الباقي منَ الزمن سَاعة

للصورة التذكاريَّة تعود كلما نبض قلبها بالحنين. حجرة المعيشة تزدان جدرانها الخضراء بثلاث لوحات في أُطرٍ مموَّهة بالذهب. البسملة في الصدر، الشهادة الابتدائية القديمة بالجناح الأيمن، صورة الرحلة التذكاريَّة بالجناح الأيسر. نَسِيَتْ أشياء وأشياء ولكنها لم تنسَ عام ١٩٣٦ تاريخ الصورة، ففي ذلك التاريخ كُتب الخلود للحظةٍ زمانية من تاريخ أسرتها وهي تمرح فوق كليمٍ مفروش فوق الأعشاب بحديقة القناطر الخيرية. في الوسط جلس حامد برهان رب الأسرة، ممدود الساقَين، ممتلئًا بالعافية، بدينًا، وسيم الوجه ذا سُمرةٍ عميقة، وإلى يمينه جلست هي — سنية المهدي — مُتربِّعة مُغطية حجرها وساقَيها بشالٍ عريض متألِّقة الوجه بملامحها الدقيقة الصغيرة، أما إلى يساره فجلست كوثر البكريَّة، بجمالها المتواضع ونظرتها الوديعة، يليها محمد في الجلسة كما يليها في العمر، مثل أبيه في التكوين والشكل، تليه منيرة بجمالها الفائق ونظرتها المتوهِّجة. كان الأب في الخمسين والأم في الأربعين والإخوة يناهزون البلوغ، وكان الجميع يبتسمون، تَحبُو فوق وجوههم فرحة الرحلة والسلام، وبين أيديهم تقوم قوارير المياه الغازية وأطباقٌ ورقية مُلئت بالسندوتشات والموز والبرتقال، على حين نهضت في الخلفية هضبةٌ متدرجةٌ معشوشبة وأشجارٌ منثورة، تنطلق فيما وراءها منارات القناطر وجماعات من المتنزِّهين. تجللتها — الصورة — عذوبةٌ شاملة ولم يظهر فيها أثر للزمن. غير أن الزمن لم يتوقف لحظةً واحدة خارج الصورة، ومن ضمن ما قضى به ألا يبقى في بيت الأسرة اليوم إلا مالِكته سنية المهدي وكبرى ذريتها كوثر. وهو بيتٌ فسيح، مُكوَّن من دورٍ واحد يعلو فوق الأرض بدرجاتٍ خمس، وحديقته تمتد من جانبه الجنوبي، مساحتها نصف فدان، تغنَّت عهدًا بالازدهار، وكابدت عهودًا من الاضمحلال والوحشة. وضخامة البيت والحديقة أثر من آثار حلوان القديمة، الرخيصة النائية، المغموسة في السكينة والتأمل، التيَّاهة بمياهها المعدنية وحماماتها الكبريتية وحديقتها اليابانية، مصحة الأعصاب المتوترة والمفاصل المتوعكة والصدور المتهرئة والعزلة الغافية. وجميع الدور بشارع ابن حوقل متشابهة — ما عدا البيت المواجه لبيت الأسرة الذي بِيع في أثناء الحرب العظمى الثانية لتُشيَّد مكانه عمارةٌ جديدة — ولكن بيت المهديَّة يتميز بطلائه الأخضر، وهو طلاء أغلب حجراته ذوات الأسقف العالية، وهو لون أغطية المقاعد بحجرة المعيشة، والإصرار عليه يعكس ولع المرأة به، ويشير أيضًا إلى ولعها بالبيت نفسه الذي وثقت بينهما محبة خَلقت للأبناء والأحفاد مشكلةً تعذَّر حلها في حينها. ومُشيِّد البيت أبوها عبد الله المهدي، وكان في آخر أطوار حياته فلاحًا من المُلاك المتوسطين، ولما اجتاحه الروماتزم نُصح بالإقامة في حلوان مدينة الصحة والجفاف؛ فابتاع أرضًا وأقام البيت تاركًا أرضه لابنه البكري، مهاجرًا بزوجته ووليدته سنية، ووزع الرجل أملاكه بالتراضي بين ابنه وابنته جاعلًا البيت في حصتها فلعب دورًا ذا شأن في حياتها؛ إذ نوَّهت به الخاطبة وهي تزكي سنية عند أُم حامد برهان فكان ضمن مغريات اختيارها. لكن سنية كانت على درجة من الوسامة المقبولة، ونالت أيضًا الابتدائية، واعترف لها بالذكاء وبأنها كانت خليقة بإتمام تعليمها لولا إصرار الأب على حجبها. وكم حزنت لقراره! وكم سفحت من دموعٍ احتجاجًا عليه! ولذلك، فرغم مهمتها كربَّة بيت وأُمٍّ، واظبت على قراءة الصحف والمجلات ووسَّعت مداركها حتى بلغت درجةً من النضج غير معهودة سندت بها حدسها الروحي وأحلامها العجيبة. ولعلها كانت المرأة الوحيدة في شارع ابن حوقل التي تمسك دفتر حسابات لميزانية الأسرة، كما كانت ترسل أخاها بالخطابات المطوَّلة، ربما رغبة في التعبير وإثباتًا لقدرتها عليه. وعلى حبها القديم العميق لزوجها حامد برهان شعرت في أعماقها بتفوقها عليه، ذكاءً وعقلًا، فضلًا عن أنه لم يحصل إلا على الابتدائية وإن التحق بعد ذلك بمدرسة التلغراف وتخرَّج فيها. يضاف إلى ذلك أنه لا يعرف عن سلسلته العائلية إلا جدًّا واحدًا ولا يكاد يعرف عنه أكثر من اسمه، أما هي فتعرف كثرة من الجدود وإن لم تُشِر إليهم إلا إشاراتٍ عابرة وفي مناسباتٍ نادرة. وكبر حظ جدها لأبيها من الذِّكْر بسبب نقطة التحول التي أحدثها في حياته عندما دخل الإسلام بعدما كان قبطيًّا من صلب أقباط، وفي ذلك قالت سنية ذات يوم لحامد برهان ضاحكة: تاريخي غير راكد.

وكان حامد برهان — مثل زوجه — محبًّا للفخر؛ فجرى وراء المتاح من أسبابه في حياته البسيطة المتواضعة، مُلحًّا على إثبات رجولته، ودون إغفال للحقيقة الساطعة وهي أنها مالكة البيت، وأنها مدبرته الحكيمة، وأنها مُربية الأبناء الرشيدة الواعية، فضلًا عن أنها خالقة الجو السعيد الذي نَعِمَ به طويلًا. ومن آي حبه للفخر أيضًا حَوَمانه المُصرُّ حول الإنجاز السياسي الوحيد في حياته، وهو تحريضه على إضراب الموظفين في مطلع ثورة ١٩١٩؛ فهو يرويه بتفاصيله كلما سنحت فرصة، علمًا بأنه الفعل الوحيد في حياته السياسية التي لم يبقَ له منها سوى حبٍّ قلبيٍّ عميق للوفد لا يتجلَّى بصورةٍ عملية إلا في الظروف النادرة التي يُسمح فيها بإجراء انتخاباتٍ حرة بين الأحزاب. وكان زوجًا مثاليًّا في أكثر من ناحية، فهو مُولَع بزوجه وأبنائه، وهو فحل في الرجال، وهو بريء من الأدواء التي تتطفل على ميزانية موظفٍ صغير مثله؛ فلا يسكر ولا يدخن ولا يفسق بعينَيه، حتى سهرته يُمضيها مع إخوانه في حجرة الاستقبال شتاءً أو الفراندا بقية العام، وهم من أهل حلوان مثله؛ جعفر إبراهيم ناظر على المعاش، خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي، حسن علما مهندس مبانٍ، راضي أبو العزم مدرس علوم. تنطوي لياليهم في السمر ولعب الطاولة وحديث السياسة مردِّدين نغمةً واحدةً صادرة عن لحنٍ وفديٍّ أصيل؛ فلا نزاع ولا خصام. وعُرف حامد برهان بالنظافة والأناقة والتديُّن السمح اليسير الذي يعبق به جو الأسرة. وجبر الله خاطر الوالدين بمحمد ومنيرة فشقَّا طريقهما في التعليم بنجاحٍ واعد، خاصةً منيرة التي اختُصَّت بالذكاء والجمال معًا، إلا أن كوثر تمخَّضت عن مشكلةٍ مثيرة للقلق، فهي لم تُظهر ميلًا للتعليم ولا توفيقًا فيه، وانجذبت بطبعها نحو التديُّن وشئون البيت، فاضطرت إلى ملازمة البيت بعد سقوط عامَين متتاليَين في المرحلة الثانوية، يومها قالت سنية لحامد: ست البيت غير مطلوبة في هذا الزمان.

وتَذكَّر الرجل حظَّها المتواضع من الجمال فغلبه الأسى، ولكنه قال: يوجد أيضًا الحظ وهو لا قانون له!

وكان للأسرة حياتها الاجتماعية المشتركة، تجد في الرحلة سرورها، فيوم للحديقة اليابانية، ويوم للقناطر الخيريَّة، ويوم لدار الآثار، رغم أنها كانت أيام أزمةٍ عالميةٍ طاحنة، غير أن الموظفين ذوي المرتبات الثابتة وجدوا يُسرًا في ظل الكساد وهبوط الأسعار؛ فاقتلعت العاصفة الهوجاء كل قائم، ولاذت الأعشاب بالأمان فمرحت وهزجت بالأغاني. وكان حامد برهان يمضي بأسرته دون حجاب، غير مبالٍ بالقيل والقال، فلم يمِلْ إلى التزمُّت أبدًا، وكانت وراءه امرأةٌ تُحسن التربية، وتعطي مثالًا في أداء الفرائض والسلوك الطيب. وتمضي الأيام فلا يتقدم أحد لطلب يد كوثر وهي الوحيدة التي لا غاية لها إلا الزواج. وتبسط سنية راحتَيها بالدعاء عقب كل صلاة، أو يتهلل وجهها بالبشر أحيانًا وهي تقول لحامد: رأيت حلمًا سيكون له شأن!

أو تُكلف أُم سيد بقراءة الفنجان وتصغي إلى تأويلاتها الورديَّة؛ فينتعش حامد بالأمل يهدهد همَّه المطارِد. وما يلبث أن ينسى همَّه إلى حين وهو يتابع أنباء المظاهرات، والصراع حول دستور ١٩٢٣، والسعي نحو إيجاد وحدةٍ قومية لمواجهة الموقف. ويتمخض الجهد والدم عن حدثٍ غير عادي فتُعقد معاهدة ١٩٣٦. ليلتها ثمل حامد برهان بالنصر وقال للسُّمار: كُلِّل جهاد الوفد أخيرًا بالفوز المبين.

•••

أجل كان ثمة آراءٌ معارضة ردَّدها الأستاذ راضي أبو العزم مدرس العلوم معتذرًا بقوله «ناقل الكفر ليس بكافر.» وكانت وردت قبل ذلك على لسان محمد ومنيرة نقلًا عما يسمعان في المدرسة. غير أنه لم يكن لها أثر يُذكر في الأسرة؛ فسنية وفدية مثل زوجها ومحمد وفدي أيضًا، حتى منيرة تُعدُّ وفديةً بلا حماس، أما كوثر فلا تهتم إلا بما يدور في باطنها. أما في جلسة السمر فكان الوفد متسلطًا دون شريك، فتساءل جعفر إبراهيم: كيف يتوقعون نتيجة أفضل من هذه؟

فقال حسن علما: المعاهدة ثمرة صراعٍ مرير بين إمبراطوريةٍ طاغية من ناحية وبلدٍ أعزل من ناحيةٍ أخرى، فهي مُشرِّفة لا ريب في ذلك.

فقال حامد برهان: على من لا يقتنع أن يزحف على العدو بجيشه!

فقال خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي: انتهت أيام اللعنات وسوف يحكم الوفد إلى الأبد!

ولكن بدا أن أيام اللعنات لا تريد أن تنتهي؛ فقد انفجر صراعٌ جديد بين الوفد والملك الجديد، حوَّل المعركة من معركةٍ موجهة نحو الفقر والجهل والمرض إلى المعركة التقليديَّة حول الدستور والحكم الديمقراطي، وإذا بالوفد يُطرَد والأقليات تلعب دورًا ديمقراطيًّا زائفًا كغطاءٍ متهتك للاستبداد الملكي. تبادل الأصدقاء نظرات أسًى مشتعل بالغضب. أملوا أن يغضب الشعب غضبة من غضباته الماضية، ولكنه آثر أن ينتقل من مكانه العريق فوق خشبة المسرح إلى مقاعد المتفرجين، حتى تساءل حامد برهان: من أين جاءنا هذا الحظ الأسود؟!

واسترقت سنية نظرة إلى كوثر وقالت لنفسها: مثل حظكِ تمامًا يا ابنتي!

واكفهرَّ جو العالم كله وتطاير منه الشرر، ثم انحسر قناعه الأصفر عن حربٍ عالميةٍ جديدة. وأكثر من صوت قال: إيطاليا في ليبيا على بُعد شِبر منا!

وكان محمد قد التحق بكلية الحقوق، ومنيرة على وشك الالتحاق بالآداب، أما كوثر فما زالت تنتظر. ومحمد — مثل أبيه — انصهر بهزيمة الوفد وأنباء المعارك، وجذبت نظره ذات يوم لافتةٌ مثبتة على قضبان شُرفة شقة بشارع سعفان مسجل عليها بالخط الفارسي «الإخوان المسلمون» فدعاه حب الاستطلاع والتوتر إلى اقتحام الشقة. ومضى يختلف إليها من حين إلى حين، وينوه بما يُلقى عليه فيها بين أسرته، حتى قال له حامد برهان: حسبك، إني غير مرتاح لذلك!

فدافع الشاب عن وجهة نظره دفاعًا بريئًا ولكن أباه قال: أنت وفدي، وأي تجمعٍ آخر ما هو إلا منافس للوفد!

فقال محمد بإصرار: إنها مفتوحة للجميع!

ولم يطرأ عليه في تلك الفترة من تغيير إلا أن أضاف إلى مجال اطلاعه بعض الكتب الدينية، على أن كوثر استغرقتها العبادة أكثر منه وإن عكست عيناها الوديعتان نظرة أسًى دائم. وضاعف من حرج الأسرة أن منيرة — وهي تشرئب للجامعة — تقدم لطلب يدها مديرٌ عام بالسكة الحديد في الخامسة والأربعين من عمره. لا شك أن «درجته» فتنت حامد برهان، ولكنه — مثل سنية — تَوَجَّع لحال كوثر. غير أنه لم يكن بُد من عرض الموضوع على منيرة التي أدهشتهم بقولها الحاسم: لا أوافق!

فقال لها محمد: يُستحسَن أن يُسبَق أي قرار بالتفكير المناسب.

فقالت بصراحة: لا داعي لذلك على الإطلاق.

وارتاح الوالدان في أعماقهما وإن تظاهرا بغير ذلك. ولم يكن القهر يلعب دورًا في الأسرة، وكان الأبناء يحظون بنعمةٍ غير معهودة من الحرية والصراحة. على أن منيرة لم ترفض الرجل لفارق السن فقط، فالحقيقة أنها كانت واقعة في حب. لم يفطن أحد إلى حبها، ولا أمها التي ترى بروحها أحيانًا بالإضافة إلى عينَيها، وكان حبها مشكلة. أحبَّت شابًّا من حلوان تَبين لها أنها تكبره بسبعة أعوام! كان طالبًا بالمرحلة الثانوية، كثير السقوط ولكنه ذو مظهرٍ خادع. رأته أول ما رأته في الحديقة اليابانية فاتسعت عيناه مرسلة دهشةً ذاهلة باسمة تحية للحُسن الرائق، وجلس قبالتها في القطار أو لعله تعمد الجلوس قبالتها، وراح يسترق النظر طيلة الطريق إلى القاهرة. كان ذا مظهر يكبر سنه بكثير، مترامي الأبعاد مبادرًا للرجولة قبل أوانها؛ فظنَّته موظفًا أو طالبًا في القمة، وكان إلى ذلك فحل الملامح والصوت. وراح يتابعها بإصرار وشغف حتى غزاها بلطف وثبات. وجد قلبًا يخفق بنظرةٍ متوثبة، متعطشة لأول قطرة ماء كي تتفتح أكمامها وتنبثق ألوانها الضاحكة. هكذا تسلط على فؤادها فاستسلمت للنداء المطرب حالمة بسعادةٍ مشرقة. وعند لحظةٍ فريدة يتصارع فيها الحياء والمغامرة ردَّت آخر تحياته أمام تمثال بوذا الغافي في سلام بالحديقة اليابانيَّة، فقال متنهدًا: أخيرًا! .. سامحكِ الله!

وفي ارتباكها سألته متلعثمة: ماذا تريد؟

فقال بهدوءٍ مغتصَب: ليس عندي أكثر مما يدل عليه حالي.

فعضَّت على شفتَيها لتئد ابتسامةً خائنة، فقال برقَّة: ليس وراء الحب شيء.

قالت لنفسها ما أصدقه! وتلاقيا مرات في الجنفواز على مبعدةٍ يسيرة من الجامعة ليزدادا ببعضهما تعارفًا. كان ثمة تشابه بين أسرتَيهما؛ فأبوه ناظر مدرسة ابتدائي، له أختٌ متزوجة وأخٌ ضابط بالجيش، اسمه سليمان بهجت. ولما عالنها بسنِّه وصفِّه المدرسي تلقَّت لطمةً مباغتة لم تتوقعها. كانت تشارف مرحلتها الجامعية بقسم اللغة الإنجليزية، وربما توظفت وهو يلتحق بالجامعة؛ فأي مهزلة وأي خدعة! اضطرب ميزان عقلها ولكن قلبها صمد صمود العاشقين، طرحا العواقب جانبًا. ولاحظ سليمان وجومها ولم تغب عنه أسبابه، فقال: في الحب لا أهمية للمشكلات السطحية.

فتساءلت بحَيْرة: أهي سطحية حقًّا؟

– بلا شك، علينا أن نُصرَّ على حبنا حتى نتزوج.

فقالت بسرورٍ خفي: إنك جادٌّ ولي فيك كل الثقة، ولكني أسألك مهلة للتفكير لصالح كلينا.

فقال بيقين: إني أعرف صالحي تمامًا (ثم ضاحكًا) ولن أسمح لكِ بالتراجع.

ولم تجد في أسرتها من تُفضي إليه بسرِّها سوى أمها. اقتحمت غرفتها الخضراء عقب صلاة العصر رادَّة الباب وراءها وجلست قائلة: إليكِ حكايتي يا ماما …

لما أدركت أنها حكاية خطوبة نوَّر قلبها بالسرور، ولكنه سرعان ما انطفأ لدى طرح المشكلة. وتفرَّست في وجهها فاستشفت ميلها الدفين وراء قناع الحيرة فأدركها الجزع. قالت لنفسها إن حظ كوثر سيئ، أما جوهرة الأسرة فلا يجوز أن يسوء لها حظ. قالت بثبات: مشروعٌ فاشل ولا خير فيه.

فرمقتها منيرة بنظرةٍ كئيبة، فواصلت: الرجل الأكبر في السن مقبول ألف مرة أكثر من المرأة الأكبر، حذار يا منيرة! ما هو إلا عبث صبي لا يوثَق به، وأنتِ رشيدةٌ مثقفة.

فلاذت بالصمت الذي أدركت الأم معناه، فقالت بقلق: الناس يحبُّون ليسعدوا لا ليجعلوا من حياتهم نادرةً يُتندَّر بها، لن يمنعكِ أحد مما تريدين، أنتِ حُرة تمامًا في اتخاذ قرارك، ولكني أُحذرك؛ فالمرأة تمضي إلى الشيخوخة أسرع من الرجل.

فتمتمت بغموض: أشكركِ يا ماما!

فقالت برجاء: لا داعي للعجلة، فَكِّري على مهل، دعي الأمر معلقًا حتى يئون أوان الزواج ثم انظري ماذا يبقى منه.

فقالت منيرة وهي مستغرقة بالحيرة: حلٌّ موفق يا ماما.

– عظيم، وليكن الأمر سرًّا حرصًا على الكرامة!

ولكنها لم تعتد أن تخفي عن حامد برهان أمرًا ذا بال؛ فأشركته في همها قبل انتقاله إلى مجلس السُّمَّار. وفاق تأثره بالسِّر تأثرها؛ إذ كان عاطفيًّا أكثر منها، أو كان دونها في ضبط النفس، قال بنبرة المتشكِّي: أي حظ يا ابنتي! .. إنكِ درة التاج فلمَ تُبتلين بهذه التجربة؟

وتفكَّر مليًّا ثم قال: إنه مشروعٌ فاشل، ولكنه خليق بأن يقوم عثرةً في سبيل من يطلب يدها!

ولم ترَ سنية حُلمًا ذا معنًى، وضربت تأويلات أُم سيد للفنجان في آفاقٍ بعيدة عن الموضوع. أما سليمان بهجت فقد عدل عن رغبته المُلحَّة في إعلان الخطوبة، قانعًا بعلاقة أقرب إلى الصداقة مُورست في مودة وتحفُّظ وصينت بالصبر الطويل. على أن سرًّا بهذه الخطورة لا يمكن أن يبقى سرًّا طويلًا؛ فما دام توجد رائحةٌ نفَّاذة وجوٌّ ذو قابلية لسريان الرائحة فلا بد للرائحة من أن تنتشر. انكشف في بيت سليمان بهجت وقال له أخوه الضابط: أحسنتَ الاختيار.

وكثرة من زميلات منيرة بالكليَّة عرفنه، وزحف أخيرًا على شارع ابن حوقل فنوقش في مجلس السُّمَّار، وبذلك عرف القاصي والداني أن كريمة حامد برهان الجميلة «محجوزة» فلم يتقدم أحد ليخطبها، مثلها مثل أختها كوثر التي طال بها الانتظار وتقدم بها العمر. وكانت أيام حرب وبلاء، واحتلت الوفيات الصفحات الأولى من الصحف ولكن على نطاق العالم، والْتَهم الخراب العواصم الزاهرة، ودنا الخطر من مصر حتى ترددت أنفاسه في القاهرة والإسكندرية، فقال حامد برهان: من راقب بلوى العالم هانت عليه بلواه!

واختلَّ ميزان المعيشة؛ فتوارت الأسعار القديمة إلى الأبد، وانهمرت الثروات على أناس، فلم يبقَ في القعر إلا الموظفون، فتساءلت سنية: ما جدوى إمساك دفتر لميزانيةٍ وهمية؟!

ولولا عودة الوفد للحكم عقب أزمةٍ خطيرة وتقريره علاوة الغلاء لهلك الموظفون. ولم يزعزع الحدث إيمان حامد برهان بوفديَّته، بل رقص السُّمَّار فرحًا وشماتةً بالملك. وقالت منيرة: إنه شيء بشع لا يُصدَّق.

وقال محمد لأبيه: ما أفظع ما يقال!

فقال حامد برهان بثقة: كل قول جدير أن يتحطم على صخرةٍ صلدة هي وطنية مصطفى النحاس.

فهزَّت سنية رأسها باسمة وتمتمت: نطقتَ بالحق.

وتمضي الأحداث، ويميل مؤشر النصر إلى الناحية الأخرى، ويُقال الوفد كالعادة من الحكم، وبعد عامَين يُحال حامد برهان إلى المعاش لبلوغه السن القانونيَّة، شد ما انقبض صدره حتى ساوره شعور بأنه يموت قبل الموت. لدى رجوعه إلى حلوان نازعًا معطف الوظيفة لأول مرة اجتاحته كآبةٌ ثقيلة، وداخَلَه إحساس بالخجل كأنما ارتكب إثمًا. قال لنفسه: ما زلت في تمام الصحة والعافية.

ورسم لنفسه — وهو قابع في قطار حلوان — خطةً يتحدى بها قرار الحكومة؛ أن يستيقظ في ميعاده المبكر، أن يتمشى ما بين الصحراء والحديقة اليابانية كل صباح مغترفًا من هواء حلوان الجاف، أن يواظب على الارتواء من المياه المعدنية، أن يعنى بحديقة البيت ما وسعته طاقته المالية المحدودة. وتلقَّته سنية باسمة، دعت له بطول العمر، مطاردة أفكارًا كئيبة تطنُّ في باطنها كالذباب. عطفت عليه، رأت وجومه وراء ضحكته المفتعلة، قاسمته الانفعال بالزمن والخوف من المجهول، بالإضافة إلى همومها كربَّة بيت تفعل المستحيل للاحتفاظ بالحد الأدنى في مواجهة حياة يشتدُّ عسرها في بطء وثبات. وحمدت الله على الفرج المنتظر بتخرج محمد ثم منيرة. قالت في لحظة تأمل: أشعَلوا الحرب وذهبوا، وعلينا أن ندفع الثمن!

واستوعب الغذاء والكساء كل شيء، ولكن ألا يحتاج هذا البيت الكبير إلى ترميم وطلاء؟ .. وهذه الحديقة التي عقمت أشجارها الباقية، وذبلت شجيرات أزهارها، وشغلت الأرض الرملية أكثر سطحها ألا تحتاج إلى بعث؟ .. أين هي من ذلك كله؟! وهي حتى متى تحمل أعباء البيت ولا مُعِين لها إلا فتاةٌ منكسرة القلب، وخادم تُماثلها في السن ضئيلة المهارة لا تُحسن إلا قراءة الفنجان ونادرًا ما تَصدق لها قراءة؟ ولكن الهموم تتداوى بالهموم أحيانًا؛ فقد اقتحم البيت همٌّ في صورة فرحٍ باسمٍ. أجل أخيرًا جاء رجل يطلب يد كوثر! كان خليل الدرس — أحد السُّمَّار — وهو الخاطبة! وكان العريس الوجيه نعمان الرشيدي الذي يعمل الرجل وكيلًا لدائرته. قال خليل الدرس لحامد برهان: رجل ولا كل الرجال.

ثم مُبادرًا قبل أن تلعب الآمال بقلب حامد: حقًّا لم يتعلم ولكن ما حاجته إلى التعليم؟ وهو في الستين ولكنه يحظى بصحة ابن الثلاثين، له أبناءٌ ثلاثة ولكنهم موظفون ومتزوجون، يملك أرضًا وعمارات وأموالًا سائلة، يقيم في فيلَّا أنيقة بشارع الزقازيق بمصر الجديدة، ولما ماتت زوجه منذ عام غشيته وحدة لم يألفها، فضاق بها وغمرته كآبةٌ ثقيلة حتى اقترحتُ عليه فكرة الزواج فرحَّب بها بحماسٍ فاق تقديري بكثير، فطلبت إلى زوجتي أن تدعو ست سنية وكوثر لزيارة، ودعوته من ناحيتي، ويسَّرت له رؤيتها في الحضور والانصراف فسُرَّ جدًّا وأمرني أن أتمَّ السعي، وها أنا أفي بما تعهدت به.

هكذا ذابت هموم الحياة اليومية واستأثر المشروع الجديد بالأفئدة. أسكتوا الراديو في حجرة المعيشة، وأفضى حامد برهان بما لديه، ثم قال: هذا هو العريس فما الرأي؟

همَّت كوثر بالانسحاب ولكن حامد برهان أمسك بساعدها وجذبها إلى جانبه بحنان قائلًا: هنا مكانك.

فقال محمد ضاحكًا: من حُسن الحظِّ أن الحكومة لا تتدخل في هذه الشئون.

وساءلت سنية نفسها لِمَ يتعثر حظ ابنتَيها فلا يعرف الطريق المألوف؟ وقالت: لنترك الأمر لصاحبة الشأن!

فقال حامد برهان: طبعًا طبعًا .. ولكن لا بأس من إبداء الرأي مساعدة لها، الرجل ثري، والمال زينة الحياة الدنيا!

وهمَّ محمد بتكملة الآية ولكنه عدل عن ذلك. كان ينظر إلى بقاء أخته في البيت الكبير بلا زواج ولا عِلم ولا عمل بقلقٍ شديدٍ. قال: فرصة لا يصحُّ الاستهانة بها.

فقالت منيرة: أوافق على رأي كوثر دون قيد أو شرط.

فقال لها أبوها: لم تقولي شيئًا!

فقالت بإصرار: قلتُ كل شيء.

ونظر حامد برهان نحو سنية وهي متربعة فوق الكنبة فتمتمت: رجلٌ مقبول من بعض النواحي ولكني تمنَّيتُ لها حظًّا أفضل .. وهربت بوجهها من نظرتهم فاستقرت عيناها على الصورة التذكاريَّة. وقالت كوثر لنفسها إنهم يميلون للموافقة. وهي أيضًا مالت إليها منذ اللحظة الأولى؛ فهذا الرجل هو أول رجل يتقدم، وهي تغوص في السادسة والعشرين تكتنفها أحوال تدعو إلى اليأس، وهي تثير العطف حتى كرهته، وباتت تخجل من لقاء الزائرات. ولما مسَّها أبوها برقة متسائلًا: وأنتِ يا كوثر؟

أحنت رأسها وغمغمت بصوت لم يُسمع: موافقة.

وانتهت الجلسة بسلام ولكن ثمة شعور بالذنب طاردهم قاوموه بالشعارات الطيبة. وعندما خلا حامد برهان بسنية عقب انصراف السُّمَّار قال: بارك الجميع قرارنا.

نظرت إليه فهالها أن ترى عينَيه دامعتَين، لم تدهش لِمَا تعلمه من سخاء عينَيه إذا مُسَّ وترٌ حميم في قلبه، أما هي فتبكي في الداخل. وسألته بأسًى: لِمَ تبكي يا رجل؟

فتنهد قائلًا: من العجز وسوء الحظ.

عنى عجزه المالي وسوء حظ ابنته. وهو كان يرى أكثر مما يتصور من حوله. لاحظ بقلبٍ متغضن انزواء كوثر، أسى نظرتها، معاناتها للمراهقة، إغراقها اليائس في العبادة، تطوعها لخدمة إخوتها في استسلامٍ كامل، فدفعه ذلك كله إلى مواجهة عجزه. ماذا فعل من أجلها؟ ماذا يملك من المغريات؟ وكم قسا عليها أيام الدراسة مُصرًّا على تحميلها ما يفُوق طاقتها رغم أنه كان مثلها في معاناة التعليم، وإلا لشقَّ لنفسه طريقًا آخر أبعث للآمال له ولذريته. وسأل زوجته ومرشدته: ما العمل الآن؟

استخرجت من الجملة القصيرة مضمونها الخفي فقالت: عندي مجوهرات لا بأس بها!

فقال بِذُلٍّ: أحاول أن أقترض أيضًا؟

فقالت بضيق: لن تجد ضامنًا، ولا ضرورة لذلك.

على أن السيد الوجيه نعمان الرشيدي جعل من العسر يسرًا؛ نشط نشاطًا كبيرًا فأهدى أثاث فيلته إلى أبنائه، وأعاد تأثيثها على أحدث طراز، وفي مقابل ذلك اتفق على صداق ومؤخر صداق رمزيَّين. وارتاحت الأسرة في الأعماق لذلك ولكن تجلى طفحه في الوجوه في صورة كبرياءَ جريح. لذلك غالت الأم في تزويد كريمتها بالثياب أشكالًا وألوانًا، وأغدقت عليها هدايا ثمينة؛ أساور ذهبية وقرطًا ماسيًّا وساعةً أثرية. وبدا الوجيه حريصًا على الوقت فتحدد يوم لكتب الكتاب في البيت الكبير شهده الأصدقاء ولم يحضره أحد من أبناء الوجيه، معلنين بذلك مقاطعتهم التي تواصلت إلى الأبد. ومضى الوجيه بعروسه في سيارته المرسيدس البيضاء مودَّعًا ببسمات متلألئة بالدموع كرمز للفرح والأسى معًا. وعقب الزيارة الأولى التي قامت بها الأسرة لفيلَّا شارع الزقازيق قال حامد برهان: كوثر سعيدة والحمد لله.

كانت سعيدة حقًّا، وسرعان ما بادلت زوجها حبًّا بحب. كان حبًّا حييًّا هادئًا ولكن بالقياس إليها كان الحب كله. وما لبثت أن بشَّرتهم بمقدم مخلوقٍ مجهول من الغيب؛ فانغرست البشاشة في قلب سنية المهدي طارحة ورودًا وأزهارًا. وأضفت التسريحة الجديدة على وجه كوثر أنوثة، وأكسبها الزِّواق ملاحة، وأسبغت عليها الثياب الفاخرة جلالًا وسؤددًا وإن لم تهمل يومًا سجادة الصلاة. وأخفت عن أمها همومًا صغيرة تسلَّلت إلى وجدانها من جراء محاولاتٍ مستميتة بذلها نعمان الرشيدي ليقنعها باحتساء القليل من الويسكي، لاجئًا إلى إصدار فتاوى شخصية لا أساس لها بأن الشرب الشرعي حلال، حتى يئس فقنع بالمتاح. وما إن رفع حامد برهان رأسه عن هم كوثر حتى ركز عينَيه على العمارة الجديدة التي استوت قائمة في مواجهة بيته. وبدأ الهدم ورمي الأساس من سنوات، وتوقف العمل وقتًا غير قصير لأسبابٍ مجهولة، ثم استؤنف حتى اكتملت بقاعدتها الواسعة وقامتها المديدة. أسف حامد لذلك غاية الأسف، وتحسر على زوال حديقة البيت الأصلي وأن يقوم مقامها بناء فيحجب ما يحجب من منظرٍ مأنوس ويمنع ما يمنع من هواءٍ طلق. وانْقَضَّ على العمارة سُكانٌ جدد فاق عددهم سكان «ابن حوقل» جميعًا، لا يعرف بعضهم بعضًا ولا يتحمسون لمعرفة أحد. قال جعفر إبراهيم: هذا مصير بيوتنا الكبيرة القديمة!

فتساءل حامد برهان: ولكن ما حلوان إذا اغتُصب هدوءها الأبدي؟!

وخُيِّل إليه أن بوذا سينتبه من تأملاته العميقة محتجًّا ثم يرحل وراء الهدوء إلى أعماق الصحراء.

ولم تكن العمارة بالهمِّ الوحيد الذي طرأ؛ فقد تدفق طوفان في ميدان السياسة دافعًا بين يديه مظاهرات من الطلبة والعمال مطالبين باستقلالٍ حقيقي يكافئ ما بذلته مصر من تضحيات وخدمات في أثناء الحرب. وكالعادة غلبت السياسة على السمر وانهمك حامد برهان الوفدي العريق في همومها، وقال: لو بقيَ مصطفى النحاس في الحكم لطالب الإنجليز بجزاء تأييده لهم في وقت الهزيمة.

غير أن همومه لم تَحُل بينه وبين رؤية ساكنةٍ جديدة في الدور الرابع من العمارة الجديدة. كان يتمشى في حديقته الموحشة مُصارعًا الفراغ الجديد المهيمن على حياته فحانت منه التفاتة فرآها تتمشى في مطلع خريف. لعلها تُماثل سنية في العمر — في الخمسين — ولكنها رشيقة مزخرفة ذات شعرٍ ذهبيٍّ وعِرقٍ أجنبي. استقبل من ناحيتها تيارًا مثيرًا، هو الذي لم يهتم بالنظر إلى امرأة منذ تزوج من سنية المهدي. عاش حياته زوجًا مثاليًّا لا يزهد ولا يتغير ولا يحلم حتى لفت الأنظار بطبعه العجيب. ولا يذكر أحد من معارفه أنه سمعه يحدث عن عالم المرأة، حتى قال صاحبه راضي أبو العزم مدرس العلوم: حامد متخصص في زوجته.

وبدا أن المرأة هَيَّجت اهتمامات الجيران بفرنجتها وعصريتها وملابسها، فانتشر من نافورتها الشادية رذاذ المعلومات. قيل إن أمها إفرنجيَّة — وإن لم يحدد الجنس — وإنها أرملة للمدعو حسن كمال الذي كان مُدرسًا بمدرسة الفنون وعضو بعثة في الخارج. وقيل إن لها ابنةً وحيدة مترجِمة بوزارة الخارجية، ثم صُحِّح الخبر فيما بعدُ فقيل إنها ابنة زوجها من زوجةٍ سابقةٍ متوفية وإن المرأة تبنَّتها لعقمها؛ فعُدَّ ذلك حسنة تُحسب لها. ثم عُرف أن اسم المرأة — بعد إسلامها — ميرفت وأن البنت اسمها ألفت. وكانت المرأة تسلي وحدتها بالمشي في شوارع حلوان وزيارة الحديقة اليابانية، تمضي رشيقةً براقةً مثيرةً داعية — دون مبالاة — لشتى الظنون، باسمة متحدية، بخلاف ألفت المواظبة على عملها والمُتَّسِمة بالجدية والحياد أيضًا. وبالقياس إلى حامد برهان لم تكن ميرفت مجرد امرأةٍ مثيرة تسعى، ولكنها كانت غزوة اقتحمت حصنه المنيع، ونارًا أشعلت هشيم خياله، وسيلًا جرف سده العالي. وعجب الرجل لحاله مغمغِمًا: أعوذ بالله.

وذكَّره ذلك بما جرى في الحرم الجامعي وفوق كوبري عباس من مظاهرات وسفك دماء فقال: هذا يثبت أن الأرض تدور على قرن ثور!

– وعمَّ البلاء عندما وهبته المرأة انتباهها ولم يعد ثمة شك في أنها تشجعه! وذات يوم تلاقت أعينهما في نظرةٍ آسرة فابتسمت إليه. تناثرت إرادته وانفجرت غرائزه، وتمخَّض جسده البدين عن جنونٍ أحمر. تناسى واقعه وسنية وكوثر ومحمد ومنيرة فمضى وراءها إلى الحديقة اليابانيَّة، ولم يكن يدري شيئًا عن الغزل ولا حتى عما يجب أن يُقال فسلَّم نفسه في براءة طفل، وتواعدا على اللقاء في القاهرة مختارًا اليوم الذي يتسلم فيه معاشه على سبيل الحذر. وبهذه العلاقة استوى في مقام الحيرة. أدرك من أول وهلة أن «مصروفه» لا يسمح له بعلاقة غير مشروعة، فضلًا عن أنهما لا يجدان عُشًّا مناسبًا. وقالت له: إني سيدةٌ محترمة!

فقال — وكانا يجلسان في محل باليرمو بالهرم — بصراحةٍ مؤثرة: وأنا كما ترين فقير!

فقالت بجرأةٍ غريبة: لديَّ إيرادٌ خاص لا بأس به.

فقال بسذاجة: ممكن أحتفظ بنصف معاشي إذا توظف ابني وابنتي في القريب العاجل.

هكذا انحرف الحديث إلى «الشرع» وقذف بحامد برهان إلى حياةٍ جديدة لم تجرِ له في خاطر، ورجع إلى حلوان وهو يقول لنفسه: أدرك الآن معنى أن يُغلَب إنسانٌ على أمره!

أي قنبلة انفجرت في صدر سنية المهدي والزوج المستأنس المحب البكَّاء يقف بين يدَيها حاني الظهر مغروز العينين في البساط القديم المنجرد وهو يقول: إنه أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!

استيقظت من كهفها على صدمةٍ كهربائيةٍ مزلزلة: ماذا يقول الرجل الممسوس؟

– تزوجتُ، إنها محنة، ولكنكِ ستظلين الزوجة والأم!

إذن فأي شيء يمكن أن يحدث.

– إنك مجنون ولا شك!

وكعادته عند غلبة الانفعال دمعت عيناه. استمسكت هي بمظهرها الرزين المجلَّل بذهولٍ غامض. كرهت دموعه واحتقرتها وتردَّت بيقين في هاوية. وثبتْ بها دفعةٌ مباغتة لصفعِهِ ولكنها لم تفعل. كظمت دوامتها بسلكٍ صلب. أمرت قلبها بأن ينكسر وحده وفي صمتٍ جليل وبأن يتشرب أشنع الآلام كما لو كانت ماءً عذبًا. قال بصوت رجلٍ آخر: لن يفصل بيننا شيء.

عند ذاك هتفت به: لا ترني وجهك أبدًا.

وتلقَّى محمد ومنيرة الخبر، فصاح محمد: يا خبر أسود!

أما منيرة فلم تنبس ثم أفحمت في البكاء. وقف قلباهما وراء أمهما وأدانا أباهما دون قيد أو شرط.

وقالت منيرة لمحمد وهما في الفراندا وحيدَين: أنا لا أفهم شيئًا!

فقال بامتعاضٍ شديد: إنها مأساة أُلقيت على بابا لتُلقى بعد ذلك على ماما ثم تطوِّقنا جميعًا.

ودفع الزواج الجديد الزوجَين إلى ضربَين من الجنون؛ جنون صمت وكبرياء غزا الأم، صممت على ممارسة حياتها اليومية وكأنها لا تبالي، بَيْد أنها كانت مشتعلة القلب والعقل طِيلة الوقت؛ فراحت ترى وراء الأحداث اليومية — المسموعة والمقروءة — شبح مأساةٍ كونيةٍ غامضة، وأن حماقة الإنسان داءٌ متأصل لن يشفى منه إلا بمتناقضاتٍ شتى كالعنف والحكمة والرحمة! وبذهاب «العجوز المتصابي» أتيح لها فراغ لم تعهده من قبلُ فتَعلَّق اهتمامها بالبيت، وشعرت أكثر من أي وقتٍ مضى بأنه ليس على ما يرام؛ إنه يطعن في القِدَم دون رعاية ولا عناية، ها هي تتجول بين الحجرات والحديقة، تنظر وتتفحص، بهتت الألوان، تقشَّرت الأركان، تشقَّق خشب الأرضية وفقد مرونته، ذبلت الحديقة وملأتها الوحشة وتراكمت في أجزاء منها الأوراق الجافة، وقالت: العين بصيرة واليد قصيرة.

وتابعها محمد مرة بعينَيه ثم همس في أُذن منيرة: إني قلِق.

فهمست له بدورها: ليتها تُروِّح عن نفسها ولو بالدموع؟

أما حامد برهان فلم يبقَ له إلا أن يغمض عينَيه ويصمَّ أذنَيه حيال الماضي، وأن يرمي بنفسه في بحر العسل. انقلب إلى مُراهقٍ ذي رأسٍ أبيض وجسمٍ مليء بعنفوان لا يدري من أين جاء. ووجد في ميرفت امرأةً فائقة المقدرة، مُتقنة لفنون من العشق لم يعرفها من قبلُ. وبادلته هيامًا بهيام، ولولا دعمها المالي لحياتهما المشتركة ما أمكن لها دوام. وبمضي الأيام انتقل مجلس السُّمَّار إلى الشقة الجديدة، وأضافوا إلى أحاديثهم المألوفة موضوعاتٍ جديدة عن وصفاتٍ ناجعة لتجديد الشباب. وفي أثناء ذلك وُلِد رشاد ابن كوثر، وتخرج محمد، ثم لحقت به منيرة، وهي أحداثٌ خليقة ببعث السرور الشامل ولكنها لم تحظَ إلا بفرحاتٍ سريعة الزوال كانفراج السُّحب عن شروق الشمس دقائق في يومٍ مطيرٍ عاصف. وزاد من تجهُّم الجوِّ اشتعال حرب فلسطين، فعلا صوت المعركة المُبهم المشحون بالقلق على معارك حامد برهان الجنسية الظافرة، وشدَّ سنية المهدي من حالٍ سيئة إلى أخرى، كمن يفلت من قبضة صداع ليقع فريسة لروماتيزم، على حين تابعت منيرة الأنباء من موقع وظيفتها الجديدة كمُدرسة للغة الإنجليزية بمدرسة البنات بالعباسية، أما محمد فوجد عملًا في مكتب الأستاذ عبد القادر قدري المحامي الوفدي المعروف، وكان موصولًا بصداقته من عهد وفديته الخالصة فلم ينقطع عنه بعد أن مازجت وفديته «إخوانية» متصاعدة. وبذل محمد جهدًا صادقًا في عمله حاز به ثقة أستاذه، غير أن الحرب انتهت بهزيمة العرب، ومقتل النقراشي، وإعلان حربٍ داخلية لا هوادة فيها ضد الإخوان، فقُبض على محمد فيمن قُبض عليهم ضمن شعبة حلوان. وهزَّ النبأ الأسرة هزةً فاقت أحزانها الخاصة والعامة. واستقبل البيتُ القديمُ بحلوان الوجيهَ نعمانَ الرشيدي وكوثر، بل جاء حامد برهان نفسه. وتجاهلت سنية زوجها تمامًا فتجنَّب إزعاجها ومضى يوجِّه حديثه إلى نعمان أو منيرة. ولم يكن دون سنية قلقًا حتى قال الوجيه نعمان: مؤكد أنه لم يتورط في جريمة فلا خوف عليه.

فقالت منيرة: أخشى ألا يفرقوا بين البريء وغيره في حومة الانتقام.

فقال حامد برهان: لم يرتحْ قلبي قط لانضمامه إلى الإخوان، وكلنا مسلمون والحمد لله!

وشعر نعمان الرشيدي بأنه مُطالَب بأكثر من الكلام لعلاقته الوثيقة بالمسئولين من جميع الأحزاب فقال: سأبذل ما في وسعي رغم أن الدفاع عن إخواني في هذه الظروف تصرفٌ مرعب!

كان حريصًا على علاقاته الودية بجميع الأحزاب؛ لذلك ساءه أن يكون أخو زوجته إخوانيًّا، فكيف يسعى بنفسه إلى الكشف عن هذه الحقيقة الفاضحة؟! وجعلوا يواسون سنية باعتبارها المحور الأول للحزن، فقالت بأسًى: ثقتي بالله لا تتزعزع.

غير أن الحزن قطع قلبها فساء نومها، وكانت تنام إذا نامت وقلبها مسهَّد، وتحلم بالعذاب. وجاءها خطاب من أخيها ينعى إليها بكرِيَّه الذي استشهد في الحرب بعد أن ظن أنه مفقود، فسرعان ما سافرت إلى بني سويف للعزاء. على أنه أُفرج عن محمد بعد فترةٍ غير قصيرة فرجع ذات يوم وألقى بنفسه في حضن أمه. وتظاهر — رغم شحوبه وذبوله — بالسرور مخفيًا عن أمه الأخبار المحزنة. ورجع إلى عمله بمكتب الأستاذ عبد القادر قدري مصمِّمًا على الاجتهاد، ولما سأله الأستاذ: هل شَبِعت من الإخوانيَّة.

أجابه ضاحكًا: العكس هو ما حصل!

فقال الأستاذ عبد القادر: افهم معنى الوفد قبل فوات الأوان، إنه ليس حزبًا ولكنه قاعدة الأساس المتماسك، هو بكل إيجاز «مصر».

فتساءل محمد: هل نَدور على مدى العمر حول الاستقلال والدستور؟!

– جدِّد ما تشاء ولكن فوق القاعدة المتماسكة، وإلا وجدت نفسك في عهد ما قبل الأُسر!

ولما انفرد محمد بأخته منيرة قالت له برثاء: شدَّ ما هزلت!

فقال متجهِّمًا: لن تُنزع من روحي آلام الضرب الذي انهمر على جسدي كالمطر!

وأدركت سنية ذلك بحدسها، وبتأويل أحلامها، ولكنها صمَّمت على الصبر مع الحياة الجديدة. لَفَظت حامد برهان من ضميرها كما يبصق الإنسان حلوى فضح الريقُ فسادَها، ولكنه بقيَ جرحًا مفتوحًا ينعى الحب والوفاء. وقالت إنها ستنسى تمامًا وتسلو، بل وتسعد، لو أمكنها ذات يوم أن تُعيد إلى البيت شبابه الغضَّ. لديها نصف معاش «الخائن» ومرتب منيرة ومحمد، ولكن الغلاء يمضي في سبيله في بطءٍ وثباتٍ، ثم إن لمحمد ومنيرة آمالهما الخاصة! لم يبقَ لها إلا الحلم؛ هو الذي يرمِّم ويطلي ويبيع الأثاث القديم ويشتري أثاثًا جديدًا، هو الذي يُشذِّب الأعشاب، ويغذي الجذور، ويُسمِّد الأرض، ويغرس أشجار الورد. إنها تحلم وتناجي أرواح الأولياء والجدود، وتقاوم في مجرى ذلك ذاكرتها التي تخون الإرادة فتقذف بشهابٍ خاطف لذكرى جميلة ما كان ينبغي أن تبرق في الأفق، وتقول لنفسها: لا تطمئني لشيءٍ طيب.

وتغدق على منيرة تساؤلاتها القلقة، فتعلم أن بهجت سليمان توظَّف بشهادةٍ زراعيةٍ متوسطة في وزارة الزراعة، وأنهما ما زالا مقيمين على العهد؛ فتُغمغم لِذَاتها: الأمر لله!

أما محمد فهو آخذ في استرداد صحته وشقِّ طريقه. لم تعد توجد شُعبٌ إخوانيَّة ولكن الدين أصبح على رأس مطالعاته، واكتسب عنه رؤيةً جديدةً مختلفة عن دين أسرته المتَّسم بالسماحة والبساطة. وقد استأذن أمه في زيارة أبيه عقب الإفراج عنه فأمضى ساعة طويلة معه شهدتها ميرفت هانم وآنسة أُلفت. رأى ألفت لأول مرة بتمعنٍ وعن قرب فتحرك قلبه البريء، واصطحبها معه في عباءة خياله عند انصرافه. ورآها في القطار، بل وجالسها فيه أحيانًا وتبادلا الحديث. وتسلطت بعد ذلك على ذاكرته وخياله؛ فلزمته في البيت والمكتب والمحكمة، على حين وهبته — في واقع الحياة — استجابةً طيبة. وخفق قلبه بسعادة الحب حتى تساءل بقلق: ولكن ماما؟!

وإذا بالحياة العامة تباغته بفرحةٍ غير متوقَّعة فتستقيل الوزارة ويُبشِّر الأفق بانتخاباتٍ حرة. صرخ محمد: اللهم لا شماتة!

أما حامد برهان فرقص طربًا. والتقى مع محمد في دائرةٍ انتخابيةٍ واحدة فهمس في أُذن ابنه: الشكر لله على أنك ما زلت في الأعماق وفديًّا.

فقال له محمد باسمًا: الإخوان معكم في هذه الانتخابات.

ورجع الوفد إلى الحكم فصعد حامد برهان إلى العرش من جديد وهو يقول: الخلود ممكن في هذه الحياة.

وأقبلت أيامٌ وردية فآمن الناس بأن أيام المِحن قد ولَّت. وراحت منيرة تفكر في مستقبلها من موقع حبها العتيد، كما ربط الحب بين محمد وألفت فتعاهدا على الزواج والانتظار مع تأجيل إعلان الخطوبة لفرصةٍ طيبة. ثم تعثرت مفاوضات تعديل المعاهدة وتفشى القلق حتى جلجل صوت مصطفى النحاس بإلغاء المعاهدة. وبلغ الحماس مداه في مجلس السُّمَّار بشقة ميرفت هانم. وتَذكَّر حامد برهان حماسه يوم عُقدت المعاهدة على ضوء حماسه الجديد لإلغائها فقال: من تكون عروسًا في ١٩٣٦ فكيف تصير في ١٩٥١؟!

فقال خليل الدرس: إنه زمنٌ سريع وقلب!

فقال حامد برهان: لا يقدر على إلغائها إلا من قدر على عقدها، هو الوفد دائمًا وأبدًا!

وتتابع الفداء والعنف حتى اشتعلت النيران في جنبات القاهرة. قال حامد برهان لميرفت: الويل للخونة!

فقالت وهي بعيدة عن مشاركته: حلوان بمأمن من ذلك.

ووقفت سنية فوق السطح تنظر صوب القاهرة من خلال منظارٍ مكبر ربحه محمد في صباه في نصيب سينما أوليمبيا وهي تردِّد بقلق بالغ: ارفع يا رب غضبك ومقتك عنا!

ولما أربدَّ وجه القاهرة بالغضب وأنذر بأوخم العواقب مضى محمد إلى وزارة الخارجية فاصطحب ألفت إلى محطة باب اللوق قائلًا: أخاف أن تنقطع المواصلات!

رجعا قبل أن يُقدرا مدى الخطر الحقيقي الزاحف لالتهام صفحةٍ كاملة من تاريخٍ دامٍ. وهوى رد فعل عنيف كالصاعقة. وقال حامد برهان لسُمَّاره: المجرمون يقهقهون!

غير أن القهقهة انقطعت حال ارتفاع صوتٍ جديد في الصباح الباكر من ٢٣ يوليو ١٩٥٢. تبادلت الأسرة النظرات حول مائدة الإفطار، وتكلم محمد قائلًا: فلنستبشر خيرًا؛ فأي شيء خير مما كان.

وتساءلت منيرة: والإنجليز؟!

فقالت سنية: أملٌ مجهول خير من يأسٍ راهن!

وتابع حامد برهان سيل الأخبار المتدفق بذهول. كان — كوفديٍّ — يشارِك في الأحداث إيجابًا أو سلبًا عندما كانت الحَلْبة خالية للوفد وأعدائه، أما هذه المرة فالقوة الفعَّالة غريبة وطارئة ومُبهمة. ورأى العدو التقليدي — الملك — يرحل إلى الأبد؛ فلم يدرِ أيعتبر ذلك نصرًا أم هزيمة، وهيمن عليه فتور فتوجس خيفةً غامضة. ولما رأى ميرفت دامعة العين لذهاب الملك تمتم بميكانيكيَّة: هذا جزاء العبث!

فتساءلت ميرفت: ألا ترى أن السلطة آلت إلى رجل وضع نفسه فوق القانون؟!

فقال وهو لا يُصدِّق حرفًا مما يقول: إنهم يعِدون بتقديس الدستور.

ومثل ميرفت بكت كوثر وهي تستمع إلى نبأ طرد الملك، واستشهد الوجيه نعمان الرشيدي بالقرآن لأول مرة في حياته فقال: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا … وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا.

وتحمست منيرة للحركة بلا تحفُّظ وبتلقائيَّة، وأيضًا متأثرة بحماس حبيبها سليمان بهجت الذي وضَّح أن أخاه ضمن الضباط الأحرار. ولحق بها محمد عندما آمن بأن الحركة «إخوانيَّة» بل قد دعا إلى بعث النشاط من جديد في شعبة حلوان. ودعا حامد برهان ابنه محمد إلى مقابلةٍ عاجلة وكان على علم بما بينه وبين ألفت، وقال له: ابعد عن الإخوان، حسبك ما أصابك نتيجة لانضمامك البريء إليهم!

فقال محمد بدهشة: كيف أهجرهم بعد أن تُوِّج كفاحهم بالفوز المبين؟

فقال الأب كاظمًا غيظه: ما هي إلا حركة بلا جذورٍ شعبية فلا تُعرِّض نفسك لغضب الشعب كما تعرضت سابقًا لغضب الحكومة!

فابتسم محمد ثقةً وقال: الماضي مات قبل أن تمتد يد لقتله!

واعتبرت الأسرة أن لها في الحركة الجديدة عضوًا، وأنها تتحول به من أسرةٍ مغمورة إلى أسرةٍ حاكمة أو مشارِكة في الحكم، واعتبرت منيرة أن لها عضوَين؛ أخاها وحبيبها، وانشرح صدر سنية وخُيِّل إليها أن حلم تجديد البيت سيتحقق في وقتٍ قريب، وأن متاعب المعيشة ستخفُّ يومًا بعد يوم، حتى أحزانها الخاصة ستذوب في النشوة الشاملة. وتطور محمد في أحاديثه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ فبات يقول سنفعل كذا وكذا، وتمنَّت ألفت أن يلمع كالآخرين وأن يذلِّل العقبات المعترضة لزواجها. ودون أن تدري مضت تهتم بالسياسة وبالدين متخذة من محمد مرجعًا ومرشدًا؛ حتى قال محمد لنفسه: إنها مختلفة تمامًا عن أمها التافهة.

وذات يوم سأل منيرة: كيف تتصورين موقف ماما مني إذا كاشفتها بعلاقتي بألفت؟

ففاجأته منيرة قائلة: أخبرتُها رحمةً بها!

فهتف: لكني لم أشعر بأي تغير من ناحيتها!

– ألا تعرف ماما؟!

وكانت سنية قد رأت ألفت مرارًا من نافذة حجرة نومها الخضراء، وكالعادة تنبأت بما سيحدث فوطنت النفس على التسليم به. وقالت إن حظها على أي حال أحسن من حظ ملكة مصر الضائعة، وإنه من الحماقة أن تتحدى أحداثًا تحمل فوق جبينها طابع القدر. ولكن كيف يستعيد البيت شبابه؟ سيُمسي ذلك حلمًا لا يتحقق إلا بحلم ولا يبقى لها إلا أن تعبد الله. وذات مساء راح حامد برهان يشرح خبايا الموقف السياسي لسُمَّاره قائلًا: ما الحركة إلا مؤامرة أمريكيَّة للقضاء على الوفد!

وأراد أن يحلل رؤيته ولكن حماسه فتر فجأة، وصمت، وشحب لونه وتفصد جبينه عرقًا رغم برودة الجو، وطرح جسمه البدين على ظهر الفوتيل الكموني؛ فسأله حسن علما المهندس بقلق: مالك؟

حاول أن يبتسم فعجز، خانته قواه، لاح له وجه بوذا، ثم أسبل جفنَيه. وحملوه إلى فراشه، استدعت ميرفت طبيب الضاحية فشخَّص الحال بأنه هبوط في القلب وأمره بالراحة التامة. انزعج الأهل والسُّمَّار، وذهبوا في تفسير الحال مذاهب شتى، قالوا إنها الانفعال السياسي المستمر، وقالوا إنه الزواج دون غيره، حتى قال جعفر إبراهيم: إنها مشيئة الله.

ولما عُرف الخبر خارج شقة ميرفت عاده محمد ومنيرة وكوثر ونعمان الرشيدي، وعادته أيضًا سنية المهدي خاصةً وأنه لم يُنتزَع من نفسها تمامًا رغم كل شيء. أجل ضاق صدرها لدى اقتحامها لحصن ضَرَّتها ولكنها صافحت لأول مرة ميرفت وألفت، وانحنت فوقه متمتمة: شد حِيلك!

ابتسم مُعلنًا امتنانه، وتأزم الجو بتوترٍ خفي، وتضاربت شعارات المجاملة مع الانفعالات العدوانيَّة الباطنة. وعلمت ميرفت بأنه لن يخلو يوم من أيامها من التنغيص لرؤية الوجوه التي لا تطيقها. وطال الرقاد، وعرف أنه سيطول أكثر، بل عرف أن حامد برهان لن يرجع إلى سابق عهده أبدًا. وأصبح تمريضه عبئًا على امرأةٍ صاحبة مزاج كميرفت. ولم يُفقِد المرض حامد برهان حساسيته فسرعان ما شعر بأنه غريب في مرقده، وضاق بموقعه. ووجد في قهر المرض ما شجعه يومًا على أن يهمس لمحمد ابنه: أريد أن أرقد عندكم!

وفي الحال قال محمد على مسمع من ميرفت مخاطبًا أباه: لو رقدت عندنا لأعفيتنا من زيارات لا نهاية لها!

وأدركت ميرفت مغزى قوله فقالت مدارية ارتياحها: إني في خدمته مهما طال الزمن!

فقال محمد بشجاعة رجل شارع في الزواج من ابنتها: هذا لا شك فيه .. ولكن يوجد عندنا كثيرون وأنتِ وحيدة!

فقالت بلباقة وهي في الواقع تختم علاقتها بالرجل: إني راضية بما يريحه!

ولم تعارض سنية، وخالط حزنَها على حامد ارتياحٌ لاعترافه بأنها رفيقة المرض وأن بيتها هو المأوى. هكذا رجع حامد برهان إلى فراشه القديم بالحجرة الخضراء فاستقرَّ السلام في عينيه الجميلتَين. ولم يكن بقيَ من جسمه الهائل شيء يُذكر، وتجسدت الشيخوخة في وجهه كأنما ألقيت عليه في لحظةٍ خاطفة. ونظر فيما حوله بسرورٍ طارئ وقال بصوتٍ متهدج: أوحشتموني يا أولاد!

ولم يوجِّه كلمةً إلى سنية قانعًا بأن رجوعه يغني عن أي قول. والحق أنه عندما جفَّت ينابيع شهوته لم يجد في قلبه سوى حبها القديم كالكنز المدفون عندما تُزاح عنه طبقة الأرض. وأن روحه — إذا حان الأجل — يجب أن تصعد من هذا المكان العتيق المبارك المعبق بأطيب الذكريات. وجعلت كوثر تنظر إليه طويلًا ثم خانها صبرها فدمعت عيناها وقالت: تغيرت كثيرًا يا بابا!

فوجم الحاضرون ولكن حامد برهان ابتسم وقال بلسان مَضيٍّ يثقل: وأنتِ يا بنت ألم تصيري أُمًّا؟!

ولكنه سَرَّ الجميع بطمأنينته وأنسه بالمكان وأصحابه. وجاء يوم في مطلع الربيع شديد الحرارة فقال: لم أستحم منذ عهدٍ طويلٍ!

فقالت منيرة بإشفاق: نرجع إلى الطبيب.

فقال بمرحٍ: الإنسان طبيب نفسه!

وذهب إلى الحمام معتمدًا على سنية ومحمد، وجرى الماء على جسده فاجتاحته فرحة شخص اعتاد طيلة حياته النظافة والأناقة، وعاد إلى فراشه سعيدًا وهو يقول: الإنسان بلا صحة أقل من حشرة.

ولما جاء الليل لم ينم. تدهور بسرعةٍ مذهلة حتى صار شحوبًا مركبًا على هزال. وأرق الليل كله يتأوه وجسمه يكاد يتقصف. وجيء بالطبيب فاحتجَّ على الحمام بلا تحفظ، ولكنه حرَّر روشتة على أي حال، وعند منتصف الليل، وأهله محدقون به، أسلم الروح دون جهد كأنما غلبه نعاسٌ مفاجئ … ودلَّ الحزن الشديد عليه على تعلُّق الجميع به، سنية فاق حزنها كل تقدير. ولما لم يكن يملك مدفنًا فقد دُفن في مدفن آل المهدي بالإمام. وأنكرت سنية حال المدفن التي آل إليها، ورأت أنه أصبح في حاجة إلى تجديد كالبيت القديم، فانضاف ذلك إلى الهموم التي استأثرت بها في الزمن الأخير. ولعل كوثر كانت أحزن الإخوة عليه لطبعها الذي يستجيب للحزن بقوةٍ غير عادية، ولأنها أحبت الرجل لدرجة العبادة حتى إنها غفرت له زواجه من ميرفت قبل محمد ومنيرة بزمنٍ غير قصير. وعند مطلع الصيف رجع الموت لزيارة الأسرة فأخذ نعمان الرشيدي زوج كوثر متسمِّمًا بالباولينا عقب تدهور الكُلى، ولعل الموت أراحه من رعبه الذي لم يكفَّ عن مطاردته مذْ جاءت الثورة. أجل لم تكد تمسُّه قوانين الإصلاح الزراعي؛ إذ إن مصادر ثروته ترجع إلى العمارات والأموال السائلة، ولكنه اعتقد بأن دوره حتمٌ مؤجل، وأنه آتٍ لا ريب فيه. وبكَتْه كوثر بحرارة وصدق ولكن سرعان ما أفاقت على تحرش أبنائه، فخفَّ محمد إلى جانبها بأُخوَّته وخبرته كمحامٍ ولكنها قالت له من أول يوم: أبعدني عن التحديات فلا شيء في الدنيا يساوي الشقاء.

فقال بتصميم: حقك تأخذينه لآخر مليم.

فقالت بضراعة: حقي مكفول بالقانون، ولكنهم ينظرون بطمع إلى الفيلَّا، وهي كبيرة ولا أطمئن فيها وحدي وأريد أن أعود إلى ماما في حلوان!

ورجعت كوثر إلى حلوان حاضنة رشاد، وانهمك محمد في فرز إرثها هي وابنها من الأرض والعمارات والأموال السائلة ثم انقطعت الصلة بآل الرشيدي إلى الأبد. ورحَّبت الأسرة في باطنها الخفي بثروة كوثر. وانبعثت في صدورهم آمال لِمَا هو معروف عنها من طيبة واستكانة فاعتبروها هديةً مرسلة من السماء حاملة الفرج لأزماتهم المستعصية. منيرة توغلت في العمر حتى قاربت الثلاثين وهي ملهوفة على الزواج، ومحمد يشعر بأن عهد خطوبته طال أكثر مما ينبغي، حتى سنية تتوق بكل قواها لتجديد البيت والمدفن. تربَّصوا جميعًا بأيام الحداد، ولما خفَّت الغيوم وواصل الراديو أغانيه تشجعت سنية فقالت في حياء مخاطبة كوثر: حبيبتي ألا ترين معي أن البيت في حاجة إلى تجديد؟!

سرعان ما شعر محمد بالخطر يهدد مشاريعه فتبادل مع منيرة نظرةً سريعة جمعتهما في وجدانٍ مشترك فقال: البيت لا يعيبه شيء وهو يستطيع أن ينتظر.

فقالت سنية محتجة: إنه مأوانا على مدى العمر!

فقال بخبرة اكتسبها في المحكمة: نحن في حاجة إلى المعونة لا البيت!

وأشار إلى منيرة وإلى ذاته ثم واصل ليخفف وقع كلامه: ولو على سبيل القرض!

فسرعان ما انهزمت سنية أمام رغبة محمد ومنيرة مؤجِّلة أحلامها إلى مستقبلٍ مجهول، على حين تمتمت منيرة ضاحكة: ولو على سبيل الاقتراض.

ولكن كوثر على طيبتها كانت متمرسةً بواجبات ست البيت مذ عملت مساعدة لأمها، وتعلمت منها مَسك الدفاتر والحِرص الحكيم وكراهة الإسراف، فكانت طيبة وحكيمة. وقد شاركت في ميزانية البيت منذ أول يوم لها فيه؛ مما يسر العسر وأضفى على البيت سلامًا. ولم تغب عنها أزمة محمد ومنيرة، فمالت إلى إسداء المعونة ووعدت بها. وحدث أن جاءتها خاطبة عقب وفاة زوجها بثلاثة شهور بعريس محترم يماثلها في السن فانقبض صدر محمد ومنيرة، وقال محمد بنبرة الناصح: علينا أن نتأكد من إخلاصه.

ولكن من حُسن حظهما أن كوثر أعلنت زهدها في الزواج مرةً أخرى، واهبة نفسها لرشاد الذي يملأ دنياها، ومتشجعة بطبعٍ هادئ يوشك أن يكون برودًا. وعلى أي حال فبفضلها أمكن أن تتزوج منيرة من بهجت سليمان، وأن يتزوج محمد من ألفت. تزوجت منيرة بعد أن صار حبها حكاية واختارت عشها شقةً جديدة بالعباسيَّة على مقربة من مدرستها، أما محمد فزُفَّ في شقة بعمارةٍ نصف جديدة بباب اللوق ليكون على مقربة من المكتب من ناحية وليمارس نشاطه السياسي في مجاله المركزي. وخلا البيت القديم لسنية وكوثر ورشاد وأُمِّ سيد. ورَثَتْ كوثر لنظرة أمها المتطلعة وأشواقها الدفينة فأمرت بطلاء الحجرات بالزيت وتنظيف الحديقة وشراء بعض أصص القرنفل، ورغم أن ذلك لم يحقق من الحلم عُشره إلا أن سنية سعدت به ولم تيئس من هطول الرحمة ذات يوم، خاصةً عندما يكبر رشاد الوسيم ويدعو الأصدقاء للزيارة كما كان يفعل جده حامد برهان. وفي سكرة الفوز الطارئة أشارت بحياء شديد إلى المدفن، ولكن كوثر قالت: ماما .. إني أتشاءم من هذه السيرة!

فلم تلحَّ، وأسفت، وقالت لنفسها «ما هو إلا البيت الباقي.» غير أن قلبها فاض بالشكر. فلو أنها لقيت الحياة وحيدة بعد زواج منيرة ومحمد لاضطرت إلى استجداء أبنائها، ولتجهَّمتها الحياة كما تتجهمها الأحلام؛ فالحمد لله على أي حال. وسعدت سنية أيضًا لتوفيق منيرة ومحمد في زواجهما كما استشعر ذلك قلبها في زياراتها لباب اللوق والعباسية. قالت يومًا لكوثر: بهجت أثبت إخلاصه بصبره الطويل ولكنِّي غير مطمئنة لربيبة ميرفت!

فقالت كوثر بهدوء: محمد يعرف كيف يتصرف.

وبرزت منيرة في عملها التربوي أكثر بعد أن شملتها سكينة الحب، ودعا الأستاذ عبد القادر قدري «محمد» إلى مشاركته في مكتبه بعدما اعتُقل أكثر من مرة لوفديَّته. قال يومًا لمحمد: الوفديَّة أصبحت تهمة فانظر وتأمل!

وكاد محمد أن يجزع وهو ينتظر أن تُسفر الثورة عن وجهها فتعلن حكم الإسلام ليحتل هو مكانته المشروعة. ولم يكن طموحه شخصيًّا فقط، فقد ملكته التجربة الدينيَّة التي انساق إليها قديمًا هاويًا وبمحض المصادفة، فبات يحلم بحكم الإسلام كأنه غاية من الغايات. وأنجب محمد شفيق وسهام، كما أنجبت منيرة أمين وعلي وتورَّد الأفق. وإذا بأزمةٍ تعترض سبيل الثورة، وصراع عنيف يقوم بين رئيسها الأول ورئيسها الثاني، وبين شدٍّ كادت تصفَّى به الثورة وجذبٍّ رجعت به إلى قواعدها انقضَّ طوفان الإخوان! وبدلًا من أن يجد محمد نفسه على رأس مؤسسة أو وزارة أُلقيَ به في أعماق سجنٍ رهيب. وبالرغم من أنه لم تثبت عليه تهمة إلا أنه قضى في الاعتقال عامين، وخرج منه بعينٍ واحدة وساقٍ عرجاء. وهرع الجميع إلى شقة باب اللوق، واجتمعت للمرة الرابعة سنية وميرفت حتى قالت سنية لنفسها «قضيَ عليَّ ألا أراها إلا عند حلول المصائب!» وضمت محمد إلى صدرها وهي تبكي وهتفت: عند الله الحساب يا ابني!

وتقنَّع محمد بوجهٍ جديد خبَرَ الموت والعذاب، ولكنه تجلَّد أمام الأعين، وقال: إني أَحسن حظًّا ممن أهلكتهم المشانق أو غَيَّبتهم السجون إلى الأبد.

وحاول أن يبتسم ثم قال بإصرارٍ حقيقي: بقيَ لي إيمان لا يتزعزع.

وكان إصراره أقوى من صوته. الآن عرف الحياة والناس كما عرف الوحشيَّة والعذاب. واستمدَّ من أهله قوةً أشعل بها شمعة في عالمٍ يموج بالظلام. وحانت منه التفاتة إلى ألفت فقبض على يدها ورفعها كأنما يقدمها إلى الجمهور في حفلٍ عام وقال: إليكم أفضل زوجة على وجه الأرض!

أجل، لقد صمدت في المِحنة؛ قامت بواجبها كمترجمة وربة بيت، وحضنت شفيق وسهام بالرعاية متحدية النبذ والتحقيق والرزق المحدود. أثبتت أنها أقوى مما توقَّع محمد أو تصورت ميرفت، وأقامت على حب الزوج الغائب بتفانٍ، وتحمست أكثر لمبدئه، ولما رجع شبحًا محطَّمًا غمرته بالحب والحنان راشقةً في سمائه السوداء نجمةً ماسية. وكانت كوثر تزورها كثيرًا طيلة العامين، وعرضت عليها معونة ولكن ألفت اعتذرت شاكرة وإن قبِلت الهدايا لشفيق وسهام. في تلك الأيام الحزينة قالت كوثر لأمها: ألفت هدية نادرة المثال.

فأحبَّتها سنية — ربما لأول مرة — وقالت: الشكر لله على أنها لم تُعجَن بطينة أمها.

ولم يكن تعريضها لميرفت من أجل مأساة الماضي وحدها ولكن لرعونتها — عقِب وفاة حامد برهان — التي صارت حديث حلوان؛ برزت كامرأةٍ متصابية في الخامسة والخمسين، متبهرجة، تنطلق بمفردها إلى الحديقة اليابانية أو السينما كأنما تعرض نفسها على الرائح والجائي. وجرى الهمس عن علاقةٍ جديدة تتخلَّق بينها وبين حسن علما مهندس المباني — أحد سُمار مجلس المرحوم حامد برهان — ولما شاع ما يقال وملأ الأسماع تحولت العلاقة إلى خطوبة، وطلَّق المهندس امرأته، ولكن الزواج تأجل إكرامًا لزوج ألفت السجين، وإن مُورس بالفعل بصفةٍ غير رسميَّة، وكانت كوثر تعلم بما يعلمه الناس جميعًا ولكنها قالت: ألفت معدنٌ آخر والحمد لله!

وأخفيَ الخبر عن محمد فأمضى فترة نقاهة قصيرة ثم رجع إلى مكتبه بعينٍ واحدة وأخرى زجاجية وقلب متوثِّب للعمل. وغشي المحاكم وهو يعرج متأبطًا حقيبته بذراع متوكئًا بالأخرى على عصًا غليظة. وانهمك في عمله انهماك مؤمن مُعذَّب يحلم بطوفان نوح من جديد. ومضت سنية في معاشرة آلامها التي لا شفاء منها، وأحلامها المعاندة المستعصية، مستوصية بالهدوء والصبر والرنو من حين إلى حين إلى الصورة التذكاريَّة. ولكي تعفيها كوثر من بعض متاعبها استخدمت امرأةً جديدة «أم جابر» كطاهية بعد أن اقتربت أُم سيد — مثل أمها — من الستين، ولكي تستثمر جُلَّ وقتها في رعاية رشاد الذي ألحقته بروضة الأطفال سابقًا ابني خاله شفيق وسهام وابنَيْ خالته أمين وعلي. هكذا بدأ جيل الأحفاد، أبناء العشق والآلام، والوطن تتجاذبه عوامل الصراع الخفية من ناحية وأحداث البطولات من ناحيةٍ أخرى. وعرفت منيرة زوجها أكثر وأكثر، زوجًا عاشقًا وفحلًا عملاقًا، وساذجًا فيما يتعلق بالثقافة أو الحياة العامة، ولم يخدعها اهتمامه المباغت بالسياسة عقب اكتشافه أخاه ضمن الضباط الأحرار، وابتسمت في باطنها لأحاديثه عن الثورة ورجالها، ولحملته على الماضي ومخازيه، ومرةً قال لمنيرة مفاخرًا: نحن نعتبر من الأسرة المالكة الجديدة.

فضحكت قائلة: على مهلك يا أمير!

رغم حماسها للثورة منذ ساعتها الأولى، والتي لم تتغير تغيرًا يُذكر بمأساة أخيها التي هزَّتها من الأعماق. على أن قلقًا ساورها مذ طعنت فيما بعد الثلاثين. إنها تمضي وحدها مُخلفة وراءها زوجها يزداد تألقًا وفحولة، وجعلت تطارد كلماتِ أمها القديمة كلما نبضت في خواطرها. واحتل سليمان بهجت مركزًا ممتازًا بقسم الخبرة بالزراعة بدفعةٍ قوية من أخيه، وبدلًا من أن يزيد من إسهامه في ميزانية البيت ابتاع سيارة بالتقسيط رغم التحاق أمين وعلي بالروضة وارتفاع الأسعار ببطءٍ ماكر. وذات مساء انفجرت قنبلة تأميم قناة السويس مُبشِّرة بميلاد زعيمٍ جديد. ليلتها قال بهجت لمنيرة: سمعت من مخضرم أن استقبال جمال في عودته إلى القاهرة فاق استقبال سعد زغلول حين رجوعه من المنفى!

فوافقته منيرة رغم أنها لا تكاد تعرف عن سعد شيئًا يُذكر. ولم يستطع محمد أن يتذوق المغامرة بفمه المليء بالمرارة. واتفقت ألفت معه قائلة: معاملةٌ إنسانيةٌ شريفة خير من بناء هرم.

فقال محمد: النبي عليه الصلاة والسلام أنشأ دولةً إنسانية ولم يُشيِّد هرمًا.

واستمع البيت القديم في حلوان إلى النبأ العظيم. لم تفهم أُم سيد ولا أم جابر شيئًا، وتوقفت كوثر عن تعليم رشاد دقيقة ثم واصلت عملها بحماس، أما سنية التي لم تشغلها آلامها وأحلامها عن قراءة الجريدة والاستماع إلى الراديو فقد خفق قلبها، واقتنعت — رغم مأساة محمد — بأن زعيمًا جديدًا يتخذ موضعه في لوحة الزعماء الذين أحبَّتهم كما أحبَّهم زوجها الراحل. وسكر البلد بالنصر والعظمة، وانطلقت من صوت العرب زعامةٌ عربيةٌ جديدة، وتضاربت الأنباء، واستفحلت الشائعات، حتى تجسدت الحقيقة في صورة عدوانٍ ثلاثي، ومرحت طائرات العدو في سماء القاهرة ليلًا ونهارًا، تمطر قنابلها على المطارات والمواقع العسكرية. ومع أن الدبابات لاذت بأفنية العمائر إلا أنَّ انتصاراتٍ وطنيَّة ملأت الجو كالعاصفة وتمزَّق الناس بين الحماس والترقب. وتابع محمد وألفت الإذاعات الأجنبية حتى قال الرجل: انتهت حركة المجرمين، ولكن ما أفدح الثمن!

وقالت سنية لكوثر: أُذني سعيدة وقلبي كئيب!

فقالت كوثر مدفوعة بالخوف الذي ركبها: البلد خرب يا ماما.

فأشارت سنية إلى فوق متمتمة: لكنه موجود.

وآنست منيرة من سليمان بهجت ذعرًا كأنه فأرٌ مطارَد. ودعا ربه قائلًا بحرارة: اللهم لا تُشمت بنا الأعداء!

وكانا يستمعان إلى صوت أمريكا بوجوم، ويغوصان في هوةٍ خطوةً فخطوة. ولكن هبت رياح شرقيَّة وغربيَّة فتناغمتا معًا لأول مرة. احتجت أمريكا بجديَّة وصرامة. وتتابعت الإنذارات الروسية كالصواريخ حتى أُجبر الغزاة على تصفية نصرهم بأنفسهم في إذلال لا نظير له في التاريخ. وتجلَّى نصرٌ عجيب كما تتجلى فتاة الساحر من الصندوق — بعد غرز سيوفه فيه من جميع النواحي أمام المشاهدين — وهي تبسم في مرح وأمان وثقة! وسرعان ما آمن الحي والجماد بأن الزعيم حقق ظفرًا كالمعجزة وبأنه عملاق بين أقزام. وصادر أموال الإنجليز والفرنسيين، ضاربًا للمضطهدين مثلًا أعلى، واهبًا للعرب زعامةً جبارة، وانتفخ بالتالي كل مواطن نافضًا عن كاهله ذُل العصور، وأوى الخصوم إلى الجحور ولا مطمع لهم أكثر من النسيان. ودخل الأحفاد المرحلة الابتدائية وهم يتغنون بالزعامة والنصر. سبحوا في بحيرةٍ ناصريةٍ صافية متطلعين إلى صورته الشامخة بانبهار وحب؛ ذلك البطل الذي بدأ به تاريخ مصر في أعقاب جاهلية ترامى ظلامها آلاف السنين. أجل حفلت المدارس الجديدة بمنغصات — كالكثرة العددية وندرة المدرسين المؤهَّلين وقصور البرامج — ولكن التلاميذ الجُدد لم يشعروا بها، فعاناه أولياء الأمور وحدهم. أما كوثر فحلَّت المشكلة بمالها فكلفت الأستاذ جعفر إبراهيم — ناظر مدرسة على المعاش ومن سُمَّار المرحوم حامد برهان — بإعطاء رشاد دروسًا خصوصية في العربية والجغرافيا والتاريخ، كما كلفت الأستاذ راضي أبو العزم — من السُّمَّار أيضًا — بإعطائه دروسًا في العلوم والرياضة. وانتزع محمد وألفت من وقتهما المشحون بالعمل ساعاتٍ لمساعدة شفيق وسهام، على حين نهضت منيرة بعبء التدريس لأمين وعلي وحدها. وامتعضت مدام ميرفت من الحال من ناحية أخرى، فقالت لألفت: كيف ترضين لشفيق وسهام بالجلوس جنبًا إلى جنب مع أبناء البوابين والخدم؟!

فقالت ألفت: مدارس اللغات والمدارس الخاصة باهظة التكاليف.

واستاء محمد لأسبابٍ أخرى وهو يراجع كُتب التاريخ والتربية الوطنية فضرب كفًّا بكف وقال لألفت: إنهم يحشون عقول الأولاد بالأكاذيب!

وتضاعف استياؤه وهو يشاهد حماس شفيق وسهام وتغنيهما بالزعيم على مسمعٍ منه، وهو لا يملك إزاءهما أية مراجعة، حرصًا على سلامتهما، وسلامته أيضًا أن يرددا أقواله في المدرسة فيحدث ما لا تحمد عقباه؛ من أجل ذلك أخفى عنهما سر عَوَره وعرجه، وراح يغمغم: نحن في زمن القهر والصمت!

ونشأ رشاد وسيمًا، ذا طول ورشاقة، أنيقًا، مغرمًا بأمه وجدته، مغرمًا بالسباحة، مع اعتدال في تحصيل العلم حتى ساواه أبناء خاله وخالته. وأحبَّته جدته أكثر من شفيق وسهام وأمين وعلي، لقربه من القلب والعين، ولأفضال أمه المحبوبة، ولأنها عقدت به تحقيق آمالها في تجديد البيت والمدفن. أجل بدا لعينَي جدته — مثل شفيق وسهام وأمين وعلي — كأنه مخلوق بلا جذور، وكأنه لا يتنفس في جو بيتها القديم. من ذلك أنه سمع مرة اسم سعد زغلول يتردد في حديث فسأل أمه ببراءة: سعد زغلول حي يا ماما؟

وانزعجت سنية رغم أنها بررت جهله بشتى الأعذار. ومن ذلك أيضًا بروده إزاء أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وولعه بعبد الحليم حافظ والأغاني الإفرنجيَّة، وتساءلت كيف دهمه هذا التمرد على تقاليد أسرته وذوقها؟! وأخيرًا قالت بتسليم: إنهم مزعجون ولكن لكل جيل شأنه!

ومن شدة حبها لرشاد قالت أيضًا: التنوع له جماله أيضًا!

أما شفيق فكان أشبه الأحفاد بحامد برهان، فاق والده محمد في ذلك، وكان ذا صوتٍ مقبول يحاكي به الأغاني الخفيفة، وبَشَّر اجتهاده بحياةٍ مدرسيةٍ ناجحة، وكان يغالي في عواطفه حتى يضيق به أبوه أحيانًا، ويَحُولُ بينه وبين محاولة التسلط على أخته سهام. وكانت سهام صورة من عمتها منيرة في جمالها البراق وذكائها اللامع فسُرَّ محمد بذلك سرورًا لا مزيد عليه. وأما ابنا منيرة فقد عُرف أمين بالاجتهاد كما عُرف علي بالعناد، واتفقا معًا في طولٍ غير عادي، حتى قال سليمان بهجت: هكذا كان والدي.

واعتاد محمد ومنيرة — وأفراد أسرتَيهما — أن يتناولوا الغداء كل جمعة في البيت القديم مع سنية وكوثر ورشاد. توثقت الصِّلات بين الصغار، ووضح الخلاف بجلاء بينهم وبين آبائهم. وسعدت سنية بالزيارة الدورية سعادةً خفَّفت من وطأة آلامها الدفينة وأحلامها المُلحَّة. وبإزاء تعنت أحلامها تَحول اهتمامها مؤقتًا إلى ذاتها، ند ذلك عنها دون شعور أو تخطيط ولكنها انساقت إليه خطوة بعد خطوة، كأنما قررت أن تَصُون نفسها من شوائب الزمن؛ مرة لا تعجبها أسنانها فتمضي إلى طبيب الأسنان للتنظيف أو الحشو أو الوقاية، ومرة تتوعك عيناها وهي تقرأ فتذهب إلى طبيب العيون فيعدُّ لها نظارةً طبية. وعلى حين أن كوثر تتوارى في زهد وتكبر قبل الأوان وتتعبد في حماس فإن سنية — على تدينها وتقواها — ضاقت بأول شعرة بيضاء تحبو وسط شعرها الفاحم، كرهت منظر الشيب ووجدته متنافرًا مع ما تحظى به من صحةٍ جيدة. وفي الحال أحيت تقليدًا كانت أمها تتبعه في حياتها وهو صبغ شعر رأسها بالحناء فتحلَّ الحُمرة الداكنة المتفردة محل السواد التليد والبياض الوليد. وترى كوثر وهي ترمقها باسمة فتقول بوقار متغلبة على حيائها: إنها وصية جدتك يا بنت!

وهي فخور بنفسها، بذكائها واطلاعها الدائب، وتضع نفسها في موضع أعلى من محمد ومنيرة المتعلمَين في إدراك أبعاد الحياة المعاصرة، بالإضافة إلى موهبة الحلم والحدس التي لم ينعم الله عليهما بشيء منها، ولكنها كانت تكره الشيخوخة ومظاهرها وترنو إلى شبابٍ دائم مازجةً ذلك بحبٍّ صافٍ للحياة ولله خالق كل شيء. وفي لقاءات الجمعة لمست تَطلُّع محمد ومنيرة لإعداد أبنائهما للطب أو الهندسة فخامرها قلق من ناحية حبيبها رشاد وما يستطيع أن يحققه لمستقبله. وتملَّت جمال سهام بنت محمد فرأت أنه سيكون هدفًا يدور حوله رشاد وأمين وعلي، وأنه سيُثير متاعبَ عاطفية في أسرتها الممتحَنة بعواطفها دائمًا وأبدًا؛ فسألت الله السلامة، وعزَّت نفسها متنبِّئة بأن صاحب القسمة والنصيب سيفور بها قبل أن يقع أحد أقربائها في حبها. وفي حماية العلاقة الأسريَّة نشبت مناقشاتٌ صريحة بين محمد وسليمان بهجت، تبدأ عادةً عندما يذهب الأحفاد للعب في الحديقة أو للمشي في شوارع حلوان الهادئة المترعة بالنقاء والجفاف. يقول محمد متأسفًا: حتى أمام الابن لا يأمن الأب أن يفضي بذات نفسه!

فيقول سليمان ومنيرة تضحك منه في سرِّها: ملايين الفقراء لا يعرفون الخوف، إنه عهد الفقراء!

فيقول محمد: خير من ذلك أن يكون عهد الفقراء والأغنياء على السواء فالله خالق الجميع ومُدبِّرٌ لكلٍّ عملًا صالحًا يرضاه!

ومضت الزعامة الجديدة تتوطد وتعلو من سماء إلى سماء حتى وحد سحرها المتطاير ما بين مصر وسوريا في وحدةٍ باهرة. تجسدت القومية العربية كحقيقةٍ زاحفة مثلما تتجسد في الخيال كحقيقةٍ تاريخية. وعَبَدَه الأحباب، وسلَّم به الأعداء مُقرِّين بأنه ليس ابنًا للمصادفات أو المؤامرات الأجنبية ولكنه ابن القدر المنذور لتغيير مجرى التاريخ. وانقلبت الرعيَّة إلى نسور ودناصير، وتعملقت الدولة الجديدة، وألقت السماء بلسمًا ليداوي جرح أمة تمرغت في التراب قرونًا تحت أقدام القهر والعدوان. وما مضى وقت يُذكر في تاريخ الأمم حتى انتبه السعداء على جعجعة نيزكٍ داهم على الوحدة فيفتتها في لحظة مُهداة للأحزان. أي رد فعل عنيف هزَّ الناس المتزاحمين حول الراديو في شتى المواقع! قال كل إنسان ما يشتهي، وانتفضت من جديد أصوات الشماتة والسخرية. وتلقَّى الزعيم الضربة بغضب، ثم ردَّها بعنف نحو مرمًى جديد فانفجرت القرارات الاشتراكية، وحقق الفقراء نصرًا تاريخيًّا من خلال معركة لم يقتربوا خطوة من ميدانها. وقال الأستاذ عبد القادر قدري لمحمد: لم يعد للمحاماة وزن!

– كان الرجل في الأربعينيات عضوًا بمجلس النواب، وعُيِّن في الخمسينيات عضوًا بمجلس الشيوخ، وكان خطيبًا ذا شأن وبرلمانيًّا ممتازًا، وهو اليوم يبدو شاحبًا هرمًا دائم الامتعاض، معدًّا حقيبته لأي اعتقالٍ محتمل. وأدرك محمد أبعاد الموقف فأفضى به لألفت، ثم قال: ستزداد الحياة عُسرًا.

واهتمت كوثر لأول مرة بما يجري حولها. لم تمسها الإقرارات في شيء ولكنها شعرت بأن فوهة المدفع مسددة نحو القلعة التي تنتمي إليها، وسألت أمها: ماذا يخبئ لنا الغد؟

فقالت سنية: المخبَّأ في الغد مكتوب قبل أن تُخلق السماوات والأرض!

فقالت كوثر بإشفاق: إني أفكر في رشاد، وفيكِ أيضًا يا ماما!

فقالت بهدوء: إنه رحمن رحيم!

وكانت تُسائل نفسها هل يدركهم المد؟ قالت لنفسها إن قراراته — الزعيم — تجيء في صالح الفقراء الذين لا يملكون فلا خوف على محمد ولا منيرة. أما كوثر فالأمر مختلف، وكذلك رشاد، فهما يملكان أرضًا وأنصبة في عمارات، وأموالًا سائلة. وقالت كوثر بقلق: العهد الذي فعل بأخي محمد ما فعل لا يعفُّ عن كبيرة!

وراحت سنية تفكر، أما أحلامها عن البيت والمدفن فقد تراجعت خطوات. وفي أحد لقاءات الجمعية قال محمد لكوثر: اسحبي نقودكِ من البنك واحفظيها تحت يدكِ قبل أن يشمها الوحش.

فقالت كوثر بتلقائيَّة: قد يسرقها لصٌّ عادي!

فقال لها: ابتاعي بها ذهبًا وسجاجيد!

عند ذاك نظرت كوثر نحو زوج أختها سليمان بهجت كأنما تستطلع رأي الجهات الرسميَّة فقال: خير الأمور الوسط.

ومالت لرأيه داعية الله أن يحفظ مال رشاد. وفي طريق عودتهم بسيَّارة سليمان بهجت الفيات قال محمد: لا أمان لأحد!

قالت منيرة لنفسها تجنبًا لإغضابه:٩٠٪ من الشعب ثملون بالأمل. وعاد محمد يقول: ما هي إلا قرصنة، وإلا فلماذا يعيشون عيشة الملوك؟!

فقال سليمان بهجت: حتى في روسيا يعيشون كذلك!

فقال محمد: رحم الله ابن الخطاب!

وتجلَّت رؤيا سنية فرأت البيت القديم يضيء بجدةٍ زاهية؛ رُمِّمت أركانه، وتجددت أبوابه وسلاليمه، ووافاه أثاثٌ جديد، أما غُرف النوم فحافظت على شرقيَّتها، ولكن العصرية شملت حجرات الاستقبال والسُّفرة، وبُعثت الحديقة من جديد فاخضرَّت أرضها وانتشرت فوقها أشجار البرتقال والليمون والمانجو ودوائر الأزهار والورود، أما سورها الطويل فغُطِّيَ تمامًا بالياسمين، ولمحت حامد برهان يقوم بعمل البستاني مستردًّا صحته وبدانته؛ سعدت جدًّا، ولكنها سألت البستاني بعتاب: لِمَ لم تزرع شجرة حناء؟!

ولم تبُح بحلمها لكوثر أن تتوهم أنها تُذكِّرها بأحلامها في وقتٍ غير مناسب. وسرعان ما نسيت الحلم تمامًا عندما أذاع الراديو نبأ ثورة اليمن وموقف مصر منها. وفي أول لقاء عقب الحدث دار النقاش حوله بعد الغداء، قال محمد ساخرًا: أصبحنا أوصياء على ثورات العالم!

فقال سليمان بهجت: ما هي إلا نزهة تحلُّ بعدها اليمن مكان سوريا.

فقال محمد بعناد: ما زالت أغلبية الشعب حُفاة!

– لا تُنكِر أنكم كنتم أول من شارك في الثورة على الإمام!

– اشتراك الفدائيين بطولة، أما الدولة فمسألة مختلفة تمامًا.

فسأل سليمان سنية مداعبًا: ورأي أُمنا الحكيم؟

ولكن سنية قالت باقتضاب: صدري لا ينشرح للحرب!

فقال محمد متهكمًا ومُعلقًا على اشتراك الجيش المصري في الحرب: كأنه قرار إسرائيل!

وسرعان ما شُغلت سنية بأمرٍ آخر؛ جعلت تقارن بين منيرة وسليمان بقلق، لمَ يتجلَّى الكِبَر في وجه منيرة بسرعة؟! .. لم يزداد زوجها فتوةً وشبابًا؟! ما زال بينها وبين الأربعين بضع سنوات ولكن سِحر جمالها ينطفئ بمعدلٍ غير طبيعي، ولعلها ليست على ما يرام. إن قلبها لا يخطئ، حياتها تدعو للسرور بعكس ما يبدو؛ أمين وعلي يطويان المرحلة الابتدائية بنجاح، زوجها نال في عمله أضعاف أضعاف ما يستحق، هي نفسها ستُعيَّن ناظرة دون نقل إلى الأقاليم بفضل أخي زوجها، ولكن فارق السن بينها وبين زوجها يتسع بسرعةٍ غير معقولة ولا مقبولة. محمد نفسه ألِف عَوَره وعَرَجه وتراجع رزقه، وها هو يمضي في حماية إيمان لا يتزعزع، وزوجته سعيدة. والتقت عينا منيرة بعينَي أمها فقرأت صفحةً طويلة وخُيِّل إليها أن سرها انكشف. هل تفضح عيناها مخاوفَها الباطنة؟! الحق أنها استشعرت تغيرًا غير حميد في قلب سليمان وسلوكه معها. قالت مرة لنفسها وهي وحيدة: لم أتزوج رجلًا واحدًا ولكن جملة رجال في رجل.

واستعاذت بثقافتها فقالت أيضًا: لعل هذا ما يئول إليه الحب!

وتذكرت كلمات ومواقف تهادت إليها على مدى العمر من علم النفس والروايات والمسرحيات والأفلام، على أنها كرهت أن تفتح أمها ذلك الباب. وإذا بسليمان يقول مغيرًا مجرى الحديث: أخيرًا قررنا إدخال التليفزيون في بيتنا!

كانت منيرة من رأيها التريث حتى يُعرَف أثره على الأولاد، وتبعتها في ذلك كوثر ومحمد، غير أن سليمان قال لها: لا يمكن أن نعيش خارج زماننا.

وكانت أيضًا في قرارة نفسها مقتنعة بقوله؛ فسرعان ما سلَّمت. وما إن ذهب الزوار حتى قال رشاد لأمه: تلفزيون يا ماما!

ولحق بهما كذلك محمد. وفاقت فرحة الأحفاد بالتلفزيون كل تصور؛ فقد جاءهم إلى مجلسهم بنجومهم المحبوبين، والعالم كله، فضلًا عن زعيمهم المقدس الذي عاشرهم ليلة بعد أخرى. ولما رأت سنية التلفزيون تذكرت يوم دخل الراديو لأول مرة في بيتها، كانت أمها ما تزال على قيد الحياة فقالت: اقتربت القيامة يا أولاد!

وكان هدوء حلوان في تلك الأيام البعيدة شاملًا وعميقًا حتى ليستمع فيه الإنسان إلى خواطره، لا كهذه الأيام التي مضى يتكدر فيها صفوه بإقامة العمائر بل والمصانع. وكانت هي في غاية من السعادة وصفاء البال رغم أن الوطن لم يعرف الراحة أبدًا. ويجيء الزمن كل يوم بجديد، وتكثر مسرَّاته وأحزانه، ويتمزق القلب في معاناة الحنين بين الماضي والحاضر. وأخشى ما تخشاه أن يجيء الأجل قبل أن يتحقق الأمل. ولما انتهى إرسال التليفزيون لأول مرة قالت لكوثر: سيزورنا العالم كل ليلة بكل ما فيه!

فابتسمت كوثر ثم نظرت إلى رشاد قائلة: لا يلهينَّك شيء عن المذاكرة يا حبيبي.

ولكن عصر التلفزيون كان قد بدأ، وثار في صدور الأحفاد صراع بين الواجب والتلفزيون.

كان لمحمد مكتبة، وكذلك منيرة، وأقبل شفيق وسهام، وأمين وعلي، على كُتب الأطفال وغيرها إقبالًا يُبشر بالخير، وسوف يزداد ولا شك بدخولهم المرحلة الثانوية في العام القادم، غير أن التلفزيون أثبت أنه منافسٌ خطير فالْتَهم نصف وقت القراءة في أول جولة، ومضى يهدد النصف الآخر. وفي ذلك الوقت ناهزوا البلوغ فلفَّتهم حيرةٌ مشرقةٌ متحدية، وانطلقوا في العطلة الصيفية مع الصحاب إلى الميادين والحدائق ودور السينما، واحتدمت المناقشات، وطالب كل فرد منهم باستقلاله الذاتي، فلم يتفقوا على شيء قدر اتفاقهم على القبوع ليلًا أمام صندوق الدنيا الجديد بمتنوعاته التي لا نهاية لها، وضيافته الكريمة التي تمتد من الأصيل إلى ما بعد منتصف الليل. في ذلك المعترك الجديد اعتقد رشاد أنه رجل البيت القديم، وأخذ يعرف أشياء عن ثروته المحفوظة ويستفحل أمره إزاء ضعف أمه وحب جدته له. ورأته كوثر اتفاقًا ذات جمعة وهو يغتصب قُبلة من سهام في ناحية من الحديقة. ورجعت سهام منسحبة من ملعب الأحفاد إلى مجلس الجدة والآباء شاردة اللب. وخافت كوثر أن تشكو سهام إلى والديها ما ندَّ عن رشاد ولكن الأزمة مرت بسلام. ولما خلت كوثر إلى أمها بعد ذهاب الزوار أفضت إليها بالسر فابتسمت سنية متمتمة: لعبٌ بريء!

فقالت كوثر: سهام أنضج من سنها، وعلى منيرة أن تفتح عينيها!

وتفكرت قليلًا ثم سألت أمها: أينبغي أن أُحذِّره؟

فكان جواب سنية أن نادت رشاد، أجلسته لصقها في حنان وقالت مقتحمة الموضوع مباشرةً كعادتها: قالت لي العصفورة إنك معجب ببنت خالك سهام؟

فتورَّد وجهه ولكنه قال بجرأة ناظرًا صوب أمه: إني أعرف هذه العصفورة!

– ماذا تريد منها؟

فقال بجرأةٍ أكثر: أن أتزوج منها يومًا ما.

فابتسمت سنية ولكن كوثر قالت: الاختيار الصحيح ما يقع في الوقت المناسب.

ولكنه تجاهل أمه وقال لجدته: افعلي شيئًا يا ستِّي!

وفي الجمعة التالية غابت عن المناقشة المحتدمة متحيِّنة فرصة لإعلان طلبها. كانت المناقشة تدور حول «نزهة» اليمن التي انقلبت إلى متاهةٍ دمويَّةٍ متعطشة لدماء الأبطال وأموال الفقراء. قال محمد: أسمعتَ ما يقال عن أغنية أم كلثوم «أسيبك للزمن»؟ .. يقال إن الأصل هو «أسيبك لليمن»!

فقال سليمان بازدراء: اشمتوا كيف شئتم بدماء الأبطال!

فتساءل محمد جادًّا: أيرضى عاقل بذلك وعلى حدوده عدو كإسرائيل؟

قال سليمان وقد بات يحلم بوكالة وزارة الزراعة: إننا أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.

– بفضل المُلحِدين!

– نحن نأخذ منهم السلاح والعدالة ولا شأن لنا بإلحادهم.

ونفد صبر سنية فقالت بصوتٍ جهير مخاطبة محمد: هدئ روعك وأعطني سهام لرشاد!

لم يفهم محمد مضمون الطلب لأول وهلة، ولما أدركه تناسى انفعاله وقال بسرورٍ خفي: الله .. الله .. ما زالوا أطفالًا!

فقالت سنية: ولكني جادة تمامًا، ورشاد هدية!

– وسهام هدية أيضًا ولكن إعلان خطوبة الآن أمر يدعو للضحك!

– هل ترفض؟

– أبدًا .. لنقرأ الفاتحة .. ليكن حجزًا حتى يجيء الوقت المناسب .. وعليَّ أن أشاور البنت أيضًا!

وتمت الموافقة وتم الحجز. واستمدَّ رشاد من حبه الناشئ همةً أكبر في العمل ولكن السباحة ظلت حائزة لاهتمامه الأول. وكان جُل أصحابه من الرياضيين فكان في السياسة والدين معتدلًا، ورغم شعوره بالثراء والأصل إلا أنه كان لطيفًا سَمحًا محبًّا للناس تيَّاهًا في الوقت نفسه بقوته الجسديَّة وحُسن منظره. وأمِل أن ييسر له «الحجز» إشباع حبه في حدود البراءة، ولكن سهام — مع ميلها إليه — لم تشجعه، وكفَّت — مُرحبة بنصيحة أمها — عن مشاركة الأحفاد في ملعب الحديقة، منضمة إلى مجلس جدتها، تتابع أحاديث السياسة بفتور، وتستاء لأقل إشارة تُسيء إلى الزعيم. ولم تكن صفحةً بيضاء فقد انسربت إلى أُذنيها معلوماتٌ مُحرَّمة من زميلات في المدرسة أو في البيت سرعان ما ربطت بينها وبين ما تسمع من تلميحات في التلفزيون. ولما كانت علاقتها بأمها علاقة صداقة فقد تجرأت على أن تروي لها بعض النوادر، التي لا تخلو من مغزًى جنسي؛ حتى نصحتها ألفت بالتدقيق أكثر في اختيار صاحباتها. وبسبب من ذلك قالت ألفت لمنيرة ذات يوم: هذا التلفزيون يهيئ للبنت الصغيرة معلومات لا تُتاح عادةً إلا لشابةٍ ناضجة!

فأدركت منيرة ما تعنيه ولكنها تساءلت: أليس هذا أفضل؟

– في الخير نعم، ولكن ليس في الشر!

فتفكرت منيرة قليلًا ثم قالت: لعله أفضل أيضًا!

فقالت ألفت باسمة: إنكِ ناظرةٌ ومربية ولكنَّ محمدًا له رأيٌ آخر!

– لا خير في بناءٍ يقوم على الجهل!

ثم وهي تتنهد: مشكلة أمين وعلي أنهما يفقدان متعة القراءة يومًا بعد يوم!

فتساءلت ألفت: أكان الأفضل ألا نُدخل التلفزيون في حياتنا؟

– لا جدوى من قرار يُتخذ ضد تيَّار الحياة، المسألة هي كيف يمضي التطور بأكبر فائدة وأقل خسارة .. الواقع أننا نسيء إليهم بالمدرسة أكثر من التلفزيون ألف مرة!

– هذا حق، وحتى في السياسة لا وزن لوعيهم السياسي، إنهم يؤمنون بالزعيم وبأي كلمة ينطق بها ولا شيء قبل ذلك أو بعده!

فقالت منيرة بارتياحٍ خفي: بداية لا بأس بها في مثل سنهم.

كانت مثل ابنيها ناصريةً لحمًا ودمًا، وكانت سعيدة بذلك. ليتها تَسعد في حياتها الحميمة كما تَسعد في حياتها العامة. وإن يكن الفتور آفةً حتمية تقرض جذور الحب، وإن يكن أثره قد تجلَّى في حب سليمان لها فَلِمَ لا يحدث المِثل في حبها له؟! لم تصرَّ على مكابدة حب ذلك الرجل الذي لا تُعدُّ مثالبه؟ ولم يقف عذابها عند هذا الحد وإنما بات يطاردها إحساسٌ وحشي بأنها موشكة على فقده. وكانت سنية المهدي مستسلمة لخواطرها الحزينة عن منيرة عندما فاجأها محمد بزيارة عند أصيل يوم أحد فتوجس قلبها خيفة. سبقها إلى حجرة نومها الخضراء وجلس أمامها يرنو إليها كمن يتهيأ لإلقاء ما عنده ثم قال: ماما، بلغني من مصدر فوق الشك أن سليمان بهجت متزوج من الراقصة زاهية!

اختلجت عيناها وراء نظارتها وساد صمتٌ ثقيل. كانت مرتدية روبًا بنيًّا ثقيلًا، متلفعة بشال قطيفة أزرق، اتقاء لبردٍ قارس. ولما طال الصمت قال: تأكدتُ من الخبر تمامًا!

ساءلت نفسها هل تُتوارث المآسي؟ وكيف يقع هذا لدرة الأسرة؟! وتملَّصت من صمتها قائلة: الأخبار السيئة لا تكذب.

وساءلت نفسها ألا يخلو أحد في أسرتي من عاهة؟! قالت: الأمر لله، استمر …

– يجب أن تعرف!

– إني خير من يُبلغ الأخبار السيئة .. وبعد؟!

– ستطالب بالطلاق، ولكني ضد ذلك إلى الأبد!

– أوافقك، ما هي إلا نزوةٌ طارئة، ولكن يلزمنا طاقةٌ خيالية لإقناعها!

– فليكن!

وسرعان ما استدعت منيرة، وعلى طريقتها في مواجهة المصائب قالت: عندي خبرٌ سيئ يا منيرة!

كان كالموت يُفجر الإحساس بالمفاجأة رغم التسليم بمجيئه الحتمي. لم يجدَّ جديد إلا الجهر بالوساوس المعذِّبة الخفية. لكنها اصفرَّت غضبًا وارتسمت في قسماتها صورةٌ صارمة. قالت: أمر يثير التقزز!

ثم بحسم: الطلاق!

غطَّت سنية وجهها براحتَيها متفكرة ثم تمتمت برجاء: على مهلكِ!

– لا مجال للتمهل أو التفكير!

– التسرع في قرارٍ مصيري غير مقبول.

– لكنه الحل الوحيد يا ماما!

فقالت متنهدة: لا أراه كذلك!

– لا مفر منه.

– حدث لي ما يحدث لكِ ولكنني لم أفكر فيه!

– ذاك زمانٌ مضى، والمُلابسات جد مختلفة؛ فأنا ناظرة مدرسة فكيف ألقى الرجال والنساء وهم يعلمون أنني زوجة لها ضرَّةٌ راقصة!

– ما هي إلا نزوة، فكِّري بالبيت والأولاد والمستقبل.

وائتمروا جميعًا على معارضتها وإقناعها بالصبر. والعجيب أن سليمان بهجت صمد للعاصفة ببلادة وثقة، معتزًّا بحقه المطْلق في الزواج، متناسيًا عهد حبه القديم. وقال: علينا أن نتسامح مع أمور يتكرر وقوعها كل طلعة شمس.

فقالت له بحدة: افعل ما تشاء ولكن خلِّصني!

فقال متظاهرًا بالانزعاج: معاذ الله! إنكِ الأصل والأم والأبناء.

فهتفت بحنق: هل عملتَ حسابًا للأولاد قبل أن تفعل فعلتك؟

فقال بمسكنة: إني أمرُّ بمحنة وأنتِ عقلٌ كبير ولكني لن أفرط في بيتي!

وجدت نفسها وحيدة مع فكرتها، وفضلًا عن ذلك فلم يكن الطلاق بيدها، وأخيرًا قال لها محمد: رجائي أن تؤجلي البتَّ في الموضوع شهرًا!

فمنحها حلًّا تداري به هزيمتها. وسافر سليمان بهجت إلى المغرب لحضور مؤتمرٍ زراعي على مستوى البلاد العربية. ولما رجع إلى العباسية وجد منيرة قد جعلت من حجرة مكتبها مكتبة وحجرة نوم فأضافت إلى ركن منها كنبة تتحول إلى فراش عند اللزوم فاطمأن إلى أنها عدلت عن التشبث بالطلاق وإن قررت أن تنفذه في الواقع. وشعر في أعماقه بارتياحٍ خفي فانطلق من أريحية مباغتة يقول: أنتِ أنتِ، وكما كنتِ مذ ربط بيننا الحب.

كرهت محادثته كما كرهت النظر إليه. كانت تعاني أتعس لحظات حياتها؛ اندفن حبها تحت رُكام من الحنق والغيرة والإحساس الأليم بالغدر، وغرقت في حوارٍ طويل مع نفسها المحمومة؛ إنها تستحق أضعاف ما حاق بها جزاء حبها لرجلٍ تافه. قد تُعذَر على حبها في سنٍّ باكرة ولكنها نضجت فلم تتلاشَ الغشاوة عن عينَيها، بل نضج الحب أيضًا وتفاقم خطره. واغتفر الحب عيوبه، فقبِله رغم أنه ما هو إلا حيوانٌ جميل، بلا عقل ولا روح، يحركه الطمع والمنفعة الرخيصة. وما حبها إلا شهادة ضدها، ملأ القلب دون أن تزحمه قطرةٌ واحدة من الاحترام. هل يصح أن تُهيمن على حياتنا قوة عمياء لا معقولة تزري بما حصلناه من ثقافة وحضارة؟! إنه مُخجِل بقدر ما هو حقيقةٌ واقعة؛ على ذاك فعقابي دون ما أستحق، وغمغمت بعذاب: غجرية، لا ناظرة ولا مربية!

فلتقتلع من الآن فصاعدًا جذور الحب من قلبها الضال، ولتكن مثل أمها في الكبرياء فلا ترضى بمنافسة امرأة دونها. وقد قرأت لها أُم سيد الفنجان وقالت وهي تُقرب عينيها الضعيفتَين من جوفه: بعد الشدة يجيء الفرج.

واقترحت حِيلًا من السحر والرُّقى وزيارة بعض الأضرحة المشهود لها بالفاعلية فابتسمت بمرارة ولم تنبس. وقالت لنفسها: لا دواء للغدر إلا الرفض.

على أي حال برئت من مطاردة القلق الوحشية، وتحررت من إلزام نفسها ما لا يلزم — تشبثًا بذيول جمالها — من رِجيم قاسٍ وزينةٍ مبالَغٍ فيها. الآن تستطيع أن تهب نفسها خالصة لعملها الجاد وابنيها الواعدَين، متأسية بأخيها محمد في صبره وعزيمته وإيمانه. أما أمين وعلي فعلى دهشتهما لم يدركا أبعاد المأساة. كانت علاقتهما بأبيهما ودية وسطحية بخلاف أمهما المربية والمرشدة والصديقة. وقال أمين لعلي: بابا أخطأ.

فقال علي: وأساء لماما!

وكلما ظهرت زاهية في التلفزيون تفرَّسا فيها باهتمام وفضول وحنق. وقال أمين لنفسه: بابا يتزوج للمرة الثانية أما أنا ففقدتُ سهام إلى الأبد:

لماذا؟ إنه ليس دون رشاد رواء، وأطول منه، وأذكى، ولكن الآخر غني. ولعله لم يحب سهام كما أحبها رشاد ولكنه لعن رشاد وسهام والجميع. وقال لأمه: الثورة معتدلة أكثر مما ينبغي يا ماما!

فدهشت منيرة وسألته: أتريدها شيوعيَّة؟!

فتساءل: وما الشيوعيَّة؟

فترددت قليلًا ثم قالت: هي الإلحاد!

فوجم. واعترف فيما بينه وبين نفسه بأن سهام أهْون من أن يخسر بسببها دينه. وكانت منيرة تعرف عنه أكثر مما يظن فأحزنها أن تُكابد — هي وابنها — مرضًا واحدًا، فأوشكت أن تنهزم أمام دمعةٍ محتدمة. وقالت له بغموض: ما نتصوره ونحن صغار يتغير ونحن كبار!

أما علي فكان يهيم ببلوغه في وادٍ غريب؛ عَشق بطريقةٍ عشوائية ميرفت هانم حماة خاله محمد. رآها عن قرب في بيت خاله وهي تزور ألفت مصحوبة بزوجها الأخير الأستاذ حسن علما. لم يكترث لسنِّها الزاحف نحو الستين ولكن بهرته أناقتها وصوتها العذب وشعرها الذهبي وبشرتها المنيرة. سرعان ما عَشِقها انفراديًّا، وكانت أول امرأة من لحم ودم تحلُّ في قلبه المشغوف بكواكب التلفزيون. وقد نفخته بالغرور عندما قالت له وهي تصافحه: إنك في طول رجلَين معًا.

واستوعبت المرحلة الثانوية جميع الأحفاد؛ التحق شفيق بن محمد وأمين وعلي بالقسم العلمي، على حين التحقت سهام ورشاد بالقسم الأدبي. وبدأ رشاد يتكلم عن المستقبل متأثرًا بما يقال في مجلسه مع أصدقائه الرياضيين. حَلَمَ بحياة الأعيان ولكن صده عن حلمه قول الزعيم «من لا يعمل لا يأكل!» وهو زعيمٌ قادر، وفي وُسْعِهِ أن يحرم الأعيان الكسالى من لقمة العيش؛ فقال لأمه يومًا: أزرعُ أرضي وأُربي العجول!

فقالت كوثر: إذن اتجه إلى كلية الزراعة.

وفكر وفكر ثم قال: الكلية الحربية أفضل!

فتذكرت كوثر ويلات الحروب وقالت: لا، لا تُلقِ بنفسك إلى التهلكة!

فقال وهو يرنو إلى جدته: الأعمار بيد الله وحده.

لو تيسَّرت له حياة الأعيان لتزوج من سهام عند الانتهاء من الثانوية العامة؛ ليُسكِت هذا الجوع الضاري الذي يغرز في جوانحه خناجرَ مُبلَّلةٍ بالشهد. وفي تلك الأيام خسر الاجتماع الأسبوعي للأسرة حرارة الشباب. ولم يعد يشهده إلا محمد ومنيرة وألفت، ومع أن اختفاء سليمان بهجت لم يُدهش أحدًا إلا أنه لم ينقطع تمامًا، كذلك سهام كانت تجيء في أغلب المرات، ولكن أين شفيق، أين أمين، أين علي؟! وتسأل سنية المهدي فيكون الجواب إنهم في رحلة، سينما، مع أصحاب.

– ألا يبادلونني الأشواق؟

فتقول منيرة: إنهم يحبونكِ يا ماما ولكن سرقتهم الدنيا!

غزت صداقةٌ جديدة صدر شفيق مُمثَّلة في عزيز صفوت، زميل المدرسة، لأبٍ بسيطٍ موظف في محلٍّ تجاري، متقشف الحياة والمظهر، لكنه متنوِّع الحديث، ويعكس حديثه دأبه على غشيان دار الكتب؛ فأثار حماس شفيق، بل وسهام أيضًا. وكانت ألفت تُتابع حديثه أحيانًا فقالت لشفيق: صديقك لا يُعجبه شيء!

وقال له أبوه محمد: إني لا أحب هذا النوع من البشر، ولا أحب الاختلاط، ولكني أنصح ولا أفرض وصايتي، والعاقل من لا يُسلِّم برأي حتى يمتحنه.

وكان موقف محمد من العهد قد عُرف مع الزمن لشفيق وسهام، كما عُرف لأمين وعلي، فاستطاع الرجل أن يقول لشفيق أخيرًا: الإسلام هو الدعامة والهدف.

فقال شفيق: وإني لمُسْلِم يا بابا ولكني ناصري أيضًا!

ولم يكن عزيز صفوت ضد الناصريَّة ولكنه لم يكن ناصريًّا بالدرجة التي يرضى عنها شفيق أو سهام. أما إذا انفرد أحدهما بالآخر في مقهًى فكان حديث المرأة يستقطب جُل الاهتمام. كانا يطاردان النساء بأعينٍ جاحظة، ويقول عزيز: حَيُّنًا بولاق حيٌّ شعبي وبه فُرص لا بأس بها!

فيقول شفيق: إنها أزمة لا حل لها.

فيقول عزيز مُتهكِّمًا ببنطلونه القديم وقميصه الرمادي الرخيص: تلزمنا سيارة أو شقة خصوصية!

ويطير خيال شفيق مستحضرًا وجوه النساء بعمارة باب اللوق ويظل فريسة للسياط والجمرات. وقد لمح مرةً أمين ابن عمته في ميدان التحرير وهو ماضٍ مع بنت تقاربه في السن نحو محل دندورمة فأتبعه ناظرَيه في حسد. وكان أمين سعيدًا جدًّا بصاحبته التي بدت إلى جانب طوله قصيرة. وكانت سمراءَ مسمسمةً رشيقة. انْتَبَه إليها كجارة، وحامَ حولها في محطة الترام يومًا بعد يوم حتى شجَّعَته بابتسامة فتعارفا، وتقابلا، وتبادلا القُبَل كلما تيسَّر ذلك، فصارا حبيبَين. وعرف أنها هند رشوان، ابنة ميكانيكي في ورشة لإصلاح السيارات، في المرحلة الثانوية مثله، وكُبرى بناتٍ أربع ثلاثتهن في المرحلة الابتدائية. ولم يغتبط بالمعلومات ولكنه تجاوزها فلم تفتر همته، وكان يتنفس في جو يستبق فيه «الخاصة» في اكتشاف جذورٍ شعبية لهم وقاية من العواصف. أما علي فَنَعِمَ وحده — وفي سرية تامة — بحب ميرفت هانم، وعَلِمَ بأنها كانت زوجة أيضًا لجده حامد برهان فلم يُثنِه ذلك عن حبه، فاختزنه ضمن هواياته كالتلفزيون والولع بالخلوات. وشجعتهما علاقتهما الحميمة بمنيرة على مواجهة الحياة فهي تشاركهما في روح العصر بخلاف خالتهما كوثر وخالهما محمد اللذين أطلَّا عليهما من نافذة زمنٍ ماضٍ مجهول. إنهم أبناء اليوم والغد ولا ماضي لهم، وهم رعايا دولةٍ عظمى مُهيمِنة على العرب وأفريقيا، حليفة لدولةٍ عظمى، ومتحدية لدولةٍ عظمى أخرى! انحصرت مشكلتهم المُلحَّة في الجنس وهي ستُحل بطريقة ما في حينها. وارتفع صوت في الراديو ينعى أثرًا من آثار الماضي، جَهِله الجيل الجديد، وعرفته قلة كرمز للخيانة؛ نعى الراديو مصطفى النحاس. لم يترك الخبر أي أثر في الأحفاد، اتسعت عينا كوثر ومنيرة لحظات ثم شُغلت كلٌّ بما بين يديها، وكانت سنية تتمشى ما بين حجرة المعيشة والفراندا في جو أغسطس الحار، فسرعان ما أسلمت نفسها إلى أقرب مقعد، وشخصت بعينَيها إلى الحديقة المهملة في تأثرٍ شديد، ثم غمغمت: آه .. لكل أجل كتاب .. إلى رحمة الله ورضوانه.

وتلقَّت من ذكرياتها الحميمة حزنًا هادئًا عميقًا. أما محمد فقد نبض عِرقٌ قديم في هيكله المتجدد فرأى الماضي والحاضر والمستقبل في لوحةٍ رمادية تقطر أسًى ورحمة. وكان ساعتها يجالس الأستاذ عبد القادر قدري في حجرته، فرآه يطرح جسمه على مسند كرسيه، ويطوق رأسه براحتَيه ويصمت طويلًا، ثم يردد بخشوع:

ألا يا نفس أجملِي جزعًا
إن الذي تحذرين قد وقعا.

ثم نظر إلى محمد بعينَين مربدَّتَين وقال: مات آخر الزعماء.

فلاذ بالصمت مُشارِكًا في تأثره فقال عبد القادر: سيُشيَّع غدًا في جنازة لا تليق بمقام راقصة درجة رابعة!

ولكن الجنازة كانت انفجارًا بركانيًّا غير مسبوق بإنذار. شاهدها محمد من شُرفة المكتب بشارع صبري أبو علم فذُهل ولم يصدق عينَيه. وتساءل: كيف حصلت هذه الأسطورة؟!

أي طوفان من جموع بلا نهاية! أي هتافات تتطاير بشواظ القلوب! أي دموع تترقرق في الأعين! أي حزن يُغشى الشيوخ والشباب، أجل والشباب أيضًا! وتساءل محمد: من أين جاء هؤلاء الشُّبَّان؟

كيف فرضت هذه الزعامة نفسها على القلوب ساعة الوداع بعد أن توارت عن السمع والبصر وغطتها أيدي الرقباء برداء النسيان؟ أما زال للوفد مريدون بهذا العدد؟ هل انضم إليهم كل محبٍّ للحرية ومحروم منها؟! اضطربت الجموع في أسًى حميمٍ عميقٍ شامل وكأنما تنعى الدنيا والأمل الوحيد. ولمح محمد الأستاذ عبد القادر قدري تلاطمه الأمواج وراء النعش وهو يُلوِّح بيديه بحماس يفوق سِنَّه، ولم يكن يتصور أنه يراه لآخر مرة، فقد اعتُقل مساء اليوم نفسه فيمن اعتُقل من المشيعين المتحمسين، وقضى في الاعتقال عامَين ثم توفيَ عقب الإفراج عنه بيومَين. واختصت الجنازة بحديثٍ طويل في الجمعة التالية في اجتماع الأسرة، غير أن محمد كان يدخر خبرًا لا يقل عنها إثارة فقال مخاطبًا منيرة: زوجكِ يبني فيلَّا في المعادي!

فتجلَّت في عينَي منيرة نظرة إنكار، على حين تساءلت سنية: من أين له المال؟

فقال محمد وهو يغمز بعينه الباقية: إنه يُؤجِّر شققًا مفروشة استأجرها وهي خالية — بفضل أخيه — من عمارات الحراسة!

ونقَّل وجهه بين الوجوه ثم واصل: إنه يستأجر الشقة خالية وتتعهد الراقصة بفرشها؛ فهما شريكان!

فقالت منيرة بازدراء: ما ننال منه مليمًا فوق نصف مرتبه.

فقال محمد: ويقال إن زوجته على علاقة مع المخابرات!

وانتبهوا ذات يوم والجيش يُجلجل في شوارع القاهرة. تابعت منيرة وأمين وعلي منظره المهيب من شُرفة شقتهم بالعباسية. ورآه شفيق وعزيز صفوت بميدان التحرير. وسرعان ما ذاع وملأ الأسماع أن الجيش ذاهب إلى سيناء ليمنع تهديد إسرائيل لسوريا. وفي الحال تجسدت الحرب كحقيقةٍ وشيكة الوقوع في أخيلة الناس. وفي البيت القديم بحلوان نظرت كوثر نحو رشاد كأنما تطالبه بالعدول عن نيَّته في الالتحاق بالكلية الحربية، وتساءلت: ما هذه الحروب؟ .. كأنها أعياد موسمية!

ووجمت سنية، تذكرت حلمًا رأته ولم تُحدِّث به أحدًا؛ رأت القبر مفتوحًا والأجداث داخله متراصَّة، وأنها كانت تنادي شخصًا ما ليسدَّه ولكن صوتها لم يُسمَع. همَّت بالإشارة إلى الحلم ولو إشارةً غامضة ولكنها عدلت وأوت إلى الصمت. أما كوثر فرجعت تقول: حلوان اليوم بها مصانعُ حربية!

ففكرت سنية ببيتها القديم وتساءلت: هل يتحمل بيتنا الانفجارات القريبة؟

ثم واصلت بشيء من الثقة: ولكن الرئيس يعرف ما يصنع.

وفي شقة باب اللوق دار حديث الحرب بحضور محمد وألفت وشفيق وسهام وعزيز صفوت. تساءلت ألفت: ماذا يعني إغلاق المضايق وانسحاب الجيش الدولي؟

فقال محمد بسخرية: يعني أن سُفن إسرائيل كانت تمر في أمانٍ منذ عشر سنوات أو منذ النصر المزعوم!

ولكن عزيز صفوت أجابها متجاهلًا سخرية محمد: إنها الحرب يا سيدتي!

فتساءل محمد: وجيشنا موحول في اليمن؟!

فقال عزيز صفوت: نحن أقوى قوة في الشرق الأوسط، والرئيس لا شك يعرف لقَدَمه قبل الخطو موضعها.

فكظم الرجل غيظه، على حين قالت سهام: كلماته مليئة بالثقة والقوة!

ظنَّ محمد لحظةً أنها تصف حديث عزيز صفوت ولكنه سرعان ما أدرك أنها تعني زعيمها، ثم لعن الثلاثة في سرِّه. وفي العباسية لاحظ أمين قلق أمه فقال لها: نحن أقوياء يا ماما.

فقالت منيرة: إني مؤمنة بذلك وهو ما يقلقني، ليست إسرائيل بمشكلة، ولكننا إذا اخترقنا حدودها فسنجد أنفسنا وجهًا لوجه مع الولايات المتحدة!

فقال علي: معنا الاتحاد السوفيتي!

فتساءلت: أتظنه يُقْدِم على دمار العالم من أجلنا؟!

فقال علي بإصرار: ولا الولايات المتحدة تُقْدِم على دماره من أجل إسرائيل!

فاعترفت منيرة قائلة: الحق أني في غاية القلق!

وجاء سليمان بهجت في زيارة طوارئ. كان يزورهم من حين لآخر وظلت علاقته بابنَيه ودِّيَّةً وسلبية معًا، أما منيرة فكانت تعامله معاملةً رسميَّة. استمَع لخواطرهم عن الحرب ثم قال بنبرة العالِم ببواطن الأمور: لا داعي للقلق ألبتة، وفي اعتقادي أنه لن تقوم حرب.

ثم بعد هنيهة صمت: ولكن مبالغة في الحيطة أودُّ أن تقيموا معنا هذه الأيام في الزمالك فهي آمَنُ من العباسية!

فقالت منيرة بهدوء وبرود: لك الشكر، لكننا لا ننوي هجر مسكننا ولا نجد ضرورة لذلك.

فلم يضايقها بإلحاحه، ولعله لم يتوقع قبولًا من الأصل، وقال: روح البلد عالية جدًّا!

فسأله أمين: ألسنا أقوى قوةٍ ضاربة في الشرق الأوسط؟

فأجاب بيقين: هذا مفروغ منه، ولكني لا أتوقع حربًا على الإطلاق!

وقُضيَ الأمر. في الساعة التاسعة من صباح الاثنين ٥ يونيو ١٩٦٧ دوَّت صفارة الإنذار وقُضيَ الأمر. بدا كل شيء هادئًا في القاهرة عدا جموع تجمهرت حول الراديو تتلقَّى أنباء عن انتصاراتٍ وطنيةٍ خارقة! وتابعت منيرة الأنباء فازدادت قلقًا، وساءلت نفسها: ما لنا لا نسمع عن هجوم؟!

ومرق محمد وألفت إلى محطة لندن وصوت أمريكا فدهمتْهُما أخبارٌ أخرى، وتساءلت ألفت: ماذا يجري؟ .. أتصدق هذا؟!

فقال محمد وعواطفُ متضاربة تتنازع قلبه: أُصدِّقه تمامًا، ما هو إلا بناء من الورق يقوم على الكفر والفساد!

وأخيرًا أُعلن عن بيان سيُذيعه الرئيس على الشعب. استقرَّ الكبار في البيوت وانتشر الشباب في الشوارع والمقاهي. انتظَر الجميع — ملهوفين — البيان متوتِّرين بانفعالاتٍ محتدمة. مُنقِّبةٌ أعينهم في الظلمات عن بارقة أمل؛ أليس ثمة رابطةٌ وثيقة بين لسان الرئيس والأمل؟ أجل إنه لا ينطق إلا مرسِلًا باقاتٍ من الآمال المنعشة. لكنه — ذلك المساء — طالَعهم بوجهٍ جديد، وصوتٍ جديد، وروحٍ جديدة. اندثر رَجُل وحلَّ محلَّه رجلٌ آخر؛ رجلٌ آخر يُحدِّث عن نكسة، يشهر إفلاسًا، يندب حظًّا، يحني قامته العملاقة لواقعٍ صارمٍ عارٍ عن الأحلام والأمجاد، ويلتمس مخرجًا بائسًا في التنحِّي، مُخليًا مكانه الشامخ المتهدِّم لخليفةٍ أراد له أن يرث تَركته المثقلة باللامعقول والعار. خرقت الحقيقة الوحشية القلوب الملتاعة وتردَّت بأصحابها إلى قاع الهاوية؛ فاندفعت دموع من الأعماق الجريحة إلى الأبصار الزائغة؛ بكت سنية وكوثر أيضًا بكت، بكت ألفت وسهام على حين تحجَّرت عين محمد، أما منيرة فغشيها بكاءٌ طويل. واندفع شفيق وأمين وعلي وعزيز في طوفان الجموع الصاخبة الغاضبة المحتجَّة يخوضون ظلامًا دامسًا، يتحدى صراخهم أزيز الطيارات وطلقات المدافع المضادة، وتطالب بالتنحي عن التنحي. وتتابعت أيامٌ محمومةٌ جنونيَّة مليئة بالانفعالات والتحرشات والاعتقالات والانتحار. وبقيَ الرئيس وانتحر القائد، وفرغ الناس من متابعة الأحداث السياسية ليفتحوا قلوبهم لهلوسةٍ تاريخيةٍ فريدة وليشاركوا بلذةٍ جنونيةٍ مُعذَّبة في حفلة زار عصريةٍ شاملة. ماذا حصل؟ كيف حصل؟ لماذا حصل؟ وأمطرت السماء شائعات، وسخريات، ونكاتًا، ونوادر، ودموعًا. وتفشت أعراض مرضٍ مجهول، فبدا وكأنه لا شفاء منه. وشهد اجتماع الأسرة جميعُ الأجيال كالماضي البعيد. بدا الكبار محزونين والصغار حيارى مبهوتين. وحزنت سنية لنفسها كما حزنت لأولادها وأحفادها، تذكرت حلمها الكئيب، تذكرت حامد برهان وجهاده الصغير الذي عاش تيَّاهًا به، استرقَتْ إلى محمد نظرة إشفاق، رنت إلى الأحفاد بشوق وعطف، وأصغت إلى صوتٍ خفي تردد في أعماقها يطالِبها بأن تيئس تمامًا من تجديد بيتها وحديقته. من يفكر في هذا الترف وهو في جوف النيران المؤجَّجة؟ وتمتمت: يا لها من أحزان!

فقال محمد ممتعضًا: المسألة أننا نَسِينا اللهَ فنَسِيَنا اللهُ.

فقال سليمان بهجت وهو قاعد جسدًا بلا روح: ما هي إلا مكِيدةٌ أمريكية!

فهتف محمد: لا عذر عن الغفلة والحماقة!

ثم تنهد في غيظ: وتخرُج الجموع للتمسك به بدلًا من المطالبة بمحاكمته؟

ونظر صوب ابنه شفيق متسائلًا: ماذا دفعك للاشتراك مع الجموع؟

فأجاب شفيق بوجوم: لا أدري بالضبط، ربما خُيِّل إليَّ أن الحياة لا يمكن أن تمضي بدونه!

وقال أمين: قلنا إن هدف العدو إقصاؤه فتمسكنا به تحديًا لقرار العدو.

فضحك محمد بجفاءٍ ساخرًا: وهل يطمع العدو فيمن هو خير منه؟!

وصمت لحظاتٍ ثم واصل: أعترفُ لكم بأنني سُرِرت أيضًا لبقائه، أجل، يجب أن يبقى على رأس الخراب الذي تسبَّب فيه، ليعاني معنا، وليتحمل مسئولية إصلاحه، هذا خير من الهرب إلى الخارج والتمتع بحياة أصحاب الملايين!

صمت شفيق وسهام وأمين وعلي ورشاد كأن الأمر لم يعد يعنيهم، أو أن «ناصريَّتهم» غرقت في مستنقع من الحيرة. تخبَّطوا في الظلام صامتين. أما سليمان بهجت فتردد طويلًا قبل أن يقول: ثمة كلام عن تكوينٍ جديد للجيش على أسسٍ جديدة!

فأطلق محمد ضحكاته الجافة ثانيةً وقال: ما نحن اليوم إلا إقليم تابع للاتحاد السوفيتي، لم تنتصر إسرائيل والولايات المتحدة فقط ولكن الاتحاد السوفيتي انتصر أيضًا، أذنابه يقولون اليوم بكل قحة إن الاشتراكية أهم من سيناء!

وغمغمت سنية في أسًى: لنا الله.

وتساءلت سهام: أينتهي الوضع على هذه الحال؟

فخُيِّل إلى سليمان بهجت أنه مُطالَب بإجابة فقال: كلا طبعًا! سنجد أيضًا فرصة لإعادة النظر في شئوننا، ثمة عوامل فساد كانت تنخر في عظامنا، يقال إن الرئيس نفسه كان ضحية من ضحاياها!

فقال محمد حانقًا: قال إنه مسئول عن كل شيء، لعله أول صِدق ينطق به في حياته!

ففقد سليمان بهجت بعض أعصابه وقال: أعداء النظام شامِتون كأن المصيبة حلَّت بوطنٍ آخر!

فلوَّح محمد بيده محتجًّا وقال: إنهم محزنون لا شامتون، لقد بذل الجيل الماضي ما استطاع حتى وقَّت للاحتلال البريطاني وقتًا، ثم جاء الأبطال يحلمون بإنشاء إمبراطورية فانتهى سعيهم باستيراد احتلالٍ جديد مارستْه أصغر وأحدث دولة في العالم، هي النتيجة الحتمية للجهل والغرور والفساد والاستبداد، واليوم تفصح الوجوه فلن ترى توازنًا واستقرارًا إلا عند الشيوعيين!

– لسنا شيوعيين على أي حال.

– ولكنكم ذيولٌ لهم، لو صدقتم في قتال إسرائيل عُشر صِدقكم في قتال المسلمين لكُتب لكم النصر.

فقال سليمان بضيق: الشعب الكادح يعرف بغريزته كيف يهتدي إلى رجُله!

فجاوز محمد حلمه قائلًا: لا تحدثني عن الشعب الكادح، وحدثني عن الشُّقق المفروشة!

اصفرَّ وجه سليمان وأفصحت عيناه عما ينذر بإفساد اللقاء كله، غير أن سنية قالت بصوتٍ مسموع: لا .. لا أسمح بهذا، نحن هنا أسرة ولا مكان بيننا لمعركة!

وعلت الكآبة المجلسَ والمأدبةَ، ولم يُرَ سليمان بهجت بعدها في البيت القديم، لا بسبب نزاعه مع محمد فقط، ولكن لأن التحقيقات أدانت فيمن أدانت زوجته «زاهية» مثبتة استغلالها لنفوذها المستمَدِّ من المخابرات لإثراءٍ غير مشروع؛ فقُضيَ عليها بالسجن خمس سنوات. وأصابت ضربات التطهير أخا سليمان الضابط؛ فقضيَ عليه بالسجن أيضًا، ووجد سليمان نفسه وحيدًا ضعيفًا بلا سند، مطاردًا بسوء السمعة؛ مما اضطره إلى تقديم استقالته. وفي ذلك الوقت فرغ من بناء فيلَّا المعادي، فأقام بها وحده منتظرًا عودة زاهية. وأنعش أمل قلب سنية الجريح فتصورت أن الأحداث تُمهد لعودة العلاقة بين سليمان ومنيرة إلى سابق عهدها، ولكن منيرة قالت لأمها بصدق: لقد انتهيتُ منه تمامًا!

ولم يختلف هو عنها في ذلك فوهبت منيرة حياتها كلها للعمل ولابنَيها. وقد ترقَّت مُفتشة وازدادت جدية في حياتها، وإذا بها تحجُّ بصحبة محمد ذات عام، وتُواظب بعد ذلك على الفرائض مثل كوثر منتمية إلى أسلوب أمِّها في التدين لا أسلوب محمد، مُحافِظة في الوقت نفسه على «ناصريتها» مُلبية نداء العاطفة في ذلك أكثر من العقل، ورافضة التخلي عنه في سوء حظه، قالت: ما هو إلا ضحية للاستعمار العالمي!

وسارعت إليها الكهولة مثل كوثر وأكثر ولكنها — من حُسن الحظ — لم تلحظ تغير وجهها الجميل كما لاحظه الآخرون، كما أنها لم تعد تستعمل أي أداة من أدوات الزينة. ووقعت مظاهرات الطلبة مفاجأة لها كما كانت مفاجأة لكثيرين. إنها أول تحدٍّ داخلي يواجه الزعيم من أخلص أبناء قبيلته. تردد الهتاف بسقوطه، وتطايرت في الجو السخريات المسجوعة. وتاقت الأنفس لحكم الشعب ولمعرفة الماضي على حقيقته. وجدت منيرة نفسها ممزقة، ففي جانب يتظاهر أبناؤها، وفي الجانب الآخر يقف زعيمها. وعجبت لموقف أمين وعلي كما عجبت لموقف شفيق وسهام. وسألت وهي تُقلِّب عينَيها في وجهَي ابنيها: أليس هو الرجل الذي ثرتم لإبقائه؟

فقال أمين مرددًا ما أفعم رأسه: يجب أن يكون الدور الأول للشعب!

– أتريد رجلًا آخر؟

فهزَّ منكبيه قائلًا: لا يوجد رجلٌ آخر!

وتساءل علي في حيرة: ما جدوى التحقيق؟!

فسألت بإلحاح: أترومون تصفية الناصرية؟

فأجاب أمين: لسنا رافضين ولكننا غير راضين!

– إنكم محيِّرون!

فقال علي ضاحكًا: نحن حيارى!

وكانت الجامعة تستقبلهم واحدًا بعد آخر. اثنان منهما نالا ما أرادا فالتحق رشاد بالكلية الحربية رغم معارضة كوثر، والتحقت سهام بكلية الآداب مستهدفة قسم اللغة الإنجليزية. أما شفيق وأمين فقد أرادا الطب ولكن التنسيق حوَّلهما إلى الهندسة، وأراد علي الهندسة فمضى إلى كلية العلوم. وفي الجامعة دهمهم جوٌّ فائر بالبلبلة، صاخب بالأصوات الجهيرة المتضاربة. الدين .. الدين .. الدين، ما انتصرت إسرائيل إلا بالتوراة؛ فالحرب يجب أن تكون بالقرآن. الماركسية .. الماركسية .. الماركسية، هي التي تقتلع مجتمعًا متهرئًا من جذوره الخرافية لتُشيِّد فوق أنقاضه مجتمعًا علميًّا عصريًّا، العلم .. العلم .. العلم .. ما انتصرت إسرائيل إلا بالتكنولوجيا، وأملنا الحقيقي في العلم والتكنولوجيا. الديمقراطية .. الديمقراطية .. الديمقراطية، فما خسف بنا الأرض إلا الاستبداد. الناصرية .. الناصرية .. الناصرية، وما عليها إلا أن تُخْلِص لمبادئها حتى نُخْلِص لها. دوامة لا تسكن ولا تهدأ، والقلوب ثقيلة، والأنفس مريرة، والأفق متجهِّم، والشهوات مكبوتة، وأحلام اليقظة مرهقة. وقال شفيق لأبيه ذات مساء: نحن جيل من الضحايا، إني أصدق من يقول ذلك!

فسأله محمد: ضحايا لمن؟

– لجميع من سبقنا.

فتغيَّظ محمد وسأله: ماذا تعرف عن مصر ما قبل الثورة؟

– دعنا من هذا وخبِّرني كيف أريد أن أكون طبيبًا فتأمرني الحكومة أن أكون مهندسًا؟

فقال محمد بامتعاض: اعرف وطنك، إليك مكتبتي فهي تحت أمرك!

وعَرف شفيق صديقه عزيز صفوت أكثر فأدرك أنه ماركسي. لم يفطن لذلك من قبلُ لقلة معلوماته من ناحية ولتركيز عزيز على نقد أوضاعٍ شتى دون كشف النقاب عن هويته من ناحيةٍ أخرى. يلاحظ الآن أن الهزيمة لم تنل منه عُشر معشار ما نالت من الآخرين فتَذكَّر قول أبيه عن «توازن الشيوعيين»، ونظر إلى عزيز صفوت نظرةً غريبة وسأله وهما يسيران بلا هدف وسط المدينة: لعلك ممن يُفضِّلون الاشتراكية على سيناء؟!

فارتسمت ابتسامة في وجه عزيز الشاحب وقال: التوجه نحو الاشتراكية هو المكسب الحقيقي لثورة يوليو.

فقال شفيق وهو يرمقه باستغراب: أنت ماركسي!

وراح الشاب يتحدث عن الهدم والبناء من جديد ففتنت الفوضى خيال شفيق واستجابت لها نفسه الحائرة، غير أن عزيز انقضَّ على المقدسات بسخريةٍ فاجرة لم يتوقعها شفيق فأحدثت عنده رد فعل مفاجئًا رغم خفَّة تدَيُّنه. وبدافع من العناد والغضب والرغبة في الجدل والاحتجاج على التطرف عارَض آراء صاحبه وكأنه صاحب موقف، بالرغم من أنه لم يعرف من المواقف إلا الناصرية التي زعزعت الهزيمة أركانها. ولما شبِع من الجدل قال: إني في حاجةٍ شديدة إلى امرأة!

فقال عزيز ضاحكًا: توجد فرصةٌ حسنة.

اعترفَ له بأنه يحوز صديقة، وأن لها أختًا قد يجد فيها مطلبه. وزاده بهما علمًا فقال إنها من بنات المدارس، وإن أمهما أرملةٌ فقيرة تتعيش من شراء الفاكهة نصف الفاسدة بأبخس الأثمان وتبيعها للفقراء، وإنها لم تضنَّ على ابنتَيها بالتعليم ولكن الفتاتين اعتمدتا على نفسَيهما في الاستمرار فيه بلا موافقة أو رفض من ناحية الأم. قال عزيز صفوت: لي حجرةٌ مفروشة فوق السطح، والتكاليف معقولة.

وذهب به ذات يوم إلى سطح البيت بعطفة بهان ببولاق. اخترق حَواريَ كئيبةً لم يألفها من قبلُ، ولم يتنفس بارتياح إلا فوق السطح، ومدَّ بصره جنوبًا متجاوزًا بضعة أسطح فرأى النيل يجري في شموخه ورأى شاطئه الآخر المجلَّل بالأشجار والقصور والعمائر في الزمالك. ومضى به عزيز إلى الحجرة المفروشة فدهمه منظرها بالوحشة! طولها أربعة أمتار وعرضها متران، على يسار الداخل كنبة وفي الجدار المواجه للداخل كوة وثمة مسمار مغروز في الجدار الأيمن وأرضها مغطاة ببلاط معصراني أغبر اللون. وجَمَ شفيق ولكن الآخر لم يلقِ إليه بالًا، وما لبثت أن جاءت زكية محمدين في بنطلون رمادي وقميص أزرق كاشف عن أعلى الصدر مفروقة الشعر مقبولة القسمات والهيئة مفصلة الحمولات. تم التعارف والرضى، ولدى ذهاب عزيز أحبها حب الجائع المحروم. تحدثت بطلاقة وعفويَّة كأنها في بيتها فخامره شيء من الأسف ولكنه ضمَّها إلى قلبه بقوة واستماتة. وتواصلت العلاقة بترحيب وسعادة من ناحيته كأنما بلغ بها أقصى ما يتمنى. وحفظ لعزيز صفوت جميله، ولكن ذلك لم يمنعه من معاندته كلما تهجَّم على الإسلام، أجل وجد نفسه يدافع عن الإسلام كأنه من تياره. ولاحظ أمرًا أزعجه؛ قرأ أحيانًا في عينَي أخته سهام إعجابًا بآراء عزيز صفوت. انفرد بها ذات مساء وسألها: لعلكِ لا تدرين أنه ماركسي؟

فحدجته بنظرةٍ محايدة ولم تجد ما تقوله فسألها: أتحبذين آراءه الشيوعية؟

فقالت بعد تردد: المسألة أنها جديدة ومثيرة!

– هل فرغتِ من الناصرية؟

– لا أظن.

– هل هان عليكِ الإسلام؟

فتفكرت قليلًا ثم قالت: غير معقول.

فقال وكأنما يصف نفسه: إنكِ لا تدرين لنفسك رأسًا من رِجلَين!

وثمة مفاجأةٌ أخرى كانت ترصد فرصتها، فما كاد رشاد يخطر في بزَّته الرسميَّة كطالب في الكلية الحربية حتى صارح أمه وجدته قائلًا: آن لي أن أعلن خطبتي لسهام.

وتحمَّست كوثر لذلك بدافع لم تتبيَّنه بل تمنت أن يتم الزواج في أقرب وقت، ورحَّبت بذلك سنية أيضًا فحدَّثت به محمد وألفت. غير أن ألفت عندما فاتحت سهام في الموضوع قالت الفتاة: آسفة!

فاستقطبت أنظار ألفت ومحمد وشفيق، وسألتها ألفت: أتريدين مزيدًا من التأجيل؟

فقالت بصراحة: لا أريدها على الإطلاق!

ذُهل الجميع وتبادلوا نظراتٍ مستنكرة، وقال محمد: ولكنكِ كنت موافقة طوال الوقت!

فقالت بهدوء وتصميم: الأمر كله كان عبثًا، ثم تبيَّن لي أنني لا يمكن أن أوافق!

هتفت ألفت: رشاد شابٌّ ممتاز وغني ووسيم وابن عمتكِ، فكِّري بما سيُحدثه الرفض!

فقالت بتصميمٍ أشد: أي شيء أهْوَن من الكذب في مصير حياة.

فقال محمد متأوِّهًا: إني رجلٌ مؤمن، والمؤمن يؤمن بالزواج أيضًا، ولو كان لي مال لزوجتُ شفيق وهو رجل، فكيف بالأنثى؟!

فقالت بصوت متهدج: لا أريد يا بابا!

غلبه الإشفاق. تنهَّد قائلًا: الأمر لله، سأُسلم بما أكره، ولكني حزين، على نفسي وعليك، على الأيام، كل ما حاق بنا، لقد ماتت جاذبية الأرض وتطايرت الأشياء في الفضاء!

وبطبيعته التي تؤثر المواجهة سافر إلى حلوان. جلس في حجرة المعيشة بين أمه وكوثر ورشاد وقال: إني حزين يحمل رسالةً حزينة!

وصبَّ عليهم الحقيقة واضعًا نفسه تحت شلالها كأنه ضحية — مثلهم — من ضحاياها. وقال: لم يعد لنا من سلطان على أولادنا!

جفَّت حيوية أرواحهم. تلقَّى كلٌّ منهم لطمةً داهمة. ولم يُعلق أحد بكلمة فتفشى الفتور حتى ذهب محمد. وسرعان ما بكت كوثر وهي تقول: ابني خير شباب الأسرة!

فقالت لها سنية: سيغنيكِ بمن هي خير منها.

أما رشاد فمضى من توِّه إلى شقة باب اللوق، فأخلى ما بينه وبين سهام، وسألها: ماذا غيَّركِ بعد أن سمحتِ لي بأن أحبكِ وأعقد بكِ آمالي؟

فقالت سهام بصوتٍ خافت: أعترف بخطئي وأسفي، إنك شابٌّ رائع، ولكن لا حِيلة لي …

فازداد تعاسة وسألها: أيوجد شخصٌ آخر؟

فأجابت بوضوح: كلا.

فصمت قليلًا ثم قال: إذا كان الأمر كذلك فلِمَ لا نُجرب حظَّنا؟

فقالت بحزن: آسفة، انسَ الموضوع كله وسامحني إن أمكن!

وانفرد محمد بألفت وسألها: هل يوجد شخصٌ آخر؟

فقالت: أبدًا، إنها لا تخفي عني سِرًّا.

فهتف الرجل: هذا أَدْهَى وَأَمَرُّ.

ولكن كان ثمة «آخر»، غير أن سهام لم تُشرْ إليه لأنه لم يعترف بعدُ، وقد تكون واهمة. فمما لا شك فيه أن ميلًا خفيًّا دفعها باستمرار نحو عزيز صفوت! إنه يراسلها بنظراتٍ خاصة أبلغ من أي لسان. مضى زحفه وئيدًا متواصلًا حتى تفتح قلبها للحب، وعند ذاك فقط عرفت أنه شيءٌ آخر غير الميل الذي وجدته ذات يوم نحو رشاد. وكان رشاد أقوى جسمًا وأجمل صورة إلى وزنه المالي المعتَرف به. عزيز نحيلٌ شاحب الوجه ذو ملامحَ شعبيةٍ ومظهرٍ فقير ولكنْ سَحَرها نورٌ يشع من عينَيه، وجِدَّة أفكاره وحيوية روحه وذكاؤه البيِّن. والحق أن عزيز ومض في رأس ألفت دقيقة ولكنها سرعان ما استبعدته كفرض يتعذر قبوله .. كان يزور شفيق كثيرًا، ويرى سهام كثيرًا، وفكرة حجب ابنتها لم تخطر لها ببال، وكانت هي تجالسهم أحيانًا وكذلك محمد. ثم ألم يُسلِّم محمد نفسه بضرورة إلحاقها بالجامعة؟ قنع بضرب المثل الإسلامي لهم في حياته اليومية وحثهم على تأدية الفرائض وما يتسع له وقتهم من ثقافةٍ دينية، مُسلِّمًا بعد ذلك أمره لله. لعل أمين — ابن منيرة — كان الأوحد في الأسرة الذي شمِت برشاد في محنته لسابق شغفه بسهام. وظن أن فرصةً طيبة تسنح له من جديد فَعَبَر فوق علاقته بهند رشوان وأكثر من التردد على مسكن خاله محمد، وراح يتودد إلى سهام، ولكنه شعر منذ أول خطوة بأنها لا تُشجِّعه ألبتة فلم يتمادَ في تجربته وقال لنفسه ساخطًا: ستكون صورة طِبق الأصل من ميرفت هانم!

وندم على شروعه في خيانة هند رشوان فكفَّر عن زلته بالتأكيد على إظهار حبه لها وتعلُّقه بها. وبالفعل دخل طورًا جديدًا من علاقته اتسم بالحرارة والجدية. ومضى يفكر في المستقبل، وفي العقبات التي تعترض طريق الزواج مثل اختلاف مستوى الأسرتَين، والانتظار الطويل الذي لا مفر منه، وتكاليف الزواج التي لا مفر منها أيضًا. وعند ذاك تذكَّر ما يقال عن ثراء أبيه، ولكنه لم ينسَ «زاهية» التي ينتظر خروجها من السجن، والتي يقال إنها شريكته بل إنها القوة الحقيقة وراء استثماراته. بالإضافة إلى ذلك فإن نفوذ عمه انتهى إلى الأبد بدخوله السجن. أما عن دخل أسرته الخاصة فإنه بالكاد ييسر لها معيشةً عادية أبعد ما تكون عن الترف. وكم وَدَّ أن يخلو بهند رشوان لعله يُروِّح عن أعصابه بطريقةٍ فعالة وآمنة، ولكن أقصى ما أُتيح له أن يختلس القُبلات واللمسات في شوارع العباسية الجانبية. ولم يخلُ في حياته العامة من عاطفية أيضًا فكان أقل الأحفاد تمردًا على الناصرية، وأُعجب بأمه لتمسُّكها بها، وربما من أجل ذلك شعر بمأساة أمه الخاصة أكثر من أخيه علي، وآنست منيرة منه ذلك فاختارته بخيالها، وأيضًا عقب رجوعها من الحَجِّ شاركها في الاهتمام بدينه مُتبعًا أسلوبها متحاشيًا أسلوب خاله محمد. ولاحظ خاله محمد رجوعه إلى ناصريته فقال له: إني لا أفهمك يا أمين!

فقال أمين: معذرة، لا أستطيع أن أنسى الخلاص من النظام الملكي، الإصلاح الزراعي، تمصير الاقتصاد، والتأميم، التعليم المجاني، مكاسب العمال والفلاحين، فلا الهزيمة ولا الفساد ولا الاستبداد سيُنسيني ذلك!

رغم ذلك لم يعد حماسه بالحماس الذي كان لكنه كان شيئًا ما بخلاف أخيه علي؛ علي خسر كل شيء وخسر نفسه أيضًا. طحنته الخيبة، جفَّت ينابيع أحلامه، حدس طنين العداوة حتى في الخلوات وفي الليالي القمرية. وكما صمَّم قديمًا ألا يقتني قطة عقب فجيعته بموت قطةٍ محبوبة فقد عاهد الله على تجنب المذاهب والزعامات عقب الهزيمة مصمِّمًا على الرفض وحده. وحزنت منيرة على حاله فسألته مرة: ماذا تحلم عن المستقبل؟

فقال بعصبية: ليتني أجد عملًا في بلد أفضل!

فسألته بعتاب: وتهجُر وطنك؟

فقال بوضوح وتأكيد: في ألف داهية!

فقالت محتجَّة: ليس في أسرتنا تفكير من هذا النوع!

فقال ساخرًا: لنا في السجن عم وزوجة أب!

وفي تلك الأيام توفيَ الأستاذ حسن علما آخر أزواج ميرفت هانم. اشترك علي في تشييع جنازته وخياله يحوم حول أرملته. خفق قلبه المحروم ونشط خياله الذي لم تبرحه المرأة مذ غزته في بيت خاله. وتبلورت وراء إرادته اندفاعةٌ متربصةٌ مغامرة. ولأنه يعيش تحت مظلة من الاستهتار فقد اكتسب سلوكه جرأة غير معهودة. راح يعد الأيام حتى وافى يوم الأربعين، ثم سافر يوم الجمعة التالي إلى حلوان مساءً اتقاءً للأعين. ودق جرس الشقة التي اتخذ جده حامد برهان منها عشًّا لعِشقه وزواجه. وعرَفته ميرفت هانم من أول نظرة في بنطلونه الأزرق وقميصه الأبيض المفتوح الطاقة لاستقبال نسمات الربيع. دُهشت ولكنها رحبت به قائلة: أهلًا!

فتبعها إلى حجرة الاستقبال وهو من الانفعال لا يرى. وجلس قائلًا: جئت لأعزيكِ ولو متأخرًا …

فشكرته وهي تتفرس في وجهه بارتياب. كانت ترتدي فستانًا أسود يكشف عن ذراعيها وأكثر ساقيها، ولم يمنعها الحِداد من العناية بشعرها ووجهها فشعَّ منها ذاك النور الباهر. ربما بدت أصغر من سنها ولكن العين لا تخطئ كهولتها خاصة كراميش الفم وما تحت العينَين، ولكنه كان يُنشد هذه الصورة دون غيرها. وتذكرت هي نظراته التي استوعبتها في أكثر من زيارة لبيت ألفت فلم تشكَّ في أن وراء الزيارة ما وراءها. أيمكن ذلك حقًّا؟! وما عسى أن تصنع به؟ ودلَّ ترحيبها به وتقديمها القهوة على أنها تترك الباب مُواربًا حتى ترى ما يجيء به الغيب. وكان من ناحيته عازمًا على ألا يتجاوز التمهيد، فنظر إلى الصالون المموَّه بالطلاء الذهبي وقال: ما أجمل ذوقكِ!

فقالت باسمة: إنه يُشبه طاقم مامتك.

وكان لمح على الجدار صورة المرحوم مكللة بغلالة سوداء فلم يدرِ ماذا يقول. ولم تشأ المرأة أن تزيد من حرجه فسألته: هل زرتَ جدتك؟

فأجاب مرتبكًا: كلا.

– لعل أحدًا لمحك؟

– كلا .. نور الطريق لا يسمح بذلك.

– إني أشكركَ على أي حال.

عند ذاك قام وهو يتساءل: هل تسمحين لي بالزيارة عند سنُوح الفرصة؟

فقالت باسمة: إنه بيتكَ بغير استئذان …

رجعَ من حلوان وهو يقول لنفسه إنها ذكيَّة ولا مانع لديها. وشُغِل بعد ذلك بامتحان آخر العام في الكلية، ثم استقبل عطلته الصيفية. وبلا تردُّد كرر الزيارة بجرأته المقتحمة، وجلس وهو يقول: منعني الامتحان من زيارتكِ!

كأن الزيارة واجب غير قابل للمناقشة. وسألها وهو يلاحقها بنظراتٍ محمومة: وحدكِ دائمًا؟

فأجابت بأسًى: تقريبًا!

وأفصحت نظراته عن رغبته بقوة لا يفي بها كلام. وقال لنفسه إنها تفهمني وتنتظر. وقال أيضًا لو كذب ظني فلن أخسر من الدنيا أكثر مما خسرت. ولما جاءته بقدح ليمون مدَّ يده فقبض على ساعدها؛ حدجته بنظرةٍ متسائلة وهي مُقطبة فشدَّها إليه بقوة ثم أحاطها بذراعيه. وسألته كالمحتجَّة: أأنت في وعيك؟

فأجاب وهو ينهض بطوله الفارع: لم أفقده كله بعدُ.

هكذا شرعت ميرفت هانم في غرامها الأخير. وسجلت تلك الليلة أول كلمة في صفحته الموردة، وحقق به علي حلمًا قديمًا يائسًا، أما ميرفت فقدمت على مذبحه ولعها العارم بالحياة والشباب. والعجب أنه سعِدَ مثلما سعِدت وأكثر، والأعجب أن سيطرتها عليه فاقت سيطرته عليها، فوفقت دائمًا إلى نفخه بالخيلاء والأريحيَّة والجنون حتى باتت المستقر الوحيد في الدنيا الذي يجد فيه ذاته وشفاءه وخلوده. وكانت سهام في نفس الوقت يتفتح لها طريقٌ آخر. امتعضت نفسها المتطلعة عندما علمت باضطرار عزيز صفوت إلى الانقطاع عن الدراسة بعد الثانوية العامة ليرتزق من مراسلة بعض الجرائد العربية. وكان عزيز قد يئس تمامًا من جذب شفيق إلى فكره، بل إنه — وهو بسبيل إقناعه — دفعه وهو لا يدري إلى حضن الدين فلحق بأبيه. ولكنه حقق نجاحًا عفويًّا مع سهام وهو ما لم يركز عليه من أول الأمر. عند ذاك انساق إليها بعقله وقلبه معًا فباتت غاية حياته. وزارها في الكلية ودعاها إلى لقاءاتٍ قاصرة عليهما دون شفيق، فلما وافقت تلقى من الحياة بركةً صافية. وناقشها برفق كمبتدئة ولكنه لم يصبر مع عواطفه المتأججة فقال لها: إني أحبك، من قديم، ربما من أول يوم!

– وجد في صمتها المحفوف بالرضى استجابةً أخطر من استجابتها العقلية، ولعلها كانت الاستجابة الصادقة الأصلية القائمة على أساسٍ مكين حقًّا. قالت له: إني آسفة لانقطاعك عن الدراسة.

فتساءل باستهانة: هل تعطيكِ الجامعة شيئًا يعتبر الحرمان منه خسارة؟

ثم ضغط على راحتها بحنان وقال: لن أنقطع عن الثقافة أبدًا.

وتساءل عما يدور برأسها من هموم المستقبل فرآه في ضوءٍ ساطع، وصارحها بما رأى كالشهادة الجامعية وطبقة الأسرة والفقر، فقالت: لا يهمني هذا كله!

فقال لها: إنها مشكلات حقيقية ولكن في العالم الذي يؤمن بها، فإذا كفرنا بهذا العالم فلا وجود ثمة لها.

وتحمست بدافع حبها لتقويض ذلك العالم المغضوب عليه، ولكنها ترنَّحت على الحافة وهي تشعر بحاجتها إلى المزيد من القوة لتحقق واقعًا جديدًا. ومع أن جو أسرتها عوَّدها على الصدق والصراحة إلا أنها أسدلت على أسرارها الجديدة ستارًا لما تعرفه جيدًا عن أبيها، بل وأخيها الذي انضم إلى الأب من خلال عناده الجدلي قبل أي شيءٍ آخر، وقالت لنفسها: فلنؤجل المعارك إلى حينها!

ولكنها لم تستطع أن تعرف خواطرها عن «المستقبل» فسألت عزيز يومًا وهما جالسان في الجنفواز: ألديك صورةٌ واضحة عن المستقبل؟

فقال بهدوء لم يخلُ من امتعاض: عندما تكفِّين عن الاكتراث بهذه الشواغل أعرف أنكِ وصلتِ!

فصممت على أن تحوز ثقته مهما جشَّمها ذلك من متاعب. وكان يجد في زينات محمدين — أخت زكيَّة صديقة شفيق — مفرجًا عن توترات شبابه لينعم بصفاء الحب مع سهام، غير أن زينات فاجأته ذات يوم قائلة: سأتزوج من تاجر ليبي وأسافر معه إلى ليبيا.

فقال لها قبل أن يفيق من المفاجأة: سيتاجر بكِ هناك!

فقالت دون مبالاة: أربح لي أن أكون سلعة هناك.

واختفت من حياته مُخلِّفة أعصابه في مهب الريح. واستأثر شفيق وزكية بحجرة السطح. والتحقت زكية بكلية التجارة، وتوثقت العلاقة بينهما ملتحمة بالألفة وشيء من الاحترام حتى قال له عزيز صفوت: لم تعد علاقة عابرة، على الأقل من ناحيتك.

فابتسم شفيق وتساءل: ألا تخشى أن تلحق بأختها ذات يوم؟

– فرضٌ محتمل.

فقال شفيق متنهِّدًا: نحن نتدهور مثل مرافقنا العامة!

– إنهم يستعدون للحرب!

فسأله باهتمام: هل نُقْدِم حقًّا على هذه المغامرة؟

ضحك عزيز ضحكةً غامضة ثم قال بيقين كأنه أحد أعضاء هيئة أركان الحرب: في اللحظة الأولى سوف يَنْقضُّ الطيران الإسرائيلي على مرافق الماء والكهرباء والمواصلات تاركًا مهمة تصفية النظام للملايين من سكان القاهرة!

فتساءل شفيق بقنوط: إذن لماذا نُنفق الآلاف من الملايين؟

– لا حيلة لنا في ذلك!

– والحل؟

فقال عزيز باسمًا: الحل في الداخل!

فقال شفيق بمرارة: الحق أن مصر محتلة بالروس قبل الإسرائيليين!

فقطب عزيز قائلًا: الإسرائيليون يأخذون، أما الروس فيعطون ولولاهم لانتهى كل شيء!

صمت شفيق بفمٍ ملئ بالمرارة، ثم قال وكأنما يخاطب نفسه: تكون كارثة لو لحقت زكية بأختها!

وسبقهم رشاد نعمان الرشيدي — ابن كوثر — إلى خوض الحياة العملية وألحق بسلاح المدفعية. ولما بلغ سن الرشد تسلم تركته حائزًا درجة من الثراء لا بأس بها. وقالت له كوثر: دعني أخطب لك!

فقال ضاحكًا: لا أتزوج على الطريقة القديمة.

فقالت بلهفة: تزوج بالطريقة التي ترضيك.

لم يكن جرحه قد اندمل تمامًا فقال: صبرك، ليس في الجبهة عرائس.

وأفزعتها كلمة «الجبهة» التي علِمت بها لأول مرة ونظرت صوب سنية فقال لها: الجميع هناك، والأعمار بيد الله.

فتساءلت كوثر في كآبة: والاستنزاف والردع؟!

فقالت سنية: قلبي يُحدثني بخير والله حارسه.

تظاهرت بالشجاعة لتبثها في روح كوثر ولكن حناياها درَّت إشفاقًا على الحفيد الذي تحبه أكثر من الجميع. وصدقت نيتها على تلاوة آية الكرسي عقب صلاة العِشاء، ليلة بعد أخرى، لتحلَّ به ورفاقه برَكتها. وكم انتظرت بلوغه سن الرشد لتفضي إليه بآمالها عن البيت والحديقة والمدفن! وها هو يَبلغه وهو في الجبهة، فكيف يطاوعها لسانها على الكلام؟! دائمًا وأبدًا يعترضها الشوك وهي تقطف الوردة. بل هي أسرة لا يهادنها سوء الحظ أبدًا؛ كوثر، منيرة، محمد، رشاد، وسهام، وقبل هؤلاء تطل من أفق الذكريات مأساة حامد برهان، فمتى تدركنا العناية الإلهية؟! والعجيب بعد ذلك أن تولي شخصها كل عناية ورعاية كأنما تتحدى الشيخوخة الزاحفة. إنها تتردد على عيادات الأطباء في مواعيدَ منتظمة، تروي عطشها من مياه حلوان المعدنية، تملأ رئتَيها بالهواء الجاف المنعش، وتُطارِد الشيب بالحناء متوجة رأسها دائمًا بهذا اللون الأرجواني المهيب، وإذا لمحت على شفاه الأبناء ابتسامةً قالت: علينا أن نعدَّ أنفسنا للصلاة ونحن على خير حال!

وكم من مرة تنتقد فيها إهمال كوثر ومحمد ومنيرة الذي جعل من رءوسهم مرتعًا للشيب يجول فيه ويصول دون مُعارض. وقالت لها أُم سيد ذات مساء وهي راجعة من السوق: رأيت في العتمة سي علي ابن ست منيرة داخلًا عمارة ست ميرفت!

فقطبت ثم قالت: لعله يزور زميلًا له.

ثم مخاطبة نفسها: لم يفكر في زيارة جدته!

وشكته إلى منيرة في لقاء الجمعة، وسألته منيرة بعد العشاء في شقتهما بالعباسية: أذهبت أول أمس حقًّا إلى عمارة ميرفت هانم بحلوان؟

انحشرَ قلبه في حلقه وظن أنه انفضح، غير أن منيرة أنقذته وهي لا تدري فواصلت: لا تهمني الزيارة في ذاتها؛ فلعلك زرت صديقًا، ولكن أما كان الواجب أن تمر بجدتك؟ عليك أن تزورها لتخفف من حزنها!

فازدرد ريقه قائلًا: لم يتسع الوقت!

ثم بصراحة خشنة: والبيت القديم مُملٌّ!

فقالت بعتاب: لك جدةٌ مدهشة لا تُمَلُّ!

فلاذ بالصمت مستوصيًا بمزيد من الحذر. ولما رجع رشاد لقضاء عطلته الدورية أثارت القاهرة انفعاله؛ هذه المدينة الخالدة التي تعيش بمعزل عن الزمان! وصمم من بادئ الأمر على ألا يشير بحرف إلى حياة الجبهة الحقيقية. وبعد العناق قال: ليست الجبهة كما تتصورون، ما هي إلا مبالغات وأوهام!

احتفظَ بمعاناته في سريةٍ مقدسة، كما دفن زلازل الانفجارات في أعماق ذاته، ومرارة الهزيمة الموروثة عن غيرهم، والمسئولية التي تنوء بمناكبهم عما حدث وعما يحدث وعما سيحدث؛ لذلك قذفت به الجبهة في أعماق همومٍ عامة عاش أكثر عمره في هامشها، ولكن شدَّ ما تبدو القاهرة لا مبالية معربدةً متمردة! وقال لأمه دون تمهيد: ماما، إني أفكر جادًّا في الزواج!

فهتفت كوثر: ما أسعدني بسماع ذلك!

وقالت سنية بمرح: رأيت ولا شك ما غيَّر فكرك!

فقال بغموض: في المرة القادمة تتضح الأمور!

الحق أنه في ليالي المعاناة وردت عليه فكرة الزواج كإلهامٍ مشرق. ووثبت إلى إرادته عندما رأى أخت زميل له في القاهرة. ولم يكن حبًّا من أول نظرة، وجدها مقبولة وكفى، ولم يكن برئ تمامًا من سهام. وأنفق العُطلة في التسكع مع الزملاء، وزار خاله وخالته أيضًا، وهناك صارحهم بما أخفاه عن أمه وجدته. وجد منيرة ملهوفة على المصير أكثر من الجميع ولكنه لم يروِ لها ظمأً. وقال رشاد بعتابٍ: القاهرة مشغولة بذاتها!

فسأله علي: ماذا تتوقع غير ذلك؟

وقالت منيرة في حيرة: الناس إما يحاربون أو يسالمون أما نحن فقد اخترعنا حالًا جديدة غير مسبوقة بنظير!

وفي بيت خاله محمد ارتفعت درجة الغليان درجاتٍ أكثر. هو أيضًا ثمل بالأسى عندما رأى سهام وهاجت شجونه. ولما عاملته برقة وأدب وتحفظ كأن لم يكن بينهما شيء حزن أكثر. وقالت له: نتمنى لك السلامة.

فلم يحدث له أي سرور. أما خاله محمد فقد لخص الموقف من وجهة نظره قائلًا: إنه يضحي كل يوم بأرواحٍ بريئة ليداري بها عاره!

فسأله: هل عندك حل يا خالي؟

فقال محمد: ولا حل غيره. اسمه الحل الإسلامي!

وشعر لأول مرة بأن شفيق منحاز إلى رؤية والده فأدرك مدى التغيُّر الزاحف على آله في غيبته عنهم ما بين الكلية والجبهة. لكنه لم يحرز مدى الانقلاب الذي حلَّ بسهام. إنها الآن مؤمنة بالثورة المطلقة. أجل لعب قلبها الدور الأول في ذلك، كما لعب العناد الجدلي دوره في انقلاب شفيق، ولكن النتيجة واحدة. وكانت تخوض عاصفةً عنيفة وتشعر في الوقت ذاته بأنها ليست إلا بداية. وما تدري إلا وعزيز صفوت يقول لها: إني أدعوكِ إلى حجرتي بدلًا من التسكع!

وجمت، وتورَّد وجهها الجميل، وتمتمت: حجرتك!

فقال بعجلة: سحبتُ اقتراحي!

تساءلتْ عما يعنيه انسحابه؟ ارتاحت له كقرار ولكنها انسحقت تحت وطأة القلق؛ دائمًا تلهث وراءه فحتى متى؟!

أما هو فقال بهدوء وحنان: ما زلتِ أنتِ أنتِ، سهام كريمة المربية الفاضلة منيرة وحامد برهان.

فقالت بعصبية: كلا، لا تسئ بي الظن، ولكن هذا لا يعني …

وتوقفت عن الكلام، فقال: هذا يعني أنكِ لم تتخطي المرحلة بعدُ.

فتساءلت: لِمَ العجلة؟ لا توجد في طريقنا عقبةٌ حقيقية!

فتساءل باسمًا: ولِمَ الصبر؟!

ها هو يحاصرها في ركن مستندًا إلى امتلاكه قلبها حتى جذوره. ولدى اللقاء التالي تصرف تصرفًا غاية في الشذوذ ولكن بطمأنينة وثقة كاملتَين. مضى بها نحو طريقٍ جديد ولما سألته عن وجهته أجاب: نحن ذاهبان إلى بولاق!

انساقت معه كالمنوَّمة شاعرة بأنها تعبُر حدود وطنها مهاجرةً إلى الأبد. ونبضَ قلبه بالصدق وأعذب النوايا فتخيل أنهما جسدٌ واحد ووعيٌ واحد. ولما دخلا الحجرة شبه العارية استرق إليها نظرةً متفحصة وقال: دون مقامكِ بما لا يقال.

فنظرت من الكوة صوب النيل وهي ترفع منكبيها استهانة، فقال لنفسه إن هذه الحجرة ذات التاريخ الطويل في سوء السمعة تستقبل — لأول مرة — صدقًا وأصالة. ورغم تظاهرها بالثبات انتفض داخلُها بتياراتٍ متضاربة. وكانت رغبتها لا تقل عن رغبته ولكنها لم تطاوعه بدافع رغبتها، أو لم تطاوعه بدافع رغبتها وحدها، وأقنعت نفسها بأنها لا تستسلم ولكنها تثب إلى قمةٍ فريدة، غير أنها شعرت من ناحيةٍ أخرى بأنها تتردى إلى قعر هاوية من الأسى الدائم. وحدست بغريزةٍ ما أنه — على عنفه الظاهر — في حاجة إلى حنانها، وبأنها ستفتقد الحنان إلى الأبد. ووهبت الكثير دون أن تنال ذرة من عطاء لاضطرام عقلها، أما هو فمسح على وجهه في ارتياح وتمتم: بكل بساطة، هذا هو الزواج!

فامتعضت لهذا القرار المحفوف باليأس ولكنها ابتسمت، فسألها: كيف تشعرين؟

فأجابت وهي تلثم خده: بالسعادة.

– أعترف بأنكِ حظي من الحياة.

فقالت برجاء: لعلك لا تستسلم للحنق بعد الآن!

فتفكر قليلًا ثم قال: إنه الوجه الآخر للحب العميق!

هكذا ولدت من جديد في عالمٍ جديد، تمادت في التوغل فيه بكل قوة، لا اختيار لها، فإما الثورية وإما الضياع؛ إنها تنفصل نهائيًّا عن أبيها وأمها وأخيها، وتعايشهم اليوم كفرد من طابورٍ خامس. واستعرضت رحلتها الطويلة ما بين رشاد وعزيز فبدت خيالية، وأن كل خطوة تخطوها ينهدم ما وراءها فينقلب هاوية لا تسمح بالتراجع قيد أنملة. وغمغمت لنفسها: يوجد أيضًا حزنٌ عميق.

متى يتأتى لها أن تنشر أسرارها دون مبالاة؟! وضاعفت من اجتهادها الدراسي لهفة على الاستقلال. ولم يجدَّ جديد بالنسبة لمشروع رشاد عن الزواج، ولم يحضر في ميعاد إجازته الدورية. بدلًا من ذلك بلغتهم أنباء رسميَّة بأنه يعالج في مستشفى الجيش من إصابةٍ غير خطيرة. هرعت إليه كوثر وسنية وهما على حال من الفزع لا توصف. وعرفا أن ثمة شظيةً أصابت ترقوته اليمنى تحتاج إلى اعتكافٍ قصير. وكانت إصابة كوثر أفدح من إصابته رغم أن حاله دعت إلى الاطمئنان التام. وقالت له كوثر: لن ترجع إلى الجبهة فيما أعتقد.

فضحك قائلًا: سأرجع حال شفائي.

ثم وهو يربت على ظهر كفها: نحن نقترب من هُدنة!

ولكن كوثر آمنت بأنها أيام حروب وفواجع. وقالت: كنا نستعد للزواج؟

فقال ضاحكًا: تَبين لي أن فتاتي مخطوبة!

فقالت بضيق: ما أكثرهن لمن يشاء!

فقال مداعبًا: تتكلمين باعتداد الخاطبة مع أنكِ لا تبرحين البيت إلا عند الملمات!

وكان أمين ابن منيرة أول من افتتح عصر الشرعية في جيله على غير توقعٍ من أحد. وجد هند رشوان تواصل نجاحها في كلية التجارة بهمةٍ عالية فصارحته بأنها تود أن يخطبها وأنها باتت تضيق بسرية علاقتهما. وكان يحبها فوافقها على رأيها. واقتحم حجرة مكتبة أمه التي تقرأ فيها بعض الوقت كل مساء وجلس قبالتها؛ نظرت إليه متسائلة، فقال: أريد أن أخطب!

دهشت منيرة وطالبته بمزيد من الإيضاح، فقال ببساطة: هند رشوان جارتنا.

أدرك دون جهد أنها لم تُسَرَّ، وكان يتوقع ذلك، ولكنه كان واثقًا من حكمتها أيضًا، أما أبوه فقد كُتبت عليه الموافقة دون تردد بحكم المثل الذي ضربه! وسألته منيرة: أواثق أنت من نفسك؟

– بكل يقين يا ماما، إنها فتاةٌ ممتازة.

فأخفت معركتها الباطنية وقالت: على خِيرة الله.

فقال ضاحكًا: أيضًا في كل أسرة يجب أن يوجد ٥٠٪ من العمال والفلاحين!

فقالت مفصحة بعض الشيء عن موقفها الباطني: ولكن الرئيس نفسه زوَّج بناته من الطبقة العالية!

ورغم شتى التعليقات كانت الخُطبة أول حدثٍ سارٍّ في جو الأسرة. وقيل إنها خُطبة تحمل طابع زمانها الغريب في كل شيء. وشهدت الأسرة جميعًا حفل الخطبة البسيط في شقة الأسطى المتواضعة وفي مقدمتها سليمان بهجت. وتأثر رشاد بالطقوس ففاض قلبه بالحنين، أما سهام فشعرت بوطأة سرها أكثر من أي وقت مضى. وتساءل علي في نفسه لِمَ لمْ تُدعَ ميرفت حبيبتي؟! أما شفيق فتذكر زكية محمدين مُقرًّا بأنها لا تقل في شيء عن هند رشوان ولكنها تنتمي إلى طائفة المنبوذين! وأدركت منيرة من سياق الحديث مع أم هند أنها تحلم بزواجٍ قريب عقب التخرج؛ فساورها قلق وتساءلت متى يصبح أمين قادرًا على الزواج حقًّا؟! وهذه الهموم تتضخم في ضمائر أصحابها حتى تحاكي الأفلاك في دورانها، ولكنها تذوب وتختفي إذا اصطخبت موجةٌ عاتية. وانصبت هذه الموجة دون نذير وبلا مقدمات مثل زلزال؛ فذات مساء تغيَّر وجه الإرسال التلفزيوني فاقتصر على إذاعة القرآن الكريم، ولفَّت الحيرة الناس من كل جانب؛ قال البعض: هذا لا يكون إلا لموت عظيم في الدولة.

– أو موت أحد ضيوفنا العرب!

– غير مستبعد أن يكون الملك حسين قد قُتل!

وإذا بأنور السادات ينعى إلى الأمة العربية أعظم الرجال جمال عبد الناصر. قذف نائبُ الرئيس المستحيلَ في وجوه الناس باعتباره ممكنًا؛ وتطايرت الأفئدة في الصدور وحلَّ عالمٌ خرافي محل العالم القديم. متى وكيف ولماذا؟ وهل هذا ممكن؟ ولِمَ لا يكون ممكنًا؟ ما تصور أحد أنه سيشهد موته، ما تصور أنه يجوز أن يموت. ثمانية عشر عامًا مضت وهو يصول ويجول في كل صدر، ممتطٍ لكل منكب، منتشر في كل وعي، خفَّاق وراء كل قلب، هو الحظ والرزق، والأمان والخوف، والأمل واليأس، الصديق والعدو، القوة والضعف، الأمس واليوم والغد، السلام والحرب، النصر والهزيمة، فماذا يبقى للناس إذا تلاشت فجأة هذه العواطف؟! غشيت الكآبة البيت القديم؛ أجهشت كوثر في البكاء بلا منطقٍ واضح إلا أن تُقدِّم احترامها المشوب بالرهبة والخوف أمام حضور الموت المتجسد لعينَيها. وسرعان ما بكت أُم سيد وأم جابر، وصمتت سنية طويلًا ثم اغرورقت عيناها قائلة: لا دائم إلا وجهه!

وسمع محمد بالخبر لأول مرة وهو ماضٍ في طريقه إلى باب اللوق. قابله زميله فهمس في أذنه. لم يصدقه، وخشيَ أن يكون وراءه شرك لجر الأعداء إلى المعتقل؛ فقال لزميله بحدة: لا تردد ما ليس لك به علم!

فقال الرجل بيقين: أمام تلفزيون المقهى شاهدتُ وسمعتُ!

– هرول إلى شقته فوجد ألفت وشفيق وسهام حول التلفزيون، ولا تخلو عين من أثر دموع، قال وهو يجلس: البقية في حياتكم.

جلس واضعًا حقيبته على حجره مُسندًا عصاه إلى خوان وأغمض عينَيه. وانْقَضَتْ دقائق قبل أن يفيق من ذهوله. ولما أفاق من ذهوله شعر بأنه يولد في عالمٍ جديد؛ شعر بالقيود تنحلُّ من حول عنقه ويدَيه وقدمَيه، شعر بأن وزنه يخف وأن نسائم الأمان تهفو إلى وجدانه؛ وسرعان ما اجتاحه ارتياحٌ عميق، وملأه حبورٌ قوي لا حيلة له فيه فأخفاه خلف جفنَيه المسدلَين. وتمادى به الحبور فاستغفرَ الله في سره وخاف أن يفلت منه الزمام فيغشى عليه. وقد بكت ألفت لاقتحام حقيقة الموت لقلبها بقوة لم تعهدها من قبلُ. وبكى شفيق وسهام من أجل المعاشرة الوجدانية القديمة التي لم تتبخر كلها. وتساءلت سهام: من كان يتصور ذلك؟

فأجاب محمد: لقد أنسانا كل شيء حتى القدر.

فتساءل شفيق: من يخلفه يا ترى؟

فقال محمد بازدراء: ليس في الإمكان أسوأ مما كان!

أما في العباسية فقد مَلَكَ الحزن منيرة وأمين بقوة لا تُبشر بعزاءٍ قريب، على حين لبث علي فريسة للذهول حتى تمتم بمرارةٍ ساخرة: هذه هي التنحية التي لا رجوع عنها!

وعاش عزيز صفوت تلك الأيام أكثر وقته في الشوارع والمقاهي. صاحبته سهام وقتًا منها غير قصير. وقال لها بثقة: عهد السادات قصير أما المستقبل فلرجالنا!

وخاض خضم الحزن الشامل، وشهد الجنازة، وسمع التلقين المذاع فتخيل القبر كنهاية لا مفر منها، كزنزانة غارقة في الظلام، وتصور الضجعة المنفردة المعزولة عن المجد والخاشعة فوق حفنة من تراب. وسرعان ما دهمه وارد لم يجرِ له في بال متمثلًا في سيل من النكات! تأمل ذلك وتعجب.

فقالت سهام: أعداؤه كثيرون أيضًا.

ولكن بدا الأمر أوسع من ذلك. وقال لها: إنه رمز للحب والخوف فهو حقيق بأن يثير عواطف متناقضة!

أجل، ليس الحزن وحده ما يحرك الناس؛ إنه حزنٌ ظاهر وفرحٌ خفي ورعبٌ كامن تتناغم جميعًا في لحنٍ جنوني. الموت يُعلن على الملأ أنه يأخذ عبد الناصر نفسه فأشعر كل إنسان بقربه الشديد فقاسمه موته وهو لا يدري. قال لسهام: الناس تبكي أنفسها أولًا!

فقالت سهام: اعتاد الناس أن يروه وحده فوق خشبة المسرح، اليوم المسرح خالٍ، وليس أمام الفراغ إلا الضياع والذعر!

– أوافقكِ تمامًا، فيما مضى أراد أن يتنحى فاستبقوه فيما يُشبه الثورة، ها هو الموت يفلته من قبضتهم اليائسة، ويطالبهم بحمل أمانة لم يعتادوا حملها، فراحوا في يأسهم يبكون وينكتون.

ويمضي الوقت ويأخذ الطوفان في الانحسار، وما تلبث الدراما أن تحفل بالأحداث يجرُّ بعضها بعضًا. وتتأزم الأمور وتتعقد ولكنها تنتهي بنهايةٍ غير متوقعة فينتصر الرئيس الجديد على أعدائه انتصارًا مبينًا. وبالانتصار تَلُوحُ بشائر زعامةٍ جديدة، ومولد شعبيةٍ جديدةٍ متعطشة للانتصار ومتطلعة للأمان، وتبدأ دورةٌ جديدة للبحث عن مخرج من الأزمات المتراكمة. وكان رشاد قد رجع إلى الجبهة في كامل عافيته، وبدا أنه انهمك في العمل لدرجة أنسته إلى حين مشروع زواجه ولكن كوثر لم تنسَ. وأدركتها همومٌ جديدة باعتلال كبدها فتبدَّت للناظر أضعف من أمها — الماضية فيما بعد الستين — مع محافظتها على صحتها ورونقها، ومصارعتها للكبر مصارعة لا هوادة فيها. وفي أواخر الخريف أمطرت السماء مطرًا غزيرًا فرشح سقف الصالة وانداحت بقع بالجدران على حين تسلَّلتْ قطرات من ركن حجرة المعيشة. عند ذاك تشجعت سنية قائلة: لا مفر من إصلاح السطح!

وأذعنت كوثر لمشيئة أمها دون تردد. وجاءتهما أم جابر الطاهية بقريب لها، أزال الطبقة المتهرئة وثبَّت مكانها طبقة من الأسمنت.

وتساءلت الأم: ألا نعيد طلاء الصالة وحجرة المعيشة؟

ولكن كوثر — وكانت مدخراتها تنفد باستمرار — أجابت: فلنؤجل ذلك!

فقالت سنية وهي تداري هزيمتها بابتسامة: سيجيء الفرج على يد الرئيس الجديد.

فقالت كوثر بوجوم: ولكن رشاد غارق في الجبهة يا ماما!

– الرئيس مشغول بالداخل، جاد في البحث عن حلٍّ سلمي، وعلاقته بالعرب تتحسن يومًا بعد يوم.

وفي شقة باب اللوق استعاد محمد شخصيَّته المفقودة؛ مضى يتكلم بعد عكوفٍ طويل على المناجاة الباطنيَّة، وتمت لقاءاتٌ كثيرة بينه وبين أصدقائه القدامى. وقال له أحدهم مرة في مكتبه: الرئيس الجديد صديق.

فقال محمد بحذر: ليكن اعتمادنا على أنفسنا!

– العدالة تزحف حتى شملت الإقطاعيين أنفسهم.

فراح يُذكِّرهم بتجربة الماضي الخائبة، ووافقه على ذلك شفيق. أما سهام فأساءت الظن بالعهد الجديد منذ تم النصر لرئيسه، لا ترديدًا لأقوال صفوت فقط، ولكن لأنها بلغت الغاية في تطورها الجديد، حتى الدين اقتُلع من قلبها. واشتدَّ شعورها بالغربة في أسرتها، وشعرت بتهديدٍ خفي يحدق بأمنها وهي بينهم حتى قالت لنفسها مرة: هذه الشقة لا ينقصها إلا مُؤذِّن كي تصير مسجدًا.

وقد آنست من أحد مدرسيها ميلًا نحوها حتى كاشفها يومًا برغبته في الزواج منها. وذعرت بشدة، وأخبرته بأنها «محجوزة»، مشفقة في الوقت نفسه من ترامي الخبر على أهلها؛ لذلك فكلما ذُكر للزواج سيرة كانت تقول على سبيل الاحتياط للمستقبل: لن أفكر في ذلك حتى أكمل دراستي!

وتبلورت في عقلها خطة للمستقبل وهي أن تتزوج من عزيز ولو اضطرت إلى إبلاغ والديها من بعيد، بالمراسلة! وزادتها الأيام ثقة في حبيبها ومعرفة بجوانبَ حسنةٍ فيه. فهو يحبها بصدق لا تخطئه غريزتها، وهو جادٌّ كل الجد في تمسكه بمبدئه، وحتى غضبه على أعدائه مُبطَّن برومانسيةٍ موهوبة لإنسانية لم توجد بعدُ. ثم إنه إنسان، يتذوق الشعر والموسيقى ويحب الكلاب. ولكن شد ما حقد على الرئيس الجديد! وقال لها مرة: إنه مَقلب لم يجرِ لنا في خاطر، وهو دائب على مغازلة الرجعيَّة العربية والغربية!

وضاعف من قلق سهام أن رؤيتها السياسية الجديدة لم تعد سِرًّا مصونًا، فمن الانسياق في الأحاديث المتبادلة بينها وبين زميلاتها في قسم اللغة الإنجليزية أفلتت تعليقاتٌ شتى تنم عن حقيقتها، فضلًا عن أن واحدة منهن على الأقل لمحتها في الجيزة بصحبة عزيز صفوت. أما أسرة منيرة بالعباسية فقد مضت حياتها فيما يشبه الهدوء. أجل أثار مشاعرَها نبأُ خروج زاهية من السجن، حتى تساءل علي ساخرًا: ألا يقضي الواجب بزيارة فيلَّا المعادي للتهنئة؟!

ولكن منيرة كانت شُفيت تمامًا من سليمان بهجت، وسلَّمت أيضًا بفقد عبد الناصر فاستغرقها تمامًا عملها الرسمي ونشاطها الخاص في مكتبتها. وتبدَّت في وقار كهولة بشعرها الأبيض وجمالها الذابل كأنما تُماثل أمَّها في العمر أو تزيد عليها. ولم تُلقِ بالًا لعتاب أمها وهي تسألها: ما الذي يجعلكِ تبقين على هذا الشيب المبكر؟!

وسَعِدَ أمين وهند بخطبتهما وهما بعيدان عن موعد المشكلات، وغرق علي في بحر العسل الذي يستحلبه في أحضان ميرفت. غير أن «ناصرية» منيرة وأمين انتبهت منزعجة وهي في سُبات الحداد على همسات تتردد أحيانًا بالنقد لعصر الزعيم الراحل، قالت على مسمع من أمين: يا لها من وقاحة!

فقال أمين بامتعاض: لا عجب فنحن نسير في طريقٍ جديد!

ولكن ما المخرج من المشكلة الأساسية المتجسدة في الجبهة؟! أجل ثمة شعور بالأمان وسيادة القانون، وثمة غزل للديمقراطية، ولكن الجو راكد والغد محجوب بغمامةٍ قاتمة. ونفد صبر الأعصاب فانفجرت مظاهرات في الجامعة، وبلغت درجةً من الخطورة قبل أن تتلاشى في السكينة من جديد. واختلفت المواقف بين الأحفاد؛ فاشترك في المظاهرات أمين وسهام بدافعَين مختلفَين متقاربَين، واشترك علي بلا دافع على الإطلاق، أما شفيق فانسحب إلى قاعدة المتفرجين. ورجع ذات مساء — في أثناء الاضطرابات — إلى أسرته بباب اللوق مضطربًا شاحب اللون، جلس مع أسرته في حجرة المعيشة ثم قال بتأثر بالغ: عزيز صفوت قُتل!

وإذا بصرخة تفرُّ من فم سهام ممزقة بالألم وهي تصيح: لا!

سرعان ما تحوَّلت مشاعر الأسرة من النبأ المحزن لتتركَّز في فتاتها الجميلة. وغلبها الحزن فانهارت تمامًا غير مبالية بالنظرات المستطلعة وما وراءها. هكذا تكشفت لهم الحقيقة، وفي ظرف يدعو للأناة والصبر. ونهضت ألفت فاحتوت سهام ومضت بها إلى حجرتها، ولبث محمد وشفيق يتبادلان النظر في ذهول ووجوم. واكفهرَّ وجه محمد وبلغ به القهر منتهاه فقال لابنه بجفاء: إنك المسئول الأول!

انكمش شفيق أمام انفعال أبيه وقال بصوتٍ ضعيف: ليس ذنبي …

ثم وهو يستميت في دفع التهمة عنه: جرى كل شيء تحت أعينكم!

فصاح محمد: لم يكن لرأيي وزن أمامكم، وحيال زمانكم …

فقال شفيق برجاء: حلمك يا بابا، كان يمكن أن يحدث أي شيء في الخارج، وكيف نعيش خارج زماننا؟!

فقال محمد بحنق: أعرف ما يقال، سمعته مرارًا وتكرارًا، ما هي إلا لعنة وباء!

ثم حدج ابنه بنظرةٍ متفحصة كأنما يحقق معه وسأله: معروف أنه انقطع عن الدراسة فماذا دسَّه بين المتظاهرين من الطلبة؟

– لعله ذهب كصحفيٍّ!

– بل ذهب للتحريض كشيوعيٍّ!

– ربما، لستُ مسئولًا عنه.

فقال الرجل بحنق: لست آسفًا عليه، ولكني آسف على نفسي!

أمَّا ألفت فقد غسلت وجه سهام بالكولونيا ووهبتها من الحنوِّ فوق ما تملك. وقالت: ليتكِ تسلَّطتِ على أعصابكِ!

فقالت وهي لا تكفُّ عن البكاء: لا يهمني!

– تمالكي عواطفكِ، أرجوكِ!

ولكن قلبها كان يتقطع إربًا، والحزن يزحف مهيبًا قاسيًا منذرًا بالخلود، وخرابةٌ قاحلة تقترب لتكون لها منفًى أبديًّا، لم يبقَ إلا قلب يخفق وحده كقرار نغمة يفتقد جوابه على الدوام. وفي صباح اليوم التالي لم يُشرْ أحد بكلمة إلى «حادث» الأمس. انتشر السرُّ مثل شعاع الشمس في الصيف ولكن تجاهلته الأعين فلم تره. ومضت أيام قبل أن يخلو إليها أبوها فيسألها: كيف حالكِ؟

فحركت شفتَيها دون أن تنبس. عند ذاك قال بحنانٍ لم تتوقعه: لا بأس من المعاناة فهي حال الدنيا، وعلينا أن نرضى بقضاء الله دون قيد أو شرط.

وربت على يدها وواصل: كنتُ يومًا مثلكِ سعيدًا بآمالٍ لا تُحصى، وفي بضع ساعات تقوَّض عالمي ففقدتُ عينًا وساقًا ونصف رزقي على الأقل، ولكنني لم أنهزم ولا ماتت ثقتي بالله، ومن يعتز بالإيمان لا يذل بالهوان، وربنا معكِ يا ابنتي!

انحسر ستار الغربة أمام دفقة سلام أبويه، ولكن سرعان ما جثم الظلام كرةً أخرى. الحقيقة الثابتة أنها غريبة تمامًا في أسرتها، غربة لا يداويها الحنان أو الحب؛ إنهم يتعاملون مع «أخرى» لم يعد لها وجود، وما هم في الحق إلا أعداؤها. أكان أبوها يخاطبها بهذا الأسلوب لو علِم بما خسرته من جسدها وروحها؟! المسألة في نظره تنحصر في حبِّها لشابٍّ يرفضه هو لعقيدته وعدم كفاءته لها، ولعله سُرَّ بالقدر الذي أزاحه من طريقه مؤملًا في الوقت نفسه أن يهبها الحظ من هو خير منه. إنها في وادٍ وأباها في وادٍ آخر، ولا إنقاذ لها إلا أن تهاجر بطريقة ما من هذا البيت الذي تقطَّعت بينها وبينه الأسباب. وهل بقيَ لها من عزاء إلا في ثوريتها وهي الإرث الحقيقي لحبيبها؟! وستظل بين حاضرٍ مشتعل ومستقبلٍ غامض تحت تهديد دائم بالحرج والفضيحة. ولم يشر محمد بكلمةٍ واحدة إلى مأساة ابنته في البيت القديم. وأصبحت منيرة محتكرة الصوت المعارض الوحيد في جلسة الجمعة. قال لها محمد: إنه عهد أمان بعد خوف، وقانون بعد فوضى!

فقالت منيرة ساخرة: تجلَّت وحشيته في قمع المظاهرات!

فَتَقَبَّضَ قلب محمد وقال بفتور لم يلحظه أحد: حالٌ استثنائية، والموقف يتطلب الحزم!

– دائمًا يدور الكلام عن الموقف، والحقيقة أنه لن يجرؤ على خوض حرب!

وكان محمد في أعماقه يؤمن بذلك. وتساءلت كوثر: لماذا تريدين الحرب؟ .. سيُجنَّد ابناك بعد عامَين على الأكثر.

– لا أريد الحرب ولكني أريد أن أقول إنهم يتخذون منها عذرًا لوحشيتهم!

فقالت سنية: لندعُ له بالتوفيق.

فقالت منيرة بامتعاض: صدقوني إنه لن يقنع بتصفية السلبيات الماضية ولكنه سيلحق بها الإيجابيات أيضًا.

فقال محمد باسمًا: قولي ما شئتِ فالحق أنه لا وجه للمقارنة بين ما كان وما هو كائن.

وإذا بكوثر تقول: أتمنى أن أسمع خبرًا واحدًا هو أن الحرب انتهت، وأن رشاد راجع ليتزوج!

وعاودت محمد ذكرى مأساته فعجب كيف فَضَّلت سهام عزيز صفوت على رشاد؟! وقال لنفسه: لا تفسير لذلك إلا سوء حظي!

ولكن حظًّا أسوأ من حظه بما لا يقاس انقشع في لحظة أبديَّة كأنه سحابة صيف. ارتفع صوت راسخ النبرات في الراديو يزفُّ إلى الشعب نبأ عُبور قواته المسلحة للقنال. أهي الحرب من جديد؟! هل تمخَّض الجو الراكد المُؤذِن بنومٍ طويل عن صاعقة تقتلع الأعصاب من جذورها؟ هل يتطاير المستحيل ويتلاشى كأنه وهمٌ ماكر؟! هتفت كوثر بجزع: ابني!

وتساءلت سنية المهدي في ذهول: حرب؟! .. ما بالها تتكرر كالصلاة؟!

وقالت لها كوثر بصوتٍ متهدج: لم يكن خوفي لغير ما سبب!

فغمغمت سنية: إنه رحمن رحيم!

ولم يصدق أحد من أسرة محمد الخبر، أو لم يصدق ما يقال عن النصر. تذكروا ما ذاع وملأ الأسماع أيام ٥ يونيو. وتساءل محمد بحيرة: لماذا نتطوع بالانتحار؟!

وقالت سهام لنفسها إن يكن انتحارًا حقًّا فسيجيء بالشفاء لبعض أوجاعها. أجل فلن يُخلِّص البلد من الرجعيَّة إلا هزيمةٌ ساحقة، وربما انفجرت في أعقاب ذلك القوى الشعبية المطحونة. وكالعادة لجأ محمد وألفت إلى محطة لندن وصوت أمريكا. تضاربت الأخبار بادئ الأمر ثم تأكد النبأ المذهل؛ تجلَّى النصر في هالةٍ سحرية كمعجزةٍ باهرة تُحلِّق فوق الخيال والتاريخ. اندثرت شخصيةٌ صفراء مهزولة وحلَّت محلها شخصية تضطرم بالعافية والثقة، تلاشت روحٌ فاسدةٌ مكفَّنة في الهزيمة وخُلقت روحٌ جديدة تختال بالحبور والإلهام، تبخَّر يأس الهزيمة وذل القهر وانكسار القلب وهزجت الأنفس بسكرة التناغم مع الذات والحياة والكون.

– انتشل الرجل مصر من الفناء، وانتشل العرب …

سهام مُنيت بالهزيمة وحدها؛ قُتل عزيز صفوت من جديد وانتصر العدو ووُئد الأمل وابتسم المستقبل للرجعية المصرية التي تُحرر سيناء، ولم تعد هي إلا فتاةً ضائعةً، منبوذةً، مهددةً بالفضيحة. ولم تخلُ منيرة من سرور، كذلك أمين، ولكنه سرور أفسدته الغيرة، وكدَّره الحنق، وتساءلت بحَيرة: كيف انهزم الأصل وانتصر الظل؟!

ثم عزَّت نفسها قائلة: لكنه جمال الذي خلق هذا الجيش وجهزه!

وتشبث أمين بهذا القول كأنه طوق النجاة. حتى علي هزَّت نشوة نفسه الرافضة ولكنه سرعان ما استردَّته همومٌ طارئة بسبب مرض ميرفت هانم. قَهَرها روماتزمٌ مفصلي ومتاعب في الجهاز الهضمي وفساد في الأسنان اقتضى خلعها. انطفأ ولعها بالحياة وعجزت عن الحب واجتاحتها طفرة من الشيخوخة، فراح يمضي وقت زيارته إلى جانب فراشها مفعم القلب بالرثاء والأسف والقرف. وفي قمة النصر حدثت الثغرة، وكانت مفاجأة غير سارة ولكنها لم تخدش المعالم الأساسية للصورة، غير أنها لم تخلُ من ردِّ فعل شامت عند منيرة وأمين، أما سهام فقالت بجرأة على مسمع من والديها وأخيها: إنها هزيمة أشنع من ٥ يونيو!

فقطب محمد وقال بجفاء: هذا ما يردِّده زملاء لي من الشيوعيين، حذارِ يا سهام، إنكِ تحيرينني!

فقالت بإصرار: إني حرة في رأيي!

فهتف بها: حرة نعم ولكنكِ مُسلمة أيضًا!

فقالت لنفسها: «لست مسلمة!» وقالت أيضًا دون أن يدري بها أحد: إني أختنق في هذا البيت!

وتوقف القتال، وتنفست الكائنات المتوترة، وتم البعث فلا رجوع عنه. غير أن البيت القديم لم يَسلم، أو لم يَسلم تمامًا. وكان محمد أول من علِم بالخبر؛ إذ زاره في مكتبه صديق من ضباط المدفعية، وقال له: ابن أختك رشاد أصيب في الثغرة، ونجا بأعجوبة!

قرأ محمد في وجه صاحبه أنه لم يدلِ بكل ما عنده فحدجه بنظرةٍ واجمةٍ متسائلة: اقتضى الأمر جراحة لبتر الرجلَين!

تجلَّى الحزن في عين محمد الباقية فقال الآخر: نحن على أي حال في عصر الأطراف الصناعية.

وغادره وهو يقول: إنه بطل!

شعر محمد بثقل المهمة، وأبلغ منيرة أولًا ثم اتفقا على الذهاب معًا إلى حلوان. وجدا كوثر على حالٍ شديدة من القلق، بخلاف سنية التي بدت رصينةً جامدة، حتى قال محمد لنفسه: «لعلها رأت حلمًا منذرًا». وسبقته منيرة فقالت لكوثر: الحرب انتهت، ورشاد نجا والحمد لله …

فهتفت وهي تنظر نحوهما بارتياب: حقًّا؟!

فألقى محمد بنفسه في الاعتراف قائلًا: تعرض لإصابة، إنه بطل، ولكنه نجا …

فهتفت: قلبي لا يكذب.

فقال: أُجريت له جراحةٌ ناجحة!

حلَّت بالبيت الحقيقة والحزن. واستقبلت القلوب أسًى دائمًا ولكنه مُبطَّن بالحمد. وامتزج الدمع بالفرح عندما رجع رشاد إلى البيت محمولًا. أُجلسَ من أول يوم على كرسيٍّ طبيٍّ ذي عجلتَين ولكنه أبدى روحًا عالية. لم يكن الأمر محض تمثيل ولكنه — أيضًا — الشعور بالنجاة من هلاكٍ محقَّق كان مصير رهط من أقرانه طالت به عِشرتهم في الكلية والخندق والحرب. وقلَّب عينَيه الجميلتَين في الوجوه المحدقة به. سنية .. كوثر .. منيرة .. محمد .. شفيق .. سهام .. أمين .. علي .. سليمان بهجت، وقال ضاحكًا: ها قد اجتمعتم مرةً أخرى!

وأشار إلى أمه قائلًا: هذه السيدة لا تريد أن تحمد الله!

ونظر إلى سهام وقال وهو يضحك من جديد: نجوتُ من مصير لا يسُرُّ!

فاحمرَّ وجهها الجميل حرجًا وقالت: إني فخور بك.

فقال بحرارة: لتكن آخر الحروب!

سُرَّ برجوعه إلى البيت سرورًا عميقًا فتمتع بالدفء والحب. واستهان ساعات بمصابه. غير أنه كان يشرد أحيانًا وهو ينظر إلى المتبقي من جسده الفارع فيذكر نشاطه وتقلُّبه بين الأماكن المحبوبة مختالًا بشبابه وجماله فيهزج قلبه بالأشجان الخفيَّة. ولم يكن يستسلم للحزن، كان يدفعه ويطارده ويقول لنفسه: عشْ في الواقع وإنه لغني بإمكانات لا حصر لها!

ولما قالت له جدته مرة: إني راضية إذعانًا للمشيئة الإلهيَّة.

فتفكر مليًّا ثم قال لنفسه ناشدًا الراحة المطلقة: لا بأس لمن أبى الاستسلام للعدو أن يستسلم للقدر!

وقررت سنية أن تصوم رجب وشعبان ورمضان بالإضافة إلى يومَي الاثنين والخميس من كل أسبوع. أما كوثر فأوقفت نفسها على رعايته. وملأ هو وقته بألوان التسلية، يدفع كرسيه إلى الفراندا في الأجواء المناسبة، يتابع الراديو، التلفزيون، يستقبل أصدقاء النادي الرياضي في مساء معين؛ فأحيا ذكرى اجتماعات السمر التي ولع بها جده حامد برهان. ولم يجد في أمه مُحدثة شائقة بخلاف جدته التي لا ينفد مدَّخَرها من ذكريات الماضي وغرائب الأحلام وعجائب عالمي الغيب والشهادة إلى مناقشاتها الواعية عن الدنيا وأحوالها. وتسأل كوثر أمها وهما منفردتان: كيف يصنع إذا وجد نفسه وحيدًا ذات يوم؟

فتقول سنية بإيمانها الراسخ: لن يجد نفسه وحيدًا أبدًا!

ولأول مرة في حياته يُغازل القراءة وتغازله، ومن عجب أنه انساق إليها بيسر وشغف، وتخلق في أعماقه ميلٌ جديد نحو الدين؛ فاقتنى من مراجعه ما شاء، وهيمن عليه الاطلاع الديني بقوة مضت تزداد يومًا بعد يوم، وحام حول الأسئلة المحيِّرة فتطلع إلى عالم الثقافة والأشواق بحماس لم يخطر له ببال من قبلُ. حتى الكتابة حلم بتجربتها حتى قال لنفسه من فوق كرسيِّه الطبي: ما أضيق الوقت وأقصر العمر!

وفي أحد أيام الجُمَع سأل خاله محمد: أينبغي أن يفقد الإنسان نصف جسمه ليهتدي إلى نفسه؟

فسأله محمد عما يعنيه فأجاب: فتح لي العجزُ الأبوابَ المغلقة.

وراح يحدثه عن شغفه الجديد بالثقافة وفي مقدمتها الدين فسُرَّ محمد ورفع عكازته بيمناه قائلًا: طوبى لما يهبنا خصوبة الروح!

فقال رشاد: ويخطر لي أحيانًا أن أكتب.

فهتف محمد: الله أكبر!

إنها رغبة مبهمة لم تتبلور في هدفٍ محدد، ولكنه دخل في دين الإسلام بالنية والعمل معًا. صلَّى وعزم على الصيام والزكاة ومضى يقرأ القرآن والبخاري ويزداد تقبُّلًا لقدره ورضًا عنه. وهو سعيد باشتراكه في النصر والتضحية والبطولة، وهيهات أن تنغِّص عليه صفوه الكوابيس التي تنتاب نومه أحيانًا أو صور الشهداء التي تلمُّ بخياله أحيانًا أخرى. ويتساءل: لِمَ تعذَّر على الإنسان أن يعيش حياةً سعيدة في هذه الدنيا؟!

ثم تساءل في حيرة: هل أجد عروسًا ترضى بي زوجًا؟!

وصاحب ذلك ميل المؤشر من الشرق إلى الغرب وانبثاق دعوةٍ مُصرَّة إلى الانفتاح، مع تفجر حملةٍ ضارية على الزعيم الراحل فاضت بها الكتب والصحف والمجلات، وبرز في ميدانها المفتوح أعداء وأصدقاء ومحايدون فصارت انتقامًا وتشفيًا ويقظة واعترافًا وتقربًا. ووقف جيل الأحفاد منها موقف الدهش والبلبلة، يستوي في ذلك من أقام على ناصريته مثل أمين أو من وافقه مثل سهام، أو من رفض كل شيء مثل علي، أو من آوى إلى عقيدةٍ جديدة مثل شفيق.

– ألم يعبدوه بالأمس؟

– ألم يكن القائد والزعيم والمُعلم والمُلهم؟

– أي نفاق وأي خِسَّة وأي جبن!

– جيل يستحق التصفية.

– من نُصدق؟!

– أنُصدق ما يقال الآن؟!

– ليس بلدًا ولكنه مرحاضٌ عمومي!

– ولم تمرَّ الحملة في لقاء الجمعة دون إثارة؛ لم يعد رشاد يبعث على الرثاء، فقد بات عادة، وعَبَرَ هو الأزمة بشجاعة وتطور بها إلى ما هو أفضل؛ لذلك أفصح محمد عن سعادته بالانقضاض على العصر الناصري؛ قال: ليعلم من لم يكن يعلم، ولينتبه من فقد وعيه!

فتساءلت منيرة: هل ننسى القضاء على النظام الملكي، والجلاء، والإصلاح الزراعي، والتأميم، وتمصير الاقتصاد، والقومية العربية؟!

فقال محمد متهكمًا: سيعترف له المستقبل بفضلٍ واحد باعتباره منشئ الإمبراطورية الإسرائيلية!

فسألته منيرة بمرارة: أتدري ما يقول الشباب؟

– إنكِ تقصدين الناصريين وحلفاءهم من الملاحدة، أما غالبية الشباب فبخير وعافية، وهي تعرف سبيلها كما تعرف ربها.

واشتركَ رشاد في الحديث قائلًا: لكل عهد إيجابياته وسلبياته، ومهمة الأحرار أن يؤيدوا الإيجابيات ويحاربوا السلبيات.

فقالت سنية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ صدق الله العظيم.

فقالت منيرة بازدراء: لا يعلو صوت على النفاق، هذه هي مأساتنا!

فقال محمد بحدَّة: عرفنا المشانق ولم نعرف النِّفاق قط!

فقالت منيرة متهكمة: اعرفوا أيضًا الانفتاح.

فتساءلت سنية: ماله الانفتاح؟ .. حتى روسيا أخذت به.

– ولكنه سيعني عندنا الغلاء والخراب.

وعند تلك النقطة غيَّر محمد شراعه قائلًا: نحن نوافق عليه ضمن خطة الإنتاج.

فتساءلت منيرة: وهل توافق على ذلك الصقور المتحفِّزة؟ وجرت خواطر سنية في أسًى؛ إنهم يتحدثون عن كل شيء، ألا يذكر أحدهم البيت القديم بكلمةٍ طيبة؟! وإن يكن هذا هو حظ البيت فمن عسى أن يذكر المدفن؟! وثمة نظرة عطف تحبو فوق الشاب العاجز متضمنة توسُّلاتها الصامتة. البيت يوغل في القدِم، أثاثه يبهت ويتهرَّأ، حديقته تحتضر، أيليق هذا بمقام البطل؟! وقال رشاد: الحق أن الغلاء يزحف بقوة، إليكم تجربة مارستها بنفسي، منذ عام وأشهر عُرضت عليَّ فيلَّا بالمعادي بستة آلاف جنيه، علِمت أمس أن صاحبها رفض بيعها بخمسة وعشرين ألفًا من الجنيهات!

فقالت منيرة: ما يقال عن الأراضي لا يُصدقه العقل.

فقال محمد: وخلو الرِّجْل أصبح خرافة!

فقال رشاد: أفكر أحيانًا في تجديد هذا البيت!

فهتفت سنية وقد أشرق صدرها بنور ربها: خيرًا ما تفعل يا رشاد، مساحة الحجرة من حجراته أوسع من مساحة فيلَّا حديثة، ولا تنسَ الحديقة المهجورة التي يمكن أن تتحول إلى جنة!

وساءل محمد نفسه هل يُجدد رشاد البيت لوجه الله أو يسجل التكاليف كيلا يهضم حق أمه عندما يئول البيت — بعد عمرٍ طويل — إلى الورثة؟ لم يتحمس للفكرة ولم يعلق، وتبادل مع منيرة نظرةً ذات معنًى دلَّت على تناغم وساوسهما. أما رشاد ففاجأ الضيوف بقوله: سأفكر يومًا في الزواج!

اتجهت صوبه الأعين. وسعدوا في الحقيقة بالخبر الذي كانوا منه في شك، ولم تتمالك كوثر أن هتفت: دعنا نبحث لك عن عروسٍ لائقة!

فقال بجديَّة: صبرك، كل شيء رُهن بوقته.

ورسخ الغلاء منذرًا بالتعملق، وانتشر العرب في الأحياء كالماء والهواء. جاء الغلاء بالوحشيَّة، أما العرب فجاءوا بالكرم تياهين بموقفهم القومي في البترول ولكنهم نفخوا في الغلاء من حيث لا يقصدون. حتى أم جابر الطاهية طالبت بمضاعفة راتبها لمواجهة الغلاء فتحققت مشيئتها في الحال، غير أنها ذهبت ذات يوم ولم تعد، وعُلم أنها سافرت بصحبة ابنها النجار إلى السعودية لتعمل طاهية بأجرٍ خيالي. عند ذاك أنذرتهم الحياة بعناءٍ جديد. أجل طالما أثبتت سنية مهارتها الفائقة في الطهي ولكنها بلغت من الكبر ما لا يجوز معه الاضطلاع بمهمة الطهي الشاقَّة رغم تمتعها بصحةٍ جيدة يغبطها عليها من يماثلونها في السن. ورغم أن رعايتها لصحتها لم تهُن وإن كفَّت عن صبغ رأسها بالحناء منذ رجع رشاد إلى بيته محمولًا على أيدي الرجال. تركت الشيب يرعى رأسها بلا حسيب قانعة بإخفائه تحت منديل مُحكَم وتلفيعة بيضاء. ولم ترَ كوثر مفرًّا من القيام بالمهمة رغم اعتلال كبدها وهزالها وتوسطها الحلقة المفضية للستين، مستعينة في التجهيز بأمها وأُم سيد. وجدُّوا في البحث عن طاهية حتى وافقت — أم عبده — على منحهم نصف يوم بثلاثين جنيهًا شهريًّا. والتهمت ميزانية الطعام قدرًا لا يُستهان له، يزداد مع الأيام دون توقف، حتى توارت سنية بمعاشها خجلًا وأدركت أنها تعيش عالة على كوثر وابنها. لذلك لم تتردد كوثر أن تقول لرشاد وهي منفردة به: ها أنت تفكر في تجديد البيت والحديقة، كن حكيمًا، الأسعار ترتفع كما ترى، والبيت — بعد عمر طويل — لن يئول لنا إلا ربعه، الحذر واجب؛ فإيرادك ثابت وقيمته تقلُّ يومًا بعد يوم.

فقال متمهلًا: لا تنسي أننا نقيم فيه، وأنني حبيسه، ويلزمني مناخٌ طيب.

فقالت متنهِّدة: كما تشاء ولكن عليك بالحكمة والحذر!

فاجأهم سليمان بهجت بطلاق منيرة مدَّعيًا في الوقت نفسه أنه يحررها من قيد يعيق حرية إرادتها ويهدر سعادتها دون مقابلٍ حقيقي. ولم يُخدع محمد بالطِّلاء، وكان بحكم مهنته ونشاطه السياسي ذا قدرة على النفاذ إلى الأسرار، فقال لمنيرة: المسألة أنه وزوجه يعملان في الاستيراد، وهي كما نعلم مركز القوة والعقل المدبر؛ فحملته على الطلاق لتستأثر بثمرة عملها!

فقالت منيرة بعتاب: هذا ما أردته من أول يوم.

فهزَّ رأسه آسفًا وقال: فيلَّا المعادي تعتبر اليوم قصر استقبال لأغنياء العرب، يختلط فيه اللهو بالعمل، إني أرثي لأمين وعلي لانتسابهما إليه!

فقالت بامتعاض: حدثني عن موقف الدولة من هذا الفساد!

– لا جدوى من الشكوى، سليمان وزاهية ما هما إلا قردان في حديقة ملأى بالقرود، جُنَّ الناس، فقدوا وعيهم، يحومون حول العرب، الذين فوق يتعهرون والذين تحت يشحذون!

وتبادلا نظرةً متجهمة ثم سألها: كيف تواجهين الحياة؟

فأجابت بوجوم: كلما مر شهر تساءلتُ تُرى هل نحافظ على مستوى معيشتنا الشهر القادم؟

– مثلكِ تمامًا، لنا أولاد، من الخطر أن يهبطوا عن حدٍّ معين من الحرمان، لنحمد الله على أنهم وصلوا إلى المرحلة النهائية!

فقالت متهكمة: ثم تبدأ مرحلة من المشكلات الجديدة، يا لهم من جيلٍ محاصَرٍ سيئ الطالع، ألم يكن الأجدر بالعرب أن ينشلونا من وهدتنا بدلًا من أن يجعلوا منا حقلًا للتسول والدعارة؟!

وكأن علي كان يحاورهما عن بُعد وهو يقذف بنواياه المتَّقدة نحو الوجود؛ يلعن وطنه ومواطنيه ويتربص باللحظة المناسبة التي يهجره فيها إلى الأبد. وذات صباح نعت إليه أمه ميرفت هانم حماة خاله محمد! لم تفطن أمه بطبيعة الحال إلى هزَّته الباطنية. وقال لنفسه يعزيها: ماتت في الواقع منذ أشهر.

المرأة التي وهبته حبًّا بهيميًّا غريبًا خارقًا للمألوف داوى بها جهازه العصبي المختل، خبر معها راحةً متجددة، وأنانيةً متسلطة، وخيلاء معربدة، وحبًّا غير مألوف يتحدى الأكليشيهات الشعرية الجارية، انتشله من مخالب أزمته، وفي الوقت نفسه رسخ رؤيته المتمردة. وقال متهكِّمًا: خير ما فعلت!

وهزَّ منكبَيه قائلًا: أخي أمين أسعدنا حظًّا!

وكان أمين سعيدًا حقًّا، يحب بنتًا ممتازة وتحبه، ولكنه باقترابه من نهاية المرحلة التعليمية الأخيرة رأى عن قرب مستقبله المعقد بالمشكلات. على أنه سَرَّه أن يسمع هند وهي تردد: لا مشكلة بلا حل!

فقال لها مغالبًا همومه: ومعنا الحب، وفيه ما يكفي!

وكانت هند بخلافه لا تكترث للسياسة ولا الأحاديث العامة. أجل كانت متفوقة كطالبة، ينحصر اهتمامها في دراستها وشئونها الخاصة ومستقبلها، وتُعنى في الوقت نفسه بإتقان شئون البيت كأنها امتداد لدراستها، كما كان حبها لأمين أقوى عاطفة في حياتها. ولم يكن لها من الدين — كالسياسة — إلا قشور، ولكن الدين تسلل إليها — على غير شعور منها — عن طريق الأخلاق؛ لذلك اعتدها أمين — وهو يتنفس مناخًا ينضح بالفضائح — لقية لا تُوزن بمال. أما شفيق بن محمد فقد تمادى في توثيق علاقته بزكيَّة محمدين حتى أحبها. وبهبوط الحب عليه انسربت إلى أعماقه الهموم والفكر. ومن قبل ذلك لم يخلُ ضميره من قلق. كان يداوم على الاتصال بها ويجتر وساوس القلق والمحاسبة. ولما أحبها قال لنفسه: لا يدري أحد أين يجد قلبُه مستقرَّه!

وكان التفاهم بينه وبين أبيه حميمًا راسخًا، كابن وأب، وكمؤمنين في عقيدةٍ واحدة. وجد في نفسه الشجاعة الكافية كي يعترف لأبيه بعلاقته بزكيَّة محمدين غير مُخفِ عليه سِرًّا من أسرار حياتها. أصغى محمد إليه كاظمًا انفعالاته تشجيعًا له ورحمة به. وختم شفيق اعترافه بقوله: أخطأت الفتاة ولها عذر كما أخطأتُ ولي عذري أيضًا!

فهزَّ محمد رأسه نفيًا وقال: كلا، كان بوسعها أن تحافظ على شرفها وكان بوسعك أن تصبر.

حدس الجواب من قبلُ فتساءل: وإذا تاب كلانا؟

فقال محمد وهو يتفحصه بعناية: التوبة أمل الخاطئين!

فتردد لحظات ثم تساءل: أعني أتوافق عند ذاك على زواجنا؟!

وجد نفسه محاصَرًا وتجرَّع خيبة أمل مريرة. واستسلم لانفعاله فقال: اختيار سيئ لن يعفي من عواقبَ وخيمة!

– ظننته ينقذ نفسَين ضالتَين!

– لا ضمان لذلك!

ثم بامتعاض كالأنين: أي حظ سيئ! لم نفق بعدُ من تجربة سهام المريرة، وها أنت في نفس الطريق الوعرة!

فقال شفيق بأسًى: حسبتُك ستبارك قراري!

هام في وادي الخيبة طويلًا. وراجع نفسه وانفعالاته. ثم تنهَّد قائلًا: سمعتَ رأيي ولكن إذا أصررتَ على رغبتك فلن أعارض.

ونقل شفيق صورة مما دار بينه وبين أبيه إلى زكيَّة في ألطف أسلوبٍ ممكن. تابعته بانتباه وعمق. لم تكن في مثل براءته بعد أن طحنتها الحياة من رأسها إلى قدمَيها. كفَرت بكل شيء إلا ذاتها، والمال؛ ذلك الساحر الذي قدمت له نفسها قربانًا. ولم تكن تبني أي خيال على تخرجها القريب، وقد أنضجتها الحياة أكثر من أساتذتها أنفسهم الذين يتاجرون أيضًا بطريقتهم الأكاديميَّة الخاصة. أيغريها هذا الشاب بالزواج؟ وما قيمة الزواج منه؟ وما الداعي إلى تحمل احتقار أهله؟! ثم إنها لا تحبه كما يتصور. إنهم يُصدقون أي كلام يندُّ عن جسد المرأة. وإن لم تنكر أنه أوثق الزبائن علاقة بها وأقربهم مودة إلى نفسها. ولم ترتح لإذلاله وهو يعرض عليها الزواج، ولا عن قوله «الإقلاع عن الحياة الفاسدة!» أين هم المحترمون؟ ولمَّا سألها عن رأيها أجابت بوضوح: غير موافقة!

تساءل بذهول: حقًّا؟!

– لا تغضب، فكِّر قليلًا وستقتنع بأنك غير أهل للزواج!

فتساءل بإنكار: أنا؟!

فقالت باسمة: وأنا أيضًا!

واختفت من حياته كوَهْمٍ؛ وكاد يُجَنُّ. وبالتحري المحموم عرف أنها اهتدت أخيرًا إلى الطريق العربي، وأنها وثبت وثبةً موفقة إلى شقةٍ مفروشة آخذة معها أمها الكادحة. طارت من قفص الحياة اليومية كما طارت أختها من قبلُ، وارتفعت فوق تطلعات طبقته. وكان محمد يلاحظه بقلق، ويعجب لصمته. وذات يوم سأله: ماذا فعلت يا بني؟

فأجابه بإيجاز: اقتنعتُ برأيك!

لم يصدقه الرجل الخبير ولكنه تنهَّد بارتياح قائلًا: فليحفظنا الله بعنايته.

– ولكن الزواج ضرورة لأمثالي فما العمل؟

ارتبك محمد وشعر بالقهر، ثم قال محتدًّا: ما أجدر أن نوجِّه هذا السؤال إلى وزير التخطيط أو إلى المجموعة الاقتصادية!

وبعد فترة صمت تمتم: لنضع ثقتنا في الله سبحانه!

وتخرج شفيق وابن عمته أمين، على حين انتقل علي وسهام وهند رضوان إلى السنة النهائيَّة. وجُنِّدَ شفيق وأمين. ووجد علي فرصة للسفر إلى الخارج ضمن رحلات الطلبة الموسمية. سافر ولكن أحدًا لم يره بعد ذلك. وأرسل — من ألمانيا — خطابًا إلى أمه يخبرها فيه بأنه وجد عملًا — كعامل — في مصنع، وأنه لدراسته العلمية اعتُبر عاملًا فنيًّا، وأنه ينوي إتمام دراسته عندما يتقن اللغة الألمانية، وعلى أي حال فلن يرجع إلى مصر أبدًا. أعادت منيرة قراءة الخطاب بعينَين دامعتَين وقالت لنفسها: عثرةٌ جديدة تضاف إلى سوء حظي!

وبتكليف منها أبلغ محمد الخبر إلى سليمان بهجت. وسُرَّ الرجل به قائلًا: أحسن صنعًا!

ثم واصل ضاحكًا: سأعثر عليه في إحدى رحلاتي لأُبارك خطوته!

فتساءل محمد: أما كان الأوفق به أن يصبر عامًا حتى يحوز شهادته؟

– هرب من التجنيد، وله حق!

وتلقى البيت القديم الخبر بهدوءٍ نسبي؛ إذ لم يعد تهزُّه الأنباء السيئة. غير أن سنية قالت: لكِ الله يا منيرة!

فقالت كوثر: حظها أفضل من حظي!

فقالت سنية بعتاب: ابنكِ جدير بالإعجاب لا الرثاء.

رغم أنه لم يحقق إلا بعضًا من آمالها؛ أجل سُدَّت الثقوب، وسنفرت الأرضية، وطليت الجدران فشعَّت رونقًا، ونُجِّدت المراتب والأغطية والمقاعد والكنب، واتفق مع بستاني على تنظيف أرض الحديقة، وغرس ياسمين ولبلاب أسفل الأسوار لتكسو الخضرة الأسياخ الصدئة، وتشديب البقية الباقية من النخيل والبلح. سُرَّت كثيرًا وسعدت، ولكن أين هذه الحديقة الفقيرة من الجنة الموعودة؟! وخفَّف من فتورها وضاعف من امتنانها ما تَطَّلِع عليه يومًا بعد يوم مما يُنفق على البيت. رشاد ينفق بسخاء كأنه رب البيت تاركًا المعاش لنثرياتها. كيف كانت تمضي الحياة لولا يده المبسوطة؟! وكأنما كانت تشاركه أفراحه في سياحته اليومية بين الكتاب والراديو والتلفزيون، وسهرته الأسبوعية مع زُواره وسماع ضحكته المترعة بالسرور. وها هو يحلم بالزواج والكتابة وينتظر مزيدًا من الضياء. وآمن رشاد بأنه حقق حلم جدته المحبوبة. وكم سَرَّه أن يجد منها استجابةً قلبية لأحلامه! فهي — بخلاف أمه — تُشجعه على الكتابة وتقول له: عرفتَ الحرب والسلام، ماذا تريد أكثر من ذلك؟

وهي الوحيدة في الأسرة التي تتفق معه على حب زعيمَي الثورة، السلف والخلف معًا، وتقول: لكل منهما مزاياه وأياديه، أما الأخطاء فسبحان من له الكمال وحده!

وقال يومًا لزوار الجمعة من أهله: تبدون أحيانًا كأنكم فقدتم الأمل، أنا وجدتي لا نفقد الأمل أبدًا!

فقالت منيرة بمرارة: عربدة الغلاء أنستنا النصر!

ثم تساءلت متنهدة: وأين علي؟!

وحمل محمد على الزعيم الراحل كعادته وقال: كل ما نعاني من شرٍّ فمن صنع يدَيه …

فتساءلت منيرة: وأخطاء الانفتاح أهي من صنع يدَيه أيضًا؟!

فقال بإيجاز: إني راضٍ عن الرئيس الحالي باعتباره التمهيد لدولة الإسلام!

وساءل رشاد نفسه «متى تنفرج الأزمة؟» وعقِب ذهاب الزوار زارت سنية — كالعادة — صورة القناطر التذكاريَّة. ساق كرسيه مقتربًا منها ورنا إلى الشباب المخصب للصورة وسألها مداعبًا: تحنين للشباب يا جدتي؟!

فقالت بشرود: إني أنظر وأتساءل من كان يتصور؟!

وخطرت له فكرة مُشرقة فقال: ليست الحرب هي التجربة الوحيدة في حياتي ولكن أيضًا هذه الصورة ذات المصائر العجيبة!

فتمتمت: فكرة!

ورجعا إلى مجلسهما وآخر شعاع للشمس يتقلص مُودعًا حجرة المعيشة. وتذكَّر إشاراتٍ خاطفة كانت تصدر عنها في أحوالٍ نادرة عن جدودها، لم يهتم بها أحد قانعين جميعًا بمعرفة جدهم صاحب البيت والأرض. غير أن رغبةً جديدة في معرفة كل ما يمكن معرفته غزته بسِحرٍ جديد فقال لها: أودُّ أن تحدثيني عمن عرفتِ من جدود يا جدتي.

فانبسط وجهها وسألته: أتريد أن تكتب عنهم أيضًا؟

– إن استحقوا ذلك!

– إنهم يستحقون وزيادة!

ودارى وراء ابتسامة عدم تصديقه وهو العليم بحساسيَّتها ونظرتها الخاصة للأمور. قال: إني شديد الرغبة في الاستماع.

تبدَّت مستجيبةً متحمسة، واندفعت تروي قصة جدودها كأنما كانت تنتظر هذا الإذن منذ دهرٍ طويل.

قالت: أقدم جدٍّ سمعتُ عنه كان يدعى فرج، من الصعيد الجواني، وكان قويًّا، رزقه يأتيه من قوَّته، ولكنه يقبل الهدايا ولا يغتصب؛ فأحبه الجيران بقدر ما هابوه، وكان وزوجته يؤاخيان الأرواح ويعرفان الغيب.

دهش رشاد! ودهش أكثر لما طالعه في وجهها من الجدية، وما تمالك أن ضحك قائلًا: هذا يعني أنه كان قاطع طريق!

فهتفت محتجة: لو كان كذلك ما حدَّثَني عنه أحد بكلمة!

– لكن هذه الأوصاف …؟!

– بهذه العقلية يا حبيبي يُعتبر حكامنا الأجلَّاء قُطاع طرق!

– تعتبرينه إذن من الحكام؟

– في بيئته، لِمَ لا؟!

وتظاهر بالتسليم ليشجعها على الاستمرار، فقال: لا يخلو رأيك من وجاهة يا جدتي.

فمضت بثقة: وبلغ المائة ولكن قدمه زلت وهو في قمة العمر.

فاشتدَّ انتباهه، ولكنها بدت كأنما تريد أن تَعْبُر فوق تلك النقطة، فقال بتوسل: الحقيقة يا جدتي وإلا فما جدوى الحديث؟!

فابتسمت في حياء وقالت بصوتٍ خافت: يقال إنه أغرى بنتًا في الخامسة عشرة!

فكتم ضحكة كادت تفلت منه، وهمس: شيء يفوق الخيال!

– إنها زلة ولا شك، ولكنه كان فحلًا!

– وماذا فعل أهل البنت؟

– لا علم لي بذلك، ولكنه مات بعدها بقليل بغدرة جمل عضَّه.

الحق أن جدته التي استوت أمام عينيه كمثال للرصانة والقوة والثقافة، الحق أنها تملك جانبًا خفيًّا أشبه بالأسطورة يحتار الإنسان في تقييمه. وإذا بها تسأله: ما رأيك؟

– رجلٌ عظيم حقًّا ولكنني أخشى أن يُسيء إلى سمعتنا في نظر الناس العاديِّين!

– ألم تصادفكَ أحداثٌ مسيئة للسمعة أكثر من زلة رجل في المائة؟!

فقهقه عاليًا ثم قال: استمري يا جدتي.

فواصلت والنشوة تورد وجنتَيها الذابلتَين: الجد التالي يدعى غزال، الشهير بحرك؛ إذ فرض عليه رزقه التنقل المتواصل بين قرية وأخرى سعيًا وراء الصيد والبيع، لم يعاشر أسرته إلا لِمامًا، فلم ينعم بالعلاقات الحميمة، كأنه مطارَد؛ ولذلك وهنت علاقته بالغيب والأرواح، ولم يعرف الاستقرار، ولا الرفاهية، وشغل مسيرته بالغناء متشكيًا من الزمان، حتى عُثر على جثته ذات يوم ملقاة في مصرف، ولم يُستدل على قاتله؛ فقيل إنه إنسان وقيل إنه حيوان وقيل إنه عفريت!

ووهبت دقيقة صمت للرثاء الذي تجلَّى في عينَيها ثم قالت: من شدة حزني عرفت سرَّ مصرعه!

فتساءل رشاد: كيف يا جدتي؟

– بالحلم المضيء، رأيت بدويًّا قاطع طريق وهو يخنقه ليسلبه ماله، ثم جاء ذئب فنهش بطنه، وشهد الواقعة من أولها عفريتٌ ساحر هو الذي رمى به في المصرف!

وتبادلا نظرةً طويلة حتى سألته: ما رأيك؟

فتساءل بارتباك: أيستحق غزال أن يُؤرَّخ له أيضًا؟

فقالت بجديَّة أدهشته: كيف لا؟ وهل قُدِّر لمصري أن يلي مكانةً أسمى من مكانته في زمنه؟ عاش مكافحًا ومات شهيدًا!

فقال مجاملًا: كلامك كله حكمة يا جدتي.

فقالت بعتاب: حذار من السخرية، إني أنضج عقل في هذه الأسرة المبعثرة بين النزوات وسوء الحظ!

– ثقي من جِدِّيتي واستمري!

فقالت باسمة: ثم جاء فرج، فرج الثاني المتسمِّي باسم جده، نهض لحمل الأعباء بعد مصرع أبيه، فعدل عن حياة التجوال عملًا بنصيحة أمه، فاختار عملًا بين بين، يقوم على الحركة ولكن في القرية والسوق، يسرح بالأغنام ويبيع اللبن، فنعِمَ بحياةٍ مستقرةٍ عادية وعشق الله والنساء، وقرر ذات يوم أن يُفجر قنبلة في بيئته العائلية الساكنة!

– قنبلة؟!

– أشهر إسلامه وتسمى باسم محمد المهدي!

فتساءل رشاد: كيف دخل جدنا الإسلام؟

– أعلن أن النبي عليه الصلاة والسلام زاره في المنام وعرض عليه الإسلام فقبِلَه دون تردد، أما أهله فأكدوا أنه عشق فلاحةً مسلمة!

– ورأيكِ أنتِ يا جدتي؟

– سيرته بعد ذلك شهدت له بالصدق، وقد نذر بكريَّه للأزهر، وهو الشيخ عبد الله المهدي أبي وجدك!

– هذا جدنا المعروف!

– لعل الوحيدة التي تذكره هي كوثر أمك، وقد عمل أول حياته مدرسًا، وكان أيضًا يرتل القرآن بصوتٍ عذب، ثم اشترى أرضًا وتفرغ لزراعتها فعُرف بمهارته كما عُرف بورعه، ولما اجتاحه الروماتيزم انتقل إلى حلوان وشيَّد هذا البيت وكان قطعة من الجنة!

تأثر رشاد بأريحية جدته ونشوتها أكثر مما تأثر بسير الجدود أنفسهم. ولم تكن تبلورت لديه فكرة عن نوعية الكتابة التي سيختارها ولا عن ضرورة — أو عدم ضرورة — اشتراك الأجداد فيها. غير أن نشوة جدته أضفت على الرجال الغابرين سِحرًا خاصًّا نفخ فيهم ضياء في مواقعهم الموغلة في الزمان؛ فأجَّل قراره إلى حينه. وفكر من جديد في بعث الحديقة وتحقيق حلم جدته المُلحِّ.

وقال لأمه: ليتني فكرت في شراء هذا البيت قبل الانفتاح!

فقرأت كوثر أفكاره وقالت: ما فات فات، تذكَّر ما سبق أن قلتُه .. ولا تنسَ الغلاء الذي لا يريد أن يقف عند حد .. ويحسن بك أن تفكر في شيءٍ واحد هو الزواج!

– تمنيت لو أتزوج هنا ولو نظير أجر أدفعه للمستحقين!

فقالت كوثر باهتمام: عندي فكرة أحسن، أن تبيع الأرض، وتكتفي بالعمارة، وبثمن الأرض تشتري شقة في إحدى عمارات التمليك التي تُقام في حلوان وتواجه أيضًا تكاليف الزواج.

– ونترك جدتي وحدها؟

فبادرته: إني باقية معها لآخر العمر، المهم متى تشرع في الزواج؟

فضحك قائلًا: أريني همتك!

فهتفت متهللة: وكلِّف بذلك أيضًا جميع أصدقائك!

وتخرجت سهام وهند رشوان في عامٍ واحد، أما هند فانتظرت خطاب التعيين الذي لن يصل قبل عام، وأما سهام فقررت تقديم رسالة ماجستير طامحةً إلى وظيفة معيدة اعتمادًا على تفوقها البيِّن. وأنهى شفيق وأمين مدة التجنيد؛ فأُلحق الأول مهندسًا بشركة الملاحة، والثاني مهندسًا بشركة الصناعات الكيماوية. وهمست ألفت في أذن سهام بأن محاميًا في قضايا الحكومة يسعى لخطبتها فارتعدت وقالت: لن أفكر في ذلك حتى أحصل على الماجستير.

فاعترضت ألفت قائلة: ولكن …

غير أنها قاطعتها قائلة: لي أملٌ كبير في بعثة إلى إنجلترا.

– والعمر؟!

– لا أهمية لذلك!

وعلم محمد برأيها فقال لها بحدَّة: إنك غير محتمَلة.

فقالت ملاينة: لي خطة يا بابا.

فصاح: خطة كالقطران!

واشتدَّ غضبه فقال لها: لم يؤذني أحد في حياتي — باستثناء عبد الناصر — مثلما آذيتِني!

وحلمت سهام بالبعثة كملاذٍ أخير، تلوذ به بمبدئها وجرمها الخفي، وهما إرثها عن حبيبها الذي تلاشى في غمضة عين. وجوُّ أسرتها كان ينذرها دائمًا بالتهديد والخوف حتى تمنت هَجْره وشارفت مَقْته. وخُيِّل إليها أن أباها — وشفيق أيضًا — يرمقانها بعين الريبة. وإن يكن في ذلك شك فما لا شك فيه أنهما لا يباركان موقفها من الحياة. وكل يوم فهما يزدادان إسلامًا فيزدادان خطرًا وتزداد هي غربة. وأمها لا أمل فيها؛ فهي مُحبة لأبيها لدرجة العبادة ومؤمنة ببطولته، وهي في الوقت نفسه — على رقَّتها — غير موافقة أيضًا على موقفها. فكيف إذا انكشف سرها وأعلنت خسائرها! وجمعت المشكلات بين شفيق وابن عمته أمين. سأله شفيق: ما قيمة المُرتب؟

فأجاب أمين ببساطة: لا شيء.

– ويهمني جدًّا أن أتزوج.

– أنا عندي خطيبتي ولا أدري كيف أتزوج!

– بنات الهوى ارتفعت أسهمهن في بورصة العرب لدرجةٍ خياليَّة!

– نحن محاصرون من جميع الجهات!

– وقد تيئس خطيبتك فتُرحب بأي قادر.

فقال أمين بثقة: ليست من هذا النوع.

– لو أني مكانك لكتبت كتابي لأُروِّح عن نفسي تاركًا المستقبل للمستقبل!

وحَلِيَت الفكرة لأمين ولكنه راح يقلِّبها على شتى جوانبها قبل أن يندفع إليها كالمجنون. ووجد بابًا لم يطرقه فقرر أن يطرقه. وقرر أن يطرقه سِرًّا فأخفى عزمه حتى عن أمه المحبوبة. ذهب إلى فيلَّا المعادي لمقابلة أبيه سليمان بهجت. إنه يزوره من حين لآخر زياراتٍ بريئة، وفي كل مرة يُخيَّل إليه أن الفيلَّا تزداد تألقًا وترفًا. وكالعادة لقيه أبوه برقَّةٍ معهودة. وسأله عن مامته وجدته وسائر أفراد الأسرة. وحضرت زاهية المقابلة؛ فهي لا تترك الابن يخلو إلى أبيه أبدًا. ولم يجد أمين بُدًّا من عرض قضيته على مسمع منها. قال: إني خاطب كما تعلم يا بابا وأريد أن أتزوج!

لم ينظر نحو زاهية ولكنه شعر بأنها ماجت بالانفعالات. وتساءل الأب ببلاهة: وماذا يمنعك؟

فضحك مُحرَجًا وقال: أنت أدرى يا بابا.

هزَّ الرجل رأسه وقال: طالما أفهمتُ الجميع أنني لا أملك إلا جدران هذه الفيلَّا!

فتساءل برجاء: ولو على سبيل القرض؟

فقال سليمان بهجت بأسًى: ليس لديَّ إلا الحزن والأسف.

وتدخَّلت زاهية في الحديث قائلة: يا باشمهندس، أنتم أغنياء ولستَ في حاجة إلى قرض.

فتحوَّل إليها كارهًا ومتسائلًا: أفندم؟

– هل لديك فكرة عن ثمن بيتكم القديم بحلوان؟

لم ينبس، فقالت: ألف شركةٍ أجنبية مستعدة أن تشتريه بمليون، سامعني؟!

ثم وهي تضحك: أرأيت أنكم من أصحاب الملايين؟! .. أنا مستعدَّة أن أبيعه لكم في يوم!

وغادر أمين فيلَّا المعادي خائب المسعى ولكن الملايين تتطاير من خياله معيدة خلق الدنيا من جديد. أجل إن البيت مِلك جدته، وهي نفسها تعيش بمعاش لا جدوى منه في هذا الزمن. البيع يُغنيها ويغني أولادها وأحفادها. وحتى متى ينتظر أبناؤها؟! كوثر ومحمد ومنيرة يدنون من الستين ويعانون حياةً متقشفة. جدته في الثمانين، وهو يحبها، أو لا يكرهها، وصحتها أحسن من صحة كوثر ومنيرة أمه، وثمة حلٌّ متاح يعد الجميع بالسعادة. وهو خير على أي حال من رصد موتها باعتباره مفتاح الفرج للجميع. وبشر بفكرته لدى أمه وخاله محمد وابن خاله شفيق وبنت خاله سهام. قال: وتنزل لكل مستحق عن حقه فتعفى التركة من الضرائب ويبقى لها ما يجعلها من الأغنياء إلى آخر العمر.

وطابت الفكرة لمن يغالبون وحش الغلاء. وقد خطرت لمنيرة كما خطرت لمحمد من قبلُ ولكنهما أشفقا من إعلانها رحمة بأمهما، عاشقة البيت، والحالمة أبدًا بإعادة الشباب إليه. وما الضرورة في تكدير صفو امرأةٍ محبوبة، في الثمانين من عمرها؟! ولكنهما غُلبا على أمرهما إزاء حماس الأبناء المرهقين بالأزمة، وقال محمد: ليكن في علمكم بأننا — أنا ومنيرة — لن نكون البادئين بفتح الموضوع.

ولم تحمل سهام للمشكلة كلها همًّا وقالت لنفسها: فليأكل بعضهم بعضًا!

وانضم أمين وشفيق إلى لقاء الجمعة التالي فأحدث حضورهما دهشةً، وقالت سنية: حسنٌ أن تتذكرا بين الحين والحين أن لكما جدَّة!

فانقبض قلبا محمد ومنيرة، على حين تربص شفيق وأمين بالفرصة المناسبة. وجرى الحديث بعيدًا عن النيَّات المضمرة، آخذًا في مجراه زواج رشاد في المقدمة، ثم كالعادة احتلت السياسة مكانها الدائم المرموق. قال رشاد: النصر لم يُبشِّر حتى الآن بسلام دائم.

فقالت منيرة بلا تركيزٍ حقيقي: بل ثمة إشارات في الصحف إلى احتمال حربٍ خامسة!

فقالت كوثر بمرارة: كأنها مباريات الكرة الدورية!

مضى الحديث في درجة حرارةٍ منخفضة على غير عادة والضمائر مضطرمة بالمهمة الثقيلة التي جاءوا من أجلها. وساد صمتٌ غير طبيعي. وتبادل أمين وشفيق نظرةً متضمنة دعوة بالتقدم. واخترق أمين جدار الحرج فقال لجدته: معنا كلام يستحق أن يُسمع!

فرمقته بنظرةٍ بريئةٍ باسمة، فقال: تعلمين طبعًا بمتاعب الناس في هذه الأيام، خاصة الشباب الذي يبحثون لأنفسهم عن مستقر.

فقالت سنية بحنان: قلبي معكم، والله لن ينسى عبده!

فقال شفيق: ولكن يوجد حل يا جدتي.

– يسرُّني أن أسمع ذلك.

– الحل بيديكِ أنتِ!

فدهشت سنية وتساءلت في حيرة: أنا؟!

فقال أمين: إنكِ تملكين مليونًا من الجنيهات!

قلبت المرأة عينَيها في الوجوه ضاحكة وقالت: مليون! ما أملك إلا معاش جدكم الذي تتناقص قيمته كل طلعة شمس!

فقال شفيق: هذا البيت القديم يساوي اليوم مليونًا بالكمال والتمام!

تراجع جذعها حتى التصق بمسند الكنبة ذات الغطاء الأخضر كأنما تلقَّت ضربة، وتمتمت بصوتٍ مبحوح: البيت القديم!

وراحت كالمستغيثة تنقل بصرها من رشاد إلى محمد إلى منيرة ثم تساءلت بحدة: فيمَ تفكرون؟!

شعر محمد بأنه ينبغي أن يشترك في الحديث ليصدَّ عنه أي مضاعفات، فقال برقة: ماما، معذرة، إنهم متأزِّمون، ويُروِّحون عن أنفسهم بالشكوى!

فقالت بوجهٍ متجهِّم: إني متألمة.

فقال بنبرة ملاطفة: معاذ الله، امنحينا بعض الصبر، لا بأس من شرح الفكرة، وأنتِ في النهاية صاحبة الحق المُطلق في القبول أو الرفض، علم الله أنني كاره للحديث، ولكن هل يجوز أن نتجاهل أنَّات أبنائنا؟!

فقالت سنية بامتعاضٍ شديد: سأصغي إليك وأنا كارهة!

فقال مستعينًا بمهارته المهنية: عمَّ تمخض تفكير الأولاد؟ يقولون إن الشركات الأجنبية تشتري الأراضي بأسعارٍ خيالية، ويؤمنون بأنه يمكن أن نبيع بيتنا بمليون، لا عليكِ بعد ذلك أن تشتري شقة أو فيلَّا صغيرة مناسبة وأن تستثمري بقية المال في مشروعات تدرُّ أرباحًا محترمة، في الوقت نفسه تمدِّين الأحفاد بما يمكنهم من تأسيس حياتهم وتحقيق آمالهم، خاصةً وأن معاشكِ لا خير فيه، وانتفاعكِ بالبيت قاصر على الإقامة المجانية، هذه هي الفكرة، وهي تستحق المناقشة، ولن يحملكِ أحد على قرار تأبَيْنه.

اشتدَّ التأثر بسنية لحد أنها لم تستوعب حديث محمد، غاية ما أدركته أنهم ائتمروا معًا للانقضاض على البيت الذي لا تتصور للحياة معنًى خارج جدرانه. قالت: ضقتم بحياتي والله لا يحب ذلك!

فهتفت منيرة: ماما، كيف هان عليكِ أن تقولي ذلك؟ .. نحن نحبكِ أكثر مما نحب أنفسنا!

– عندما رأيتكم داخلين ملكني شعورٌ غريب!

فضحك محمد مُداريًا مرارته وقال: لا .. اطردي هذا الشعور من فضلكِ!

– وهذا تأويل حلم رأيتُه الليلة الماضية!

– تأويله خير ولا يمكن أن يكون إلا خيرًا!

فقالت بحزم: إذن فلنغيِّر الحديث.

ولكن أمين تساءل: ألا يحزنكِ ألمنا يا جدتي؟

فقالت بانفعال: كيف لا، إنكم تعيشون في خواطري وأحلامي وإن تجاهلتم وجودي لا فرق بين من يقيم منكم في القاهرة أو في ألمانيا.

– إنكِ جدتنا المحبوبة في جميع الأحوال.

فلم تستجب لقوله وقالت: توجد فرصٌ كثيرة فيما نقرأ ونسمع.

فقال لها شفيق: أعطينا مثلًا.

– البلاد العربية، أيضًا ممكن أن يبدأ أمين حياة الزوجية في شقة العباسية.

فقال أمين: أي زوجَين يودَّان الاستقلال بمسكن.

وقال شفيق: والبلاد العربية ليست تحت طلب الطالب!

فقالت بحرارة: فكِّروا ولكن بعيدًا عن هذا البيت!

فقال أمين: يبدو أنكِ لم تفهمي الموضوع يا جدتي.

فقالت بعناد: لا حاجة بي إلى ذلك، ولن يُمسَّ البيت وأنا حية!

ونظرت فيما أمامها وقالت بتعاسة لا تحل بها إلا في الملمات: لم يبقَ في العمر إلا قليل، اتركوني في سلام حتى يستردَّني الله الرحيم!

فقالت منيرة بعصبية: ولا كلمة أخرى في الموضوع، ومعذرة يا ماما!

ولما غادروا البيت أسبلت المرأة جفنَيها في إعياء وغمغمت لنفسها: الله يرحمه ويغفر له!

ودون دافعٍ واضح قررت أن تمضي صباح الغد في الحديقة اليابانية قبل أن ينطوي الخريف ويهل الشتاء. لم تعد في نشاطها الأول، وكثير من الذكريات تتلاشى، وكثير من الأحلام تتراءى ولا تخلو من كوابيس. ثم إنها تغيب كامرأة وتتجسد في صورة ورقةٍ مالية يحوم حولها الجشع. ومضت على مهل حتى وقفت أمام الصورة التذكارية وهمست: أنتِ الدليل الحي على أن السعادة حقيقة لا خيال.

وقالت كوثر لرشاد: اشرع في بيع الأرض وحسبك ما رأيت وسمعت!

فهزَّ رأسه موافقًا وقال: لكني لن أضنَّ على الحديقة ببعض المال.

– لا أدري معنًى لذلك!

فقال برقَّة: جدتي تحبني أكثر من الجميع وعليَّ أن أبادلها حبًّا بحب!

أما الراجعون إلى القاهرة فقد جمعهم الدِيزل وهم في غاية من الانفعالات المتضاربة؛ قال أمين: ما كنت أتصور أنها تملك هذه الطاقة الكبيرة من العناد!

فقال شفيق: لا تريد أن تفهم ولا أن تتفاهم!

– لا أريد أن أُعمر حتى أبلغ تلك الحال.

فقالت منيرة بحدة: تذكَّرا أنكما تتحدثان عن أمنا!

واختلطت الهموم الشخصية بالهموم العامة، وآمن كثيرون بأنها همٌّ واحد ذو أسماءٍ متعددة، ألا يكون الحل في السلام، في الديمقراطية، في الشريعة الإسلامية؟! المهم ألا يكون حلًّا سبق أن جُرب وأسهم في تجميع الثمار المرة الراهنة. ليكن السلام ولكن ما باله يتدلل ويتعذر؟ ولكن الديمقراطية، ها هي الأفكار تتحاور وتتصارع، وتتطور من منابر إلى أحزابٍ صريحة، بل ها هو الوفد يتعملق كماردٍ حطم قمقمه، وتهتزُّ الأرض وتنشقُّ عن قرارات انضباط تعيد المارد إلى قمقمه، ولكن الأحزاب الأخرى تتكون، وحتى اليسار يُكرَّس له حزبٌ شرعي لأول مرة. وينادي كل حزب بتطبيق الشريعة الإسلامية ويشترك اليسار في النداء، ويشعر محمد بأنه لم يكن في يوم من الأيام أقرب إلى هدفه مما هو اليوم. ومع ذلك قال بأسًى: حتى الشيوعيُّون لهم حزب أما نحن فلا حزب لنا!

وارتفعت الأصوات المعارضة، ولكن الأسعار ارتفعت أكثر، وامتلأت الأسواق بالسلع المستوردة، استهلاكية وكمالية، وتحدث المرهَقون عن طبقةٍ جديدة من أصحاب الملايين، كالوباء، يُعرف بآثاره وعواقبه ولا تُرى مكروباته بالعين المجردة. وإذا بالسماء تمطر دهشةً أنْسَتْ كل ذي همٍ همَّه؛ دهشةٌ أسطوريَّة لم يتصورها خيال من قبلُ، دهشة تتميز بخواص الخوارق وسجايا المعجزات ونشوة الأساطير؛ عندما عُرف وأُعلن أن أنور السادات سيهبط في أرض إسرائيل! وتجمع كثيرون من سكان الأرض أمام التلفزيون ليشاهدوا بأعينهم كيف تتحدى الإرادة البشريَّة مجرى التاريخ لتحوله عن مساره الحتمي عُنوة وبلا سلاح. وتجلَّى اللقاء بين أعداء الأمس، تصافحت الأيدي، تُبولدت الضحكات، والخُطب، والصلوات، وتدفق ماءٌ عذب من شقوق صخرٍ صلد لتصبَّ في مجرى مليء بالحصا. واستأثرت الزيارة العجيبة بحديث الجمعة في البيت القديم.

قال عنها رشاد: كأنها غزو القمر.

وتجلَّى الفتور في وجهَي محمد ومنيرة، أخيرًا وجدا ما يتفقان فيه. قال محمد: هذه هي الثغرة التي لا انسداد لها!

وقالت منيرة: إنه استسلام لا سلام!

فتساءلت كوثر ببرود: أتريدون حربًا بلا نهاية؟!

وبدت سنية مطمئنة وسعيدة وإن خفق قلبها طيلة الوقت حبًّا وعطفًا على رشاد. ونظرت صوب محمد وسألته: ما رأي شفيق؟

– إنه مُسلم مثلي تمامًا.

– إني مسلمة قبلك بربع قرن، وماذا عن سهام؟

فقال بسخريَّة: متَّفقة معنا لأول مرة!

– وألفت؟

– أظنها مثلكِ يا ماما!

فالتفتت نحو منيرة قائلة: وأمين على رأيكِ؟ طبعًا، أخيرًا اتفقوا!

ورجعت بعينَيها إلى محمد وقالت: إنك رجلٌ تغوص بين الناس، اصدقني بربك ما رأيهم؟

فمطَّ بوزه ممتعضًا وقال: الشعب مع السلام بلا عقل!

فقالت سنية: رأيت استقبالهم للرئيس عند عودته فلم أدهش يا ابني، كان الاستقبال مبايعةً لشخصه من جديد ومباركةً لخطوته، هم الذين يموتون عند الحرب ويجوعون عند اللاسلم واللاحرب، ورأيهم رأي الفطرة السليمة بعيدًا عن شَرَك المذاهب.

فقال محمد بصلابة: الجهاد لا يعتلُّ بالعلل، والحق كالشمس!

– كل شيء مشروع في سبيل الدفاع عن النفس!

فقالت منيرة: يبدو يا ماما أننا خسرنا العرب.

فقال محمد: دمغونا بالخيانة ولهم حق.

فسألته باهتمام: ماذا يقول الناس عن ذلك؟

– إنهم حانقون على العرب، نسُوا التاريخ قديمه وحديثه، ومهما قيل عن أخطائهم فأياديهم لا يمكن أن تنسى.

فقالت سنية: أوافقك على ذلك، ولكن الصواب يتوارى عند احتدام الخصام!

– بدأ أناس يقولون ما لنا وللعرب، لسنا عربًا، هكذا تبدأ فترةٌ مأساويَّة في تاريخنا الحافل بالمآسي!

فقالت بهدوء: الصواب يتوارى عند احتدام الخصام ولكنه لا يفنى أبدًا.

فقالت منيرة بازدراء: ليس أمامه اختيار؛ فإما يدُور في فلك الولايات المتحدة وإما الموت جوعًا!

ولكن العجوز كانت متفائلة، بل عادت تحلم بتجديد شباب البيت والحديقة، والمدفن أيضًا.

وفي ذلك الوقت عهدَ رشاد إلى خاله محمد بمهمة بيع الأرض وشراء شقة له في حلوان فقام بالمهمة على خير وجه، واشترى له شقةً جديدة في عمارة للتمليك في شارع الأمين غير بعيد من شارع ابن حوقل. أما مهمة البحث عن زوجة فقد تعثرت رغم كثرة الباحثين. ولدى كل فشل كانت كوثر تثور غاضبةً وتقول: لولاه ما كان نصر ولا سلام!

وأخيرًا أحرزت منيرة أول توفيق مع مُدرِّسة في دائرتها التعليمية. كانت أرملةً لمُدرس، في الثلاثين من عمرها — تكبر رشاد بعامَين — وأمًّا لغلام في العاشرة، تُدعى سميحة، وقد شرطت أن يقيم ابنها معها. واستمعت كوثر للمواصفات والشروط بفتور، ولكنها سرعان ما غيَّرت رأيها عندما زارت سميحة في عين شمس ببيت والدها، فأقرَّت لها بالوسامة وقوة الخُلق. ودُعيت للغداء مع منيرة في البيت القديم — نظرًا لظروف رشاد — فتمَّ التعارف، والارتياح من جانب رشاد، فقال عقب انصرافها: نعمة من الله.

وتنبأت له جدته بالتوفيق والذرية. ونشطت كوثر وسميحة مع معونة محمد لتجهيز الشقة الجديدة وكان من المتفق عليه أن يقوم رشاد بالأعباء المالية. وفي نفس الوقت اتفقَ رشاد — بوساطة محمد أيضًا — مع مقاول حدائق، لزراعة الحديقة بشجيرات الورد والأزهار كالفلِّ والقرنفل والنرجس والحناء والنسرين وأشجار النخيل والكافور والسرو والحوار والأكاسيا. واستعادت روح العجوز مرحها فشعشع رأسها بالآمال وقالت: ما دام أمكن هذا فكل شيءٍ ممكن.

وتم زواج رشاد في وقار وهدوء يناسبان حاله. وتذكرت سهام طريقها الأول فغشيتها كآبةٌ عابرة وضاعفت من ساعات عملها بعزيمةٍ ثابتة. العمل وحده يضمد جراحها ويفتح لها الأبواب. ولم تيئس من الرسو في مرفأٍ آمن ما دامت تهيمن على صياغة مستقبلها. كانت وما زالت مطمئنة إلى جمالها الفريد ولو أن الجمال لا يعفي من عثرات الحظ — وهل يُنسى مَثَل عمتها منيرة — وكان ينتابها حنين إلى الحب والجنس أيضًا، وتسُرها مداعبات المعجبين وما أكثرهم، فتقول لنفسها أحيانًا: في مكان ما يوجد رجلٌ مناسب واسع الإدراك.

والتحمت رويدًا رويدًا بشبَّان وشابات ينتمون إلى رؤيتها السياسية، فأترعت حياتها بالأنس والخطر معًا، وقالت لنفسها: لكلٍّ كأسٌ عليه أن يشربها حتى الثمالة!

ولما يئس أمين من جدته كما يئس من أبيه من قبلُ قرر أن يكتب كتابه. وحظيت الفكرة بارتياح أهل خطيبته فضلًا عن هند رشوان نفسها. بذلك وجد الفرص للترويح عن أعصابه وخفَّ ضغط الحياة عليه. وكان — وابن خاله شفيق — يتابعان الإعلانات عن الوظائف المطلوبة في البلاد العربية. وسأل ابن خاله: ألا يعرقل موقف العرب الأخير مساعينا؟

فقال الآخر: علينا أن نجرب.

وفعلت هند رشوان مثلهما في متابعة الإعلانات، فقالت منيرة لأمين: ممكن أَخْلي لك غرفة في شقتنا تجهز للنوم.

فتساءل: والمهر؟

فلم تُحِر جوابًا، فقال: المهندس على أي حال مطلوب وسنعثر على حلٍّ بطريقةٍ ما في الخارج أو في إحدى شركات الانفتاح.

وظن محمد أنه وجد حلًّا لمشكلة شفيق حينما علم بأن لأحد تجار الحديد — وهو زميل له في الإخوانيَّة — ابنة في سن الزواج. وقال لشفيق: سيتكفل أبوها بكل شيء، حتى المسكن، قانعًا منا بشيءٍ رمزي.

فرحَّب شفيق ترحيب المستغيث ولكن أفراحه انطفأت لدى رؤيتها، فهي لم تكن عاطلة من الجمال فقط ولكنها كانت أيضًا صورة طِبْقَ الأصل من أبيها؛ فتراجع وهو يقول لنفسه: كأنما أتزوج من الرجل نفسه!

وتضايق أبوه وقال له: مال وأخلاق ودين، كن من أهل الباطن!

فأشار شفيق إلى أمه ألفت وقال ضاحكًا: بل أكون مثلكَ من أهل الظاهر والباطن معًا!

فتنهَّد محمد قائلًا في غيظ: احتار دليلي!

وكان يتسكع في ميدان طلعت حرب عندما دهمه منظرٌ مثير. رأى صديقته القديمة زكية محمدين خارجة من أحد الحوانيت، ماضية نحو سيارة شيفروليه زرقاء منتظرة. تراءيا فتوقفا عن الحركة وتهلَّل وجهاهما بابتسامة، ثم تصافحا. دعته إلى الركوب إلى جانبها وانطلقت بالسيارة. لم تعد الطالبة المنحرفة ولكن أصبحت امرأة تخطر في هالةٍ ذات مغزًى دسم؛ غانية تبرق بالجاه المستورد، لعلَّ عريكتها قد لانت عقب انقطاع السيل العربي؛ وغلى ماء الشباب المحبوس في عروقه فتبخرت التقوى ولو إلى حين. قالت وهي تتجه نحو المنيل: لم تزرني في شقتي الجديدة!

وكشخص يقيم في جلبة محطة باب اللوق سَحره الهدوء الوافد مع نسائم النيل، كما فتنته الديكورات والمرايا والتحف. وبلغت دهشته غايتها عندما رأى أم زكية — وقد رآها قديمًا وهي تسرح بالفاكهة الفاسدة — مُقبلة لتحيَّته في روبٍ مزركش وخمارٍ أرجواني وشبشبٍ مستورد، بيدها مَسبحة من القهرمان، وطيلة الوقت عانى من القلق كما عانى من الشهوة المضرَمة. سلَّم بالهزيمة في اللقاء الأول؛ إذ كانت المقاومة فوق طاقته. لم يلمس كأس الكونياك، هذا ما استطاعه، ولما انقصفت مخالب الوحش الناشبة في صدره حل في ثقوبها الانقباض كالصديد. وسألته ضاحكة: أتذكُر مشروعك القديم؟

فأجاب بذهول بدافع الحرج: طبعًا.

ولم تُعلق بحرف. تُرى أتريد زوجًا حقًّا؟ ولأي غرض؟ وفي الحال تذكَّر سليمان بهجت — زوج عمته السابق — وزاهية، وما يتردد على الألسنة. وغادر الشقة بقلبٍ ثقيل وهو يرجو ألا يضطر إلى العودة إليها مرةً أخرى.

وكمِثل حظوظهم تعثرت مفاوضات السلام حتى أوشك أن يقنط أنصارها ويشمت أعداؤها، ثم وُلدت ولادةً عسيرة في كامب ديفيد، فانبسطت بحيرات الرضا كما انفجرت براكين الغضب. وكالعادة اجتمعت الأسرة في حلوان عدا الأحفاد منضمًّا إليهم رشاد الذي انتقل إلى شقته الجديدة بشارع الأمين. وكان المطر يجيء قليلًا ويذهب قليلًا ولا ينقطع، والسماء مُلبدة الغيوم تضفي على الضاحية جوًّا كالمغيب الدائم. وكان العمل قد بدأ في الحديقة ولكنه لم يتواصل كالمتوقع؛ بسبب غياب العمال المتكرر، أما في ذلك اليوم فقد توقف بسبب المطر. نظر محمد إلى أرض الحديقة التي تبدَّت كهدفٍ متخلف من غارةٍ جوية وقال: ستكون أجمل حديقة في حلوان.

فقالت سنية بجزع: إني أعد الساعات والدقائق ولكني أدعو لرشاد من صميم قلبي!

فقالت كوثر: ها هو السلام فمتى الرخاء؟!

فقال محمد متهكمًا: ما هو إلَّا كارثة، ولا نجاة إلَّا بالإسلام!

فابتسمت سنية قائلة: دائمًا تنذروننا بالكوارث ولكن الله يُخيب الظنون .. وجعجع الرعد فارتجفت كوثر، وقالت منيرة: أخشى أن يتعذر علينا الرجوع.

وجعلت سنية تسترق إليهم النظرات فتمتلئ بالشجن. هزلوا وشاخوا قبل الأوان، حتى محمد رغم الإصرار المحفور في صفحة وجهه الذي يُذكِّرها بحامد برهان. ماذا جرى لهم؟ لم يَنعم أحد منهم بفرحةٍ صافية أبدًا، ولا أحد من أبنائهم؛ شفيق، سهام، أمين، علي، الجميع سواء. الوحيد الذي عرف نفسه مستقرًّا هو رشاد ولكن بأي تضحيةٍ فادحة! والبيت هل يتجدد حقًّا؟ وهذه الأرض المطينة متى تستوي حديقةً غنَّاء؟ إنها في خيالها فردوس، وأما في الواقع فأرض تُخدِّدها الحفر، وتحدق بها أكوام الطين، متى تنبسط؟ .. متى تجيء المشاتل؟ متى ينقطع المطر؟ متى يواظف العمال؟ وعقب تناول الغداء انهلَّ المطر أكثر وأرعدت السماء وهبطت السحب المعتمة في تموجاتٍ عنيفة. قال محمد: علينا أن نذهب حال توقف المطر.

فقالت سنية: ما أجمل أن تبيتوا ليلتكم عندنا!

فسألها محمد مداعبًا: ما آخر أخبار أحلامك؟

فقالت بفتور: إني أحلم الآن وأنا يقظانة!

فقالت منيرة ضاحكة: كرامةٌ جديدة يا ماما!

وحسَتْ سنية آخر رشفة في فنجان القهوة ثم نادت أُم سيد وأعطتها الفنجان قائلة: اقرئي هذا وأسمِعيني ما يقول.

فتساءل محمد ضاحكًا: أما زلتِ تصدقِّينها يا ماما؟

– إنها مثل أجهزة الإعلام ولكن لا غنى عنها!

وقربت المرأة الفنجان من عينَيها الذابلتَين، وتفحَّصته مليًّا، ثم قالت بنفس الثقة التي تتحدث بها منذ نَيف ونصف قرن: أمامكِ سكةٌ ليست بالقصيرة، فيها عقبات، ولكن انظري (مُقربة الفنجان من سنية) .. هناك تنتظركِ السلامة.

وهزم الرعد فكاد الفنجان يسقط من يد العجوز، ولكن محمد ضحك سائلًا: ومتى يا أم سيد تزول العقبات؟

وكانت سنية المهدي تُصعِّد بصرها وتصوِّبه ما بين السماء والحديقة، فتطوعت بالإجابة قائلة: عندما يتوقف الرعد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤