مقدمة المؤلف

١

يَعرِفُ قراء كتبنا السابقة مَضامين هذا السِّفر الجديد، ويعلَمون أننا سندرس تاريخ الحضارات بعد أن بحثنا في الإنسان والمجتمعات.

كان كتابنا السابق١ وقفًا على وصف ما اعتور جسمَ الإنسان وعقله من التطور المتتابع، وعلى بيان العناصر التي تتألف المجتمعات منها، وقد رَجعنا فيه إلى أقدم أدوار الماضي، وأوضحنا فيه كيف نشأت زُمَر الإنسان الأولى، وكيف تَولَّدت الأُسر والمجتمعات والصناعات والفنون والنُّظم والمعتقدات، وكيف تحولت هذه العناصر بتوالي الأجيال، وبيَّنَّا فيه عوامل هذا التحول.

وإننا، بعد أن بحثنا في الإنسان وهو منفردٌ وفي تطور المجتمعات، نرى أن نطبق قواعدنا التي بسطناها هنالك على الحضارات العظيمة إكمالًا لبرنامجنا.

إن العمل لواسعٌ، وإن مصاعبه لكثيرةٌ، وإذ كنا لا نُبْصر مداه الآن عزمنا على جعل كلِّ مجلد منه تامًّا مستقلًّا، فإذا انتهينا من المجلدات الثمانية أو العشرة الباحثة في تاريخ مختلف الحضارات وتمت بذلك غايتنا سَهُل ترتيبها ترتيبًا علميًّا.

وبالعرب بدأت، وسبب ذلك: أن حضارتهم من الحضارات التي اطَّلعتُ عليها في رِحلاتي الكثيرة أحسنَ مما اطلعت على غيرها من الحضارات التي كَمُل دورها، وتجلى فيها مختلف العوامل التي أوضحنا سرَّها في ذلك الكتاب، وهي من الحضارات التي نرى الاطلاعَ على تاريخها مفيدًا إلى الغاية وهو أقلُّ ما عرفه الناس.

وتسيطر الحضارة العربية، منذ اثني عشر قرنًا، على الأقطار الممتدة من شواطئ المحيط الأطلنطيِّ إلى المحيط الهنديِّ، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال إفريقية الداخلية، وكان سكان هذه البلدان المترامية الأطراف تابعين لدولة واحدة، ويدينون الآن بديانة واحدة، ولهم لغة واحدة ونُظُمٌ واحدة، وفنونٌ واحدة.

ولم يقُم عالمٌ بوضع كتاب جامع لتأثير حضارة العرب في الأمم التي سيطرت عليها شامل لعجائبها في إسپانية وإفريقية ومصر وسورية وفارس والهند، ولم تَنَل يدُ البحث العام فنونَ العرب، وإن كانت أكثر ما عُرِف من عناصر حضارتهم، وباء المؤلفون القليلون الذين أرادوا ذلك بالخيبة، فعزوا حبوط عملهم إلى نقص الآثار والأسانيد!

ولا ننكر أن تشابه المعتقدات أوجب تجانسًا كبيرًا في فنون مختلف البلاد التي خضعت للإسلام، ولكن من الواضح أن ما بين الأمم الإسلامية من الاختلاف وما بين بيئاتها من التباين أدَّى — من جهة أخرى — إلى فروقٍ بعيدة الغور في تلك الفنون، فما ذلك التجانس؟ وما تلك الفروق؟ سيرى القارئ الذي يتصفح فصول هذا الكتاب، الخاصة بدراسة فن البناء وما إليه، درجةَ صموت العلم الحديث عن هذه المسائل.

وكلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم — ظهرت لنا حقائقُ جديدةٌ وآفاقٌ واسعة، ولسُرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدَّنوا أوربة مادةً وعقلًا وأخلاقًا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الابتداع الفنيِّ.

وتأثيرُ العرب عظيم في الغرب، وهو في الشرق أشد وأقوى، ولم يتَّفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ، والأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تَوارَوا أيضًا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حيةً، وينقاد أكثر من مائة مليون شخص مقيمين فيما بين مراكش والهند لشريعة الرسول.

وثبتت أصول شريعة الرسول وفنونُ العرب ولغتهم أينما حلَّت، ولم يدُرْ في خَلَد أحد من الفاتحين الكثيرين الذين قهروا العرب إقامةُ حضارة مقام حضارة العرب، وانتحلوا كلُّهم دين العرب وفنونهم، واتخذ أكثرهم العربيةَ لغةً له، وتقهقرت أمام الإسلام في الهند دياناتٌ قديمة، وجعل الإسلامُ مصرَ الفراعنة القديمة، التي لم يكن للفرس واليونان والرومان فيها سوى نفوذ قليل، عربيةً تامةَ العروبة، وعرفت أقوام الهند والفرس ومصر وإفريقية لهم سادةً غير أتباع محمد فيما مضى، ولم يعرفوا لهم سادةً غير مسلمين بعد أن رضوا بالإسلام دينًا.

حقًّا إن من أعاجيب التاريخ أن يلبِّي نداء ذلك المُتَهَوِّس الشهير شعبٌ جامحٌ شديدُ الشكيمة لم يقدر على قهره فاتح، وأن تنهار أمام اسمه أقوى الدول وألا يزال يُمسك، وهو في جَدَثه، ملايين من الناس تحت لواء شرعه.

ويجب احترام أعاظم مؤسسي الأديان والدول، وإن وَصَفهم العلم الحديث بذوي الهوس، وحُقَّ له ذلك، ففيهم تتجلى روح الزمن وعبقرية القوم، وبلسانهم تنطق أجيالٌ من الأجداد راقدةٌ في ثنايا العصور، والخيالات، وإن كانت كلَّ ما يأتي به هؤلاء المبدعون لمُثُلٍ عالية، هي التي أوجدت كياننا الحاضر ولا تقوم بغيرها حضارة، ولم يكن التاريخُ سوى قَصصٍ للحوادث التي أقام بها الإنسان خيالًا فعبده ثم هدمه.

والحضارة العربية من صنع قومٍ من شِباه البرابرة، فلما خرج هؤلاء القوم من صحارى جزيرة العرب صرعوا الفرس واليونان والرومان، وأقاموا دولة عظيمة امتد سلطانها من الهند إلى إسپانية، وأبدعوا تلك الآثار التي هي آية في الإعجاز والتي تُورِث بقاياها العجب العجاب.

فما العواملُ التي ظهرت؛ ونمت بها حضارة العرب ودولتهم؟ وما أسبابُ عظمتهم وانحطاطهم؟

حقًّا إن ما ذكره المؤرخون ضعيف إلى الغاية، ولا يقف أمام سلطان النقد، وطريقة التحليل العلمي أفضل وسيلة لإيضاح شأن أمةٍ كالأمة العربية.

والغرب وليد الشرق، ولا يزال مِفتاحُ ماضي الحوادث في الشرق، فعلى العلماء أن يبحثوا عن هذا المفتاح فيه.

وتبدو الفنون واللغات وأكثر الديانات العظمى بارزةً في الشرق، ويختلف سكان الشرق الآن عن سكان البلدان الأخرى في المبادئ والآراء والمشاعر.

والشرق يتحول ببطء، ويقترب حاضره من ماضيه، ويستطيع من يبحث في أحواله الحاضرة أن يصل إلى صميم الأجيال الغابرة.

والشرقُ مرجعٌ دائم لرجال الفن والعلم والأدب، وما أكثر ما جَلَستُ تحت نخلة أو أمام معبد فأخذتني سِنةٌ، وخُضت في بحر من الخيالات، وأبصرتُ من خلالها سالف الأجيال، وتمثَّلتْ لي مدنٌ غريبة ذات أبراج مُشرفة، وقصورٌ عجيبةٌ ومعابدُ شامخةٌ ومآذنُ رفيعةٌ تتلألأ تحت وهج الشمس، ورأيت قوافل من أهل البدو وجموعًا من الشرقيين بملابسهم الزاهية، وشراذم من الأرقاء السمر، ونساءً مُخدَّرَات تجوب تلك المدن!

ولا مراء في تواري نينوى ودمشق وأورَشليم وأثينة وغرناطة وممفيس وطيبةَ ذاتِ مائة الباب وأفول نجمها، ولا ريب في أن قصور آسية ومعابد مصر صارت خرائب وأطلالًا، ولا شك في أنه لم يبقَ من آلهة بابل وسورية وكلدة ووادي النيل سوى ذكريات، ولكنه يستتر تحت هذه الأنقاض عِبَرٌ لا تُحصَى، وتشتمل هذه الذِّكريات على معانٍ بعيدة الغور، وتنطوي أخبار تلك الشعوب التي تناوبت ما بين عَمَدِ هِرْكُولَ ونجودِ آسية الخَصيبة، وما بين شواطئ بحر إيجة المُخْضَرَّةِ ورمال إثيوبية المُحْرقة، على أسرار وألغاز.

وتلك البقاع القاصية حافلة بالمعارف، وقد يُغيِّر الباحث آراءه بسببها، ويدل درسها على وجود هُوَّة عميقة بين الناس، وعلى بُطلان مزاعمنا في الحضارة والإخاء العالمي، وعلى اختلاف ما نخَاله ثابتًا من المبادئ والحقائق باختلاف البلدان.

وفي تاريخ العرب، إذن، مسائل كثيرةٌ تتطلب حلًّا، وفيه دروسٌ وعِبَرٌ جديرة بالحفظ، والعربُ عُنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب، ولا تزال أوربة جاهلةً لشأنهم، فلتعلم كيف تعرفهم، فالساعة التي ترتبط مقاديرُها في مقاديرهم قد اقتربت.

وإن ما بين الشرق والغرب من الاختلاف عظيم إلى الغاية في الوقت الحاضر، ويبلغ في عِظَمِه ما يتعذر معه اعتناقُ أحدهما لمبادئ الآخر وتفكيره.

وقَلَبَتْ مبتكراتُ العلوم والصناعة كيانَ الغرب المادي والأدبي رأسًا على عقب، وتعاني مجتمعاته المُسِنة تحولًا بعيد المدى، ويقاسي خلافًا شديدًا، ويكابد في سبيل معالجة الشرور التي نشأت عن ذلك الخلاف أزمةً عامةً تسُوقه باطراد إلى تبديل نظمه، ويئن من عدم الانسجام بين المشاعر القديمة والمعتقدات الجديدة، ويألَم من تصدُّع مبادئ الأجيال السابقة.

وتنال يدُ التغيير في الغرب الأُسرةَ والتملك والديانة والأخلاق والمعتقدات، وتصبح هذه الأمور موضوع جدل، ولا يقدر أحد أن يتكهن بما يتمخض عنه العلم الحديث، وكَلِفَت الجماهير بمبادئ سلبيةٍ في الوقت الحاضر، وبلغ كَلَفُها بها درجة الحماسة غير مقدِّرةٍ نتائج ذلك.

ونرى الآن قيام آلهةٍ جدد مقام قدماء الآلهة، ونشاهد العلم يدافع عنهم اليوم، فمن ذا الذي يذود عنهم في المستقبل؟

وحال الشرق غير ذلك، فالشرق في طُمَأنينة وسكون، وقد بلغت شعوبه التي هي أكثرية البشر درجةً ظاهرة من التسليم الهادئ الذي هو عُنوان السعادة على الأقل، ولا عهد له بما عندنا من الانقسامات والحياة الصاخبة.

وتتمتع شعوب الشرق بما خَسِرناه من التماسك، فمعتقداتُ هذه الشعوب لا تزال قويمة، وتحافظ أُسَرُها على استقرارها القديم، وبقيت مقومات المجتمعات القديمة، كالديانة والأسرة والنظم والتقاليد والعادات، وهي التي أصابها في الغرب من الهدم ما أصابها، مؤثِّرةً في الشرق مسيطرة عليه، وليس على الشرقيين أن يفكروا في تبديلها.

٢

فصَّلنا في كتابٍ آخر طرق البحث والاستقصاء، التي يستعان بها على درس الحوادث التاريخية، تفصيلًا كافيًا، والآن نذكر أهمها: إن مبدأ «العلة» المسيطر على دراسة قضايا العلم يسيطر على دراسة حوادث التاريخ أيضًا، وأن طرق البحث والاستقصاء التي يُستعان بها على دراسة القضايا العلمية يستعان بها على دراسة الحوادث التاريخية أيضًا، فيجب، إذن، درس الحادثة الاجتماعية كما تُدرَس أيةُ حادثة طبيعيةٍ أو كيماوية.

وتخضع الحادثات كلُّها لبعض السنن، أي لنظام من الضرورات والوجوب، ويعمل الإنسان، وتسَيِّره في عمله قوًى مسيطرةٌ يسميها أناس بالطبيعة وآخرون بالحكمة الربانية أو القضاء والقدر أو المصير؛ ونحن مُسيَّرون من المهد إلى اللحد بما لا نستطيع مقاومته من القوى القاهرة الغالبة المتماسكة، ولا تعدو أقصى جهودنا وغايةُ أمانينا حد الوصول إلى معرفة بعض مظاهرها وصفاتها اللازمة.

ومَثَلُ تاريخ الإنسان كمثل سَردٍ واسع متماسك الأجزاء تتصل حلقاته الأولى بأقدم الأحقاب والعصور، وكلُّ حادثة تاريخية نتيجةُ حادثاتٍ أقدم منها، والحالُ، وهو وليد الماضي، يحمل في أثنائه وتضاعيفه بذور المستقبل، فيستطيع صاحب ذكاء ثاقب أن يقرأ سَيْر الأمور المقبلة من خلال الحوادث الحاضرة.

ولن يتَّصف أحدٌ بمثل هذا الذكاء، والإنسانُ، وإن استطاع يومًا أن يطَّلع على العوامل التي أوجبت حدوث الحال، وعلى ما في هذه العوامل من القُوى المتقابلة، يتعذر عليه تحليلُ هذه العوامل، ومما لا يقدر عليه علمُ الفلك أن يُعَيِّن بالحساب اتجاه جِرْمٍ خاضع لتأثير ثلاثة أجرام أخرى، فما تكون المسألة حين البحث عن تأثيرِ ألوفِ الأجرام في جِرْم واحد؟

ولم تُستنبط جميع السنن التاريخية المزعومة من غير ما هو تحت الحسِّ والاختبار، وهي تُقاس بملاحظات علماء الإحصاء الذين يستطيعون، بما يشاهدون ويختبرون، أن يُنبئوا، مثلًا، بعدد الوَفَيات والجرائم وأنواع الجرائم التي يُصاب بها بلد يسكنه مليونُ نفسٍ في سنة ما من غير أن يَخلُصوا إلى صميم علل الحوادث الذي هو ضربٌ من المحال، وهذه العوامل كثيرةٌ إلى الغاية.

ونشأ عن تعذُّر النفوذ إلى علل الحوادث الاجتماعية استخفاف فريق من العلماء بالعلوم التاريخية التي حاولوا الغوص فيها، قال الكاتب الفاضل مسيو رينان: «إن العلوم الافتراضية تُنقَض بعد أن توضع، وستُهمل في مائة سنة، وأوشك جيلٌ من الذين لا يبالون بالماضي أن يظهر، ويُخشى، والحالة هذه، أن تندثر قبل أن تُقرأ كُتُبُنا في دقائق الأدب وروائع الفنون التي ينال التاريخ منها ضبطًا ودقة»، ويرى رينان أن المستقبل للفيزياء والعلوم الطبيعية حيث يتجلَّى «كُنْه الوجود، ومعنى العالم، وسر الله، وما إلى ذلك.»

وقد يأمُل كلُّ واحد ذلك لا ريب، ولكننا لا نرى ما يُسوِّغ هذه الأمانى، فليس في العلوم الوضعية شيء عن الموجب الأول لأيِّ حادث كان، وكلُّ ما كشفت العلومُ الوضعية الحديثة عنه، فكانت فيه قوتُها، هو ما بين ظواهر الأمور من الارتباط، وهي حين تتناول أمورًا معقدة تَغْرَق في بحر من الفَرضيَّات والظنون، ولا تكاد العلوم الحديثة تأتي بجواب حائر عن المسائل التي يضعها الإنسان كل يوم، وهي لن تَحُلَّ واحدة من المعضلات التي تواجه الطبيعةُ بها الإنسان من مَهده إلى لحده، وهي لا تُشبِع ما تلقيه في قلوبنا من فضول أبدًا، وهي تثير الأفكار ولا تَفُك المسائل، وستلحق كُرَتُنَا الأرضية في الفضاء بالأجرام الخامدة قبل أن يجيب أبو الهول الخالدُ عن سؤال واحد.

إذن، يجب ألا يعتريَنَا الوهمُ حَوْل قدرة العلوم فنُحَمِّلَها ما لا طاقة لها به، والعلوم تبحث، فقط، في أوصاف الإنسان أو الحيوان أو النبات أو المجتمع، وفي رسم صورةٍ صادقة عن أدوار الماضي، وفي ارتباط بعض الحوادث التاريخية في بعض، ولا نطالِبُ المؤرخ بأكثر من هذا.

والعمل شاقٌّ، ويتطلب عنايةً كبيرة، ومن الصعب جمعُ ما هو ضروري من المواد لتصوير إحدى الحضارات، وأصعبُ من هذا استخدام هذه المواد.

ولم تكن هذه الموادُّ في أنساب الملوك وأخبار الملاحم والفتوحات، وإنما هي، على الخصوص، في لغات كلِّ دور وفنونه وآدابه ومعتقداته ونُظُمه السياسية والاجتماعية، ولم تنشأ هذه المواد عن المصادفات أو أهواء الرجال أو مشيئة الآلهة، بل عن احتياجات الشعوب وأفكارها ومشاعرها، وتتضمن الدياناتُ والفلسفة والآداب والفنون نمطًا خاصًّا من الشعور وطَرْزًا معينًا من التفكير، ولا تتضمن غير هذا.

نعم، إن أعمال الرجال وآثارهم تُعبِّر عن أفكارهم ومشاعرهم، وتمكننا من تصوُّر الدور الذي كانوا فيه، ولكن هذا لا يكفي، فالأممُ نتيجة ماضٍ طويل، وليست الأممُ بنتَ ساعةٍ واحدة، وهي محصولُ ما خضعت له من البيئات المختلفة التأثير، ولذا يُفسَّر حاضرها بماضيها.

ونرى تسميةَ البحث في تكوين العناصر التي تتألَّف الأمةُ منها بعلم الأجنَّة الاجتماعي، وسيكون هذا العلم أساسًا متينًا يستند إليه التاريخُ كما تستند علوم الحياة إلى علم أجنة الأحياء في الوقت الحاضر.

ولا بد لذوات الحياة من أن تقطع أطوارًا سُفليَّة قبل بلوغها درجةً عالية من الرقيّ، وقلما يكشف التاريخ لنا الغِطاء عن هذه الأطوار السُّفلية بعد اختفائها، ولم يفُت البحث العلمي أن يجمع منها ما هو أساسي من ضياع حلقاتٍ من سلسلتها، ولم تُصب المجتمعاتُ كلُّها أدوارًا متماثلة من التقدم أيضًا، ولم يجاوز الكثير منها بعدُ ما قطعه الغرب من المراحل التي هي عنوان الماضي الثابت، والذي يسير في الأرض يشاهد أدوار التاريخ البشري المختلفة منذ أقدم العصور الحجرية حتى الوقت الحاضر، وبهذا يمكن تأليفُ تاريخ إحدى الأمم، ومعرفةُ عناصر حضارتها.

ومن الممكن تأليفُ تاريخٍ لإحدى الحضارات ونموِّها بطريق البحث في المباني العظيمة والآداب واللغات والنظم والمعتقدات … إلخ، وإذا كان من النادر نيلُ كلِّ هذا فإن بعض هذا يكفي لاستخراج ما تبقَّى، فالطرق العلمية التي يصِل بها الباحث إلى تصوير حيوانٍ مستعينًا بقِطَع من هيكله العظميِّ يُستفاد منها في المباحث التاريخية أيضًا، وظهور بعض الخطوط والحروف يتضمن وجودَ غيرها دائمًا.

وقد تكون تلك الموادُّ غيرَ كافيةٍ من حيث الضبط والدقة على الخصوص، والعلم الحديث يترك إتمامها للحفدة، ومن السهل أن نتوقع اختلافًا بين كتب التاريخ التي تؤلَّف في المستقبل وكتب التاريخ الحاضرة، فستقتصر كتب تاريخ الحضارات التي تؤلَّف في القرن العشرين، مثلًا، على العُنوان ومجموعة من الصور والخرائط والمنحنيات الهندسية الدالة على تقلبات الحوادث الاجتماعية.

ويمكن التعبير عن الجسامة والطاقة والوزن والديمومة بأرقامٍ أو خطوط دائمًا، ولا نرى حادثةً نفسية أو اجتماعية مُعقدة يتعذر الإفصاح عنها بأرقام أيضًا، ويكفي للوصول إلى قياسها بمقياس أن تُفَرَّق إلى عناصرها الأساسية، ولا جرم أن علم الإحصاء أقلُّ العلوم الحديثة، التي هي في دور النشوء، تقدمًا، وما بلغه علم الإحصاء ينبِّئُنَا بفائدته المرجوَّة في المستقبل، فقد ألقى علماؤه، بما جمعوه من الأرقام، ضوءًا على إنتاج البلدان واستهلاكها وثروتها واحتياجاتها وقوة سكانها المادية والأدبية، وتباين مشاعرها ومعتقداتها ومختلف العوامل المؤثِّرة فيها.

وريثما يقع ذلك في المستقبل، الذي يُعبَّر فيه عن وقائع التاريخ والحوادث الاجتماعية بالصور والخرائط والمنحنيات الهندسية، نرى أن نستعين بأصحِّ الآثار والأدلة التي خلَّفها الماضي وأكثرها ضبطًا، وعندي أن ما لدينا من المواد التي ذكرناها يكفي لوضع صورة عن الحضارات الماضية وتاريخ تكوينها، ويجب، للانتفاع بتلك المواد، أن تُدرَس آثار الحضارات الماضية في أمكنتها، فمناظر هذه الآثار، لا الكتب، هي التي تُعرب عن الماضي، وليس في الكتب ما تُعرَف به العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية.

وتكون دِراسة البيئات في أمكنتها أمرًا ضروريًّا عندما يُبحث في أمة، كالأمة العربية، ذات آثارٍ كثيرة في مختلف الأقطار التي ازدهرت حضارتُها فيها، وتُعلِّمنا الرحلاتُ كيف نتحرر من قيود الآراء المتأصلة والتقاليد الموروثة وضلال الماضي وباطله.

وسَيَجِد القارئ في هذا الكتاب تطبيقًا للقواعد المذكورة التي ابتعدنا بها عن أكثر أحكامنا التقليدية الموروثة في الشرقيين، ولا سيما في دين محمد وتعدد الزوجات والرق والحروب الصليبية، والنُّظُم والفنون وتأثير العرب في أوربة، وما إلى ذلك.

٣

إن الآثار الباقية من حضارة العرب كثيرة، وهي تكفي لإيضاح أقسامها الجوهرية بسهولة، وقد استعنَّا بأكثرها، أي بما خلَّفه العرب من العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات.

وأكثر ما رَجَعْنا إليه في وضع هذا الكتاب هو ما نسميه الآثار الماثلة التي تستوقف النظر بأشكالها الظاهرة، وتعبر عن رغائب الزمن الذي قامت فيه ومشاعره تعبيرًا صادقًا، ولا غَرْوَ، ففيها يتجلَّى نفوذُ العروق وتأثير البيئة، وبها يمكن الوقوف على أحوال القرون الغابرة، فالكهف الذي نُحت في العصر الحجري أو المعبد المصري، أو المسجد الإسلامي، أو الكتدرائية، أو محطة السكة الحديدية، أو مخدع المرأة العصرية أو الفأس المصنوعة من الصَّوَّان، أو السيف ذو المِقبضين، أو المِدفَع الذي يزن خمسين طُنًّا، أفضل لمعرفة جميع ذلك من أكداس كتب البحث والجدل.

ولا نرى غير طريقةٍ واحدةٍ لوصف الآثار الماثلة، وهي عَرض صورها، فصور الپارتِنُون والحمراء وأَفروديت أَولى من مجموعة الكتب التي وضعها جميعُ مؤلفي العالَم لوصفها.

وما تُلقِيه صور الآثار التاريخية في الرُّوع من المعاني الصادقة يدفعنا إلى الإكثار منها في هذا الكتاب، والقارئ الذي يقتصر على تصفُّح صور هذا الكتاب يطلع على حضارة العرب وتحولاتها في مختلف الأقطار أكثر مما يَطلع عليه من الكتب الكثيرة، وذلك عدا إعفائه من مطالعة المباحث المطوَّلة في وصف تلك الآثار من غير أن يظفر منها بفكر صحيح، ولقد أصاب من قال: «إن صورة متقنة خيرٌ من مائة صفحة في الوصف»، وليس من المبالغة أن يقال: إنها خير من مائة مجلد.

ولا تكفي ألفاظ أيَّةِ لغةٍ لوصف آثار الشعوب، ولا سيما آثار الشرقيين، وإنما نطلع بالمشاهدة على مناظرها ومبانيها وفنونها وعروقها، ولا يستطيع أروعُ القول أن يؤثر في النفس بمثل ما تؤثِّر به رؤية الأشياء نفسها أو صورها عند الضرورة.

والفوتوغرافية هي التي يمكن أن تجود علينا بصور صحيحة للأبنية والآثار الفنية والمناظر وأمثلة الشعوب ومظاهر الحياة المنزلية، وبها نستعين في وضع هذا الكتاب، فما تَقدر الفوتوغرافية عليه من الدقة في بضع ثوانٍ لا يستطيعه أمهر رجال الفن في أيام كثيرة.

ولو اقتصر الأمر على تصوير المباني، مثلًا، لاستطاع رسام ماهر لا قيمة للوقت عنده أن ينافس الفوتوغرافية، ولكن مثل هذه المنافسة تتعذر عندما يجب تصوير ألوف من مناظر الحياة العامة التي هي عنوان وجود الأمة، فالفوتوغرافية وحدها هي التي تستطيع أن تُصوِّر الأشياء في أثناء حركتها تصويرًا صادقًا، وذلك كشارع يزدحم الناس فيه، أو سوقٍ أو حصانٍ جوادٍ راكض، أو موكب عرس، أو ما ماثل ذلك.

ومنذ أمس فقط أوْصَت طرق العلم الحديثة بأن يُستعان في الرحلات بالفوتوغرافية، وهذا الكتاب هو أول الكتب انتفاعًا بالفوتوغرافية، وفيه يرى القارئ مقدار النتائج المهمة التي توصلنا إليها بفضل الفوتوغرافية، وكلُّ صورة فوتوغرافية اشتمل عليها وثيقة صادقة قوية لا يتطرق إليها الوهن.

وإذ كانت الصور الفوتوغرافية من عمل الشمس وحدها حُق لي أن أناضل عن قيمتها، وعلى العالِم الذي قد يستخف بالصور التي يحتويها هذا الكتاب أن يفكر قليلًا؛ ليرى كيف تُفضَّل مجموعةٌ من الصور الفوتوغرافية على تِلال الكتب التي بُحث فيها عن اليونان والرومان، وما أكثر ما نتعلمه من الصور الفوتوغرافية، وما أحقر المؤلفاتِ بجانبها!

وليترُك فنُّ الرسم، وهو الذي قام حتى الآن بما طُلِب منه في تصوير المباني والموجودات، مكانه للفوتوغرافية التي يُركَن إليها، اليوم، في كتب العلم أو التاريخ أو الرِّحلات، نَعَم، إن في نقل الآلات الفوتوغرافية المعقدة إلى البلدان البعيدة واستعمالها لمصاعب كثيرةً، ولكنه يجب على كل عالم أو سائح ثَبَتٍ يريد أن تكون لأثره قيمةٌ أن يخضع لحكم الضرورة مهما كلفه الأمر.

ولا يُترك مثلُ هذا العمل إلا لأربابه، فإذا كان من السهل استعمال آلة التصوير والتقاط الصور، فإنه يعسُر انتخاب الآثار التي يجب تصويرها ويصعُب تعيين الأحوال التي يجب أن تكون عليها هذه الآثار وقت تصويرها.

ويكفي لإدراك درجة الاختلاف في اللون أو الصفة أو الأوضاع، أن نُنْعِم النظر في المنظر الواحد أو البناء الواحد أو الشخص الواحد الذي يُصوِّره مصورون كثير.

وعدسةُ التصوير صادقةٌ في ذلك كله لا ريب، ولكن الطبيعة هي التي تتغير، فالبناء أو المنظر الواحد الذي تضيئه الشمس في الشتاء لا يظلُّ البناءَ أو المنظر نفسه حين إضاءةِ الشمس له في الصيف، أو حين إضاءتها له في الصباح أو المساء.

وكلُّ الفن في التقاط صور الأشياء حينما تكون مؤثرة في النفس مع تَوَخِّي الضبط، ولا يكفي أن تكون الصورة صادقةً لتؤثر في النفس، فمع أنني أنظر بعين العجب إلى كتاب مسيو پيرو عن مصر أرى الصور الشاحبة الجافة التي زَيَّن بها صفحاته لا تؤثر في النفس ذاك التأثير المطلوب،٢ وغرضٌ غير هذا ما يجب على المؤلفين أن يَسعَوا إليه.

وتختلف الوسائلُ التي نشرنا بها صورَنا الفوتوغرافية على حسب تأثيرها في النفس، ففي الأمور التي قُصد بها التأثير جملة، لا تفصيلًا، حُوِّلت صورُها إلى كليشات على طريقة التجويف الفوتوغرافي الحديثة (فوتوغراڨور)، وفي الأمور التي قُصِد فيها إظهارُ الدقائق حُفِرت صُورها الفوتوغرافية بالمِنْقَاش في الخشب من غير أن يكون للرسام عمل فيها، وإذا عدوت بعض الشواذ وجدتَنا لم نلجأ، لإظهار دقائق فن البناء، إلى طريقة الرسم بالتخطيط إلا عند عدم كفاية أية طريقة أخرى غيرها.

وفي الكتاب ٣٦٣ صورة لم تُترك واحدةٌ منها لمتفننٍ يصنع فيها كما يشاء، ورغبنا عن الوثائق التي كان للخيال حظٌّ فيها مرجحين العدول عن مصدرٍ للصور الرائعة، كالتي نُشرت في كتاب مسيو إيبر ومسيو مسْپيرو عن مصر، وحازها ناشر هذا الكتاب، مقتصرين، مع الأسف، على ما استند منها — وهو قليل — إلى صور فوتوغرافية، فرأينا من العبث تكرار صنعه.

ولم تفُتْني الاستفادة من الرسوم التي صُنِعَت بأمانةٍ مع اتخاذي الفوتوغرافية أساسًا لصور هذا السِّفْر، فاستعرتُ رسومًا كثيرة من مجموعات كوست وپربس الأڨينيِّ وجونس، ولا سيما الكتابان الرائعان اللذان نشرا حديثًا في إسپانية عما فيها من الآثار الفنية والعمارات، وكان للفوتوغرافية كبير عمل في هذا، أيضًا، ما جُعِلت هذه الرسوم خاضعةً لطريقة التجويف الفوتوغرافي (الهيلوغراڨور).

وقضت ضرورة التزيين ألا أُوَزِّع صور هذا الكتاب توزيعًا مرتبًا دائمًا، وإنما يمكن القارئ أن يجد بسهولةٍ ما قد يحتاج إليه منها عند نظره إلى فهرس الصور، والقارئُ، باطلاعه على هذا الفهرس، يعلم تنوع هذه الوثائق، ويعلم ما نُشر منها في هذا الكتاب دون غيره.

وقد تعذر علينا، لضخامة هذا الكتاب وكثرة صوره، أن نُبين المصادر التي اعتمدنا عليها في هامش صفحاته، فاكتفينا بنشر فهرس شامل لها في آخره، فالقارئ الذي يريد أن يتعمق في بعض المباحث يجد ضالَّته فيه.

وليعلم القارئ أن كل فصل في هذا الكتاب هو خلاصةُ عدةِ مباحث، وما أبديته من الملاحظات يمكن عدُّه متمِّمًا لها.

ونحن إذ نختِمُ هذه المقدمة نُلخِّص المنهاج الذي اتَّبعناه في وضع هذا الكتاب، والذي نتَّبِعُه فيما نؤلفه من تواريخ الحضارات، بما يأتي، فنقول:
  • من المبادئ العامة: الوجوبُ في وقوع الحوادث التاريخية، والصلةُ الوثيقة بين الحوادث الحاضرة وحوادث الماضي.
  • ومن موادِّ التأليف: آثارُ الشعوب التي هي موضوع الدرس وتصويرُها تصويرًا صادقًا، ووصف العِرق جسمًا وعقلًا، والبيئةُ التي نشأ فيها العِرْق، والعواملُ التي خضع لها، وتحليلٌ لعناصر الحضارة، أي للنُّظم والمعتقدات والعلوم والآداب والفنون والصِّناعات، وتاريخٌ لتكوين كلِّ واحدٍ من هذه العناصر.
وإذا أصابنا التوفيق في عَرض صورة واضحة عن الأزمنة التي نرغب في بعثها، مستعينين بتلك المواد والمبادئ، فإننا نكون قد نلنا ما نتمنى.٣

هوامش

(١) كتاب «الإنسان والمجتمعات ومصدرهما وتاريخهما» وهو يقع في مجلدين.
(٢) يدرك القارئ درجة النقص في الصور التي أخذها مسيو پيرو من القاهرة عن الأهرام، والصور التي أخذها عن معابد جزيرة الفيلة وغيرها عند قياسها بجيد الصور الفوتوغرافية.
(٣) من الواجب أن أختم هذه المقدمة بشكري لمن وجدت منهم نفعًا في أثناء تأليف هذا الكتاب، وفي أثناء رحلاتي الأخيرة، وأخص بالذكر منهم العضو في المجمع العلمي ومدير مدرسة اللغات الشرقية مسيو شيفر، والأستاذ في جامعة كوانبر مسيو، ب. سيمويس، والدكتور سوزا ڨيتربو في أشبونة، ورجل الفن في غوليغان (البرتغال) مسيو شارل ريلڨا، والوزير لدى بلاط سلطان مراكش مسيو دالوين، والمسجل في القنصلية الفرنسية بالقدس مسيو دومالپيرتوي، والدكتور سوكيه، والكونت پود هوركي ببيروت، ومدير البنك السلطاني بدمشق مسيو شلو نبرغر، ومديري المكتبة الوطنية بباريس مسيو لاڨوا ومسيو تياري، والمصورين الرسامين مسيو هوبو ومسيو پيتي، ومسيو فيرمان ديدو الذي أسعدني الحظ النادر بأن أجد فيه ناشرًا لم يقصر في الإنفاق على طبع هذا الكتاب وبأن كان لي في نصائحه الأخوية ومعارفه الفنية فائدة كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤