الاعتماد على النفس

لا تجشم نفسك مشقة البحث فيما وراءها.

الإنسان نجم نفسه؛
والروح التي تستطيع أن تخلق إنسانًا أمينًا كاملًا،
تسيطر على كل ضوء، وكل أثر، وكل مصير؛
ليس هناك لهذا الإنسان ما يقع مبكرًا أو متأخرًا.
إنما فعالنا ملائكتنا، طيبة أو خبيثة،
وهي ظلالنا المحتومة التي تسير إلى جوارنا أبدًا.
مقدمة «نصيب الإنسان الأمين» لبومنت وفلنتشر

***

ألقِ الطفل الرضيع فوق الصخور،
وأرضعه من ثدي أنثى الذئب؛
ودعه يقضي الشتاء مع الصقر والثعلب،
تدب القوة في يدَيه والسرعة في قدَمَيه.

قرأت ذات يوم قريب بعضَ أبيات من الشعر كتبها مصور مشهور فوجدتها أصيلة لا أثر للتقليد فيها. والروح دائمًا تستمع إلى العِبرة والموعظة في مثل هذه الأبيات مهما يكن موضوعها. والعاطفة التي تمليها أعظم قيمة من أية فكرة قد تحتويها. إن العبقرية هي أن تعتقد في رأيك، وأن تعتقد أن ما هو صادق في قلبك الخاص صادق لجميع الناس. انطق بعقيدتك الخفية تكن هذه العقيدة قولًا معقولًا للعالم أجمع؛ لأن الباطن يصبح ظاهرًا حينما يحين الحين، يوم ينُفخ في الصور يذكر كلُّ امرئ ما قدمت يداه. إن أكبر فضل نعزوه إلى موسى وأفلاطون وملتن، هو أنهم أهملوا الكبت والتقاليد كل الإهمال، ونطقوا بما دار في خَلَدهم لا بما دار في خَلَد الناس، كلٌّ وفْق ما أملاه عليه عقله. يجب على المرء أن يتعلم أن يُلاحِظ ويرقب ذلك الشعاع من الضوء الذي يومض في ذهنه من الداخل، أكثر مما يرقب بريق السماء التي يحلِّق فيها الشعراء والحكماء. ولكن المرء مع ذلك ينبذ رأيه عن غير علم؛ لأنه رأيه الخاص. وإنا لنتبين في كل عمل من أعمال العبقرية آراءنا المنبوذة وتعود إلينا هذه الآراء في نوع من الجلال غريب عَنَّا. إن الأعمال الفنية العظمى تلقي علينا درسًا له أثره في نفوسنا، وذلك الدرس هو أننا نتعلم كيف نتمسك بانطباعنا التلقائي في صلابة مشوبة بروح طيبة، وبخاصة عندما تكون جميع الأصوات في غير جانبنا، وإلا فسوف نجد أن شخصًا غريبًا سيقول في الغد في حكمة نافذة نفس ما فكرنا فيه وأحسسناه دائمًا، ونرغم على أن نتقبل في خجل رأينا الخاص صادرًا إلينا من غيرنا.

وتمر فترة في تعليم كل فرد يصل فيها إلى الاعتقاد بأن الحسد جهل، والتقليد انتحار، وأنه يجب عليه أن يأخذ نفسه على أنها نصيبه، خيرًا كان أو شرًّا، وأن الدنيا الواسعة قد تكون مليئة بالخير، إلا أن الحبة الواحدة من الحنطة المغذية لا تأتيه إلا عن طريق عمله الذي يهبه قطعةَ الأرض التي أُعطيت له ليفلحها. إن القوة التي تسكن بين جنبَيه جديدة في الطبيعة، ولا يعرف أحد سواه ماذا بوسعه أن يعمل، ولا يعرف هو نفسه إلا بعد التجربة. وليس عبثًا أن يكون لوجهٍ من الوجوه أو لشخصيةٍ أو لحقيقةٍ ما، أثرٌ كبير في نفسه، في حين أن غيرها لا يكون له مثل هذا الأثر. وليس هذا النحت في الذاكرة بغير استعداد ثابت سابق؛ فلقد وُضعت العين بحيث يقع عليها الشعاع من الضوء فتستطيع أن تختبر هذا الشعاع المعيَّن. إننا لا نعبِّر عن أنفسنا إلا نصف تعبير، ونخجل من تلك الفكرة المقدسة التي يمثلها كلٌّ مِنَّا. ويجب علينا أن نثق آمنين أن هذه الفكرة منسقة تبشر بأطيب النتائج، ولكن الله لا يُظهر عمله عن طريق الجبناء. يشعر المرء بالفرج والسرور عندما يضع قلبه في عمله ويبذل قصارى جهده. وما يقوله أو يفعله بغير ذلك لا يريح نفسه. فهذا عمل لا ينقذ صاحبه. وهو في محاولته إياه يفتقد قوَى عقله، لا يصادقه الفكر، ولا يحالفه ابتكار أو أمل.

ثق بنفسك: كل قلب ينبض بهذا الرباط الحديدي. وارضَ بالمكانة التي أوجدتها لك العناية الإلهية، وبمجتمع معاصريك، وبارتباط الحوادث. هذا ما فعله عظماء الرجال دائمًا؛ فقد أسلموا أنفسهم كالأطفال إلى عبقرية عصرهم، فأوهموا مداركهم بأن الشيء الذي يُوثَق فيه كل الثقة مستقرٌّ في قلوبهم، يعمل عن طريق أيديهم ويسود كيانهم كله. ونحن اليوم رجال، ويجب أن نقبل لعقولنا الكبيرة هذا الحكم الإلهي نفسه الذي يفوق الإدراك. لسنا صغارًا مرضى في زاوية محمية، ولسنا جبناء نَفِرُّ من الثورة. وإنما نحن مرشدون ومخلِّصون ونافعون، نخضع لما يبذله العلي العظيم، ونتقدم فوق الفوضى وفوق الظلام.

أي دليل قوي ذلك الذي تقدِّمه لنا الطبيعة تعزيزًا لهذا الرأي، في وجه الأطفال والرُّضع — بل والوحوش — وسلوكهم! هؤلاء لا يملكون ذلك العقل المنقسم العصي، ذلك الإنكار للعاطفة؛ لأن حسابنا قد قدَّر القوة والوسائل التي تعترض أغراضنا. ولما كان عقلهم كلًّا، فإن عينهم لم تُقهر بعدُ، وعندما نتطلع إلى وجوههم تتبلبل خواطرنا. الطفولة لا تخضع لأحد، بل الكل يخضع لها، ولذا فالرضيع الواحد يساوي أربعة أو خمسة من الراشدين الذين يرغون ويلعبون معه، وبدرجةٍ لا تقل عن ذلك سلَّح الله الشبابَ والمراهقة والرجولة بحدَّتها وفتنتها، وجعلها محسودة جليلة، لا تُهمل مطالبها إذا وقفت وحدها. لا تحسب أن الشباب لا قوة له؛ لأنه لا يستطيع أن يتحدث إليك أو يتحدث إليَّ. أنصتوا! إن صوته في الغرفة المجاورة واضحٌ مؤكد بدرجة كافية. يبدو أنه يعرف كيف يتحدث إلى معاصريه، فإن كان خجولًا أو مقدامًا إذن فلسوف يعرف كيف يستغني عَنَّا نحن الذين نَكبُره.

إن استهتار الصبية الواثقين من غدائهم، والذين يزدرون — كما يزدري السادة — أن يعملوا أو يقولوا شيئًا يسترضون به أحدًا، هو الموقف الصحيح للطبيعة البشرية. الصبي في غرفة الاستقبال كالمتفرج في ساحة المسرح: مستقل غير مسئول، ينظر من زاويته إلى الأشخاص والوقائع الذين يمرون به، فيفحصهم ويحكم عليهم بما يستحقون بطريقة الأطفال السريعة الموجزة، فهم طيبون أو خبيثون، أو شائقون أو مملون، أو فصحاء، أو متعبون. ولا يعرقل نفسه البتة بالنتائج أو المنافع، وإنما يُصدِر حكمًا مستقلًّا صادقًا. ويجب عليك أن تتملقه، فهو لا يتملقك. ولكن كأن وعي الإنسان قد أودع هذا الإنسان سجنًا. فبمجرد ما يعمل أو يتكلم بشكل يبهر الأبصار، يمسي شخصًا مسئولًا، ترقبه المئات بعطفها أو مقتها، المئات التي يقيم الآن لمحبتهم وزنًا. وليس له عن ذلك معدًى. آه لو استطاع أن يرتد ثانية إلى حيدته! ومِنْ ثَمَّ فإن من يستطيع أن يتحاشى كل ارتباط، ويُلاحِظ مرة أخرى — بعدما لاحظ أوَّلًا — بنفس السذاجة التي لم تتأثر ولم تنحَز ولم ترتشِ ولم تخشَ شيئًا، مثل ذلك الرجل لا بد أن يكون جليلًا دائمًا. إنه ينطق بآرائه في كلِّ ما يمر به من أمور. ولما كانت هذه الآراء لا تُرى كأنها خاصة، وإنما ضرورية، فإنها تهبط كالسهام في آذان الناس، وتشيع الذعر في نفوسهم.

تلك هي الأصوات التي نصغي إليها في عزلتنا، ولكنها تنخفض ولا تُسمع عندما ندخل العالم. فالمجتمع في كل مكان يتآمر ضد رجولة كل فرد من أعضائه. المجتمع شركة مساهمة يتفق أعضاؤها — لحسن ضمان الخبز لحامل السهم — على أن يتنازل الآكل عن حريته وثقافته. والفضيلة في أكثر الأمور هي الانسجام مع الآخرين، ولكن الاعتماد على النفس على نقيض ذلك، وهي لا تحب الحقائق والرجال المبدعين، ولكنها تحب الأسماء والعادات.

ومن أراد أن يكون رجلًا ينبغي أن ينشق على السائد المألوف. ومن يحب أن يجمع ثمر النخيل الخالد ينبغي ألا يعوقه ما يسميه الناس خيرًا، بل يجب عليه أن يكتشف إن كان ذلك خيرًا حقًّا. لا شيء في النهاية مقدس سوى نزاهة عقلك، حرِّر نفسك لنفسك يؤيدْك العالم. أذكر إجابةً دُفعتُ وأنا صغير جِدًّا إلى أن أُجيب بها على ناصحٍ له قيمته اعتاد أن يلحف عليَّ بمبادئ الكنيسة القديمة العزيزة. عندما كنت أقول ما لي ولقداسة التقليد إذا كنت أعيش كل حياتي من الداخل؟ اقترح صاحبي قائلًا: «ولكن هذه الدوافع قد تكون سفلية لا علوية.» فأجبت بقولي: «إنها لا تبدو لي كذلك، ولكني إن كنت ابن الشيطان، فسوف أعيش إذن عيشة الشيطان.» ليس عندي قانون مقدس سوى قانون طبيعتي. الخير والشر اسمان يمكن في سهولة شديدة أن ينتقلا إلى هذا أو ذاك. والشيء الوحيد الصحيح هو ما يتبع تكويني، والشيء الوحيد الخطأ هو ما يقاومه. وعلى المرء أن يثبت أمام كل معارضة، كأن كل شيء اسمي زائل ما عداه. وإنه ليخجلني أن أرى كيف يسهُل علينا أن نستسلم للشارات والأسماء وللمجتمعات الكبيرة والنُّظم البائدة. كل فرد دمث الأخلاق، حلو الحديث، يؤثر في نفسي ويستميلني أكثر مما ينبغي. يجب أن أسير معتدلًا حيًّا، وأن أنطق بالحق الصُّراح بكل وسيلة. وإذا ارتدى الحقد والغرور ثياب حب البشر، فهل يجوز علينا ذلك؟ وإذا تحمس متعصب غاضب لأية قضية، فلماذا لا أقول له: «اذهب، كن ذا طبيعة طيبة ومتواضعًا. كن فاضلًا، ولا تلوِّن مطامعك الجامدة الجافية بهذا العطف الكاذب.» هذه التحية خشنة لا رقَّة فيها، ولكن الحق أجمل من التظاهر بالحب. يجب أن يكون للخير عندك حافز — وإلا فهو لا شيء — يجب أن نبشر بمبدأ كراهية الفاسد الزائف، نقابل به مبدأ الحب إذا نضب معينه وفترت حرارته. وإني لأتحاشى أبي وأمي وزوجتي وأخي إذا دعاني عقلي إلى ذلك. وإني لأكتب على عتبة الدار: «هذا هواي.» وآمل أن يكون شيئًا أحسن من الهوى في النهاية، ولكنا لا نستطيع أن نقضي اليوم في الشرح. ولا تنتظروا مني أن أبيِّن السبب لماذا أبحث عن الرفاق أو لماذا أستبعدهم. وكذلك لا تذكروا لي — كما ذكر اليوم لي رجل طيب — واجبي في رفع مستوى الفقراء. هل هم فقرائي؟ وإني لأقول ذلك يا أيها الرجل الغافل الذي يحب البشر، إني أحقد على الريال وعُشْر الريال، والسنت الذي أعطيه إلى قومٍ لا يتعلقون بي ولا أتعلق بهم. هناك طائفة من الناس أُباع لهم وأُشترى لما بيني وبينهم من قرابة روحية، من أجلهم أذهب إلى السجن إن دعا الداعي. ولكن صدقاتكم المتنوعة العامة، وتعليم الأغبياء في الكليات، وبناء النوادي لغرض التظاهر الذي يتمسك به الآن الكثير، والإحسان للسكارى، وجمعيات الإعانة — التي تُعد بالألوف — هذه الجمعيات أعترف في خجل أني أحيانًا أضعف وأهبها الدولار، إلا أنه دولار أثيم سوف تكون عندي الرجولة قريبًا فأمنعه.

الفضائل في تقدير الشعب هي الاستثناء وليست القاعدة. هناك الرجل وهناك فضائله. يعمل الناس ما يُسَمَّى بالفعل الطيب، كعملٍ فيه شجاعة أو إحسان، كما يدفعون الغرامة يكفرون بها عن عدم ظهورهم يوميًّا في الصفوف. يقومون بأعمالهم للاعتذار أو للتخفيف عن حياتهم في الدنيا، كما يدفع العجزة والمجانين أجرًا عاليًا لإبرائهم؛ ففضائلهم كفارة. ولست أريد أن أكفِّر، ولكني أريد أن أعيش. حياتي لذاتها وليست للتظاهر. وإني لأُوثر جِدًّا أن تكون من مستوًى منخفض، لكي تكون صادقة ثابتة، على أن تكون مضيئة ولكنها غير ثابتة. أريدها أن تكون صحيحة حلوة، ليست بحاجة إلى غذاء وإراقة دماء. إني أطلب دليلًا مبدئيًّا على أنك رجل، وأرفض أن يجيبني هذا الرجل إلى مطالبي بفعاله. وأعرف عن نفسي أنه لا فارق عندي إن كنت أؤدي أو أمتنع عن تلك الأفعال التي تُعد ممتازة. لا أستطيع أن أوافق على أن أدفع ثمنًا لامتيازٍ ما حيث يكون لي حق ذاتي. وقد تكون مواهبي قليلة ووضيعة، ولكني أنا نفسي فعلًا، ولست بحاجة إلى شهادة ثانوية لأن أثبت ذلك لنفسي أو أن أثبته لرفاقي.

كل ما يهمني، هو ما ينبغي لي أن أعمله، لا ما يفكر فيه الناس. وهذه القاعدة صارمة، سواء في الحياة الواقعة أو الحياة العقلية. ولذا فهي تصلح لأن تكون تمييزًا كاملًا بين العظمة والوضاعة. ويزيد هذه القاعدة عسرًا أنك تلقى دائمًا أولئك الذين يظنون أنهم يعرفون واجبك خيرًا مما تعرفه أنت. ومن الميسور أن تعيش في الدنيا وفْقًا لآرائها. ومن الميسور في العزلة أن نحيا وفقًا لآرائنا، بَيْدَ أن الرجل العظيم هو ذلك الذي يحتفظ وسط الجماهير باستقلال العزلة في سهولة تامة.

والاعتراض على اتِّباع العادات التي أصبحت ميتة بالنسبة إليك هي أن ذلك يشتت قواك، ويفقرك وقتك، ويمحو أثر شخصيتك. إذا أنت حافظت على كنيسة ميتة، وأسهمت في جمعية إنجيلية ميتة، وأعطيت صوتك مع حزب كبير إمَّا مع الحكومة أو ضدها، وأعددت مائدتك كما يفعل أصحاب البيوت السفلة، فإني تحت كل هذه الستائر أجد مشقة في أن أكشف عن حقيقتك تمامًا كإنسان. وتُحرم حياتك الصحيحة — بطبيعة الحال — من قوة كبرى. ولكنك إن أديت عملك عرفتك وعززت نفسك. ينبغي لك أن تدرك أنك كالأعمى حينما تلعب دور التبعية لغيرك. إذا عرفتُ طائفتك توقعتُ جدلك. وإني لأستمع إلى الواعظ يعلن أن مادته وموضوعه هما من مستلزمات نظام من النُّظم الخاصة بكنيسته. أفلا أعرف مقدمًا أنه لا يستطيع أن يقول كلمة جديدة من تلقاء نفسه؟ أفلا أعرف أنه لا يفعل ذلك، برغم كل ذلك التظاهر بفحص أسس هذا النظام؟ وألا أعرف أنه عاهد نفسه ألا ينظر إلا إلى جانب واحد، وهو الجانب المسموح به، لا كرجل ولكن كقسيس الدائرة الدينية؟ إنما هو محامٍ محافظ، وهذه الهيئة التي يتخذها وهو يعتلي المنصة تظاهر أجوف. ثم إن أكثر الناس قد عصبوا أعينهم بنوع من أنواع المناديل، وربطوا أنفسهم إلى إحدى هذه الشيع الفكرية. هذه التبعية لا تجعلهم مخطئين في قليل من التفصيلات، أو مبدعين لقليل من الأكاذيب، ولكن مخطئين في التفصيلات كلها. كلُّ ما لديهم من صدق ليس صادقًا تمامًا. والاثنان عندهم ليسا الاثنين الحقيقيين، وأربعتهم ليست الأربعة الحقيقية، ولذا فإن كل كلمة ينطقون بها تضايقنا، ولا نعرف من أين نبدأ كي نقوِّمهم، وفي الوقت عينه لا تتوانى الطبيعة في إمدادنا بزي السجن الذي يرتديه الحزب الذي ننتمي إليه. إننا نبدو في ملامحَ وأشكالٍ متشابهة، ونحصل تدريجًا على أصدق ملامح الغباء. وهناك بنوع خاص تجربة قاتلة لها أثرها الملحوظ في التاريخ العام، وأعني بها «ناحية الإطراء السخيفة»، تلك الابتسامة المفتعلة التي تبدو علينا في صحبة الجماعة حينما لا نشعر بالراحة عندما نجيب على حديثٍ لا يشوقنا. إن العضلات حينئذٍ لا تتحرك حركة تلقائية، وإنما يحركها تعمُّد غاصب، فتتصلب في خطوط الوجه، وتُحدِث إحساسًا لا يُرغب البتة فيه.

إن الدنيا تضربك بسياط الغم إذا أنت لم تَسِر في الرَّكْب. ولذا فمن واجب المرء أن يتعلم كيف يجابه الوجوه المريرة؛ فالمتفرجون ينظرون إليه شزرًا في الطريق العام أو في حجرة استقبال الصديق. وإن كان هذا النفور منشؤه ازدراء أو مقاومة مثلما لديه فإنه يعود إلى بيته بوجه مكتئب. غير أن وجوه الجماهير المريرة، كوجوهها السمحة، ليس لها سبب عميق، ولكنها تتلبَّس بها أو تنزعها وفقًا لهبوب الريح أو توجيه الصحف. ومع ذلك فإن سخط الجمهور أشد رعبًا من سخط الشيوخ أو الكلية الجامعية. ومن اليسير على رجل حازم يعرف العالم أن يصبر على سخط الطبقات المثقفة، فسخطها محتشم حكيم، فهم جبناء لأنهم هم أنفسهم عرضة للتجريح. ولكن إذا أُضيف إلى غضبهم النسوي سخط العامة، إذا أثرَت الجاهل والفقير، وإذا أنَّتْ وضجت القوى الوحشية غير العاقلة التي تكمن خلف المجتمع، كنتَ بحاجة إلى اعتياد النخوة وعقيدة الدين، كي تواجهها متألِّهًا على أنها من توافه الأمور التي ليس من ورائها خطر.

والفزع الآخر الذي يبعدنا عن ثقتنا بأنفسنا هو ثباتنا على حال واحدة، أو تقديسنا لأعمالنا وأقوالنا الماضية؛ لأن أعين الآخرين ليست أمامها حقائقُ أخرى تقدِّر بها مدارنا سوى ماضي فِعالنا، ونحن نكره أن نُخيِّب رجاءهم.

ولكن لماذا تُبقي على رأسك فوق كتفك؟ ولماذا تحمل عبء ذاكرتك — وكأنك تحمل جثة هامدة — خشيةَ أن تناقض شيئًا بُحت به في مكان عام؟ هب أنك ناقضت نفسك، ماذا وراء ذلك؟ يبدو أن من قواعد الحكمة ألا تعتمد على ذاكرتك وحدها، حتى في أفعال الذاكرة البحتة، ولكن يجب أن تزج بالماضي في أحكامك وسط الحاضر الذي يملك ألف عين، وتعيش دائمًا في يوم جديد. إنك في عقائدك الميتافيزيقية قد أنكرت الشخصية للإله، ومع ذلك فعندما تأتي الحركة المقدسة للروح، استسلم لها بقلبك وحياتك، حتى إن أكسبت الإله شكلًا ولونًا، وتخلَّ عن نظريتك كما تخلَّى يوسف عن قميصه في يد العاهرة، ثم اهربْ.

إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة، الذي يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة ورجال الدين. أمَّا الروح العظيمة فليس لها البتة شأن بهذا الثبات. وإلا فكأنها تأبه لظلها فوق الحائط. انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظٍ قوية، وانطق غدًا بما تفكر فيه غدًا في ألفاظٍ قوية كذلك، حتى إن ناقض كلَّ ما قلته اليوم — وإذن فثِق أنك سوف يُساء فهمك — وهل من شر الأمور أن يُساء فهمك؟ لقد أُسيء فهم فيثاغورس، وكذلك سقراط ويسوع ولوثر وكوبرنكس وغاليليو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة، تجسدت. لكي تكون عظيمًا لا بد أن يُساء فهمُك.

لست أحسِب أن أحدًا من الناس يستطيع أن يناقض طبيعته. وكل نزوات الإرادة عند الإنسان مُحاطة بقانون وجوده، كما أن التواءات الإنديز والهملايا تافهة في استدارة الكرة الأرضية. ولا يهم كيف تقيس المرء أو تختبره. الشخصية تشبه الموشح العبري المعكوس أو الموشح الإسكندري، إن قرأته إلى الأمام أو إلى الوراء أو عرضًا فإن هجاءه لا يتغير. وفي هذه الحياة السارة المحدودة الجامدة التي وهبني الله إياها، دعني أسجل كلَّ يوم آرائي المخلصة دون نظر إلى المستقبل أو إلى الماضي، ولست أشك في أنها سوف تكون متناسبة حتى إن لم أقصد إلى ذلك وإن لم أدركه. يجب أن ينم كتابي عن رائحة الصنوبر وأن يرن بصدى طنين الحشرات. والسنوسوة التي فوق نافذتي يجب أن تسهم بالخيط أو بالقش الذي تحمله في منقارها في نسيجي كذلك. يجب أن يرانا الناس على حقيقتنا؛ فإن ما تعلِّمه الشخصية فوق ما تمليه الإرادة. ويتصور الناس أنهم يُظهرون فضائلهم ورذائلهم بالعمل العلني فقط، ولا يدركون أن الفضيلة والرذيلة ترسل الأنفاس في كل لحظة.

ولا بد أن يكون هناك اتفاق في الأعمال مهما تنوعت، حتى يكون كلٌّ منها صادقًا وطبيعيًّا في ساعته؛ لأن الأفعال التي تصدر عن إرادة واحدة تتسق مهما بدت متباينة. وهذا التنوُّع لا يُرى عن كثب أو على ارتفاع قليل من الفكر؛ فهناك اتجاه واحد يوحِّد بينها جميعًا. إن رحلة أحسن السفن خط متعرج في مائة اتجاه. انظر إلى الخط من بُعْدٍ كافٍ يستقِم في متوسط اتجاهه. إن عملك الصادق يفسِّر نفسه، كما يفسر أعمالك الصادقة الأخرى، ولكن تبعيتك لا تفسر شيئًا. اعمل بمفردك، وما عملته حتى الآن بمفردك يبررك الآن. إن العظمة تنظر إلى المستقبل. ولو استطعت أن أثبت اليوم ثبوتًا كافيًا على فعل الصواب، وازدريت الأعين، فلا بد أن أكون قد فعلت صوابًا كثيرًا فيما مضى أدفع به عن نفسي اليوم. ومهما يكن من شيء فعليك أن تفعل الصواب الآن. احتقر المظاهر دائمًا، وإنك لتستطيع ذلك دائمًا. إن قوة الشخصية قوة متجمعة. كل ما انقضى من أيام الفضيلة يفعل فعله الصحيح في ذلك. ما الذي يُكسِب أبطال مجلس الشيوخ وأبطال الميدان جلالهم الذي يملأ الخيال؟ هو الإحساس بسلسلة من الأيام العظيمة والانتصارات القديمة. إنها تلقي ضوءًا متحدًا على الرجل العامل الذي يتقدَّم الناس، وكأن حرسًا ظاهرًا من الملائكة يحدوه، وذلك هو ما يُلقي الرعد في صوت تشاتهام، والكرامة في مسلك واشنجتن، وما يلقي بأمريكا في عين آدمز. الشرف مقدَّس لدينا؛ لأنه لا يتغير بتغيُّر الأيام ولكنه فضيلة أزلية. نعبده اليوم؛ لأنه ليس ابن اليوم. نحبه ونقدِّم له الولاء؛ لأنه لا يكيد لحبنا وولائنا، ولكنه مستقل استقلالًا ذاتيًّا، مشتق من نفسه، ولذا فهو من سلالة طاهرة قديمة، حتى إن اتصف به شخص صغير السن.

وإني لآمل أن تكون هذه الأيامُ آخرَ عهدنا بالتبعية والثبات. ولنسجل هاتين الكلمتين في الجريدة الرسمية ونهزأ بهما بعد الآن. دعنا نستمع إلى صفير المزمار الإسبرطي بدلًا من الطبل الذي يُدق إيذانًا ببدء الغداء. دعنا لا ننحني ولا نعتذر بعد اليوم. إن رجلًا عظيمًا قادم ليأكل في بيتي، فلست أود أن أسُرَّه، وإنما أود لو أراد سروري. سوف أقف هنا أمثِّل الإنسانية، وسوف أجعلها صادقة وإن جعلتها رفيقة. دعنا نعتب على ضَعف عصرنا الشديد وقناعته الذليلة، ولنُلقِ في وجه التقاليد والمهنة والعمل الذي تؤديه تلك الحقيقة التي هي مغزى التاريخ، وهي أن هناك مفكرًا وعاملًا عظيمًا مسئولًا يعمل حيثما يعمل الإنسان، وأن الرجل الصادق لا ينتمي إلى زمان أو مكان آخر، وإنما هو مركز الأشياء. حينما يكون تكون الطبيعة، وهو الذي يقيسك ويقيس الناس والحوادث جميعًا. إن كل فرد في المجتمع — عادة — يذكرنا بشيء آخر أو بشخص آخر، ولكن الشخصية، والواقع، لا تذكرك بشيء آخر. إنها تحل محل الخليقة كلها. ويجب أن يبلغ المرء هذا الحد كي يجعل الظروف كلها تافهة.

كل رجل حقيقي سبب، وقُطْرٌ، وعصر. يحتاج إلى مساحات وإعداد ووقت لا ينتهي كي ينجز خطته كاملة، ويبدو أن الأجيال القادمة تتبع خطاه كرتلٍ من الأتباع. يُولد الرجل القيصر، وبعد ذلك بعدة عصور تكون لدينا الإمبراطورية الرومانية. ويُولد مسيح، ثم تنمو ملايين العقول وتلتصق بعبقريته حتى تذهله الفضيلة وما يستطيعه الإنسان. المذهب هو الظل الممتد لرجل واحد، كالرهبانية فهي ظِلُّ الناسك أنتوني، والإصلاح الديني ظِلُّ لوثر، وطائفة الأصحاب ظِلُّ فوكس، والنظامية ظِلُّ وزلي، وإلغاء الرق ظِلُّ كلاركسون. ولقد سمى ملتن سكبيو «أوج روما». والتاريخ كله يرتد بأسره بسهولة جِدًّا إلى سيرة أشخاصٍ قلائلَ عظامٍ جادين.

فليعرف الإنسانُ إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدمَيه. دعه لا يتطلع إلى غيره ولا يسرق ولا يتوارى هنا أو هناك وعليه مسحة الصبي يطلب الإحسان، أو ابن الزنا، أو المتطفل، في العالم الذي يُوجد من أجله. ولكن رجل الشارع الذي لا يجد قيمة في نفسه تُوازن القوة التي شيَّدت برجًا أو نحتت إلهًا من المرمر، يشعر بالفقر عندما ينظر إلى هذه الأشياء. والقصر أو التمثال أو الكتاب الثمين يبدو له غريبًا ممتنعًا، كالبضاعة الزاهية، وكأنها تقول له: «مَن أنت يا سيدي؟» ومع ذلك فكل أولئك له، يتطلب التفاته، ويلتمس من مواهبه أن تبرز لكي تملك. تأتمر الصورة بأمري ولا أأتمر بأمرها، وإنما عليَّ أن أحكم على قيمتها. إن تلك القصة الشائقة التي تقول إن مدمنًا من مدمني الخمور وُجد مخمورًا إلى حد الموت في الطريق، فحُمل إلى بيت الدوق، ثم اغتسل وارتدى الملابس واستلقى في سرير الدوق، ولما استيقظ عُومل بالاحتفال والخضوع كما يُعامل الدوق، وأُلقي في رُوعه أنه كان في غير وعيه، هذه القصة تَدين بشيوعها إلى أنها ترمز رمزًا حسنًا إلى حالة الإنسان الذي يكون في الدنيا كأنه مدمن خمر، ولكنه يصحو بين الفينة والفينة، ويمارس عقله، ويجد نفسه أميرًا حقًّا.

إن قراءتنا ضعيفة منافقة. وفي التاريخ يخدعنا خيالنا؛ فالمُلك والسيادة، والنفوذ والضيعة، كلماتٌ لها بريق ليس للفرد العادي جون أو إدوارد في البيت الصغير وعمل اليوم المألوف. ولكن حاجات الحياة هي بعينها لكليهما، والمجموع الكلي لكليهما هو عينه، فلماذا إذن كل هذه الرعاية لألفرد وسكاندربج وجستافس؟ هب أنهم كانوا فضلاء، فهل تحلوا بفضيلتنا؟ إن خطرًا عظيمًا يتوقف على عملك الخاص اليوم، كما كانت لخطواتهم العامة المشهورة خطورتها. عندما يعمل الأفراد بأفكارٍ مبتكرة ينتقل البريق من أعمال الملوك إلى هؤلاء السادة من الأفراد.

لقد تعلمت الدنيا من ملوكها الذين جذبوا أعين الأمم. تعلمت الدنيا من هذا الرمز الضخم الاحترام المتبادل الذي يستحقه الإنسان من أخيه الإنسان. فكما أن الإخلاص الأعمى الذي حمله الناس في كل مكان لِلمَلك أو النبيل أو المالك العظيم، فسمحوا له أن يسير بينهم بقانون من وضعه، وأن يعمل للناس والأشياء مقياسًا من عنده، ويَقْلبَ مقاييس غيره، ولا يدفع ثمنًا للمنافع مالًا وإنما يدفع شرفًا، ويمثل القانون في شخصه، ذلك الإخلاص كان الرمز الهيروغليفي الذي تبين به الناس في شيء من الغموض ما لهم من حق وقيمة، فتبينوا حق كل إنسان.

إن الجاذبية التي يتصف بها كل عمل مبتكر يمكن تفسيرها عندما نبحث في علة الثقة بالنفس. مَن هو صاحب هذه الثقة؟ وما هي هذه النفس الأصيلة التي نعتمد عليها في كل شيء؟ وما طبيعة وما نفوذ ذلك النجم الذي حيَّر العلم، والذي لا يتغير، والذي يخلو من العناصر التي يمكن حسابها، ذلك النجم الذي يرسل شعاعًا من الجمال حتى إلى الأعمال التافهة الفاسدة، إن بدت عليها أقل علامة من علامات الاستقلال؟ إن البحث يهدينا إلى ذلك المنبع، الذي هو لب العقل، وجوهر الفضيلة والحياة في وقت واحد، الذي نسميه التلقائية أو الغريزة. إننا ندعو هذه الحكمة الأولى ﺑ «البداهة»، في حين أننا نُسَمِّي كلَّ ما عرفنا بعد ذلك ﺑ «التعاليم». في تلك القوة العميقة — وهي القوة الحقيقية النهائية التي لا تخضع للتحليل — تجد كل الأشياء أصلها المشترك؛ لأن الإحساس بالوجود الذي يظهر في ساعات الهدوء في الروح بطريقةٍ لا نعرفها، ذلك الإحساس لا يختلف عن الأشياء، أو المكان أو الضياء، أو الزمان، أو الإنسان، ولكنه يتحد مع هذه الأشياء، ومن الواضح أنه يخرج من المصدر عينه الذي خرجت منه الحياة والوجود. إننا في أول الأمر نشارك الأشياء حياتها التي توجد بها، ثم نراها بعد ذلك مظاهر في الطبيعة وننسى أننا قاسمناها علتها، هنا مصدر العمل والفكر. هنا الرئتان لذلك الإلهام الذي يَهِب الإنسانَ الحكمة، والذي لا يمكن إنكاره إلا مع الإلحاد والكفر أننا ننطوي تحت ذكاء عام نتقبل حقيقته، ولسنا سوى أعضاء لنشاطه. وحينما نتبين العدالة أو نتبين الصدق لا نعمل شيئًا بأنفسنا، ولكنا نفسح السبيل لأشعته. فإن سألنا من أين يأتي هذا، وإن أردنا أن نمحِّص الروح التي كانت السبب، شطحت بنا الفلسفة عن الصواب. إن وجوده أو غيابه هو كل ما نستطيع أن نؤكده. وكل إنسان يميز بين أعمال عقله الإرادية ومدركاته اللاإرادية، ويعرف أن أعماله اللاإرادية جديرة بالإيمان الكامل. إنه قد يخطئ في التعبير عنها، ولكنه يعرف أن هذه الأشياء هي كذلك، كالليل والنهار، لا جدال فيها. إن تحصيلي وأعمالي المقصودة ليست إلا عابرة. إن أسخف الأحلام، وأضعف العواطف الطبيعية، تستحق مني البحث والتقدير. ولكن الذين لا يفكرون يناقضون ما تقرره الحواس كما يناقضون ما تقرره الآراء، بل هم أقرب إلى مناقضة ما تقرره الحواس؛ ذلك لأنهم لا يفرقون بين الحس والرأي. إنهم يتوهمون أنني أختار رؤية هذا الشيء أو ذاك. بَيْدَ أن الحس لا يخضع للأهواء، وإنما هو حتمي. إن أنا رأيت خاصة من الخواص، رآها أطفالي من بعدي، ثم رآها الناس جميعًا بمرور الزمن، حتى إن حدث أن أحدًا لم يرَ تلك الخاصة من قبلي؛ ذلك لأن إحساسي بها حقيقة واقعة كالشمس.

إن العلاقات بين روح الإنسان والروح المقدس مباشرة، وحرام علينا أن نقيم بينهما الوسائط. إن الله عندما يتكلم لا يتصل بشيء واحد، إنما يتصل بجميع الأشياء. إنه يملأ الدنيا بصوته، وينشر النور في الطبيعة والزمان والأرواح من مركز الفكرة الراهنة، ويعيد تاريخ كل شيء ويعيد خلق كل شيء. وعندما يكون العقل ساذجًا، ويتقبل الحكمة الإلهية، تزول الأشياء القديمة، فتسقط الوسائل والمعلمون والنصوص والمعابد؛ فهو يعيش الآن ويتشبع بالماضي والمستقبل في الساعة الراهنة، ويصبح كل شيء مقدسًا باتصاله به، لا فرق بين شيء وشيء. كل الأشياء تعود إلى مركزها بعلتها، كما تختفي المعجزات الصغيرة الخاصة في زحمة المعجزة المطلقة. ولذا فإذا زعم إنسان أنه يعرف الله ويتكلم عنه، ويعود بك إلى مصطلحات أمة قديمة بالية في بلد آخر، أو في عالم آخر، فلا تصدقه. هل بذرة البلوط خير من شجرة البلوط، والشجرة هي كمال البذرة وتمامها؟ وهل الوالد خير من الطفل الذي أودعه كيانه الناضج. من أين إذن جاءت هذه العبادة للماضي؟ إن القرون تتآمر ضد صحة الروح وسلطانها. وليس المكان والزمان سوى ألوان فيزيقية تخلقها العين، ولكن الروح ضياء، حيث تكون يكون النهار، وحيث كانت يكون الليل. وليس التاريخ إلا سفاهة وأذًى إذا زاد على أن يكون قصة وجودي ومصيري أو مغزاهما.

الإنسان جبان يلتمس المعاذير. إنه لم يَعُد مستقيمًا، ولا يجرؤ أن يقول «إني أفكر» أو «أنا أكون»، وإنما يعيد ما قاله قديس أو حكيم معين، إنه يخجل أمام ورقة العشب أو الزهرة اليانعة. وهذه الورود تحت نافذتي لا تشير إلى ورود سابقة أو إلى ورود أحسنَ منها، إنما هي كما هي ليس لها زمان. هناك الوردة فقط، وهي كاملة في كل لحظة من لحظات وجودها. وقبل أن تتفتح الأكمام تكون حياتها كلها دائبة في حركة، لا تزيد شيئًا عندما تصبح زهرة يانعة، ولا ينقص عنها في شيءٍ الجذرُ الذي لا ورق له. طبيعتها مكتفية بذاتها، وهي تكفي الطبيعة، في كل لحظة على السواء. ولكن الإنسان ينظر إلى المستقبل أو يتذكر الماضي، لا يعيش في الحاضر، ولكنه بعينٍ مرتدة يبكي الماضي، أو لا يلتفت إلى الكنوز التي تتحوطه، فيقف على أطراف أصابعه كي يتنبأ بالمستقبل. إنه لا يستطيع أن يكون سعيدًا قويًّا حتى يعيش هو كذلك مع الطبيعة في الحاضر، فوق الزمان.

يجب أن يكون ذلك واضحًا وضوحًا كافيًا. ولكن انظر إلى العقول القوية تجد أنها لم تجرؤ بعدُ على الإصغاء إلى الله نفسه، إلا إذا تكلم بألفاظ داود وأرميا وبولس وغيرهم. يجب ألا نقيم دائمًا وزنًا كبيرًا لنصوصٍ قليلة أو حيوات قليلة. نحن كالأطفال الذين يرددون من الذاكرة عبارات العجائز والمربين، كما يرددون كذلك عندما يكبرون عبارات ذوي المواهب والشخصيات الذين يقابلونهم مصادفة، ويجهدون أنفسهم لكي يذكروا الكلمات بعينها التي تفوهوا بها، وبعد ذلك، عندما يصلون إلى وجهة النظر التي كانت لدى أولئك الذين صدرت عنهم هذه الأقوال يفهمونهم، ويرغبون في اختفاء الكلمات؛ لأنهم يستطيعون في أي وقت أن يستخدموا ألفاظًا مثلها عندما تحين المناسبة. إذا عشنا عيشة صادقة، شهدنا مشاهدة صادقة. ومن اليسير على الرجل القوي أن يكون قويًّا، كما أنه من اليسير على الضعيف أن يكون ضعيفًا. وعندما ندرك شيئًا جديرًا يسرنا أن نخفف عن الذاكرة عبء الكنوز المكدسة كأنها نفايات عتيقة. وعندما يعيش الإنسان مع الله يصبح صوته عذبًا كخرير الغدير وحفيف نبات القمح.

وأخيرًا بقيت الحقيقة العليا في هذا الموضوع دون ذكر، وربما لا نستطيع ذكرها؛ لأن كل ما نقوله إن هو إلا تذكُّر من بعيدٍ للفطرة الأولى. تلك الحقيقة — في أيسر أسلوب لديَّ الآن للتعبير عنها — هي هذه: حينما يكون الخير قريبًا منك، وحينما تدب فيك الحياة، فإن ذلك لا يكون بطريقة معروفة أو مألوفة، فإنك لن تتبين مواقع خُطى شخص آخر، ولن ترى وجه إنسان، ولن تسمع أي اسم، وإنما طريقك وفكرتك وما لديك من خير كله جديد مستحدث. إنك في ذلك تستبعد ما سبق من مثال وخبرة، وتسير بعيدًا عن الإنسان، ولا تقترب منه. كلُّ إنسان عاش فيما مضى قسيسٌ بَشَّرَ بفكرتك وغاب عن ذكرك. وهي فكرة لا تعبأ بخوف أو أمل؛ لأن هناك شيئًا من الوضاعة حتى في الأمل. وفي ساعة الرؤيا، ليس هناك ما يمكن أن نسميه الاعتراف بالجميل، أو أن نسميه بالسرور ونحن صادقون. إن الروح عندما تعلو العاطفة ترى تماثل الأشياء، وترى العلة الخالدة، وتدرك البقاء الذاتي للحقيقة والصواب، وتهدِّئ نفسها بمعرفتها أن الأشياء جميعًا تسير سيرًا حسنًا؛ فالمساحات الشاسعة من الطبيعة، والمحيط الأطلنطي، والبحر الجنوبي — والفترات الطويلة من الوقت، والسنين والقرون — ليست بذات بالٍ. وهذا الذي أفكِّر فيه وأحُسُّه كان يكمن تحت كل حالة سابقة من حالات الحياة والحوادث، كما هو كامن تحت حاضري، وما نسميه الحياة وما نسميه الموت.

الحياة وحدها تجدي، ولا يجدي ما عشناه فيما سبق. والقوة تزول ساعة السكون، وتوجد في لحظة الانتقال من ماضٍ إلى حالة جديدة، وفي انطلاق الماء من الخليج، وفي تصويب السهام نحو الهدف. وهذه الحقيقة الواحدة تمقتها الدنيا، وهي أن الروح «تصير»؛ لأن ذلك يحط من شأن الماضي دائمًا، ويحيل كل الكنوز إلى فقر، وكل سمعة طيبة إلى عار، ويخلط بين القديس والوغد، ويلقي بيسوع ويهوذا جانبًا على السواء. فلماذا إذن نلغط بالاعتماد على النفس؟ بمقدار ما تكون الروح حاضرة، تكون هناك قوة عاملة وإن تكن خفية. إن الكلام عن الاعتماد ليس سوى طريقة ضعيفة سطحية للكلام. وإنما يجب أن تتكلم عن ذلك الذي يعتمد لأنه يعمل ولأنه كائن. من يركن إلى نفسه أكثر مما أفعل يسيطر عليَّ حتى إذا لم يرفع إصبعه. ولا بد لي أن أدور حوله بجاذبية الأرواح. إننا عندما نتكلم من علو الفضيلة نتوهم أن ذلك من فصاحة اللسان. فنحن لم ندرك بعدُ أن الفضيلة «علو»، وأن الرجل — أو مجموعة الرجال — إذا استكان ورضخ للمبادئ العليا، وجب — وفقًا لقوانين الطبيعة — أن يتسلط وأن يسيطر على جميع المدائن والأمم والملوك والأغنياء والشعراء، الذين لم يستكينوا كما استكان.

هذه هي الحقيقة القصوى التي سرعان ما ندركها في هذا الموضوع، كما ندركها في غيره من الموضوعات، وهي: ذوبان كل شيء في «الواحد» المبارك دائمًا؛ فالوجود الذاتي هو صفة «العلة العليا»، ومن هذا الوجود الذاتي يتألف مقياس الخير بمقدار تغلغله في جميع الصور الدنيا. والأشياء حقيقية بمقدار ما فيها من هذه الصفة. والتجارة والزراعة والقنص وصيد الحوت، والحرب والفصاحة، وقيمة الفرد، هي شيء ما، وتظفر بتقديري كأمثلة لوجود هذه الصفة وأثرها غير المباشر. وإني لأرى القانون عينه يعمل في الطبيعة للبقاء والنمو. القوة في الطبيعة مقياس للحق لا مفرَّ منه. والطبيعة لا تسمح لشيء أن يبقى في ممالكها إذا كان لا يعتمد على نفسه. ونوع الكوكب وقوَّته، وموضعه ومداره، والشجرة المنحنية التي تسترد استقامتها بعد هبوب الريح العاتية، والموارد الحيوية لكل حيوان وكل خضرة، كل أولئك دليل على الروح التي تكفي ذاتها فتعتمد على نفسها.

وهكذا يتركز كل شيء. دعنا لا نتجول، ولنقبع في دورنا مع العلة الأولى. دعنا نُذهِل ونُدهِش أولئك الغوغاء من الناس والكتب والنُّظم بإعلان بسيط للحقيقة المقدسة. مُرِ الغزاة أن يخلعوا نعالهم لأن الله هنا في دخيلة أنفسنا. ولتحكم عليهم بساطتنا، وليبين انصياعنا لقانون أنفسنا فقر الطبيعة وكل ما يصيب الإنسان إذا قيس إلى ثروتنا الأصيلة فينا.

ولكننا اليوم رعاع. لا يقيم الإنسان لإنسانيةٍ وزنًا، ولم يتعلم أن يلزم داره كي يتصل بمحيطه الداخلي، ولكنه يرحل إلى الخارج، يطلب كأسًا من الماء من أوعية الآخرين. يجب أن نسير وحدنا. وإني لأحب الكنيسة صامتة قبل أن تبدأ الصلاة أكثر مما أحب الوعظ أيًّا كان. كيف يبدو الأشخاص بعيدين باردين طاهرين، كل منهم تحوطه رحبة أو معبد. ولذا فلنقعد دائمًا. لماذا نحمل وزر الصديق والزوجة والوالد والولد؟ ألأنهم يجلسون حول موقدنا، أو لأنه يُقال إن في عروقهم نفس دمائنا؟ الناس جميعًا في عروقهم دمائي، ودماؤهم جميعًا في عروقي. ولن أحمل نزق حماقتهم من أجل ذلك، حتى أبلغ حد الخجل. بَيْدَ أن عزلتك ينبغي ألا تكون آلية، بل روحية، أي ينبغي أن تكون سموًّا. إن الدنيا بأسرها أحيانًا تتآمر على أن تشغلك بتوافه ليس لك عنها من محيص. يطرق باب غرفتك الصديق والعميل والطفل والمرض والخوف والحاجة والإحسان في وقت واحد وتقول: «اخرج إلينا.» عندئذٍ الزم حالتك ولا تخرج إلى ما يضطربون فيه. إن القوة التي يملكها الناس لمضايقتي إنما أعطيهم إياها بضَعف في نفسي، هو حب التطلع. لا يستطيع أحد أن يقترب مني إلا عن طريق ما أعمل: «إننا نملك ما نحب، ولكننا بالاشتهاء نحرم أنفسنا من الحب.»

إذا لم نستطِع في الحال أن نرتفع إلى قدس الخضوع والإيمان فلا أقل من أن نقاوم ما يغرينا، ولنعلن الجهاد، ونوقظ الشجاعة والثبات في صدورنا السكسونية. نؤدي ذلك في أوقاتنا الرخية بقولنا الصدق. ولنكفَّ عن الجود الزائف والحب الكاذب. دعنا لا نعيش بعد اليوم كما يتوقع هؤلاء القوم الخادعون المخدوعون الذين نتحدث إليهم. قل لهم: أبي، وأمي، وزوجي، وأخي، وصاحبي، لقد عشت معكم وراء الظواهر حتى اليوم، ولكني منذ الآن ملك للحقيقة. ولتعلموا أني منذ اليوم لن أطيع قانونًا سوى القانون الأبدي. لن أخضع لما تقولون، ولكن لما تمليه عليَّ نفسي، سوف أحاول أن أطعم والديَّ، وأن أعول أسرتي، وأن أكون الزوج الطاهر لزوجة واحدة، ولكن هذه العلاقات لا بد أن أؤديها بطريقة جديدة لم يسبقني إليها أحد. إني أبتعد عن عاداتكم، ولا بد أن أكون نفسي. لن أستطيع بعد اليوم أن أحطِّم نفسي من أجلكم، ولن تستطيعوا ذلك. إذا أمكنكم أن تحبوني على حالي كُنَّا أسعد حالًا، وإذا لم يمكنكم ذلك فسوف أعمل على أن أستحق منكم ذلك. لن أخفي ما أميل إليه وما أعزف عنه، وسوف أثق بأن كلَّ ما يختفي في أعماق الفؤادِ مقدَّس. وسأؤدي بقوة أمام الشمس والقمر أي شيء يسرني في دخيلة نفسي أو يمليه قلبي. إن كنتم نبلاء أحببتكم، وإن لم تكونوا لن أوذيكم وأوذي نفسي برعايتي إياكم نفاقًا. وإن كنتم صادقين، ولكنكم لستم معي فيما أصدق، فتمسكوا برفاقكم، وسوف أبحث عن رفاقي، وإني لا أفعل ذلك عن أنانية، ولكني أفعله متواضعًا صادقًا. وإنه ليهمكم كما يهمني ويهم الناس جميعًا — مهما طال انغماسنا في الأكاذيب — أن نعيش في الصدق. هل يبدو هذا اليوم صارمًا؟ سرعان ما تحبون مثلي ما تمليه عليكم طبائعكم. وإذا نحن تابعنا الصدق فسوف ينقذنا في النهاية، ولكنكم ربما سببتم بذلك للأصدقاء آلامًا. أجل، ولكني لا أستطيع أن أبيع حريتي ونفوذي لكي أنقذ إحساسهم. ثم إن الناس جميعًا لهم لحظات يتعقلون فيها، وذلك عندما يتطلعون إلى دولة الحق المطلق. إنهم حينئذٍ يبرروني ويفعلون مثلما أفعل.

تظن العامة أنك حين تنبذ المعايير العامة تنبذ كل المعايير، وتعصي القواعد الخلقية لمجرد العصيان. ويستخدم الشهواني الجريء اسم الفلسفة ليكسو جرائمه بالذهب. ولكن قانون الوعي قائم. وهناك كرسيان للاعتراف، يجب أن نقبل الاعتراف في أحدهما. فإما أن تؤدي ما عليك من واجبات بتخليص نفسك بطريق مباشر أو بطريق الانعكاس، فقد يهمك أن يرضى عنك أبوك وأمك وابن عمك وجارك وبلدك وقطتك وكلبك، وألا يوجِّه إليك أحد من هؤلاء لومًا. ولكني أستطيع كذلك أن أهمل هذا المعيار المعكوس وأرضي ضميري أمام نفسي، وأجعل مطالبي مستقلة ودائرتي كاملة. هذه النفس المستقلة تنكر اسم الواجب لكثير من الأعمال التي تُسَمَّى واجبات، وإن استطعت أن أدفع ديونها مكنتني من الاستغناء عن القانون العام. وعلى من يتصور أن في هذا القانون تراخيًا أن يخضع له يومًا واحدًا.

إن من ينبذ الدوافع العامة للإنسانية ويجرؤ على الثقة العامة فيما تمليه عليه نفسه لا بد له أن يتميز ببعض صفات الآلهة. ولكي يكوِّن المرء لنفسه حقًّا مذهبًا ومجتمعًا وقانونًا، ولكي يكون الغرض اليسير له قويًّا قوةَ الحاجة الماسة عند غيره، لا بد أن يكون قلبه كبيرًا، وإرادته صادقة وبصره صافيًا.

لو أن أي إنسان فكَّر في الصفات الحالية لما نسميه على وجه الدقة ﺑ «المجتمع» لأدرك الحاجة إلى هذه القوانين الخلقية. ويبدو أن أعصاب الإنسان وقلبه قد تراخت وأصبحنا بكائين هيابين يائسين. إننا نخشى الحق، ونخشى القدَر ونخشى الموت، ويخشى بعضنا بعضًا. وعصرنا لم يتمخض عن شخصيات عظيمة كاملة. نريد رجالًا ونساءً يجددون الحياة ويجددون حالتنا الاجتماعية، ولكنا نجد أن أكثر الطبائع مفلسة، لا تستطيع أن تسد حاجة نفسها، لها مطامعُ لا تتناسب البتة وقوَّتها العملية، وتلين وتتسول ليلًا ونهارًا بغير انقطاع. إن تدبيرنا المنزلي ضعيف، وفنوننا، وأعمالنا، وزواجنا، وديننا، لم نختره لأنفسنا، وإنما اختاره لنا المجتمع. إنما نحن جنود في غرفة الاستقبال، نتحاشى معركة القدر الحامية التي تتولَّد فيها القوة.

إذا فشل شبابنا في مشروعاته الأولى فقدَ كل شجاعته. وإذا خاب التاجر الناشئ قال الناس عنه إنه «أفلس». وإذا درس أبرع النابغين في إحدى جامعاتنا، ولم يُعيَّن في وظيفةٍ بعد عام واحد في مدينتي بوسطن ونيويورك أو ضواحيهما، بدا لأصحابه وبدا له أنه على حق في يأسه وفي شكواه بقية حياته. إن الصبي القوي من نيوهامبشير أو فرمنت الذي يحاول جميع المهن بالدور يرعى، ويفلح، ويطوف بالبيع، ويدير مدرسة، ويعظم، ويحرر في صحيفة، ويذهب إلى الكنجرس، ويشتري أرضًا في المدينة، وما إلى ذلك، في سنوات متتالية، ويقع دائمًا كالقطة على قدميه، يساوي مائة من دُمى المدن هؤلاء. إنه يسير قُدُمًا مع أيامه ولا يشعر بالخجل لأنه لم «يدرس مهنة ما»؛ لأنه لا يرجئ حياته، وإنما يحياها فعلًا. ليست لديه فرصة واحدة، بل أمامه مائة فرصة. ينبغي على الرواقي أن يدرك مواهب الإنسان، وأن يبلِّغ الناس أنهم ليسوا كشجر الصفصاف الذي يميل مع الريح، ولكنهم يستطيعون — بل وينبغي لهم — أن يستقلوا بأنفسهم، وليعلمهم أنهم إن وثقوا بأنفسهم ظهرت لهم قوًى جديدة، وأن الإنسان هو الكلمة قد تجسدت، وُلد لينشر الشفاء بين الأمم، ويجب أن يخجل من رحمتنا به، وليعلمْ أنه في اللحظة التي يعمل فيها بوازع من نفسه، ويلقي بالقوانين والكتب والأوثان والعادات من النافذة، لا نشفق عليه، بل نقدره ونحترمه — من يعلمنا ذلك يُضفي على حياة الإنسان سناءً وبهاءً، ويُرفَع ذكره في جميع صفحات التاريخ.

ومن اليسير أن نرى أن مزيدًا من الثقة بالنفس لا بد أن يُحدِث انقلابًا في جميع وظائف الناس وعلاقاتهم، في ديانتهم، وفي تربيتهم، وفي أهدافهم، وأساليب عيشهم، واجتماعهم، وفي امتلاكهم، وفي آرائهم التي يتدبرون:

أي الصلوات يسمح الناس لأنفسهم بها! إن ما يسميه الناس وظيفةً مقدسة ليس فيه من الشجاعة والرجولة بمقدار ما فيه من القداسة. إن دعاءنا عجيب، نلتمس فيه الزيادة فيما نملك عن طريق فضيلة غريبة عَنَّا، وهو يضل في متاهات لا نهاية لها مما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وما هو وسيط وما هو معجز. إن الدعاء الذي نطلب فيه سلعة خاصة — ولا نتطلب الخير خالصًا — دعاء مرذول. إنما الصلاة هي تأمل حقائق الحياة من أعلى وجهة من وجهات النظر. هي مناجاة النفس المبصرة المنشرحة. هي روح الله تعلن أن أعماله طيبة. ولكن الصلاة كوسيلة لتحقيق غرض خاص، صناعة وسرقة، إنها تفرض في الطبيعة والوعي الثنائية بدلًا من الوحدة. إن الإنسان إذا اتحد مع الله لا يتسول. إنه عندئذٍ يرى الصلاة في كل عمل. إن صلاة الفلَّاح راكعًا في حقله يشذبه، وصلاة صاحب الزورق جاثيًا يضرب بمجدافه صلواتٌ صادقة تصغي إليها الطبيعة بأسرها، وإن تكن لأغراض رخيصة. في «بندوكا» لفلتشر يجيب «كاراتاش» عندما نُصح بالبحث في عقل الإله «أوديت»:

إن معانيه الخفية تكمن في محاولاتنا،
وأعمالنا الباسلة خير آلهتنا.

والندم نوع آخر من الصلاة الزائفة؛ فالضجر نقص في الاعتماد على النفس، وعجز في الإرادة. اندم على الكوارث إن كنت بهذا الندم تعين مَن يكابدها. وإلا فباشر عملك وسوف يشرع الشر في إصلاح ذاته. وعطفنا لا يقل عن الندم وضاعةً. إننا نتوجه إلى أولئك الذين يبكون غافلين، ونجلس إلى جوارهم، وننادي بصحبتهم، وذلك بدلًا من أن نعرِّفهم بالحق والصواب ونصدمهم صدمات كهربية عنيفة، كي نردهم ثانية إلى الاتصال بعقولهم. إن سر ما يصيب الإنسان من خير هو الابتهاج بما بين يدَيه. والرجل الذي يعين نفسه ترحِّب به الآلهة والناس في كل حين. تتفتح له الأبواب، وتحييه الألسنة جميعًا، ويتوِّجه الشرف، وتتبعه الأعين كلها في شغف. نهبه حبنا ونطوقه به، لأنه لم يحتج إليه. ونلاطفه ونحفل به في اهتمام واعتذار؛ لأنه ثبت على طريقته واستهان باستنكارنا لها. تحبه الآلهة لأن الناس قد كرهوه. قال زرادشت: «إن الآلهة المباركة تخف إلى الإنسان المثابر.»

وكما أن صلوات الناس مرض في الإرادة، فكذلك عقائدهم مرض في العقل. إنهم يقولون مع أولئك الإسرائيليين الحمقى: «لا تَدَعِ الله يتحدث إلينا خشية أن نموت، بل تكلم أنت أو ليكلمنا أي إنسان نطعه.» في كل مكان أجد عقبة في سبيل لقاء الله في نفس أخي؛ لأنه أغلق أبواب معبده، واكتفى بتلاوة حكايات إله أخيه، أو إله أخي أخيه. كل عقل جديد نوعٌ جديد. إن ثبت أنه عقل له نشاط وقوة غير عادية، كعقل لوك أو لافوازييه أوهَتُنْ أو بنتام أو فورييه فإنه يفرض نوعه على غيره من الناس، ثم انظر فإذا نظام جديد! وإن اطمئنان الطالب يتناسب وعمق تفكيره، وبالتالي يتناسب وعدد الأشياء التي يمسها هذا التفكير ويجعلها في متناوله. ويظهر هذا خاصة في المذاهب والكنائس المتنوعة، وهي كذلك ضروب من عقل قوي يعمل وفقًا لفكرة الواجب الأولية، وعلاقة الإنسان بربه. هكذا كانت الكلفنية والكويكريه ومذهب سودنبرج. إن التلميذ يُسَرُّ لإخضاع كل شيء للمصطلحات الجديدة، كالفتاة التي تعلمت علم النبات حديثًا عندما ترى تربة جديدة وفصولًا زراعية جديدة تتفق وما تعلمت. وقد يحدث لفترة ما أن يجد الطالب أن قواه العقلية قد نمت بدراسة عقل أستاذه. ولكن العقول غير المتزنة تعبد الفرعَ عبادةَ الأوثان، وتجعله هدفًا في ذاته، ولا تجعله وسيلة سريعة الزوال، بحيث تندمج في أعينهم — في الأفق البعيد — حدود النظام الجديد في حدود العالم بأسره، بل تبدو لهم الأجسام المضيئة في السماء معلقة على البناء الذي شيده أستاذهم. أصحاب هذه العقول الناقصة لا يستطيعون أن يتصوروا كيف يكون لكم أنتم أيها الأغراب أي حق في المشاهدة، أو كيف تستطيعون الرؤيا: «لا بد أن تكونوا قد اختلستم النور مِنَّا بطريقةٍ ما.» إنهم لم يدركوا بعدُ أن النور لا يسير على نسق واحد ولا يمكن إخضاعه؛ فهو يسطو على أي كوخ حتى على كوخهم. هلا ابتهجت نفوس هؤلاء القوم مرة ورأت أن النور نورها! إنهم إن أخلصوا وحسنت أعمالهم ضاقت حظيرتُهم المحدودة الجديدة في الحال، وانخفضت، وتشققت، ومالت، وانهارت ثم اختفت، وأشرق على الدنيا ضياء خالد كذلك الذي يشرق في أول الصباح، قوي بهيج، متعدد الأفلاك، مختلف الألوان.

إن خرافة السفر التي تقدس الرحلة إلى إيطاليا وإنجلترا ومصر تستمد جاذبيتها لجميع الأمريكيين المهذبين من نقص ثقافتهم الذاتية. إن أولئك الذين جعلوا بلادهم — إنجلترا وإيطاليا واليونان — مقدسةً في الخيال، إنما فعلوا ذلك بثباتهم في أمكنتهم كمحور الأرض. وإننا في ساعات الرجولة نحس أن واجبنا أن نثبت في مكاننا. الروح لا تسافر، والرجل العاقل يبقى في بيته، وعندما تستدعيه ضروراته وواجباته في أية مناسبة إلى مغادرة بيته أو إلى ارتياد بلاد أجنبية، فإنه برغم ذلك يكون في بيته، ويجعل الناس يحسون بما يبدو على ملامحه من تعبير أنه إنما جاء ليبشر بالحكمة والفضيلة، وأنه يزور المدائن والرجال كما يزورها السيد لا كما يزورها المتطفل أو التابع.

ليس عندي اعتراض سخيف على الطواف بالكرة الأرضية، في سبيل الفن والدراسة وفعل الخير، إن كان المرء يتوطن أوَّلًا، ولا يرحل إلى الخارج آملًا أن يجد شيئًا أعظم مما يعرف. مَن يرحل للتسلية، أو لكي يظفر بشيء لا يحمله بين جنبَيه إنما يرحل بعيدًا عن نفسه، ويشيخ حتى في شبابه بين الأشياء العتيقة. إن إرادته وعقله تشيخ وتتحطم في طيبة وبلميرا، مثلهما. إنه يضم أطلالًا إلى أطلال.

الأسفار جنة «العبيط». ورحلاتنا الأولى تبين لنا ما بين الأماكن من تشابه. إنني في وطنٍ أتخيَّل أن جمال نابلي وروما يمكن أن يخدِّرني وينسيني أحزاني. فأحزم متاعي، وأعانق أصدقائي، وأقلع في البحر، وأستيقظ أخيرًا في نابلي، وهناك إلى جواري أجد الحقيقة الصارمة، أجد نفسي الحزينة، التي فررت منها، هي هي لم تذعن ولم ترضخ. إنني أقصد الفاتيكان والقصور. وأتظاهر بأني أثمل بالمناظر وما تثيره، ولكني لست كذلك، فإن ماردي يرافقني أنَّى ذهبت.

بَيْدَ أن سَوْرة السفر ليست إلا عرضًا لاختلالٍ أبعدَ مدًى يؤثِّر في الأعمال العقلية جميعًا؛ فالذهن متشرد، ونظامنا في التعليم يربي القلق. ترحل عقولنا حينما تضطر أجسامنا إلى البقاء في الدار. إننا نقلد، وليس التقليد سوى رحلة من رحلات العقل. ونبني بيوتنا بذوقٍ أجنبي، ونزين رفوفنا بأدوات الزينة الغريبة عَنَّا. وآراؤنا، وأذواقنا، وكفاياتنا، تخضع، وتتبع الماضي والبعيد. لقد أبدعت الروح الفنون حيثما ترعرعت هذه الفنون. ولم يبحث الفنان عن نموذجه إلا في عقله. كان يطبِّق فكره على الشيء الذي يصنعه والشروط التي يراعيها. وما حاجتنا إلى تقليد النموذج الدوري أو الغوطي؟ إن الجمال وراحة الفكر وعظمته وغرابة التعبير قريبة مِنَّا قربها من أي إنسان آخر. وإذا درس الفنان الأمريكي — يحدوه الأمل والحب — الشيء الذي يريد صنعه تمامًا، وأخذ في اعتباره المناخ والتربة وطول النهار وحاجات الناس وتقاليد الحكومة وشكلها؛ لأنشأ بيتًا تجد فيه هذه الأشياء كلها لنفسها مكانًا ملائمًا لها ويرضى به كذلك الذوق والعاطفة.

اعتمِد على نفسك، ولا تقلِّد مطلقًا. إنك تستطيع في كل لحظة أن تمد موهبتك بالقوى المتجمعة من ثقافة حياة بأسرها، ولكن ذكاء غيرك الذي تستعيره لا تملك إلا نصفه امتلاكًا مزعزع الأصول. إن ذلك الذي يستطيع الفرد أن يتقنه أكثر من إتقانه أي شيء سواه لا يستطيع أن يعلِّمه إياه إلا بارئه. لا يعرف أحد ما هو، ولا يستطيع أن يعرف، حتى يعرضه صاحبه. أين ذلك الأستاذ الذي كان يستطيع أن يعلِّم شكسبير؟ وأين الأستاذ الذي كان يمكنه أن يعلِّم فرانكلن أو واشنطن أو بيكون أو نيوتن؟ كل رجل عظيم فريد في نوعه. إن آراء سكبيو الخاصة هي ذلك الجانب بعينه الذي لم يكن يستطيع استعارته. وإنك لن تخلق شكسبير بدراسة شكسبير. إن أنت فعلت ما عُيِّن لك لم تكن مغاليًا في أملك أو في إقدامك. لك في هذه اللحظة رسالة جريئة عظيمة كرسالة إزميل فدياس الضخم أو مسطار المصريين، أو قلم موسى أو دانتي، ولكنها تختلف عن كل هؤلاء. إن الروح الفنية الفصيحة ذات اللسان الذي له ألف شق، لا يمكن أن ترضى بتكرار نفسها. ولكنك لو استطعت أن تصغي إلى ما يقوله هؤلاء الشيوخ أمكنك بالتأكيد أن تجيب عليهم بصوتٍ مرتفع كصوتهم؛ لأن الأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة. الزمْ دائرة حياتك الساذجة النبيلة، وأطع قلبك، تستعِدِ الدنيا القديمة مرة أخرى.

وكما أن ديانتنا وتربيتنا وفنوننا تبدو غريبة عَنَّا، فكذلك روح الجماعة عندنا. كل الناس يفخرون بارتقاء المجتمع، ولا يرتقي منهم أحد.

إن الجماعة لا تتقدم مطلقًا. إنما هي تتراجع في جانبٍ بمقدار ما تكتسب في جانبٍ آخر. إنها تتعرض لتغيرٍ مستمر؛ فهي وحشية، ومتحضرة، ومسيحية، وغنية، وعلمية. ولكن هذا التغيُّر ليس تقدمًا، إنما يُؤخذ منها بمقدار ما تُعطَى. تكتسب الجماعة فنونًا جديدةً، وتفقد غرائز قديمة. ما أشد التباين بين الأمريكي المهندم اللباس، القارئ، الكاتب، المفكر، ومعه ساعته وقلمه وقائمة الحساب في جيبه، وبين الرجل العاري من نيوزيلاند، الذي لا يملك سوى العصا والرمح والحصير، وجزءًا من عشرين لا يقبل التجزئة في حظيرةٍ ينام تحتها! ولكن وازن بين صحة الرجلين، تجد أن الرجل الأبيض قد فقد قوَّته الأصيلة، وإن صدق ما يروي الرحالة فإنك إن ضربت المتوحش بفأس عريضة التأم لحمه بعد يوم أو يومين وتم شفاؤه كأنك ضربت ضربتك في قارٍ لين. في حين أن الضربة عينها تقذف بالرجل الأبيض إلى قبره.

أنشأ الرجل الأبيض العربة، ولكنه فقد استخدام قدميه. تسنده عكازته، ولكنه يفتقر إلى مثل هذا السَّند من عضلاته. لديه ساعة جميلة من جنيف، ولكن تنقصه مهارة معرفة الوقت بالشمس. ولديه تقويم بحري من جرينتش، ولذا فإن رجل الشارع لا يعرف نجمًا في السماء؛ لأنه قمينٌ ببلوغ المعرفة كلما أراد. إنه لا يرصد الانقلاب الشمسي، ولا يعرف عن الاعتدالين إلا قليلًا. وليس للتقويم المشرق السنوي في ذهنه مِزولة. مذكراته تُضعِف ذاكرته، ومكتباته تبهظ ذكاءه. ومكتب التأمين يزيد من عدد الحوادث، وأشك في أن الآلة معطلة، وأننا فقدنا بالتهذيب شيئًا من النشاط، وبالمسيحية المستغرقة في المؤسسات والصيغ شيئًا من قوة الفضيلة الطبيعية؛ لأن كل رواقي كان رواقيًّا، ولكن أين المسيحي في العالم المسيحي؟

لم يحدث تغيُّر في مستوى الأخلاق أكثر مما حدث في مستوى الطول أو حجم الجسم. ولا يوجد اليوم رجالٌ أعظم ممن وُجِدوا في أي عهد سبق. ويمكن أن تلاحِظ المساواة التامة بين عظماء العصور الأولى وعظماء العصور المتأخرة. ولا تستطيع جميع العلوم والفنون والديانات وفلسفة القرن التاسع عشر أن تجدي في تربيةِ رجالٍ أعظم من أبطال فلوطارخس الذين عاشوا منذ ثلاثة أو أربعة وعشرين قرنًا. ولم يتقدم الجنس البشري مع تقدُّم الزمان. وفوكيون وسقراط وأنكساجوراس وديجونيس رجال عظماء، ولكنهم لم يخلِّفوا طبقة معينة. من يكن حقًّا من طبقتهم لا يتسمَّى باسمهم، وإنما يكون رجلًا معينًا، ومؤسسًا بدوره لطائفة من الطوائف. إن فنون كل عصر ومخترعاته هي رداء العصر فقط، لا تمد الناس بالقوة. والضرر من تحسين الآلة قد يعادل الفائدة منها. إن هدسن وبهرنج قد أنجزا عملًا ضخمًا في زوارق الصيد أذهلا به باري وفرانكلن اللذين استنفد إعدادهما موارد العلم والفن. كما أن غاليليو بمنظاره المسرحي قد كشف عن مجموعة من الظواهر السماوية أفخر مما كشف أي إنسان حتى اليوم. وكشف كولمبس العالمَ الجديدَ في سفينة مسطحة. وإنك لتعجب لو عرفت أن الوسائل والآلات التي تُقابَل عند اختراعها بالتهليل والتمجيد يبطل استعمالها وتموت بعد فترة لا تتجاوز بضع سنوات أو بضعة قرون. وإنما العبقرية العظمى مردها إلى الإنسان الذي لا مناص منه. كُنَّا نَعُدُّ تقدُّم فنون الحرب من انتصارات العلم، ومع ذلك فإن نابليون قد هزم أوروبا بإقامة جيشه في العراء من غير خيام، وهي طريقة تتوقَّف على الشجاعة المجردة التي تخلو من كل مُعين. يقول لاس كاساس إن الإمبراطور كان يعتقد أنه من المستحيل أن يكوِّن جيشًا كاملًا «دون إلغاء أسلحتنا ومستودعات الذخيرة ورؤساء المؤن والعربات، فيتسلم الجندي نصيبه من القمح — جريًا على عادة الرومان — ويطحنه بطاحونته اليدوية، ويخبز خبزه بنفسه.»

المجتمع موجة، والموجة تسير إلى الأمام، ولكن الماء الذي تتكوَّن منه لا يتحرك. وذرة الماء عينها لا ترتفع من الأخدود إلى القمة، إنما وحدتها ظاهرية فقط. والأشخاص الذين تتألف منهم اليوم أمة من الأمم، يموتون في عام مقبل، وتموت معهم تجاربهم.

ومِنْ ثَمَّ فإن الاعتماد على المِلك، الذي يتضمن الاعتماد على الحكومات التي تحميه، نقص في الاعتماد على النفس. إن الناس قد صرفوا أبصارهم عن أنفسهم لينظروا إلى الأشياء، ولبثوا على ذلك طويلًا حتى باتوا ينظرون إلى النظم الدينية والعلمية والمدنية كأنها حماة المِلكية، وهم يستعيذون من التهجم على هذه النُّظم؛ لأنهم يحسون أنه تهجم على المِلكية. وهم يقيسون تقدير أحدهم للآخر بما لدى الفرد لا بما هو عليه. ولكن الرجل المثقف يخجل من ملكه؛ لأنه يحترم طبيعته احترامًا لا يحسه سواه، وهو يمقت ما يملك بوجه خاص، إذا رأى أنه عرضي، أتاه عن طريق الميراث، أو الهبة، أو الجريمة. إنه حينئذٍ لا يشعر شعور الملكية، ويحس أن ما لديه لا يخصه، ولا تمتد جذوره في نفسه، وهو مِلك لا يثبت في مكانه إلا لأن الثورة أو الغاصب لا تنزعه منه، ولكن ما يكون عليه الإنسان هو دائمًا بالضرورة مما يكتسبه، وما يكتسبه المرء هو المِلكية الحية التي لا تنتظر إشارة الحكام، أو الرعاع، أو الثورات، أو النيران، أو الزوابع، أو الإفلاس، ولكنها تجدِّد نفسها دائمًا حيثما تنفس الإنسان. قال الخليفة علي ما معناه: «إن نصيبك أو حصتك من الحياة يبحث عنك، ولذا فأرِحْ نفسك من البحث عنه.» إن اعتمادنا على هذه السلع الأجنبية يؤدي بنا إلى احترامنا لكثرة العدد احترامًا مذلًّا. إن الأحزاب السياسية تلتقي في مؤتمرات عديدة. وكلما تضخم الحشد، وعند كل ضجة جديدة تعلن «وفد أسكس» أو «الديمقراطيين من نيو هامبشير»، أو «الأحرار من مين» يشعر الشاب المحب لوطنه أنه أقوى من ذي قبل بألف عين وألف ذراع جديدة. وكذلك المصلحون يجمعون المؤتمرات، ويبدون رأيهم ويُبرِمون أمرهم وسط الجماهير. ولكن الله أيها الرفقاء لا يسلك هذا السبيل كي يدخل في نفوسكم ويسكن فيها، ولكنه يفعل ذلك بطريقةٍ تناقض هذه الطريقة تمامًا. إنني أعتقد أن المرء لا يقوى ولا يسود إلا إذا تخلَّى عن كل معونة أجنبية، ووقف وحيدًا. إن كل جندي ينضم إلى لوائه يضعفه. أليس الإنسان أفضل من المدينة؟

لا تسأل الناس شيئًا، وفي التقلبات التي تفوق الحصر قف وحدك كالطود الشامخ واظهر في الحال عمادًا لكلِّ ما يحيط بك. من يعرف أن القوة فطرية، وأنه ضعيف لأنه بحث عن الخير خارجًا عنه وفي مكان آخر، يدرك ذلك فيعمد بغير تردُّد إلى أفكاره. مثل هذا الرجل يستقيم في الحال عوده، وتعتدل قامته، ويسيطر على أعضائه، ويأتي بالمعجزات، كالرجل الذي يقف على قدمَيه يكون أقوى من الرجل الذي يقف على رأسه.

على هذه الصورة ينبغي أن تستغل كل ما يسمونه «نصيب الإنسان». إن أكثر الناس يقامرون بهذا النصيب فيكسبون كل شيء، أو يخسرون كل شيء، حسبما تدور عجلته. ولكن عليك أن تتخلى عن هذه المكاسب وأن تَعُدَّها غير شرعية، وأن توجه اهتمامك نحو العلل والنتائج ففيها سرُّ القوة الإلهية، واعمل واكتسب بإرادتك، فإنك بذلك تضع عجلة «الحظ» في الأغلال، وتكون حينئذٍ في مأمنٍ من دوراتها. إن نصرًا سياسيًّا، أو ارتفاعًا في الأجور، أو شفاء مريض لك، أو عودة صديق غائب عنك، أو أي حدث غير ذلك مما تحب، ينهض بروحك فتحسب أن الأيام الطيبة تتأهب لك. لا تعتقد ذلك، فلا يجلب لك السعادة غير نفسك، ولا يجلب لقلبك الطمأنينة غير انتصار المبادئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤