جزيرة العرب
(١) جغرافية جزيرة العرب
جزيرة العرب هي مهد الإسلام، وهي منبت الدولة الواسعة التي أنشأها خلفاء مُحمد، ويتألف القسم الأكبر من جزيرة العرب من صحارٍ، ويحيط بها البحر الأحمر من الغرب، وبحرُ عُمان والخليج الفارسيُّ من الشرق، والمحيطُ الهنديُّ من الجنوب، وتتصل من أقصى غربها وشرقها بإفريقية وآسية.
ويحيط بجزيرة العرب من ثلاث جهات، أي من الغرب والشرق والجنوب، ثلاثة أبحر كما ذكرنا، وأما حدُّها الشماليُّ فغير واضح، وهو يمتد تقريبًا باتجاه الخط الذي يبدأ من مدينة غزة الفلسطينية الواقعة على ساحل البحر المتوسط مارًّا بجنوب البحر الميت فدمشق فالفرات، وينتهي بخليج فارس، ويبلغ طول جزيرة العرب من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها نحوَ ٢٣ درجةً أو ٢٥٠٠ كيلو متر، ويبلغ عرضها من البحر الأحمر إلى الخليج الفارسي نحو ألف كيلو متر.
وتزيد مساحة جزيرة العرب على ٣٠٠٠٠٠٠ كيلو متر مربع، أي على مساحة تعدِل فرنسة ستَّ مرات.
وليس لدينا إحصاء قاطع لنفوس جزيرة العرب في الوقت الحاضر، وقد قُدِّرت منذ بضع سنين بعشرة ملايين، ولم تَزِد على خمسة ملايين في أحدث المؤلفات، وخُمس هؤلاء السكان أهل بدوٍ على الأقلِّ.
ونحن إذا نظرنا إلى سطح جزيرة العرب رأيناه مؤلفًا من هضبة تُشبه الصحراء الإفريقية في اتساعها وسهولها القاحلة الرملية، أو الصخرية، التي تتخللها بقاعٌ منبتةٌ، وتنحدر هذه الهضبة إلى الخليج الفارسيِّ.
ويقطعُ مجاهلَ جزيرة العرب الواسعة أوديةٌ وبقاعٌ جبلية ذاتُ مُدُن وقرى يسكنها فريقٌ من الزراع، ولا تَعرف الصحراء غير أهل البدو الذين يجوبونها.
وتقع في وسط تلك الهَضْبَة العربية بلادُ نجد التي تُعدُّ جزيرةً خَصبة تحيط بها الفَلَوات والجبال بدلًا من الماء.
ويُظنُّ أن نحو نصف جزيرة العرب مؤلفٌ من بِقاع خصبة، وأن النصف الآخر من صحارٍ، وإن دلَّت الخرائط على اتساع رُقعَة الصحاري، وانقباض رُقعة البقاع الخصبة، وما في الخرائط من التفاوت ناشئٌ عن قلة ارتياد علماء الجغرافية لجزيرة العرب واضطرارهم إلى ترك البقاع المجهولة منها بِيضًا.
ولم يُعرف من سلاسل جبال جزيرة العرب الكثيرة سوى القليل، وأحسن ما عُرف منها السلسلة الممتدة على طول الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر حيث يرتفع بعض ذراها ٢٥٠٠ متر.
وفُقدان الأنهر الدائمة في جزيرة العرب مما يستوقف النظر، وتبقى أخاديدها خاليةً من الماء في أكثر أيام السنة، وتشُقُّ هذه الأخاديدُ جزيرة العرب طولًا وعرضًا، وقد يبلغ طول بعضها، كوادي الرُّمَّة: ١٣٠٠ كيلو متر، وهي تصبح كالأنهر العظيمة المعروفة حين يملأها ماء المطر.
والجدبُ والحرُّ من أظهر ما عُرِفت به جزيرة العرب منذ القديم، والجدبُ على الخصوص، هو أشدُّ ما تعانيه، ولم ينشأ عن قطع أشجار غابها بالتدريج سوى زيادة القحط، شأنُ بلادِ الجزائر الخصيبة في العهد الرومانيِّ، والجديبة في الوقت الحاضر.
ويدوم المطر في جزيرة العرب بضعة أشهر على العموم، ومتى احتبس عمَّ الخراب، وأصبحت تلك البلادُ غيرَ صالحة للسَّكن تقريبًا، ويقترن القحط في جزيرة العرب بريح السَّموم في الغالب.
وتكون درجة الحرارة في داخل جزيرة العرب مرتفعةً عادة، ولا تهْبِط في الصحراء إلى أقلَّ من ٤٣ نهارًا و٣٨ ليلًا، وتكون معتدلة في الأماكن الجبلية أو القريبة من البحر، فقد شاهد نِيبُوهر أن الحرارة في اليمن لا تزيد في أواخر شهر يوليه على ٢٩ درجة بمقياس سنتيغراد، ويكون البرد في صنعاء قارسًا في الشتاء.
والجفافُ والجوُّ المحرِق ليسا سائدين لجزيرة العرب كلِّها، مع ذلك، ففي جزيرة العرب بقاعٌ متسعة اتساع الدول الأوربية المهمة كثيرةُ الخصب كبلاد اليمن، وبلاد نجد التي لم يرَ پلغريڨُ ما هو أنفع من جوِّها للصحة في العالم.
وتجوب قبائل البدو الصحراء دائمًا، ويأخذ عيشها بمجامع قلوب الأعراب، ويُفضِّلُه الأعراب على غيره مع نَفْرَة الأوربيين منه، وليس حبُّ الأعراب لعيش البادية حديثًا، فهم حفدة العرب الذين قصَّت التوراة علينا من أنبائهم، والذين حافظوا على ما تقتضيه من أذواق وطبائع وعادات.
ومما تقدَّم ترى جزيرة العرب ذاتَ أجواءٍ وتُربة مختلفة، فيوجب هذا اختلافًا في طُرُق معايشها ونباتها وحيوانها وسكانها.
(٢) إنتاج جزيرة العرب
ويندُر شجر الغاب في جزيرة العرب، والنخلُ أظهر ما فيها، وهو الذي يكون به لمناظر الشرق شكلٌ خاص.
ومع أن الزراعة في حقول اليمن جيدةٌ، فإن العمل فيها شاق؛ لما تحتاج إليه من السقي الدائم بمياه المطر التي تُجمَع في الآبار وبين الأَسْداد.
وتعرف جزيرة العرب مثل ما نعرف من الحيوانات الأهلية؛ كالبغال والحمير والبقر والضأن والمعز … إلخ، ولا تجهل جزيرة العرب الكثير من الضواري كالأسد والنمر والفهد.
وليست الضواري أشدَّ ما يخاف سكانُ جزيرة العرب، ففيها الجرادُ الذي قد يأتي على الأخضر واليابس، وقد لا يخلو الجراد من فائدةٍ مع ذلك، فهو في الغالب، غذاء المسافرين في البادية، وطعامُ مطاياهم أسابيعَ كثيرة.
والخيل والجمال أكثر حيوانات جزيرة العرب نفعًا للإنسان، فأما الجمل، وهو أفضل حيوان أهلي عند العرب، فلا تُقطَع البادية بغيره، وهو لقناعته وقوته واحتماله المشاقَّ وصبره على العطش أيامًا، لا يقوم مقامه حيوانٌ في الركوب وحمل الأثقال، وهو يستطيع أن يجوب البادية بين حلب والبصرة حاملًا ٥٠٠ رطل مع عَلَف قليل، وهو يقدر أن يأكل ما لا يقدر حيوانٌ عليه من الطعام، وقد عجبت منه حين رأيته يأكل هادئًا مطمئنًا أوراق الصبار التي تكون على جوانب الطُّرق فيشبه شوكها المِسَلَّات.
وسرعة عدو الفرس هي التي تنقذ حياة المقاتل في الصحراء غالبًا، ومما رواه بُركهارد أن فرسانًا من الدروز هجموا في سنة ١٨١٥ على عِصابة من الأعراب في حوران، ودحروها إلى مضاربها، وأحاطوا بها من كل جانب، وأنه لم ينجُ من القتل منها سوى رجل واحد امتطى صهوة جواده، وخرق خط الحصار، وولى مدبرًا ولم يُعَقِّب، وأن أحسن فرسانهم، وهم القُساة الذين أقسموا أن يقتلوا العصابة على بكرة أبيها جدُّوا في أثره، وأن ذلك المنهزم لم يترك صخورًا وسهولًا وتلالًا إلا قطعها بسرعة الزوبعة، فلما أيقن أولئك الفرسان، بعد مطاردةٍ عنيفة دامت عدة ساعات، أنه لا أمل لهم في قتله ناشدوه أن يقف؛ ليقبِّلوا ناصية جواده الأصيل ويتركوه، فرَضِيَ بذلك، فقالوا له لما صَرَفوه كلمتهم المأثورة: «اغسِل حوافر جوادك، ثم اشرب غُسالَتها»، قاصدين بذلك إظهارَ مشاعرهم نحو جواده النجيب.
وأضيف إلى ما تقدم قولي: إن الخيول العربية لا تعرِف سوى مشيتين: الخِطاءَ والعدْوَ، وإن انقيادها لصاحبها جديرٌ بالذكر، وما أكثر ما رأيتُ العربَ يترجَّلون، وخيولهم لا تحاول الابتعاد عنهم، مع تركهم أعِنَّتها لها!
وعلى ما في الخيل من الفائدة لا تتوالد كثيرًا في جزيرة العرب خلافًا لما يُظنُّ، وسببُ ذلك: أن الخيل، وهي على عكس الجمل الذي يمكن تربيته في كلِّ مكان، لا تُنَشَّأ إلا في البقاع الخصبة، كسهول العراق وسورية، ونجد، وفي نجد وحدَها أعزُّ الخيول العربية وأرشقها.
وعُرفت جزيرة العرب في القرون القديمة بوفر معادنها الثمينة وأحجارها الكريمة، واليوم لم يبقَ أثر لذلك، ولا نعلمُ غير ما يُقصُّ علينا من الأنباء عن حديدها ونحاسها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نبدي رأيًا قاطعًا في ثروة جزيرة العرب المعدنية، فمعارفنا بها سطحية.
وتُحسب المسافاتُ بالساعات في جزيرة العرب، كما في الشرق كله، ويرى العربي أن سير الجمل ذي الحمل الخفيف في الساعة الواحدة يَعدل فرسخًا، فنجم عن هذا أن المسافات التي تلوح تافهةً على الخريطة تُقطَع في عدة أيام.
وجزيرةُ العرب خاليةٌ من الطرق المعبَّدة، والطرقُ التي تسلُكها القوافل فيها هي الأودية أو الأخاديد التي ذكرناها آنفًا، وإذا ما استثنينا هذه المسالك، التي لا تزال كما كانت عليه في الزمن القديم، رأينا مناحي جزيرة العرب تَتَعيَّن بآبارها التي تتعذَّر الحياةُ هناك بدونها، وأكثر مسالك جزيرة العرب استطراقًا هي: الطريق التي بين دمشق وبغداد، والطُّرق التي تبدأ من مدينة الرياض النجدية وتنتهي بمكة ومسقط وبغدادَ ودمشق.
(٣) أقسام جزيرة العرب
لم يَعرِف القدماء من جزيرة العرب سوى الشيء القليل، ولم يَتَحدَّث هِيرُودتس عنها في أكثر من بضع كلمات، ولا يُؤبَه للأخبار الناقصة التي أتى بها إسترابون وديودورس الصِّقليُّ، وهما اللذان أسندا إلى جزيرة العرب من المنتجات، في الغالب، وما كانت تصدره إليها بلاد الهند فتصدرها إلى الخارج، وذكر بطليموس — ويظهر أنه عَرَف جزيرة العرب أحسن مما عَرَفه أولئك — أنه كان في بلاد اليمن ١٧٠ مدينة، وعدَّ من هذه المدن خمس عواصم كبيرة.
ومعرفةُ الرومان لجزيرة العرب كانت ضعيفةً إلى الغاية، وحاول الرومان غير مرةٍ، تدويخ جزيرة العرب التي كانوا يعتقدون أنها تنتج من التوابل والأبازير والعطور والنسائج والحجارة الكريمة ما كانت تستورده من بلاد الهند والصين بالحقيقة، ولكنهم وهم الذين كانوا سادة العالم، لم يستطيعوا أن يقهروا قبائل البدو العربية التي احتمت بكُثبان الرمال وجوِّ البلاد.
ولم يتوغل الأوربيون في جزيرة العرب إلا حديثًا، ولم يعرف عنها الأوربيون، قبل نيبوهر الذي زارها سنة ١٧٦٢م، سوى ما أخذوه عن جغرافِيِّي العرب أو عن بطليموس من المعارف المبهمة، ونرى الخريطةَ التي رسمها نِيبُوهر أُولَى الخرائط العلمية عن جزيرة العرب، مع اقتصاره على السياحة في قسم من بلاد اليمن.
وقسَّم القدماء جزيرة العرب إلى ثلاثة أقسام: بلاد الحِجْر العربية (بطرا)، وهي القسمُ الشماليُّ الغربيُّ من جزيرة العرب، وبلاد العرب السعيدة، وهي القسم الجنوبي الغربي منها، والصحراء العربية، وهي قلبها وشرقها.
فأما بلادُ الحِجْر الغربية (بطرا) فتشتمل على القسم الواقع بين فلسطين والبحر الأحمر، وأما الصحراء العربية فهي البادية الكبرى التي تمتدُّ من حدود سورية والعراق إلى الفرات فإلى الخليج الفارسي، وأما بلاد العرب السعيدة فتشتمل على القسم الجنوبي من جزيرة العرب، أي على نجد والحجاز واليمن وعُمان … إلخ.
- بلاد الحجاز: وهي جبليةٌ رملية، تشتمل على الجزء المتوسط من المنطقة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، ومن بلاد الحجاز مكة والمدينة المقدستان.
- وبلاد اليمن: وهي في جَنوب بلاد الحجاز، تتألف من الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة العرب، وبلادُ اليمن أغنى جزيرة العرب وأخصبها.
- وبلاد حضر موت ومهرة وعمان والأحساء: وهي تلي اليمن كما يبدو من الخريطة، تمتد من خليج عدن إلى أقصى خليج فارس.
- وبلاد نجد: وهي هضبةٌ خصبة ذاتُ مدن مهمة، تقع وسط جزيرة العرب، وتحيط بها الفلوات والمفاوز من كلِّ جانب.
ولا مطابقةَ بين هذه التقسيمات، التي يرجع أكثرها إلى أقدم أدوار التاريخ، وتقسيم جزيرة العرب السياسي، فقد كان العرب قبل ظهور محمد منقسمين إلى ألوف من القبائل المستقلة، ثم قامت الدولة العربية فتألفت من تلك القبائل أمة واحدة، ثم عاد سكان جزيرة العرب، بعد زوال تلك الدولة، إلى حالهم السابقة، وأصبحتَ لا ترى في جزيرة العرب غير إماراتٍ صغيرة وقبائل مستقلةٍ تخضع كلُّ واحدة منها لرئيس واحد، ولا يُستثنى من ذلك سوى الممالك الثلاث: نجد واليمن وعُمان.
وإليك بيانًا موجزًا عن مختلف الأماكن التي ذكرناها آنفًا:
(٣-١) بلاد الحجر العربية (بطرا)
ذكرنا آنفًا أن جغرافيِّي العرب لم يَعُدُّوا بلاد الحِجر من أقسام جزيرة العرب، ونحن لا نستطيع إلا أن نَعُدَّها من تلك الأقسام من الناحية الجغرافية والناحية الإثنوغرافية.
وتتألف «بلاد الحِجر» من جزيرة سيناء الممتدة من حدود فلسطين إلى البحر الأحمر، ويدلُّ اسم «بلاد الحِجر» على حقيقتها، وذلك أنه يقع في وسط جزيرة سيناء طَوْدٌ من الصَّوَّان يُسمَّى طور سيناء، ويحيط بهذا الطَّود بقعةٌ صخرية ذات نبات قليل ضعيف، وتصبح هذه البقعة رمليةً بالقرب من الساحل.
وكانت جزيرة سيناء ذاتَ شهرة في التاريخ مع فقرها، فهي بلاد الأدوميين والعمالقة والأنباط والمديانيين الذين ذُكروا في كتب العبريين كثيرًا، وفيها تاه بنو إسرائيل زمنًا طويلًا بعد خروجهم من مصرَ وقبل دخولهم أرض الميعاد، ولا يزالون يشيرون هنالك إلى الجبل الذي بلَّغ منه موسى شريعتَه إلى قومه، وإلى الحجر الذي ضربه موسى بعصاه فانبجس منه الماء، وإلى كهف جبل حوريب الذي توارى فيه النبيُّ إيليا خوفًا من غضب الملكة إيزابيل.
وتُرى في تلك البلاد القديمة التي قصَّت التوراة علينا أخبارها خرائبُ بلاد الحِجْر (بطرا)، وهي أنقاضٌ للمخازن التي كانت قبائل اليمن تجلُب إليها اللُّبان والأطياب لمبادلتها بسلع الفنيقيين.
(٣-٢) بلاد نجد
بلاد نجد هضبة واسعة خصبة واقعة في وسط جزيرة العرب، وتحيط بها الفلوات والجبال من كل جانب.
واطِّلاع الناس على شؤون هذه الهضبة التي تقوم عليها الدولة الوهابية أمرٌ حديث، وقد قال پلغريڨ عن سكانها: «إن بينهم، كما بين سكان شفيلد وبِرْمنغم، مهندسين قادرين على إنشاء خطوط حديدية وصنع آلاتٍ وبواخر»، ثم ذكر پلغريڨ، في أثناء كلامه عن نجد، أن من الباطل أن تُوصم جزيرة العرب بالتوحش، وأن يُحكم عليها بما يلاقيه السياح الذين لا يقصدون سوى بعض بقاعها الساحلية على العموم.
وعلى ما أصاب الوهابين من الانهزام أمام المصريين في سنة ١٨١٠ وسنة ١٨١٨ لم تلبث الدولة الوهابية أن أعيد بنيانها، ويقيم أميرها عادةً في مدينة الرياض العظيمة الشأن.
والزراعةُ أهم ما يعتمد عليه سكان نجد، وقد قال پلغريڨ: «تُثْبت وفرة الذُّرة والقمح والتمر الجيد في نجد أن النجديين زُرَّاعٌ ماهرون.»
(٣-٣) بلاد الحجاز
بلاد الحجاز واقعة على ساحل البحر الأحمر وتشتهر، على الخصوص، بأنها مهدُ الإسلام وبمكة والمدينة المقدستين اللتين يأتيهما، في كل سنة، ألوف الحجيج من أقصى نواحي العالم الإسلامي.
وتشتمل بلادُ الحجاز على بقاعٍ خصبة، ولكن مُعظم بقاعها غيرُ ذي زرع، ونرى شريف مكة الأكبر، الذي يقيم بالطائف، هو الذي يقبض على ناصية الحكم فيها، وإن كانت تابعة لسلطان الآستانة بالاسم.
ومكةُ من المدن الواقعة في وسط الصحراء، ولا نشاهد مثلَها في غير جزيرة العرب، ولا تفي أرَضُوها غيرُ الخصبة باحتياج سكانها، فيجلب هؤلاء السكان الحبوب، التي يضطرُّون إليها، من مدينة جُدَّة التي هي مرفأٌ لمكة واقعٌ على ساحل البحر الأحمر.
وجَهِل الأوربيون مكة، التي سماها أهلوها بأمِّ القرى، زمنًا طويلًا، ولا يستطيع أوربيٌّ أن يدخلها من غير أن يُعرِّض نفسه للقتل، وما قدر عليه بعضُ السياح من زيارةٍ لها كان بفضل تَنَكُّرهم وتضلُّعهم من اللغة العربية، ولم يكن لدينا عنها، فيما مضى، غير رسوم ناقصة لا يُركن إليها عند البحث الصحيح، ونستطيع، اليوم فقط، أن نتمثلها تمثلًا صحيحًا بفضل الصور الفوتوغرافية التي التقطها أحد رجال الجيش المصري، صادق بك، والتي انتهت إلينا بأوربة في سنة ١٨٨١، فاستعنَّا ببعضها في هذا الكتاب.
ولا تُفضَّل مكة على المدن العربية الأخرى بغير نظامها الكبير، ويندرُ الماء فيها، ويُجلب إليها أطيبُ الماء بقنواتٍ من ينابيع عَرَفَة التي تبعُد منها بضع ساعات، وتقول القصة: إن زوجة الخليفة الأشهر هارون الرشيد المفضَّلة، زبيدة، هي التي أنشأت تلك القنوات.
وتصبح مكة في موسم الحج أغنى مراكز العالم الإسلاميِّ التجارية وأكثرها تنوعًا، ويقوم في وسطها المسجد الحرام الذي ذاعت بفضله شهرة (أم القرى)، وتقوم الكعبة الشهيرة، التي يقول مؤرخو الشرق إن إبراهيم هو الذي أنشأها، في المسجد الحرام، وتنافس الخلفاء والسلاطين والفاتحون منذ زمن محمد في تزيين المسجد الحرام بسائق التقوى، فلم يبقَ شيء من زخارفه الأولى.
والمسجد الحرام مُرَبَّع الشكل، ويَجِدُ المرء نفسه، بعد أن يدخله من أحد الأبواب، في باحة فسيحة تحيط بها أقواسٌ قائمة على غابة من الأعمدة، وتعلو هذه الأعمدةَ قِبابٌ صغيرة كثيرة، وتقوم مآذنُ المسجد الحرام على مختلف أجزاء ذلك المُربَّع.
واتُّخذ المسجد الحرام المكي مثالًا في إنشاء كثير من مساجد سورية على الخصوص، ورأيتُ في دمشق مساجد كثيرةً مبنية على طراز الحرم المكي، وتختلف مساجد القاهرة عنها بشكل مآذنها ودقائق زخارفها بعض الاختلاف.
ويقع المعبد الصغير، الكعبة، في باحة الحرم المكي، والكعبة بناءٌ مكعَّبٌ ذو حجارةٍ سُمر، ويبلغ ارتفاعها أربعين قدمًا وطولُها ثمانيَ عشرةَ قدمًا وعرضُها أربع عشرة قدمًا على حسب رواية بركهارد، وليس للكعبة سوى باب واحد يرتفع عن الأرض سبع أقدام، ولا يُوصَل إليه إلا بسلَّم مُتنقِّل يَنْصِبُونه في موسم الحج، ويتألف داخل الكعبة من حجرة واسعة مُبلَّطةٍ بالرخام، ومُنَارةٍ بمصابيح مصنوعةٍ من الإبريز ومزخرفةٍ بالكتابات.
والحجر الأسود الأشهر مُدمَّجٌ في أحد جُدُر الكعبة الخارجية، ولا يزيد قطر الحجر الأسود، وهو الذي يقول العرب إن الملائكة أتوا به من الجنة؛ ليكون مَوْطِئًا لإبراهيم حين بنائه البيت الحرام، على سبعة قراريط، ولا نعلم شيئًا كرَّمه الناس زمنًا طويلًا كالحجر الأسود الذي كان موضع احترام وتبجيلٍ قبل ظهور محمد بقرون كثيرة.
وتُكسَى الكعبة في كل سنة كسوةً سوداء تسترها كلها عدا موضع الحجر الأسود وبضع أقدام من أسفلها، ويُعصَب أعلى الكعبة، في أوائل مواسم الحج، بنطاق موشَّى بآيات قرآنية مكتوبة بحروف من ذهب.
ويقوم في ساحة المسجد الحرام، أيضًا، بناءٌ مربع ساترٌ لينبوعٍ، تقول القصة: إن مَلَكًا فجَّره حين حَجَبَتْ هاجر وجهها لكيلا ترى — وهي هائمةٌ على وجهها في البادية — ولدها إسماعيل يموت عطشًا.
ويجزِمُ مؤرخو العرب أنه كان يسكن مكة مائةُ ألف نفس في غابر الأزمان، ويرى بركهارد أنه لا يقطُن بها سوى عشرين ألف نفس في الوقت الحاضر.
وتقع المدينة في الحجاز أيضًا، وهي أقدمُ عاصمة للدولة العربية، وتلي مكة في الشَّرف عند المسلمين من الناحية الدينية، فإلى المدينة هاجر محمد، وفيها تُوفِّي بعد أن وَطد دعائم دينه.
وتحيط بالمدينة أرضٌ جديبةٌ كما تحيط بمكة، ولا تُنبت هذه الأرض ما يحتاج إليه أهلوها من الحبوب، فيجلب هؤلاء الأهلون ما يُضطرون إليه منها من ميناء ينبع الواقع على ساحل البحر الأحمر.
وأصبحت المدينة ذات غنًى وثراء بفضل تقوى الحجاج وبرِّهم، وتتألف بيوتها، المبنية من الحجارة المنحوتة، من طبقتين على الأقل، وشوارعها مبلَّطةٌ، ويحيط بها سور مرتفع.
وليس في المدينة مبانٍ قديمة، خلا مسجدها المشهور الذي دُفن فيه محمد بعد أن كان يُعلِّم الناس فيه أحكام الإسلام، وصارت المدينة، بفضل قبر الرسول، مكان حج وزيارة مهمٍّ مثل مكة تقريبًا.
(٣-٤) بلاد عسير
تقع بلاد عسير الواسعة بين الحجاز واليمن، وكان الأوربيون يجهلونها حتى أوائل القرن التاسعَ عشرَ، ونحن لا نعلم من أمرها سوى أنه يسكنها قوم مقاتلون، وأنها ذاتُ مدن مهمة كثيرة.
(٣-٥) بلاد اليمن
تتألف بلاد اليمن من القسم الجنوبيِّ الغربيِّ من جزيرة العرب، وهي أغنى جزيرة العرب وأخصُبها وأكثرها سكانًا، وهي أهم جزء من البقاع التي كان يسميها القدماء «بلاد العرب السعيدة.»
ويتعاطى سكان اليمن الزراعة والتجارة معًا، وترجع علاقاتهم بالمصريين والفرس والهنود وغيرهم إلى أقدم القرون.
واليوم يدين أهلُ اليمن بالطاعة لمن يُسمونه «الإمام»، ويقيم الإمامُ بصنعاء التي يبلغ عدد سكانها ستين ألفًا، ومن قول العالم الجغرافيِّ العربي الإدريسي عن صنعاء: أنها كانت مقرَّ ملوك اليمن وعاصمة جزيرة العرب، وأنه كان لملوكهم قصرٌ متين شهير، وأنها كانت تشتمل في زمانه على عدة قصور تحيط بها الحدائق الواسعة، وعلى بيوتٍ مصنوعة من الحجارة المنحوتة ومحتويةٍ نوافذَ زجاجية، وأن فيها عشرين مسجدًا تعلو أكثرها قِباب مذهَّبةٌ فتساعد على تزيين هذه العاصمة القديمة.
ولا تزال صنعاء أهم مدن جزيرة العرب، وقال مسيو هاليڨي الذي زارها منذ زمن قريب: «يذكرنا فنُّ عمارتها بالمباني الشهيرة التي شِيدَت على حسب فن العمارة الإسلامية.»
وتشتهر مدن اليمن، ولا سيما الروضةُ القريبة من صنعاء، بحدائقها وبيوت لهوها، ويُستعان في الروضة بالكَرْمة في صنع العُرُش كما يستعان بها في إيطالية.
وتقع بعد ثلاثين فرسخًا من صنعاء خرائبُ مدينة مأرب أو سبأ التي كانت عاصمة البلاد في غابر الأزمان، فغدت اليوم قريةً، وكانت تلك الخرائب تشتمل في زمن الإدريسيِّ، الذي ألَّف كتابه في القرن الثاني عشر من الميلاد، على أنقاض قصرين أقام أحدهما سليمان وأقامت الآخر نساءُ داود (!) وكانت الملكة التي زارت سليمان تملِك سبأ كما روت كتب اليهود.
والبنُّ من أهم ما تنتجه بلاد اليمن في الوقت الحاضر، فتصدره إلى أنحاء العالم قاطبةً، ومع ما يزرع من البن الوافر في كثير من بقاع الأرض لم يبلغ من حيث الجودة في مكانٍ ما بلغه في بلاد اليمن ذات الجو الخاص، وتعدُّ مخا مستودع البنِّ اليمني.
وليس لملوك اليمن في الوقت الحاضر ما كان لأسلافهم في القرون الخالية من الجلال والعظمة، ولا يعدو سلطانهم الآن حدود المدن الكبرى، ولا يتناول نفوذُهم مختلفَ القبائل المستقلة المنتشرة في نواحي البلاد.
(٣-٦) بلاد حضرموت ومهرة وعُمان والأحساء
تمتد بلاد حضرموت ومهرة من شرق اليمن إلى عُمان، وتقع على طول ساحل المحيط الهندي، وتسكنها قبائلُ مستقلةٌ، وفيها بضع مدن تكاد تكون مجهولةً.
وعاصمة حضرموت هي مدينةُ شيبامَ الواقعة على مسيرة يوم من مدينة تريمَ المهمة، التي يبلغ عددُ مساجدها عددَ ما في رومة من الكنائس كما روى فريسنل.
وتقع بلادُ عمان، التي تأتي بعد مهرة، على ساحل المحيط الهندي والخليج الفارسي وهي رمليةٌ تتخللها واحاتٌ كثيرة وأوديةٌ خصبة، ومقرُّ سلطانها مدينةُ مسقط التي لا قيمة لها اليوم.
وليست بلادُ الأحساء الممتدةُ من عُمان إلى مصبِّ الفرات، والواقعةُ على طول الخليج الفارسي معروفة جيدًا، ويُظنُّ أنها قليلةُ السكان، ويُعدُّ القسم الذي بين مدينة القطيف والبصرة صحراء واسعة، وتقع تجاه هذا القسم جزر البحرين التي هي أشهر مغاوص اللؤلؤ في العالم.
لقد أتينا ببحث موجز عن جزيرة العرب، وعلينا أن ندرس الآن أمر سكانها، وسنرى أن العالم لم يعرف قطرًا طبع بجوه وأرضه طابَعه على شعب كما طبعت جزيرة العرب بجوِّها وأرضها طابَعها على من يسكنها من الأهلين.
ولا تنفع أنباءُ الفتوح وأخبارُ الملوك في الوقوف على تاريخ إحدى الأمم، والذي ينفع في ذلك هو البحثُ في مختلف العوامل التي أثَّرت في تطورها، والتي يجيء عامل العرق الذي تنتسب إليه في مقدمتها.
فما سجايا هذا العرق الخلقية ومواهبه العقلية؟ وماذا اعتورَ هذا العرقَ من التغير بفعل البيئة والوراثة والعلاقات بالأمم الأخرى؟
هذا ما نرغب في معرفته، وما نسعى إلى درسه في هذا الكتاب.