العفريت

في ذلك الوقت كان بقية المغامرين يجلسون صامتين في حديقة الفيلَّا التي انتشرت فيها أشجار الليمون والجوافة، وقد ملأت الرائحة الجميلة الجو … وكأنَّ «لوزة» كانت تدرك ما فيه «تختخ» فقالت: نحن نشمُّ رائحة الليمون والجوافة والفل … و«تختخ» الآن يشمُّ رائحة السمك والمخازن الكريهة.

لم يُعلِّق أحد على كلام «لوزة» … فقد كانوا جميعًا يشعرون أنَّ «تختخ» وضع نفسَه في مأزق لم يكن له داعٍ … فهم ليسوا من الشرطة ولا من المباحث، ومهمتهم هي مساعدة العدالة.

•••

أخذ «تختخ» السمكة الأولى فقال له «بسارية»: ليس هكذا تُمْسَك السمكة، ثم أوضح له كيف يمسك السمكة بطريقة صحيحة من ناحية الذيل، وكيف يتعامل مع القشر بالفرشاة السلك وليس بالسكين … وكان جميع الأولاد مُستغرِقين في عملهم … فلم يلاحظوا أنَّ زميلهم الجديد «غشيم» … وفي الحقيقة لم يكن «تختخ» مهتمًّا بتقشير السمك وتقطيعه … بل كان مهتمًّا بحركة الحياة والعمل في المزرعة … وقد استطاع بسرعة أن يلاحظ أشياءَ مُلفتة للانتباه … فمن نهاية العنبر كانت تخرج صناديق صغيرة يحملها رجال أشِدَّاء في حقائب ثمَّ يختفون … ومن بعيد كان صوت آلات السفن القادمة لنقل صناديق السمك المُجمَّد وفناطيس السمك الحي.

كانت حركة العمل ضخمة، ولا يمكن أن يكون صاحب هذه المزرعة هذا المدعو «القصاص»، فالحكاية أكبر من ذلك بكثير …

ومضت الساعات و«تختخ» منهمكٌ في العمل … وفي مراقبة ما يدور حوله وقد أحسَّ بنشوة تجتاحه عندما أدرك أنه ربما يكون قد وضع يده على بعض أسرار هذه المزرعة وما يحدث فيها … وفي منتصف النهار أحسَّ بالجوع؛ فقال ﻟ «بسارية»: أليس هناك طعام للغداء؟

بسارية: لا.

تختخ: ولكنني جائع!

بسارية: هناك بوفيه خارج المخزن للشاي والقهوة … وقد تجد فيه بعض البسكويت، ولكن ليس من المعتاد أن يذهب أحد الأولاد لشراء هذه الأشياء؛ لأننا جميعًا مُفْلِسون.

تختخ: معي بعض الفكَّة.

بسارية: جرِّب … فقد تستطيع شراء شيء.

لم يكد «تختخ» يتحرَّك من مكانه حتى سمع صوت رجل يقول: رايح فين يا ولد؟

قال «تختخ» بسرعة: دورة المياه.

أشار الرجل بإصبعه إلى مكان في آخر المخزن وقال: هناك!

أسرع «تختخ» إلى حيث أشار الرجل … وكان المكان كما توقَّع شديد القذارة … ولم يكن هذا يهمُّ «تختخ» بقدر ما كان يهمُّه ماذا وراء المخزن، ففتح النافذة وأطَلَّ منها إلى الخارج … وفُوجئ بأنَّ عالمًا من الحركة النَّشِطَة يدبُّ في المكان … أشخاص في ملابسَ فاخرة وسيارات وسفن رابضة في البحر تنتظر دورها في الدخول أو الخروج … وفكَّر «تختخ» أنْ يتسلَّلَ من النافذة إلى هذا العالم المحاط بالأسلاك الشائكة … ولكنه خشِيَ أن يلاحظَه أحد، فقرَّر العودة إلى المخزن، وانهمك في العمل من جديد وقد تعلَّم بسرعة كيف يُنظِّف السمك ويقطعه بشكل دقيق وسريع.

قال «تختخ» مُحدِّثًا «بسارية»: متى ينتهي العمل؟

بسارية: حسب الكمية التي ننتهي منها … ربما بعد ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر.

تختخ: أليس هناك وقت محدد؟!

بسارية: لا … حسب التساهيل!

بينما كان الجوع يفتك ﺑ «تختخ» كان بقية المغامرين يضعون أمامهم طعام الغداء، ولكنَّ أحدًا منهم لم يمدَّ يدَه ليأكل … لقد كانوا يشاركون زميلهم الأكول الجوعَ دون أن يدروا … وفجأةً دقَّ جرس «الموبايل» في يد «سامي»، وكان المتحدِّث «تختخ» يقول: لقد انتهينا من العمل وأنا قادم، هل هناك طعام جاهز؟

سامي: نحن جالسون في انتظارك!

تختخ: سآتي جريًا!

كان «تختخ» يسير بجانب «بسارية» خارجَيْن من المزرعة … وعلى الباب قال «بسارية»: تعالَ نقبض!

اتجها إلى الرجل الذي أدخلهما في الصباح فأعطى كلَّ ولد من الواقفين ثلاثةَ جنيهات.

قال بسارية: إنَّ أجرتنا ستة جنيهات في اليوم يأخذ منها «النُّص» النصف.

ضحك «تختخ» وقال: يعني «النُّص» يأخذ النُّص!

وعندما أمسك بالجنيهات الثلاثة أحسَّ بنشوة غريبة … فهذه أول مرة يكسب نقودًا من عمل … وأحسَّ بقيمة العمل في حياة الناس … وتذكَّر المَثَل الذي يقول: «إنَّ قيمة الإنسان فيما يعمله.»

عند منتصف الطريق افترق «بسارية» عن «تختخ» ليعود إلى أسرته بالجنيهات الثلاثة … وسار «تختخ» وحيدًا حتى فوجئ ﺑ «زنجر» يظهر من بعيد ويجري إليه … وكان بقية المغامرين يقفون في انتظاره.

رفع «تختخ» الجنيهات الثلاثة وقال: فلوس … فلوس … أحمدك يا رب!

ضحك الجميع ودخل «تختخ» الحمام، وخلع ملابس العمل، واغتسل وخرج إلى المائدة العامرة التي أعدَّتْها دادة «رحمة» التي تأتي كل يوم إلى الفيلَّا للعمل بها.

حاصر المغامرون «تختخ» بالأسئلة، ولكن «تختخ» لم يكن عنده إجابات كثيرة … لكن «نوسة» وجَّهت له سؤالًا مُهمًّا: هل تنوي الذَّهاب غدًا؟

فكَّر «تختخ» لحظات ثم قال: لا بُدَّ أن أذهب … فأنا لم أحصل على معلومات مُهِمَّة حتى الآن … كل ما لاحظتُه هو تصرُّفات مريبة، وأماكن ممنوع الدخول فيها.

لوزة: ولكن يا «تختخ» أنت تعرِّض نفسَك للخطر.

تختخ: لا تخافي يا حبيبتي … سوف آخذ حذري.

ثم التفت إلى «سامي» وقال له: سامي … هل يمكن أن أستعيرَ «الموبايل» الذي معك؟

سامي: طبعًا … ولكن لماذا؟

تختخ: لأنه مُزوَّد بكاميرا … وأنا أريد أن أصوِّر بعض الأشياء في هذا المكان المريب.

سامي: خذ حذرك يا «تختخ»؛ فإن هؤلاء الناس إذا رأوك تصوِّر المكان فسوف تتعرَّض لمخاطرَ لا حدَّ لها.

تختخ: سأفعل ما بوسعي حتى لا يراني أحد.

بعد الغداء الدسم الذي أعدَّتْه دادة «رحمة»، طلب «تختخ» من الأصدقاء أن يتركوه لينام، وأن يخرجوا للفسحة في «أبو قير» التي جاءوها للزيارة وليس للمغامرات.

اتفقوا على أن يلعبوا الكرة على شاطئ البحر؛ فقد كان الجوُّ قد ابترد واحتاجوا إلى حركة سريعة لاستعادة الدِّفْء … وهم منهمكون في اللعب، ظهر «شلبي» الصغير ومعه أخته «سلمى» ووقفا يتفرَّجان … وبعد قليل انضمَّ عدد آخر من الأولاد وأصبحت المباراة حامية … وطلب بعض الواقفين أن يشتركوا، فوافق المغامرون، وزاد عدد اللاعبين وعدد المتفرِّجين.

وأخذت الشمس تغرب بسرعة في ذلك المساء الخريفي البارد … ولم تَعُدِ الكرة واضحة أمام اللاعبين … وفعلًا «شاط» أحدهم الكرة بعيدًا فاختفت بين الرمال … وانهمك الجميع في البحث عنها … وفجأة سمعوا صوت الموتوسيكل … وظهر الرجل ذو الخوذة … واقترب منهم.

وقف عند «نوسة» وقال: عن أيِّ شيء تبحثين؟

نوسة: عن الكرة.

الرجل: أم عن اللفَّة السوداء؟

نوسة: من أنت حتى تسألني؟

الرجل: من أنتِ حتى تأخذي ما وقع مني؟

نوسة: كنت سأبحث عنك أو أسلِّمها لرجال الشرطة.

الرجل: الأفضل لكم ألا تتدخَّلوا في شئون غيركم … وأن تنسوا حكاية الشرطة هذه.

نوسة: لماذا؟

الرجل: لا داعي لأن تسألي، فأنتم غرباء عن «أبو قير» ومن الأفضل لكم أن ترحلوا.

نوسة: سنرحل عندما نريد.

الرجل: لقد أنذرتكم!

وقبل أن تجيب «نوسة» كان الرجل قد أطلق الموتوسيكل واختفى …

التفت المغامرون حول «نوسة» يسألونها عن حديثها مع الرجل، فقالت: هيَّا نعود إلى الفيلَّا.

ساروا في اتجاه الفيلَّا … ووجدوا «سلمى» و«شلبي» يسيران خلفهم فنادى «محب»: «شلبي» … «سلمى» … تعاليا!

اقتربت «سلمى» و«شلبي» من «محب» وقد بدت عليهما علامات الخوف؛ فقال «محب»: ماذا بكما؟

ردَّت «سلمى»: خذوا حذركم من هذا الرجل!

محب: لماذا … ومن هو؟

سلمى: لا أحدَ يدري … فهو دائمًا يلبس الخوذة بحيث لا يراه أو يعرفه أحد، ولكن المعروف أنه عندما يظهر في مكان فمعنى ذلك أنَّ مصيبةً ستحدث.

عاطف: مصيبة!

سلمى: نعم … إنهم يسمونه العِفْريت!

نوسة: نحن لا نخاف من العفاريت!

هزَّت «سلمى» رأسها وقالت: لقد سأل عنكم وعرف أنكم ضيوف.

نوسة: وماذا قلتم له؟

سلمى: قلنا إنكم ضيوف في فيلَّا «سامي».

نوسة: لا تخافي يا «سلمى».

سلمى: خذوا حذركم!

ثم انسحبت وهي تمسك بيد أخيها، وكان الظلام قد هبط على «أبو قير» عندما وصلوا إلى الفيلَّا … ولدهشتهم لم يجدوا «تختخ» فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤