذلك بين النعمة باعتبارها قانون الرب — الذي يرضيه — وقانون الخطيئة. ويقوم إنجيل مرقس على التصور اليهودي العام لقانون الرب باعتبار أنه يتحقق بحب الإنسان لرفاقه. وعند مَتى — الذي ألَّف إنجيله بالقرب من مرقس — فكل الوصايا أساسها حب الإنسان لجاره. أما عند يوحنا — إذ يكتب عن تقليد الحكمة — فحبُّ الجار هو القانون كله. ويُظهر الحكمدار في مسرحية شكسبير «الصاع بالصاع» — وهي المسرحية التي سنتناولها بعد قليل — فهمًا إنجيليًّا تقليديًّا للعلاقات بين القانون والحب عندما يتحدث عن أنه «مُلزم بعمل الخير».

وفيما يتعلق بالحب باعتباره قانونًا، يقدم كانط الإجابة الصحيحة الأكثر تطرفًا على السؤال الذي يؤرِّق فلاسفة الخير البريطانيين: «كيف نتعامل مع هؤلاء الملايين من المجهولين لنا فيما وراء نطاق عواطفنا؟» بإنكار أن العاطفة هي العامل الفاصل هنا من الأساس، فالأمر المطلق كما رأينا لا يميز بين الغرباء والجيران. إن عدم أهمية هُوِيَّتك مطلقًا عند كانط — عندما يتعلَّق الأمر بالأخلاق — يمثل من ناحيةٍ ثغرة في طريقته المجردة في التفكير، ويمثل من ناحية أخرى نقطة قوة كبيرة. ففي المسيحية، على نحو مشابه، ليست الصلات المحلية ولا الهُوِيَّة الثقافية العامل الأهم؛ فالمعتقد الديني لا يتعلق بالنسب ولا العادات الضيقة ولا الطقوس الغذائية الخاصة ولا المعبودات المنزلية ولا التراث الوطني ولا الهُوِيَّات التقليدية؛ فالإنجيل هو نقد لسياسة الهوية من قبل أن يظهر هذا المصطلح.

لا يعنى هذا إنكار أن العهد الجديد يمنح أحيانًا أفضلية خاصة لحب «الإخوة» المسيحيين بعضِهم بعضًا. لكن بما أن ذلك لا يسعه سوى دعم مهمتهم الكونية، فليس له أن يتعارض بشدة مع حب الغرباء؛ فالخط الفاصل بينهما ضبابي، يتوارى كما لو كان وراء أقنعة تُلبس في حفل كبير، والتي — كما تقول باربرا إرينرايك — «تذيب الفوارق بين الغريب والقريب، لتُحيل القريب غريبًا لبعض الوقت ولا يكون الغريب أجنبيًّا أكثر عمن سواه.»18 بالمثل فإن الجماعات السياسية الراديكالية التي يتمكن أفرادها من بناء علاقاتِ أُلفة فيما بينهم ومع من ينتمون للجماعات المماثلة — وهو إنجاز نادر في تاريخ أحزاب اليسار — تتمتَّع بفرصة أكبر لتحقيق الفاعلية السياسية من تلك التي لا تفعل. لقد رأى أرسطو أنه لا يمكنك أن تُصادق إلا من تعرف، واعتبر أن خداع الصديق أكثر استحقاقًا لِلَّوم من خداع الغريب؛ فعدم مساعدة الأخ كان عيبًا أكبر في نظره من عدم مساعدة إنسان مجهول لك، إلا أنه لاحظ كذلك تشابهًا بين الصداقة والعلاقات السياسية؛ إذ تحدث في عمله «الأخلاق» عن المواطنين باعتبارهم أصدقاء. وتتشابك الواجبات العامة والعواطف الشخصية في الروابط والجماعات التي تُشكِّل المدينة الدولة؛ فالدول السياسية التي يُحقِّق مواطنوها قدرًا من الانسجام المتبادل تمثل نسخة عامة من الصداقة الشخصية.
أما كانط على العكس فيُقلِّل من قيمة الصداقة؛ إذ ليس ثمة من يحرص على سعادة إنسان خير من نفسه؛ والتبادلية الكاملة بين النفوس — التي يكون تمني الإنسان الخير للآخر أساسًا لحبه الخير له — ليسَت غير مُحتملة وحسب، بل على الأرجح تُقسِّي القلوب على مَن هم خارج هذه الدائرة السحرية،19 ففي الأمور الأخلاقية يرى كانط أننا يجب أن «نتجرَّد من الفروق الشخصية بين الكائنات العاقلة.»20 وما لا يدركه هو أن العمومية الحقيقية لا تعني تجاهل اختلاف الآخرين بل الالتفات إلى الاحتياجات الخاصة لأي شخص يتصادف قربه. إنَّ هذا هو الوجه الذي يمكن من خلاله أخيرًا التوفيق بين الهوية والاختلاف، فالأمر ليس حب كل إنسان، بل حب أي إنسان تَصادَفَ وجوده بالقرب منك. وهذا هو مغزى حكاية السامري الصالح؛ حيث يَعتبر اليهود الأكثر تعصُّبًا في ذلك الوقت السامرية أدنى أشكال الحياة، كما هي — على نحو أكثر عمومية — أدنى صور مفهوم العمومية المسيحي. وهي بذلك تُمثِّل رابطًا صادقًا بين ما هو شخصي وما هو عام. وقد اعتبر كيركجارد — الذي رأى بطريقة متزمِّتة أن حب الإنسان لأصدقائه تساهُل مع النفس — أن الجار هو أي شخص تُصادفه عندما تخرج من باب بيتك.
من هذا المنطلق، فإن كانط أبعد عن المفهوم المسيحي للحب مِن هيجل الذي يجتمع الرجال والنساء في رؤيته العلمانية للخلاص في عمومية الروح بكل خصوصياتهم الحسية. كما أنه يختلف عن المفهوم المسيحي للحب بافتراضه أن التضحية التي لها قيمة فعلًا هي التضحية بالنفس في سبيل القانون وليس في سبيل خِدمة الآخرين غير الأنانية. كما يختلف كانط مع العهد الجديد في عدم رؤيته أن الحب في العقيدة المسيحية قضية وجود فائض وزيادة تتخطى القياس وليس مسألةً متعلِّقة بعمليات التماثل المُنمِّقة لقيمة التبادل.21 فهي شكل من أشكال العطاء غير المُجدي، عطاء يرفض السعي لتحصيل عائد لاستثماره، ليس لأن هذا هو حال العالم لكن لأنه من غير المُحتمل بتاتًا أن يتلقَّى عائدًا. فالعهد الجديد — من بين أشياء أخرى — معارض شديد للمحاسبة؛ إذ يُخِلُّ الحب بالتوازنات المقدرة بدقة في النظام الرمزي برفضه الاحتفالي لحساب التكلفة وتصفية الحسابات وردِّ الشيء بالمثل.
سنرى لاحقًا أن النظام الواقعي اللاكاني محصلته مشابهة؛ إذ يشير جاك دريدا إلى أن النبي إبراهيم «في حالة غير تبادلية مع الرب»،22 وهو الحال الذي لا ينطبق على النبي إبراهيم وَحْدَهُ. يوصي ما يسمى العهد الجديد، الذي لا يهتم بإمكانية الحساب، بأنه إن صفعك رجل على خدِّك فأَدِرْ له الآخر، وأنك إن أجبرك أحد أن تَسير مِيلًا، فَسِرِ اثنين؛ وأنه إن أراد أحد أن يحاكمك ليأخذ ثوبك، فدعه يأخذ رداءك أيضًا. فهذه الوصايا مثلها مثل عمل «أمثال الجحيم» لويليام بليك مُبالَغ فيها عمدًا بما يفوق الحدود، وتهدف إلى الهجوم على البرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق في كل عصر. إلا أن تلك الوصايا الْأُخْرَوِيَّة — التي تسعى لتحرير المسيحيين من منطق «الوضع القائم» في ضوء نهايته المنتظرة — لا ينبغي أن يُفهم أنها تُفرغ المطالبة بتحقيق العدل من معناها، فجاك دريدا نفسه يلتف حول هذه الإشكالية بجعل العدالة هي الأخرى مسألة التزام لا مُتَناهٍ بدلًا من إعطاء الحقوق لأصحابها، ففي المسيحية، ينعكس الحب الذي هو عطاء فائض أو مجاني بوضوح في فضائل الرحمة والتسامح، وهو ما يطيح بمفهوم عدالة رد الشيء بالشيء العين بالعين المنتظرة، فحب الإنسان لأعدائه عارٌ على مفهوم قيمة التبادل.

كل هذا — بعبارة القديس بولس — هراء عند الأغيار، باختصار عند هؤلاء الذين يسعون مثل كانط لبناء اقتصاد أخلاقي أو رمزي حَسَن الإدارة. هناك بالتأكيد جانب مظلم لهذا التهور الخلاق المعروف بالانتقام الذي يمكن أن يكون مفرطًا وهدامًا بكل الأشكال السلبية؛ ولهذا لا يمكن غَضُّ الطَّرْف ببساطة عن العدالة القائمة على رد الصاع بالصاع — وكذلك عن النظام الرمزي الذي تنتمي إليه — كما يفضل بعض مناصري النظام الواقعي. يأمرنا العهد القديم بأن نتبع سياسة العين بالعين، وهي أمر مستنير تمامًا في هذا السياق. فهي ليست (كما تراها الحكمة الشائعة) تفويضًا مطلقًا للثأر الشنيع، بل محاولة لتحديد الجزاء بقدر الإساءة، فعلينا أن نأخذ العين بالعين، وليس الجسد كله. ليس تجاوز هذا الحد مُحبذًا دائمًا. وهذا هو ما تعجز عن إدراكه أي نظرية أخلاقية للنظام الواقعي، وذلك كما سنرى لاحقًا.

لا يناصر كانط القانون بسبب حبه للتشريع؛ فالفوضويون والأرستقراطيون وَحْدَهُمْ هم من يرفضون التسليم للقانون. لكنه يُناصر القانون لأنه يؤمن بأن القانون ينبغي حبه واحترامه لذاته وليس لما يأمر به؛ فالفعل السليم أخلاقيًّا لا يجب أن يقتصر على الالتزام بالقانون بل يجب أن يكون في سبيل القانون ذاته. إن القانون عند كانط في الحقيقة لا يُلزم بأي شيء على الإطلاق إلا أن تتخذ أفعالنا صورة معينة، فهو معلِّم سلوك أكثر منه واعظ لعقيدة. في المقابل يرى القديس بولس أن القانون نظام يُناسب الأطفال أو حديثي العهد بالأخلاق؛ المستجدين الذين يحتاجون التوجيه في ظل وصاياه قبل أن ينضجوا على نحو كافٍ ليستوعبوا معناها الحقيقي، فهم كالأطفال الذين يجب أن يتحملوا مَلَلَ تعلُّم جداولهم عن ظَهْر قَلْب إن أرادوا أن يصيروا علماء رياضيات مشهورين. فالقانون وسيلة لا غاية في ذاته؛ فهو بالتأكيد نموذج أولي ضروري للحياة الجيدة، لكنه ليس كذلك بالنسبة للذين بلغوا النضج الأخلاقي، الذين لا أحد منا من بينهم. إن الذين في حاجة للقانون باعتباره كتيب الإرشادات بالنسبة للعامل الفني لا يزالون في طفولتهم الأخلاقية، كالمتحدث الجديد للعربية مثلًا الذي يحتاج للرجوع إلى المعجم باستمرار. وعندما يستطيع هؤلاء التخلي عن هذا القانون سيَرَونَ العالم على الوجه السليم. ولكن لأن الطفولة الأخلاقية هي حالة إنسانية مزمنة فإن القانون لسوء حظنا وجوده دائم مثل دوام وجود الفقراء.

يرى القديس بولس أن الفضيلة هي الاعتياد التلقائي لفعل الخير الذي يؤدِّي إلى نقش القانون على القلب بدلًا من ألواح الحجر. ويبدو أنه يعتبر القانون الأخلاقي — مثل كبش الفداء أو الفارماكوس — جيدًا وسيئًا في نفس الوقت لأسبابٍ من بينها أنه ينبهنا دون قصد إلى احتمالية الخطيئة، كمقال بإحدى صحف الإثارة يخبئ شهوانيته وراء ستار السخط الأخلاقي، وكذلك لأنه يوجهنا إلى الخير دون أن يكون خيرًا في ذاته. إذًا يمكن للقانون وهو إذ يضعنا على الطريق الصحيح أن يحول دائمًا بيننا وبين ما يدعو إليه، فيُصبح هو ذاته ما تتعلَّق به رغبتنا، وهذا ما يجعل القانون بوجهَين من الناحية الأخلاقية؛ إذ يمكننا دائمًا أن نقع في حب القانون بدلًا مما يُمليه، مثلما قد نجد أنفسنا مفتونين بالمدرِّب وليس من محبِّي اللعبة. ومن بين الذين يقعون في حب القانون لذاته — ناظرين للشكل على حساب المضمون — الفيتيشيون أو الفريسيون الذين لا يمكنهم تحمل سلبية الرب السامية ويَسْعَونَ لملء فراغ الغيرية غير المحتمل بصورة واضحة للرب. إن الفيتيشية هذه هي التي حرَّمتها الوصية الأولى من الوصايا العشرة؛ حيث إن الصورة الوحيدة الحقيقية لِيَهْوَهْ هي الصورة البشرية.

بعبارة أخرى فإن الوصية موجهة ضد عالم النظام الخيالي، ضد الذين يَفخرون بعلاقتهم غير المتكَلَّفة مع الرب والذين لا يَعتبرونه إرهابيًّا عنيفًا في سبيل الحب كما هو بل يرونه مخلوقًا متحضِّرًا يُشبههم هم أنفسهم. وكما يقول لاكان بوضوح فريد: «إن الإنسان باعتباره صورة مثيرٌ للانتباه بالنظر إلى الفراغ الذي تتركه هذه الصورة؛ بسبب أن الفرد لا يرى في الصورة — فيما وراء ظاهرها — فراغ الرب المُفترض أن ينكشف. ربما يرجع لذلك لاكتمال الإنسان، لكن الرب كذلك يترك فراغًا في داخل الإنسان.»23 فالقول إنَّ الرجال والنساء خُلقوا على صورة الرب يعني من بين عدة أشياء أنهم في بحر من اللاوجود؛ حيث إن الرب لا يُرى باعتباره ذاتًا من أي نوع؛ لذلك فإن فراغ النظام الواقعي وليس اكتمال النظام الخيالي، وعزلة الدين وليس عزاء الوثنية، هي التي من خلالها يكون ظهور الرب المتأخر كثيرًا بين الناس.
إن تخليص النفس من القوة القسرية للقانون لا يكون بجعله أمرًا داخليًّا، وهو ما لن يؤدِّيَ إلا إلى تعميق القسر المَرَضي الناتج عنه، فالتحرُّر من هذا الفرض الخبيث والحميد معًا لا يعني تثبيته بداخل أنفسنا في صورة أنا عُلْيَا مستبدة من أجل أن نرضخ لأوامره بتلقائية تحاكي عادةً التحلِّي بالفضيلة ظاهرًا. وهذا تقريبًا هو رد شيلر على كانط: فالقانون يظل ذا سيادة لكن يجب تلطيف صرامته بغرسه تمامًا في الحواس.24 وكما الحال عند بيرك، فإننا لن نلتزم به حقًّا إلا بعد صبغه بصبغة جمالية، فهذا إن جاز التعبير تحول من السلطة المطلقة إلى نوع من الهيمنة. كذلك فإننا لا ننقض سيادة القانون — كما يفعل جيل دولوز — بغمس هذا النظام المُقيِّد بكامله في فورة من الليبرتارية المتمرِّدة، متطلعين في المقابل إلى آلية «الرغبة» الثورية في جوهرها، فنحن لا نتحرر من القانون الأخلاقي إلا عندما ندرك أن ما يفرضه هو خير في ذاته وليس خيرًا لأنه مفروض. إذًا يظل كانط سجينًا للقانون الأخلاقي؛ حيث إنه يرى كما شاهدنا أن القانون لا يفرض إلا نفسه. صحيح أن كانط من أحد الأوجه محطم للأوثان التقليدية وليس مقَدِّسًا لها عندما يتعلق الأمر بالقانون؛ إذ يُصِرُّ على استحالة تصويره السامي؛ إلا أنه، إذ يؤمن بأن فعله لا يتَّسم بالسلامة الأخلاقية إلا بتجسيده صورة معينة تطابق القانون، عرضة — إن جاز التعبير — لأن يُفتَتنَ بمدرب اللُّعبة لا باللُّعبة ذاتها. كما أنه في خطر الوقوع في الشطط كما في البروتستانتية الراديكالية، فالتيار الرئيسي للمسيحية يعلمنا أن الأشياء لا تكون خيرًا لأن الرب يأمر بها، وهو ما يجعل الرب يبدو مستبدًّا متقلبًا؛ مما يجعله في مرمى نيران سبينوزا. لكن الرب يريد ما هو خير في ذاته، والإقرار بذلك علامة على النضخ الأخلاقي، فهي خطوة سهلة للانتقال من الادعاء بأن الخير هو أيًّا ما يفرضه قانون متغير ما إلى الاعتقاد مثل كانط بأن الخير يوجد في شكل القانون ذاته.

إننا نتحرَّر من القانون عندما ندرك قبل كل شيء أنه قانون العدل والرحمة وليس فرمانًا يستبدُّ بالمنع والتحريم. إن هذا هو الدرس المستفاد من صلب المسيح؛ حيث يقلب موت المسيح الصورة الشيطانية أو الفريسية ليَهْوَهْ باعتباره «نوبودادي» (بحسب عبارة بليك) أو أنا عُلْيَا أو طاغية متعطش للدماء لكشف حقيقة القانون باعتباره دعوة للحب والعدل، وهي دعوة من المرَجَّح أن تُودِي بحياة من يؤمنون بها على يدِ الدولة السياسية. إن اتفاق المسيح مع قانون الرب المُحرِّر هذا — مع أنه، كما يقولون، «ابن» الرب — هو ما أدَّى إلى تعذيبه وقتله؛ فالقانون في حد ذاته هو المُتجاوز.

مع ذلك فإن القانون الأخلاقي الكانطي راديكالي تحديدًا فيما يتعلق بمجهولية الهُوِيَّة فيه، فإن كان له بعض جوانب منطق السلعة، فقد فعل ذلك بروح مستنيرة ومستبدة في الوقت عينه. وحتى السلعة عند ماركس — الذي يرى أن التاريخ يسير بوجهه السيئ — لها جانب إيجابي، فهي بوصفها لغة عامة تساعد على تجاوز أشكال الخصوصية «السيئة»، وتطيح بالحدود التي نصبها النظام القديم، وتجذب الرجال والنساء إلى تواصل قابل لأن يكون عامًّا بعضهم مع بعض، ومِن ثَمَّ فهي تضع أسس الاشتراكية الدولية. يكتب تيودور أدورنو: «هذه الشكلية (الخاصة بالقانون الكانطي) تمنع في رحمة إساءة استخدام الاختلافات الكيفية للأشياء في سبيل التميُّز والأيديولوجيا، فهي تضع شروط العرف القانوني العام؛ ومِن ثَمَّ — ورغم تجرُّدها ونتيجة له — يبقى بداخلها شيءٌ ذو أهمية هو قيمة المساواة.»25

لهذا فإن كانط — وهو أعظم مناصر للتنوير الليبرالي — يسير بوجهه السيئ، إن جاز التعبير؛ إذ صار حقك في الحرية والاحترام والحقوق المتساوية مع أقرانك لا يرجع إلى أن والدك نبيل أو سيد إقطاعي، بل لأنك تنتمي للجنس البشري. إن الجرأة التي تُمَيِّز هذا القول مذهلة. وكذلك القوة الثورية للتجريد والعمومية، خلافًا لما يراه ما بعد الحداثيون. كما أنه بمجرد أن تترسخ هذه العقيدة فسيتمكن المجتمع البرجوازي من قياس ما هو قاصر عنه حتمًا من مُثُلها المثيرة للإعجاب. قد تكون الأخلاق الرمزية متنافرة غير متآلفة؛ لكنها تنبئ بقدوم عصر الذات المقررة لنفسها. وبذلك فهي تفتح بابًا يتجاوز الجوانب الأقل جاذبية لما يُسميه هيجل بالنظام الأخلاقي؛ الامتثالية الثقافية، والعادات غير الانعكاسية والإلزامية العمياء للتقاليد. لكن بما أنها تحثُّك في الوقت ذاته على ما يتجاوَز الجوانب الأكثر الإيجابية للنظام الأخلاقي هذا — القرابة والمشاركة والفضيلة الاعتيادية والعواطف الخاصة — تصير هذه النقطة نقطة قُوَّتها ونقطة ضعفها في آنٍ واحد.

ليس كانط الليبرالي الذي يَقْنَع بترك الآخرين لشئونهم طالما لم يتدخلوا في شئونه. على العكس، فهو يقترب بقدر ما يستطيع الليبرالي من مفهوم الخير العام والعلاقة التبادُلية بين الذَّوَات؛ إذ ليس من الكافي التعايش مع الآخرين في ظل اتفاق متحضر على عدم التدخُّل، بل إن السعي تجاه المجتمع العادل يعني دعم الغايات الأخلاقية للآخرين على نحوٍ نَشِط مثل أهداف الشخص نفسه. يتحدث آلان وود عن رؤية كانط الأخلاقية باعتبارها رؤية للغايات «التي تدعم بعضها بعضًا.»26 لكن كما يوجد فارق بين القانون الأخلاقي الكانطي ومفهوم الحب في المسيحية فهناك فارق ذو صلة بين ليبرالية كانط والفكر السياسي لهيجل وماركس. ويدعم مناصرو مذهب الخير البريطانيين — كما رأينا — العلاقة التبادلية بين الناس، لكن الطريق مزدوج الاتجاه بين الناس يظلُّ أسير شِباك النظام الخيالي؛ إذ يتقيد بصورة كبيرة بالعلاقات المباشرة مع الناس. وبصفة عامة فإن هذه الرؤية ترتكب الخطأ المألوف بإحلال النبيل الإنجليزي محل البشر على مستوى العالم.

مِنْ ثَمَّ فإن الأخلاقيين من هذا النوع، كما أشرنا من قبل، لديهم مشكلة نوعًا ما مع الغرباء والنماذج المختلفة الذين تقل إمكانية إظهار الخيال لعواطفهم. أما كانط فيرحب في المقابل بالغريب عن طريق القانون الأخلاقي؛ لكنه إذ يفعل هذا يقلل من منزلة الصداقة والتعاطف الحساس. فبما أن الناس عليهم أن يكافحوا من أجل دعم غايات بعضهم بعضًا فهم، من وجهة نظر كانط، بعيدون عن أن يكونوا كالبدو الفُرادَى؛ إلا أنه طالما وُضعت هذه الغايات على يدِ كل فرد لنفسه بدلًا من أن تُبنى بصفة مشتركة من خلال الممارسة المشتركة، فيظل كانط في نطاق المذهب الليبرالي؛ إذ إن الحب يعني أن يجد الإنسان غايته في الآخر وليس مجرد أن يناصر الغاية التي وضعها لنفسه. وكما هو متوقع، فكانط عاجز أيضًا عن فهم أن مناصرة الفرد لغاية الغير على نطاق واسع ليست ممكنة إلا في ظل نظام اجتماعي غير منقسم بنيويًّا.

إن ما تحتاجه النظريتان الخيالية والرمزية هنا هو مفهوم المنظومة، فالمنظومات التي يبدو أنها ذات قيمة عند هيوم وهتشسون وزملائهما هي العائلة والنادي. من المؤكد أن القانون والملكية قضيتان شغلتا هيوم بقوة؛ إلا أنه يتعامل معهما في أغلب الأحيان على نحو تصوُّري؛ أي باعتبارهما مفهومين لا باعتبارهما واقعًا اجتماعيًّا. أما عند كانط وتابعيه فالقانون الأخلاقي بالتأكيد منظومة بالمعنى الواسع؛ إلا أن المُعطى الأخلاقي الأساسي عندهم هو الفرد، الذي يُعامل في معظم الوقت باعتباره معزولًا عن أي سياق اجتماعي، فهل يمكن إذن أن توجد صورة من التبادل الإنساني تختلف عن العلاقة المباشرة وجهًا لوجه، التي هي باختصار رمزية وليست خيالية؟ يجيب هيجل وماركس عن هذا التساؤل بالإيجاب، تمامًا مثلما فعل روسو من قبل، فالدولة في نظره يجب أن تُبنى بحيث تترجم اهتمامنا الفطري تجاه احتياجات الآخرين إلى مراعاة واعية للخير العام.

يرى هيجل أن تركيز كانط على الحرية والعمومية ضروري لكنه أُحادي الجانب؛ إذ اشترى حريته الأولية على حساب فراغ اجتماعي وسياسي معين. ولا يمكن لهذه الحرية أن تزدهر حقًّا إلا عندما تُمارس في ظل النظام الأخلاقي الهيجلي، من خلال مشاركة الذات في الصورة المادية للحياة الاجتماعية. إن التجريد الشكلي لفلسفة كانط الأخلاقية — التي ترفض بعناد أي تناول لواقع العالم — يجب أن يُرد إلى عالم العلاقات الاجتماعية التجريبي؛ إذ يجب أن يتجسد القانون في نزعاتنا وثقافتنا العامة. ويمكن اعتبار أن هذا يمثل — تقريبًا — انصهارًا للنظامين الخيالي والرمزي معًا، للسياق الاجتماعي الذي نجد فيه انعكاس أنفسنا فيمن حولنا وعالم القانون الأخلاقي العام. إن الوجود الأخلاقي عند هيجل — كما عند أرسطو — هو قضية ترتبط بالسياسة، وقبل كل شيء بالدولة التي تُجسِّد عند هيجل صورة معينة من الحياة، وتمثل رُوح العقل العام. وإلى هذا الحد يمكن دمج الفردي والعام، والحرية والمجتمع، والحق المجرد والفضيلة الملموسة. وبعكس كانط، يُقر كل من هيجل وماركس بأن الذات وغاياتها تقومان على علاقات الذات مع الآخرين؛ فهما يَرَيانِ أنها ليست مجرد قضية أفراد منفصلين يتصرفون على الطريقة الكانطية ليحققوا التناغم بين غاياتهم المختلفة، ساعِينَ إلى جعل هذه الغايات مُتَّسق بعضها مع بعض، مع تعزيز قدرة بعضهم بعضًا على تحقيقها. إن ما يُمَكِّن هيجل وماركس من التفكير بهذا الأسلوب هو مفهوم التنظيم المؤسسي، فهيجل بالدرجة الأولى هو من يدرك أن الأخلاق يجب أن تكون مسألة تنظيم اجتماعي وليس مجرد رغبات فردية منعزلة؛ فالمؤسسات هي الوسيلة التي يمكن للآخرين من خلالها أن يكونوا جزءًا منا حتى وإن كانوا غير معروفين لنا؛ فهي وسيلة للجمع بين الغرباء تمامًا في مشروع واحد. وهي تمثل إلى هذا الحد حلًّا فريدًا لمشكلة النظامين الخيالي والرمزي؛ فالأول تبادلي لكنه مُقيِّد، والثاني عامٌّ لكنه مُفكِّك.

فلتنظر مثلًا إلى فكرة التعاون المستقل، على النحو الذي تصوَّر ماركس ازدهاره في ظل الاشتراكية. فأعضاء هذا المشروع لا يدعمون أهداف بعضهم بعضًا إراديًّا، بل تكون هناك صورة من التبادلية مدمجة في بِنية المنظومة نفسها. وهي منظومة تنجح تمامًا عندما يكون أعضاؤها المتعاونون غرباء عن بعضهم بقدر ما تنجح عندما يتصادف العكس؛ فالمنظومة إذ تسهم بجهودها المميَّزة في الكيان كله تضمن أن كل عضو فرد له دور في نفس الوقت في تعزيز تطور زملائه، فتجرُّد النظام الرمزي يُستغل لتحقيق التضامن بين الأشخاص، تضامن يتمتع بلمسة رقيقة من النظام الخيالي. إن هذا — وليس مفهوم كانط عن الفضيلة الأخلاقية باعتبارها شركة مساهمة — هو الأساس الأخلاقي الذي تنبني عليه الاشتراكية، فتحقيق هدف كل فرد يصير شرط تحقيق هدف الجميع، ومن الصعب التفكير في نظام أخلاقي أكثر قيمة من هذا.

•••

وحتى كانط المنكِر لذاته بشدة لا يمكنه إنكار إغراءات النظام الخيالي جملة واحدة، فالعالم ليس ضدنا؛ لكنه، بقدر ما يمكننا الحكم عليه، ليس في صفنا كذلك. ولا يشعر الفرد بأن الواقع يشجعنا. مع ذلك توجد طريقة للتوفيق بين العقل والطبيعة، وهذه هي دائرة العالم الجمالي. ورغم أننا لا يمكننا أبدًا الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية المستعصية مثل ماهية الواقع في ذاته، فيمكننا مع ذلك أن نسمح لأنفسنا بأن نتصور أنه محكوم بغايات إيجابية وينظمه نوع من القانون؛ ومِن ثَمَّ فطبيعته مثل طبيعتنا. إن هذا النوع من التخيل الاستكشافي هو ما نستخدمه عندما نصدر أحكامًا جمالية على الطبيعة، عندما يدهمنا إحساس بأن صورها تتوافق مع قانون معين، وإن كنا غير قادرين تمامًا على أن نحدد ماهيته. لا يتضمن الشيء الجمالي عند كانط أي فعل إدراكي؛ لكن يبدو أنه يُخاطِب ما يمكننا أن نُسمِّيه قدرتنا على الإدراك بصفة عامة؛ ليكشف لنا بصورة تُشبه مرحلة «ما قبل الفهم» عند هايدجر عن أن العالم هو المكان الذي يُمكننا فهمه من حيث المبدأ؛ إذ يُلائم بحاله هذا عقولنا ملائمة رائعة حتى قبل وقوع أي فعل معرفي.

إذًا فجزء من مُتعة العالم الجمالي تنبع من الإحساس بأننا نألف مكاننا في العالم على نحوٍ يبدو مناقضًا لاستنتاجات العقل، فنحن نرى الشيء خلال إصدار الحكم الجمالي كما لو كان ذاتًا تُبدي الوحدة والإرادة والحرية التي نتمتع نحن بها. بهذا الشكل فإننا نشعر بانسجام ممتع بين العالم وبين ملكاتنا الخيالية والفكرية، كما لو كان المكان مصمَّم بصورة غامضة ليناسب غاياتنا، فالشيء يُفصَل من شبكة الوظائف العملية التي يَعلق بها عادة، ويُمنَح بدلًا من ذلك شيئًا من حرية الإنسان واستقلاله. وبفضل هذه الذاتية الخفية، يبدو الشيء كما لو كان يتحدث حديثًا مفهومًا لمن يدركونه، فيحرك فيهم أملًا بأن الطبيعة ليسَت غير عابئة كليًّا بغاياتهم.

إن كان العقل والقانون الأخلاقي يَخرجانا إذن من عالم النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي يُعيدنا إليه من جديد؛ فالذات والآخر يَلتفِت كلٌّ منهما للآخر بلطف. ويبدو أن الواقع يُقدَّم إلينا تلقائيًّا، مثل شيء يتسلَّل إلى راحة أيدينا كما لو كان تصميمه يراعي قدرتنا على الإمساك؛ ففي العالم الجمالي يمكننا أن نبتعد قليلًا عن موقع الأفضلية الخاص بنا ونستدير إلى أنفسنا ونتأمَّل التوافُق التام ظاهريًّا بين قدراتنا الإدراكية والعالم ذاته. عندها نجد أنفسنا في موقف علماء الفيزياء المُعاصِرين الذين يَعْجَبون من أن أذهاننا، وهي نتاج التطور الأعمى، قادرة على اكتشاف البِنَى الأساسية للكون، دون أي فائدة عملية ظاهرة. ويرى كانط أن الشيء الجميل يتمتع بوضع فريد لكن عام؛ إذ يبدو أنه يُقدَّم تمامًا إلى الذات ويخاطب ملكاتها، فهو «يُشْبِع رغبة» ويبدو مطابقًا للذات بنحو مُعْجِز؛ ورغم أنه يعطينا إحساسًا بالإشباع، فهو لا يستثير فينا أي استجابة شهوانية. وربما ليس من الوهم أن نجد في هذه الصورة المادية المثالية — التي تُنتزع منها كل الرغبة والشهوة الحسية — ذكرى لجسدِ الأم كما تُرى في النظام الخيالي.

في ظل هذا السياق تبدو الطبيعة متفقة مع الفهم الإنساني، وليس التمسُّك بوهم أنها مصَمَّمة لتتلاءم مع فهمنا هو الآخر خطوة عظيمة عن كانط. ويمكننا — إذ نستند بهذه الطريقة إلى ما يحيط بنا — أن نحلم بأن أعين الكون لا تتجاهلنا كما نخشى، أن نحلم بأن الكون نفسه توقَّع قدومنا ويشاركنا بعض أهدافنا. ويكتب هربرت جيمس باتون، أحد المعلِّقين على كانط، يقول:
إنه لحافز كبير للعمل الأخلاقي، وداعم قوي للروح الإنسانية، إِنِ استطاعَ الناسُ الإيمان بأن الحياة السليمة أخلاقيًّا أكثر من مجرد مشروع فانٍ يشترك فيه الإنسان مع أخيه الإنسان وفي خلفيتهما كونٌ أعمى غير مبالٍ إلى أن يُمحى هو والجنس البشري من الوجود إلى الأبد. فالإنسان لا يمكن أن يتجاهل احتمال أن جهوده الضعيفة نحو بلوغ الكمال الأخلاقي قد تتفق — رغم ما يظهر — مع الحكمة من وجود الكون …27

يبدو الأمر كما لو أن توماس هاردي — برفضه العنيد لفكرة تواطؤ الكون الحميد — قد اتفق أخيرًا مع بابا الفاتيكان. وفي النهاية فإن رؤية العالم الخالي من المعنى ثبت أنها مُستفزة أيديولوجيًّا جدًّا لكانط، وبالتأكيد لهربرت جيمس باتون، الذي نُشرت شروحه لأفكار كانط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويبقى احتمال وجود تواطؤ له حكمة بيننا وبين الكون — أي تناغم مُسبَق بين الذات والشيء — مجرد فرضية؛ إلا أنها فرضية تمنحنا على الأرجح «حافزًا كبيرًا للعمل الأخلاقي»؛ وذلك بعبارة باتون. فالرجال والنساء يواجهون صعوبة في تقبل أن القيم الأخلاقية ليس لها أصول إلا في أنفسهم، وربما يعانون من انهيار يَصحبه هلع إلى العدمية نتيجة لهذا الإدراك. إن ما يُخبِرُنا به العقل — أو النظام الرمزي — ليس تمامًا ما تقبله الأيديولوجيا أو النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي هو ذكرى باهتة للاتحاد العضوي في عصر عقلاني وأثر باهت للسمو الديني. فالتناغم أكثر أهمية في المجتمع الفردي من ذي قبل؛ لكنه يوجد في مجتمع يسوده الإحساس أو بِنية مشتركة تقوم على العاطفة وليس في كيانات سياسية أو اقتصادية.

عندما يتأمَّل الطفل الصغير في طور المرآة جسمه، فهو ينسب لنفسه تماسكًا يَرجع في الحقيقة للصورة. إن هذا في واقع الأمر هو مصدر مُتعَتِه. وعندما يُشاهد الرائي عند كانط شيئًا جميلًا، فهو يجد فيه وَحْدَة وتناغمًا، هما في الحقيقة نتيجة لقدراته العقلية الخاصة. وفي كلتا الحالتين، يقع خطأ إدراكي خيالي، وإن كان بمبادلة معينة بين الذات والشيء في كلتا النظريتين، فالذات الكانطي القائمة بالحكم الجمالي هي من بين أشياء أخرى الطفل اللاكاني المبتهج النرجسي.28 لكن في حال أن صِرْنَا متقوقِعَيْنِ بتعجرف داخل حُبِّنا لِذَاتنا فإن الساميَ عند كانط جاهز ليُخرجنا من قُصورنا الذاتي. فهو موجود ليذَكِّرَنا بأننا بلا مأوى وباللامحدودية العَصِيَّة على الفَهْم التي هي ملجؤنا الحقيقي الوحيد. فعلينا — كما يرى بيرك — أن نتعرض للتوبيخ والتملق، ونتعرض للجمال والسمو، والاتفاق والاختلاف، والأنوثة والذكورة؛ إذ يجب أن يبدو العالم مكانًا حاضنًا لنا لكي نسعى داخله لتحقيق هدف ما؛ لكن يجب علينا أيضًا أن نستسلم للتخويف من جانبه من وقتٍ لآخر، فنُنتزع من ذاتية تتمحور حول الرضا إن أردنا أن نسعى لبلوغ حدود قدراتنا.

هوامش

(1) Richard Sennett, The Fall of Public Man (London, 2002), p. 98.
(2) Ibid., p. 90.
(3) Ibid., p. 60.
(4) T. M. Knox (ed.), Hegel’s Philosophy of Right (Oxford, 1942), para. 21.
(5) See Paul Davies, The Goldilocks Enigma (London, 2006), p. 263.
(6) See Ernst Cassirer, Kant’s Life and Thought (New Haven, CT, 1981), p. 235.
(7) Theodor Adorno, Metaphysics: Concepts and Problems (Cambridge, 2001), p. 116.
(8) Immanuel Kant, Groundwork of the Metaphysics of Morals (Cambridge, 1997), p. 49.
(9) Ibid., p. 1.
(10) Immanuel Kant, Critique of Practical Reason (London, 1879), p. 249.
(11) Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis (London, 1999), p. 30.
(12) I discuss this point further in Holy Terror (Oxford, 2005), Ch. 4.
(13) Bernard Williams, Ethics and the Limits of Philosophy (Cambridge, MA, 1985), p. 16.
(14) Ibid., p. 107.
(15) See Terry Eagleton, Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003), pp. 258-9.
(16) J. M. Bernstein, Adorno: Disenchantment and Ethics (Cambridge, 2001), pp. 60-1.
(17) Søren Kierkegaard, Works of Love (Princeton, NJ, 1995), p. 29.
(18) Barbara Ehrenreich, Dancing in the Streets (New York, 2007), p. 253.
(19) I have drawn here on Mark Vernon, The Philosophy of Friendship (London, 2005).
(20) Kant, Groundwork of the Metaphysics of Morals, p. 41.
(21) See Terry Eagleton, The New Left Church (London, 1966), Ch. 1.
(22) Jacques Derrida, The Gift of Death (Chicago and London, 1996), p. 96.
(23) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 196.
(24) See Terry Eagleton, The Ideology of the Aesthetic (Blackwell, 1990), Ch. 4.
(25) Theodor Adorno, Negative Dialectics (London, 1973), p. 236, translation amended.
(26) Alan Wood, Kant’s Ethical Thought (Cambridge, 1999), p. 166.
(27) H. J. Paton, The Categorical Imperative (London, 1947), p. 256.
(28) I have written more fully on this topic in The Ideology of the Aesthetic (Oxford, 1990), Ch. 3.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤