العربُ
(١) مبدأ العرق كما أقرَّتْه العلوم الحديثة
أرى، قبل البحث في العرب، أن أمهِّد الأمر بدرس ما هو ضروريٌّ من أوصاف الإنسان وقوفًا على هذا الفصل.
تقسَّم الجماعات البشرية المنتشرة في مختلف أقطار الأرض إلى عروق، وكان يُظنُّ أن الفروق بين العروق البشرية أقلُّ مما هي عليه بين أنواع الحيوان، بيد أن العلم الحديث أثبت أن عروق البشر مفترقةٌ في أخلاقها افتراق أنواع الحيوان المتقاربة، فيجب عدُّ كلمة «العِرْق» بالنسبة إلى الإنسان مرادفةً لكلمة «النوع».
ويمكن تعريف العِرق، أو النوع البشري، بأنه يدلُّ على جماعات ذات أخلاق مشتركة تنتقل إليها بالوراثة انتقالًا منتظمًا.
ويرى الذين لم يدرسوا علم أوصاف الإنسان أن «الأمة» و«العرق» كلمتان مترادفتان تقريبًا، مع أن لهما معانيَ مختلفة تمامًا، فالأمةُ: هي جماعة من الناس الذين ينتسبون، في الغالب، إلى عروق كثيرة جمع بينها نظامُ حكم واحد ومصالح واحدة، فإذا صح ما ندعوه الآن بالأمة الإنكليزية أو الأمة الألمانية أو الأمة النمسوية أو الأمة الفرنسية مثلًا، لم يبقَ ما تصح تسميته بالعِرق الإنكليزي أو العرق الألماني أو العرق النمسوي أو العرق الفرنسي، فكل أمة من هذه الأمم هي من تباين المحاتِد والأصول ونقص الادِّغام ما لا يجوز معه أن تطلق عليها كلمة «العرق»، أجل، إن من الجائز أن تنضوي جماعات بشرية كثيرة إلى قوانين واحدةٍ، وأن تدين هذه الجماعات بديانة واحدة، وأن نتكلم بلغة واحدة، ولكنه لا يتألف منها عرقٌ متجانس إلا بعد أن تستقرَّ فيها أخلاق واحدة وصفاتٌ جثمانية واحدة بفعل البيئة والتوالد والوراثة.
ويتطلَّب كسب هذه الأخلاق والصفات زمنًا طويلًا جدًّا، والصفات الموروثة إذا كانت لا تستقرُّ إلا ببطوء فإنها لا تزول إلا ببطوء، وبأقصى البطوء تندمج العروق وتتحول، ويجب، لكي يكون للبيئات والتوالد أبلغُ الأثر في تكوين العرق، أن يتوالى التطور، ويتراكم بفعل الوراثة المتتابعة المستمرة قرونًا كثيرةً سائرًا نحو غرض واحد.
وإنما تؤثِّر البيئات في العروق الحديثة، أي العروق التي تنشأ عن توالد مختلف الأمم ذات الصفات المتباينة، فإذا ما فلَّت الوراثةُ الوارثةَ وانحلت بذلك مقوِّمات الماضي القديمة الموروثة بفعل الوراثة الجديدة خلا الميدان للبيئة وقامت بعملها.
والتوالدُ، لكي يكون مؤثرًا، يجب أن يتكرر، وألا تتفاوت كثيرًا نِسب من يتوالدون من أفراد مختلف العروق، وإذا عظُم التفاوت في نِسب العناصر المتوالدة كانت الغلبة لصفات العرق الوافر العدد، لا لصفات العرْق القليل العدد الذي لا يَبقى له أثر من حيث النتيجة، وقد دلَّ الاستقراء على أن رهطًا من البيض لم يلبث أن يزول أثره بعد بضعة أجيال إذا ما توالد هو وقومٌ من الزنوج، وأن صفاتِ أمةٍ مقهورة صغيرة تزول بالتوالد أمام صفات أمةٍ منتصرة كبيرة.
(٢) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق
بيد أنه توجد صفات نفسية، وإن شئت فقل سجايا خُلُقِية، ثابتة ثبات الصفات التشريحية، وأنه سيأتي يوم تكون فيه هذه الصفات النفسية، التي أغفلها علم أوصاف الإنسان الحديث، أساسًا لتقسيم العروق، فلا يقول فيه أشدُّ الناس تمسكًا بالأوصاف التشريحية: إنه ينال، باطلاعه على صفات العرقين المتقابلين التشريحية، معارف أكثر من التي ينالها باطلاعه على صفاتهما النفسية.
وتأتي الصفات النفسية المتشابهة بنتائج متشابهةٍ دائمًا كما تأتي الصفات التشريحية، ومن يُنعم النظر في تطور إحدى الأمم يَعجب مما يلاحظه من تجلِّي سجاياها الخُلُقية على نمطٍ واحد في غضون الأجيال، وتنشأ عن الصفات النفسية نُظُمُ الأمة وشأنُها في العالم على الخصوص، وتستتر تحت الأخلاق، أي تحت المقوِّمات التي تُولد مع الإنسان وتُقَرِّر طِرازَ شعوره وفعله، عوامل السَّير اللاشعورية.
وتختلف الأخلاق باختلاف العروق، ونفسر بهذا الاختلاف السببَ في أن النُّظم المتشابهة تأتي بنتائج مختلفةٍ عند إدخالها إلى أمم مختلفة، ونفسر به، مثلًا، علة الفوضى السائدة لجمهوريات أمريكة الإسپانية البائسة وما تتمتع به جمهورية الولايات المتحدة من السعادة والرخاء مع تماثل نُظُم هذه البلاد وتلك.
وفي الماضي تنضَج عوامل السَّيْر، ومنه تتسرب فينا، وفي الماضي الطويل تتكون المروءة والنشاط والشجاعة والمبادرة وردع النفس وكبح العواطف، وغيرُ ذلك من الأخلاق والمشاعر التي يرثها أبناءُ الجيل الحاضر؛ لينقلوها إلى جيل المستقبل، والتي لا يستطيع أيُّ نظام أن يمنحها.
وعلى ما في السجايا الخُلقية من الثبات نراها تقدر، كالصفات الجثمانية، أن تتحول ببطء بتأثير مختلف العوامل، ولا سيما البيئةُ المادية والمؤثراتُ الأدبية والتوالد، ومن ذلك اختلافُ أخلاق الروماني الذي كان معاصرًا لهيلو غابال عن أخلاق أجداده في العصر الجُمهوريِّ، واختلافُ سكان الولايات المتحدة في الأخلاق عن آبائهم الإنكليز.
والأخلاقُ في طريق التحول عند أكثر الأمم الحاضرة، وهي لا تزال بعيدةً من الرُّسوخ، فقد نشأ عن الفتوحات العظيمة التي ظهرت بها الأمم الحاضرة أن تقابلت عناصر كثيرة التباين فاختلط بعضها ببعض قليلًا، ولمَّا يمضِ من الزمن ما يكفي لاكتسابها كثيرًا من المشاعر المشتركة.
(٣) منشأ العرب
عُدَّ العربُ واليهود والفنيقيون والعبريون والسوريون والبابليون والآشوريون، الذين استوطنوا جزيرة العرب وآسية الصغرى حتى الفراتِ، من أصلٍ واحد، ويُطلق على هذا الأصل اسم الأَرومة السامية.
وتقوم قرابة هذه الأمم على تجانس لغاتها، واشتراكِ أبنائها في صفاتٍ جُثمانية متماثلة كاسوداد شعورهم وكثاثَةِ لُحَاهم وكُمْدَة ألوانهم … وما إلى ذلك، ومن الممكن أن نجادل في قيمة هذه الصفات، ولكننا إذ نخرج بهذا عن الغرض، نرى الاقتصار على اقتباس ما ورد عنها في بعض المتون.
«وأما المثال الآخر: فيتصف بقامته الطويلة الثقيلة، وأعضائه العَضِلة، ووجهه العريض الثخين، وفكِّه القوي البارز، وذقنه الناتئ، وفمه الضخم، وشفتيه الغليظتين، وأنفه الأقنى الواسع، وحاجبيه المقترنين، وعينيه السوداوين الكبيرتين، وجبينه الضيق المستقيم، ونجد هذا المثال بين الآشوريين واليهود وعرب الجنوب والمصريين الذين تجري في عروقهم دماءٌ إفريقية لا ريب، وذلك لما تدل عليه خطوط سَحَناتهم ونِسَبُ أجسامهم.»
ومهما تكن وَحْدةُ هذه الصفات التي نجادل في قيمتها، ومهما تكن أهمية هذه القرابة السامية التي لا نجزم بها نراها ترجع، على فرض وجودها، إلى ما قبل التاريخ، وقد كانت هذه الأمم السامية على اختلافٍ وتباينٍ منذ أقدم عصور التاريخ كما دلت عليه الروايات.
وإذا جاز لنا أن نحكم في مبادئ السامِيِّين السياسية والاجتماعية، من خلال مبادئنا الحاضرة، رأيناها قبليَّةً غيرَ راقية، وذلك مع الاعتراف بأن الأمم الساميَّة أقامت حضاراتٍ عظيمةً، وأن ثلاثة من الأديان الخمسة أو الستة التي تسود العالم (وهي اليهودية والنصرانية والإسلام) نشأت عن الفرعين الساميين: اليهود والعرب.
وكانت القرابةُ بين العرب واليهود وثيقةً، ودليل ذلك ما بين لغتي تينك الأمتين وتقاليدهما من التشابه.
ويجب لكي نتمثل القرابة بين اليهود والعرب، أن نعود إلى عصر إبراهيم الذي نرى أن قبيلته الصغيرة كانت تغزو جيرانها، وتُلقي الذعر فيهم، كما تغزو قبائل البدو العربية الحاضرة جيرانها وتخيفهم، ولنَعْلَمْ، كما أُرجِّح، أن أسر اليهود في مصر لم يكن سوى نتيجةِ غزوةٍ أسفرت عن حصر المصريين لليهود النَّهَّابين في مكان من شمال مصر لم يستطيعوا الخروج منه في زمن موسى إلا بعد إقامتهم به زمنًا طويلًا، وبلوغهم من النفوس عددًا تمكنوا به من مقاومة الفراعنة، والرجوع لمدة أربعين سنة إلى حياة البادية، وما كانت حياة اليهود لتختلف، إلى زمنِ داودَ، عن حياة الصَّحاري التي أَلِفتْها قبائلُ البدو العربية في فلسطين وجزيرة العرب.
(٤) تنوُّع شعوب العرب
يَعُدُّ أكثرُ الأوربيين العرب عِرقًا واحدًا على العموم، وكلُّ مسلم، عند هؤلاء الأوربيين، يسكن بقاع آسية وإفريقية الممتدة من مراكش إلى جزيرة العرب، هو عربي، وذلك كما يَعد العرب جميع الأوربيين من إنكليز وألمان وطلاينة وروس أمة واحدة يُسَمُّونها الإفرنج.
والحقُّ أن تَمَثُّل الأوربيين للعرب على هذا الوجه هو من عدم الصحة كتَمَثُّل العرب للأوربيين، وذلك أنه يوجد بين العرب مُثُلٌ كالتي تُشاهَد في أوربة، وأن العرب قد انتهوا، بما صادفهم من البيئات، وبما اختلطوا به من الأمم، إلى أمزجة كثيرة معقدة إلى الغاية.
وعلى ذلك أصبح عربُ مكة، بعد أن كان يتألف منهم عِرْق خالص في الماضي، مزيجًا من أبناء مختلف الشعوب المنتشرين فيما بين المحيط الأطلنطي ونهر السند والذين يحَجُّون مكة في كلِّ سنة منذ زمن محمد، وقُل مثل هذا عن عرب إفريقية وسورية الذين اختلطوا بالفنيقيين والبربر والترك والكلدان والتركمان والفرس والأغارقة والرومان، ولا تستثن من هذا أجزاء جزيرة العرب الوسطى المنعزلة، كبلاد نجد، التي اختلط أهلوها بالزنوج على نِسبٍ واسعة منذ قرون.
وعجبتْ ليدي بلنت من عدم الاكتراث لأمر اللون أيضًا، وذلك في رِحلتها إلى بلاد نجد في سنة ١٨٧٨، فرَوَتْ أن حاكم مدينة سكاكة النجدية زنجيٌّ أسودُ كريه الملامح كزنوج إفريقية، ثم قالت: «إن مما لا يصدقه العقل أن يحيط بهذا الحاكم الزِّنجي، الذي لا يزال عبدًا، رهطٌ من النُّدماء البيض الخالصي العروبة يمتثلون أوامره، ويبتسمون استحسانًا لأفاكيهه التافهة.»
واختلاطُ مختلف العروق أظهر ما يكون لدى أهل الحضر من العرب، ويباهي كلُّ عربي بوجود نسوةٍ من مختلف الألوان في دائرة حريمه، ويتجلى صفاءُ العرق في سكان الجبال وأهل البدو من العرب أكثر مما في غيرهم، وذلك مع ملاحظة وجود أناسٍ من أهل بادية الشام الشرقية، القريبة من تَدْمُر على الخصوص، شُقْرٍ زُرْقِ العيون بسبب اختلاطهم بأهل الشمال على ما يَلُوح.
(٥) وصف الفوارق بين العرب
إن الفارق الأساسيَّ الوحيد بين العرب هو ما أيدته تقاليدهم وطُرُق معايشهم، وهو تقسيمهم إلى أهل حضر وأهل بدو، ويجب ألا يغيب هذا التقسيم الجوهري عن البال حين البحث في تاريخهم، فأما أهل البدو، وهم الأعراب الموزعون فيما بين المحيط الأطلنطي وخليج فارس، فلهم طُرُق معايش وعادات وطبائعُ لا تزال كما كانت عليه منذ آلاف السنين، ويحتمل أن تبقى هكذا إلى الأبد، وهم مقسَّمون، كما في العصر الإسرائيلي، إلى قبائل ترتحل عن الأماكن المقيمة بها عندما تستنفد مواشيهم ما عليها من الكلأ، وأما أهل الحضر من العرب فهم، على العكس، يتغيرون بتغير الأماكن والشعوب التي يخالطونها.
وإن تقسيم العرب إلى أهل حضرٍ وأهل بدو يطابق ما في الرواية التي قالت بتقسيمهم إلى ثلاثة عروق: العِرْقِ الذي باد وعفا أثره قبل الإسلام، والعرق المؤلَّف من أبناء قحطان الذين استقروا ببلاد اليمن والذين هم أقحاحُ العرب، والعرق المؤلَّف من ذرية إسماعيل الذي هو ابن جارية إبراهيم المصرية.
وتعلم مما قلناه آنفًا عن العرب المعاصرين الذين هم وليدو توالدٍ مختلفٍ أنه يتعذر وجود مثال خالص خاص بالعرب؛ بسبب ما تعرَّض له العرب من التمازج كتعذر وجود مثَّال فرنسيٍّ أو إيطالي.
وأحسنُ وصفٍ قيل في مثال العرب الجثمانيِّ، الذي يطابق فريقًا كبيرًا من العرب الخُلص، هو ما ذكره الجرَّاح الأول السابق في الجيش المصري، لاري، في الكلمات الآتية، وهي:
ويُقَسَّم أهل البدوِ أو الرعاة من العرب إجمالًا إلى قبائلَ كثيرةٍ مُوَزَّعة في أطراف الأراضي الخصبة القريبة من البادية، وتُقيم القبائلُ بمضاربَ وخيامٍ تُنقَل من مكان إلى آخر عند الضرورة، وعلى ما بين أبناء القبائل العربية والعرب المتمدنين من الشَّبَه نرى أبناء القبائل العربية يُميَّزون بتألق عيونهم وغموض ملامحهم، واعتدال قامتهم وسرعة عَدْوهم، وضمورهم وقوَّتهم، وتوثُّبهم وخُيلائهم وعِتقهم، وحذرهم وبأسهم ونجدتهم ولباقتهم، وذكائهم النادر وفُرُوسِيتهم ورمايتهم، واستعدادهم العظيم لاحتراف مختلف المِهَن والصناعات.»
وأشدُّ ما استوقف نظري من الأوصاف التي وصف لاري بها العربَ هو ما شاهدته، على الخصوص، من التماع عيون صبيانهم، وبياض أسنانهم، ودقَّة أيديهم وأرجلهم، وهيف قامتهم … وما إلى ذلك مما لا يُرى اليومَ في غير عرب البادية.
وإذا عَدَوْت ذلك التقسيم الأساسي وجدت أن الفارق العملي الوحيد الذي بين العرب المولَّدين هو ما يقوم على البحث في سكان كلِّ قطر يسكنه العرب، وهذا ما نفعله حينما نَصِفُ بالتتابع عربَ جزيرة العرب وسورية ومصر وإفريقية والصين، وصفاتُ هؤلاء النفسية، لا صفاتُهم الجثمانية، هي أكثر ما نبحث فيه، مع أن نَشْرَ صورنا الفوتوغرافية أنفع في تَمَثُّلِ هذه الأمثلة من أيِّ بيانٍ مفصل كان.
(٥-١) عرب جزيرة العرب
عرب البقاع الوسطى من جزيرة العرب، ولا سيما الأعراب، هم، مع اختلاطهم بأناسٍ من الزنوج، أكثرُ العرب مشابهةً لأجدادهم الأقدمين، وهم الذين سنبدأ بالبحث فيهم.
ويتألف من الأعراب، الذين يَظُن الكثيرون أن جزيرة العرب لا تشتمل على غيرهم، عِرق جَلِيفٌ بعيد من التمدن عاطلٌ من أيِّ تاريخ كان، ونحن إذا ما استثنينا الدين نرى أنه لم يتبدل فيهم شيء منذ ألوف السنين، وعلى من يودُّ أن يعرف ما كانوا عليه منذ ثلاثة آلاف سنة أن ينظر إلى حاضرهم، وهم الذين لم يطرأ على ما وصفهم به هيرودتس أو التوراة شيءٌ، وهم الذين قُدِّر عليهم ألا يتحوَّلوا، وإذا كان من فضل البقاع الخصبة، كاليمن، أن تُنشِئَ أهلَ حضرٍ، فإنَّ رمال الصحراء القاحلة لا تصلُح لغير الأعراب.
وسكانُ البدو من العرب مُقسَّمون، في كلِّ زمن، إلى قبائل صغيرةٍ تخضع كل واحدة منها لشيخ أو أمير، ويقتصر سلطان هذا الشيخ أو الأمير، تقريبًا، على قيادة المحاربين في الغزوات، وتقسيم الغنائم، والصدارة في بعض الحفلات.
والغزوُ وتربيةُ الحيوانات هما كلُّ ما يعتني به الأعراب، ولا نهاية لما يشتعل بين القبائل العربية من الحروب لأتفه الأسباب، ما عمِلَت بمبدأ الثأر والقِصاص الإسرائيلي القائل: إن العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس، وما تبع كلَّ حادث قتلٍ يقع بينها حادثُ قتل مثله انتقامًا، ولا ترضى القبيلتان العربيتان المتعاديتان بالدِّية بدلًا من القصاص إلا بعد أن ينهكهما الجهد ويعتريهما الوهن.
لا يزال الأعراب محافظين على طبائع أسلافهم البدوية، وهم، على ما في الأضداد من غرابة، يتصفون بسفك الدماء وحقنها، وباعتقاد الخرافات وردِّها، وبالإيمان والإلحاد، وهم، على ما يظهر، ذوو فُتُوَّة خالدة يقدِرون بها على القيام بجليل الأعمال عندما يؤمنون بمبدأ جديد، وهم أحرار كرام شُمُّ الأنوف غِضابٌ مقاديم، يجمعون في مثالهم بين الفضائل والمساوئ الخاصة بقومهم.
والأعرابيُّ نشيطٌ، ويعود نشاطه إلى وجوب كسب عيشه بنفسه، وهو صبورٌ، ويرجع صبره إلى ما لا محيص عنه من احتمال الآلام والمحن، وهو محبٌ للحرية، والحرية هي الأمر الوحيد الذي اتفق له أن يتمتع به، وهو محارب، ويحارب حاقدًا كلَّ من يحاول استعباده، وهو قاسٍ على نفسه صارمٌ وَلُوع بالانتقام في الغالب.
ونرى الأعراب متماثلين في أمور العزِّ والشرف؛ لتماثل أحوالهم ومشاعرهم، ويقوم فخرهم على السيف والقِرى والبلاغة، فبحدِّ السيف يصونون حقوقهم، وبالقِرَى يتجلى كرم أخلاقهم، وبالبلاغة يحسمون ما لا يقدِر عليه السلاح من الخصام.
وقال ديڨرجه: «قد يكون أظهر ما في الأعراب هو أنهم جِماعُ الأضداد، فالنهب والكرم، والسلب والجود، والقسوةُ والنبل … وغير ذلك من الصفات التي تدعو إلى المقت والإعجاب في وقت واحد مما نراه في الأعراب، وليس في هذا ما يُعذر به الأعراب لو لم نلاحظ أنهم محكوم عليهم بالاكتفاء بما تنتجه بلادهم المعتزلة التي هي أكثر أراضي العالم جُدُوبَةً، ويعتذر الأعرابُ عن النهب بأنهم محرومون، لفقر بلادهم، طيبَ العيش ووفرة الغلَّات والكلأ مما لم تعرفه أمة أخرى، وبأنهم يُزيلون هذا الحيف المقدَّر بأسنة رماحهم معتقدين أن من الحلال دَهْمَ القوافل وسلبَ ما بأيديها تعويضًا لهم مما لم تقدر أن تجود عليهم به أراضيهم القاحلة، وبأنهم يَعُدُّون قطع السابلة، وسلب ما بأيدي الناس ضربًا من حقوق الفتح والفخر كتدويخ مدينة أو ولاية، وذلك لعدم تفريقهم بين الحرب والكُمُون.
ومساوئُ مثل هذه لا تُغتفر لو لم يكن عند الأعراب من الفضائل ما يُشفع لهم به، ومن هذه الفضائل أن الأعرابيَّ المحارب، المتعطش للنهب والانتقام، والذي يفعل عند مَسِّ كرامته ما لم تسمع به أذن من ضروب القسوة، مِضيافٌ كريم أنيسٌ في مِضرَبه، ومنها أن الهضيم الذي يضع نفسه تحت حماية الأعرابي، ولو كان من أعدائه، أو الذي يصبح في جواره، يُعدُّ من أفراد أسرته، فلا يستطيع أحد بعدئذ أن يعتدي على حياته المقدسة التي يدافع عنها ذلك الأعرابيُّ أكثر من أن يدافع عن نفسه، وإن ظهر أن هذا الغريب من أعدائه الذين تمنَّى زوالهم مائة مرة.
وليس بمستبعد أن يأخذ الأعرابيُّ المِضيافُ جَمَل جاره طوعًا أو كرهًا ويصنع منه طعامًا؛ ليمعن في إكرام ضيوفه، والكرمُ أفضلُ فضائلِ الأعراب، ويعدُّه الأعراب أخص ما اتصفت به أمتهم.»
وأُضيف إلى ما تقدم أن الأعراب من سكان جزيرة العرب وسورية وإفريقية يحبُّون الحرية حبًّا جمًّا لا يقدر الأوربي أن يتصوره، وهم يزدرون أبناء المدن ويَعُدُّونهم من الأرقاء لذلك، ويتضمن الارتباط في الأرض عندهم معنى توديع الحرية والخضوع لسيد، ويرى الأعرابُ الذين لا يملكون سوى حريتهم أن هذه الحرية أغلى شيء، وقد حافظوا عليها بتوالي الأجيال، ولم يقدر جميع الفاتحين من الأغارقة والرومان والفرس وغيرهم من الأمم التي دوَّخت العالم أن يُعبِّدوهم، وكل قهر للأعراب لا محالةَ زائلٌ، والقهرُ إذا ما وقع كان على أيدي أعراب آخرين، فلا يفُلُّ الأعراب إلا الأعراب.
ويرجع حبُّ الأعراب للحرية إلى أقدم عصور تاريخهم، فقد روى ديودورس الصقليُّ أن الأنباط، وهم من أعراب بلاد الحِجْر العربية (بطرا)، كانوا ممنوعين من بَذر القمح وغرس الأشجار المثمرة، وبناء البيوت لِما في هذه الأعمال من التضحية بالحرية طوعًا، ولذا لم يستذِلَّ الأعرابَ أحد، وهم الذين لم يُعطوا ملوكَ فارس الجزية، وقد أعطاها أهلُ فنيقية وفلسطين كما ذكر هيرودتس.
ويُلقِي الأعراب الرعب في قلوب جيرانهم المتمدنين؛ لما فُطروا عليه من الرغبة في النهب وحب القتال، ويُعد هؤلاء المتمدنون الأعرابَ من قُطَّاع الطرق، وينظر الأعراب إلى المسألة من ناحية أخرى، أي يفخرُ الأعراب بسلب القوافل فخر الأوربيين بضرب المدن بالقنابل أو افتتاحِ الأقطار أو ما إلى ذلك، ويحترم الأعرابُ رؤساءهم احترام الأوربيين لأعاظم القادة، وإن لم يقيموا لهم تماثيل.
وأصبح أعراب جزيرة العرب، بما كان عندهم من غرائز النهب والقتال، محاربين أشداء أيام خلفاء محمد فدوَّخوا العالم بسرعة، ولم تتغير غرائزهم بتغير ما لاقوا من الأحوال الجديدة، بل تجلَّت على صور أخرى ما كان الثباتُ من الغرائز، فأصبح حبُّهم للنهب حبًّا للفتح، وتحول كرمهم إلى ما أخدته أوربة عنهم مؤخرًا من طبائع الفروسية، ثم إن ما بينهم من التفاخر والمنافسة لم يلبث أن جاوز الحدود المعقولة فكان سببًا في خسرانهم بعد أن كان حافزًا لهم على العمل الصالح في البداءة.
وكان يتألف من الأعراب قسمٌ كبير من جيوش خلفاء محمد، وقام الأعراب الفاتحون بأجلِّ الخِدَم لأولئك الخلفاء، وإن كان العلماء وأرباب الفن الذين ازدهرت بهم حضارةُ أتباع النبي لم يظهروا من بين الأعراب.
ويستخف الأعراب بسلطان الحضارة، ويُفضِّلون عليها عَيْش البادية، وهذه من المشاعر الموروثة التي ترى مثلها عند هنود أمريكة ولا يُؤثِّر فيها أي دليل، ورفض الأعراب، في سورية على الخصوص، كلَّ أرضٍ عُرضت عليهم ليستقروا بها، ويَعرِف هؤلاء الأعراب، الذين يستوقف نُبلُهم وبأسهم نظرَ كل سائح، كيف يستغنون عن نعَم الحضارة المصنوعة، وعن جبروت كل أمير إقطاعي كأمراء القرون الوسطى، ولا تخلو حياة البادية من السحر والجمال مع ذلك، ولا أتردَّد ثانية في ترجيحها على حياة المصانع التي يقضي العامل فيها اثنتي عشرة ساعة من كلِّ يوم.
والأعرابي، وهو شاعر، صبيٌّ في خُلُقه، وينطوي تحت دعته الظاهرة من التقلب ما لا يشاهد مثلُه إلا في الأولاد والنساء، وهو كهؤلاء لا يتأثر إلا بعامل الساعة التي يكون فيها، ولا تستهويه سوى ظواهر الأمور، ويبهَرُه الضجيج والضوضاء والبَهْرَج، وفي فَتْنه سرُّ اجتذابه.
وأمرٌ مثلُ هذا يشاهد في العروق، والأمم الفطرية، وما إليها من النساء والصبية الذين هم عنوان أدوار التطور البشري الأولي، والحقُّ أن الأعرابيَّ جِلفٌ ذكي لم يصعد درجةً في سُلَّم الحضارة منذ ألوف السنين، ولم يُعانِ ما عاناه الرجل المتمدن من التحول المتراكم بتوالي الأجيال، وإذا صحَّ ما نعتقده من أن اختلاف السجايا الخلقية يكفي لوجود فروقٍ بعيدة الغَوْر بين الناس أمكننا أن نقول: «إنه يتألف من العرب المتحضرين والأعراب عرقان تَفصِل بينهما هُوَّة عميقة.»
ويختلف عرب الجزيرة الحضريون، الذين نبحث في أمرهم الآن، عن أولئك الأعراب اختلافًا كبيرًا، فأهل الحضر من عرب الجزيرة لم يكونوا أجلافًا كما يُعتَقَدُ على العموم، وعند پلغريڨ أن السياح الذين لم يزوروا سوى بعض الأماكن الساحلية التي لا أهمية لها في جزيرة العرب الواسعة هم مصدر هذا الرأي الفاسد، وينظر پلغريڨ إلى أهل عُمان بعين التقدير والإعجاب حيث يبحث في ثقافتهم، ولا يصعُب، كما يرى، وجودُ أناس من أهل نجد قادرين، كالإنكليز، على صنع الآلات ومدِّ الخطوط الحديد، وليس من المجهول شأنُ جامعة زبيد وجامعة ذمار اليمنيتين اللتين، وإن كانتا دون جامعة الأزهر المصرية أهميةً، تساعدان مثلها على نشر العلم القويم بين أولي البصائر من الأهلين.
إن أهل الحضر من العرب من أنبل شعوب الأرض وأكرمهم، وهم جديرون بهذا المديح، وقد أكثرتُ من السياحة في أنحاء العالم، وكانت لي صِلات وثيقة بمختلف الأمم الإفريقية والآسيوية والأوربية، فظهر لي أن الأمم التي يُفضَّل أفرادها على سكان جزيرة العرب الوسطى قليلة إلى الغاية.
ويتكلم أولئك الحضريون العرب بلغة الأعراب مع ذلك، ويجري في عروقهم ما يجري في عروق الأعراب من الدماء، وما أبعد المسافة بين الفريقين!
يقلُّ الوهابيون عن العرب الآخرين كرمًا وإقدامًا ومرحًا وصراحة، ويزيدون عليهم صبرًا وحكمةً، ويندُر أن يدل كلامهم على سرائرهم، وهم حَزَمَةٌ بعيدو الهمة جبابرةٌ ذوو انتقام، قساةٌ نحو أعدائهم، مشكوكٌ في مودتهم لغير بني قومهم، ولذا فهم جديرون بأن يُسَمَّوا، من غير تجنٍّ ومع كل تحفظ، بإسكتلنديي جزيرة العرب.
ووجوههم ذات صُلُود وعبوس مما لا يُرى مِثلُه في وجوه عرب الشمال الطليقة، ولا يُؤخذون بدوافع الساعة العتيدة، وإذا ما ساروا فبعد تفكير وإنعام نظر.
ويقدرون بإرادتهم القوية وثباتهم وجلدهم على تنظيم شؤونهم الاجتماعية والسيطرة على جيرانهم مع ما فيهم من الذكاء المحدود، ولا ريب في أنهم سينتصرون، بفضل اتحادهم المتين، على أعدائهم الذين أضعفهم انقسامهم، وأن سيادة القسم الأعظم من جزيرة العرب ستكون لدولتهم الوهابية، وأن أطماعهم وآمالهم ستتحقق في أقرب وقت.
وتتجلى أخلاقهم في أدق شؤون حياتهم الأهلية، ويجب على من يرغب في مفاوضتهم ألا يسترسل في كلامه، وأن يزن حركاتِه كما يفعل عندما يحادث أعداءه.
(٥-٢) عرب سورية
عرب سورية، كعرب الجزيرة، أهلُ حضر يسكنون المدن، وأعرابٌ يقيمون بالبادية، ولم يكن في السيطرة المتتابعة التي أصابت سورية ما يتوجَّع منه أعرابها الذين لا يزالون يعتمدون في معايشهم على النهب وتربية المواشي منذ ثلاثة آلاف سنة، ونحن إذا ما استثنينا المدن نرى سورية قبضتهم بالحقيقة، فهم يهاجمون فيما وراء نهر الأردن، وفي أبواب دمشق نفسها، السياحَ والقوافل التي لم تؤدِّ إليهم الفِدَى في مقابل خَفْرها وحمايتها والسماح لها بالمرور، وتجتمع في أعراب سورية صِفَةُ الشَّره وصفةُ الكرم المتناقضتان اللتان ألمعنا إليهما فيما تقدم، ويقدِّسون الضيف ما دام نزيلَهم.
ولم يَقدِر أحدٌ على إلزام أعراب سورية بترك البادية التي تعودوا العيش فيها منذ قرون، وقد رفضوا كل أرض عُرِضت عليهم ليستقروا بها، وامتنعوا عن أي عمل زراعي.
ونرى في سورية، بجانب الأعراب الذين يدينون بدين محمد، قبائلَ ذاتَ شعائرَ وعقائدَ مختلفة يسهل تمييزُ بعضِها من بعضٍ؛ لعدم توالدها فيما بينها، وأهمُّها المتاولة والنصيرية والموارنة والدروز.
- فالمتاولةُ: قبائلُ عربيةٌ جبلية تعيش في اعتزال، وهم من مسلمي الشيعة المتعصبين الذين يأبون تناول الطعام مع أي أجنبي كان، ونرى من أوصافهم أنهم مزيجٌ من المغول والعرب والفرس، مع أن بعض الباحثين يظن أنهم منحدرون من بعض القبائل الكردية.
- والنصيريةُ: قبائل جبلية أيضًا، وهم يدينون بديانة مشتقة من الإسلام بعيدةٍ منه كلَّ البعد، ويُرى أن النصيرية من القائلين بالتناسخ، ويعبدون الشمس والقمر … إلخ.
- وللموارنة: مع قربهم من السوريين، طابعٌ خاص، وهم أتباع طائفةٍ مسيحية ذاتِ عُجْب صاخبةٍ لم تكن على شيء كبير من البسالة كما أثبتت الحوادث ذلك.
- والدروزُ: يُشبهون الأعراب، وتتألف منهم طائفةٌ إسلامية عاتية حرة انفصلت عن السوريين والعرب منذ قرون، وتوجد بين الدروز الشجعان ذوي الصَّولَة وموارنة لبنان عداوةٌ متأصلة.
روى ضابطٌ معلمٌ أوربيٌّ كان في خدمة الترك أنه شاهد الأمر الآتي، وهو: أن أحد الجلادين الكثيرين في ذلك الوقت كاد يُتِمُّ عمل نهاره، وأن الكلَّاب كان عاليًا والكرسي واطئًا فلا يوصل إليه به، وأن مسلمًا مُسنًّا مَرَّ من هنالك راكبًا حمارًا حاملًا قطعة لحم، فأمره الجلاد بالوقوف فأطاعه فترجَّل مادًّا عنقه للشنق طائعًا ظانًّا أن أجلَه جاء، فأفهمه الجلاد أنه لم يقصِد شنقَه، وإنما يريد حماره؛ ليصعد فيه رجل محكوم عليه بالموت، ويُوضَعَ الحبلُ في عُنُقه، فلما وضع الجلاد الحبل ونَخَسَ الحمار هوى ذلك المحكوم عليه بالموت، فركب الشيخ الهَرِم حماره بعد أن حملَ قطعة اللحم لائذًا بالفرار.
وإنني أقول مكررًا: إن ذلك الإذعان لا يتجلى إلا في الأمور التي لا تَمَسُّ عقائد الدين، ولم يطرأ على الهدوء العميق الذي تتمتع به دمشق شيء من جرَّاء الاضطرابات التي وقعت حديثًا في مصر، وعَجِبْتُ من السهولة التي كان يضرب بها جندي واحدٌ جموعًا زاخرة ويدحرها لتُفَسِّح المجالَ لمرور أحد الأعيان أو السياح، ومع ذلك فقد سمعتُ في دمشق والقدس غير مرةٍ أن أقلَّ نجاح لعُرابي كان نذير قتل لنصارى سورية الذين يَحْمَرُّ الوجه خجلًا من جُبنهم، وهؤلاء النصارى هم الذين كانوا يُذْبَحون في سنة ١٨٦١ كالضأن من غير أن يُبْدُوا أقل مقاومة؛ وهم الذين يكونون، لا ريب، جُبناء أنذالًا لو حدث في سنة ١٨٨٢ من الإثْخان فيهم ما كان يتوقعه الملأ.
(٥-٣) عرب مصر
عربُ مصرَ نتيجةُ توالدِ سكان مصر الأصليين والعربِ الذين فتحوا مصر في سنة ٦٤٠ بقيادة عمرو بن العاص، وعربُ مصر ليسوا عربًا بدمهم، وإن كانوا عربًا بلغتهم ودينهم، فقد دَلَّنا علم وصف الإنسان على أن العنصر العربي الغالب لم يَلْبَث أن طغى عليه العنصر المصري المغلوب الأوفرُ عددًا والأكثر احتمالًا لجوِّ مصرَ المرهوب، وأن العناصر المتداخلة لم تَلبث أن توارت، وأن المصريَّ الحضريَّ العربيَّ بدينه ولغته رَجَعَ ابنًا لقدماء المصريين في زمن الأهرام، أي ذا سَعَةٍ في كتِفه ووجهه، وغِلَظٍ في شَفَتَيْهِ ونُتُوءٍ في وَجْنَتَيْهِ ومشابهةٍ للمُثُل المنحوتة في قديم الآثار.
ولم يكن عرب النيل الحضريون أبناءً لقدماء المصريين بتقاطيعهم فقط، بل وَرِثوا عن هؤلاء أخلاقهم ولُطفهم وأدبهم الجمَّ أيضًا، وهم يَخْشَون؛ لما عانَوا من ضروب الاستعباد منذ قرون، جميعَ السادة، ولا سيما الأوربيون، فقد استطعتُ، حين ذاعت الأنباء في القاهرة بأن مصر العليا مضطرمةٌ بالعصيان والملاحم، أن أجول منفردًا في القُرَى القائمة على ضفَّتَيِ النيل من غير أن يصيبني أذًى.
واحتياجاتُ الفلاح المصري قليلة جدًّا، وهو إذا ما مَلَك بُلْغَةً كان سعيدًا، وهو يعيش من غير تفكيرٍ في المستقبل والوقت والأبعاد، ويكون جوابه «لا أعلم» حين سؤاله عن أشياء كان يجب أن تكون التجاريبُ المتكررةُ قد هدته إليها، ولا يعرِف مدةَ السفر بين قريته وإحدى القرى المجاورة ولا المسافة بينهما، ولا يرى له مصلحةً في معرفة هذا.
ونشاهد في مصر مِثْلَ ما نشاهد في جزيرة العرب وسورية من الأعراب والحضريين، ونرى الفرق بين أعراب مصر وحضرييها أعظمَ مما في أيِّ قطر آخر؛ لاختلاف العرقين في مصر، فضلًا عن اختلافهما في المعايش، وإذا كانوا عرب المدن قد تحولوا بفعل التوالد المستمر إلى مصريين، فإن أعراب مصر لم يختلطوا بسواهم نظرًا إلى طُرُق معايشهم الخاصة، وهؤلاء الأعراب يُشْبِهون، بقَنَا أنوفهم ورقَّة شفاههم وطولِ وجوههم البَيْضيَّةِ وعيونهم اللامعة، مثال العربيِّ البدويِّ في زمن محمد.
والأعرابُ، فقط هم أهل الحرب والنِّزال المرهوبون في مصر، وهم الذين يجب أن يخافهم الإنكليز في غزوهم الجديد لوادي النيل إذا لم يَشتروا حيادهم بأي ثمن، كما أخبرنا به العارفون غير مرة.
ويَنصِب أهل البدو من عرب مصر خيامهم في الصَّحاري الرملية القريبة من ضفتي النيل، وهم قلما يخشون جانبَ الحكومة، ولا صِلَةَ بينهم وبين الفلاحين الذين يُبغضونهم.
ومعايشُ هؤلاء الأعراب كمعايش عرب البادية، فالعربي البدوي هو هو أينما حل وحيثما اتَّجَه.
ونرى في مصرَ، عدا العرب، عناصر كثيرةً أخرى كالترك والأقباط والسوريين والزنوج والأغارقة والأوربيين وغيرهم من العناصر التي يندُر أن تتوالد هي والفلَّاح المصريُّ، وذلك فضلًا عن أن جو مصر القتَّال لا يصلح لتناسل الأجانب، ومنهم الترك، في أكثرَ من جيلين، وأصولُ العرب، لا غيرُها، هي التي استطاعت أن تثبُت في مصر.
ومن تلك الشعوب نذكُر الأقباطَ الذين، وإن كانوا لا يُعَدُّون حفدةً خُلَّصًا لقدماء المصريين، يُرى بينهم أشخاصٌ مشابهون؛ لما في النَّوَاويس القديمة أكثر مما بين سواهم، ويدين الأقباط بالنصرانية، ولم يختلطوا بالعرب، ويقطنون في مصر العليا، ولا سيما ببعض القرى والمدن كأسيوط، وتُشبه لغتهم لغة قدماء المصريين، وتوصَّل شانپوليون، بدرسها إلى إيضاح الكلمات الهيروغليفية كما هو معلوم، ومع نصِّ كثير من المؤلفات على أنه لا يتكلم أحدٌ باللغة القبطية في الوقت الحاضر سمعتُ أقباطًا يتكلمون بها فيما بينهم على لهجاتٍ مختلفة، ويكتب الأقباط لغتهم بالحروف اليونانية في الزمن الحاضر.
ويُقدَّر الأقباط المقيمون بمصر بمئتي ألف نفس، وإن قالوا لي مؤكدين إن عددهم يزيد على خمسمائة ألف، ويلوح لي أن الصورة المحزنة التي تُصوَّر بها سجيتهم لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة، وكل ما في الأمر أنهم أفضل في الثقافة من عرب الوقت الحاضر، ومن الترك على الخصوص، وأنهم، وإن كانوا لا ينالون أعلى المراتب بسبب دينهم، يُعطَون المناصب الإدارية التي تتطلب جَهدًا ودراية.
وأما الترك الذين حلُّو محل العرب في مصر سياسةً فإن تأثيرهم في تكوين العِرق المصري صِفرٌ، وتتألف منهم الآن طبقة أريستوقراطية لا تختلط بالسكان، ولا يزيد عددهم على عشرين ألفًا.
(٥-٤) عربُ إفريقية
إننا إذا استثنينا مصر التي تُعدُّ من الشرق عادةً نرى أنه يسكن شمال إفريقية أناسٌ منتشرون إلى ما بعد خطِّ الاستواء من بعض النِّقاط، يدينون بدينٍ واحد وإن لم تَجرِ دماء العرب في عروقهم بصورة مطلقة، متمازجون من البربر والعرب والزنوج، وفي مراكش، على الخصوص، يتجلى هذا التمازجُ الذي يزيد كلما دنونا من خط الاستواء.
ويختلف بربرُ إفريقية عن العرب كثيرًا، وسنتكلم عنهم مفصلًا في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ عرب إفريقية، فلا نبحث فيهم الآن.
وعربُ إفريقية أهلُ بدوٍ وأهل حضر كعرب الأقطار الأخرى الذين تكلمنا عنهم، وهم نتيجةُ اختلاط أعقدَ مما في أيِّ مكان آخر، وأهل مدنهم الساحلية الذين ننعتهم بالعرب هم، على الخصوص، مزيجٌ من القرطاجيين والرومان والوَنْدَال والأغارقة والبربر والعرب والترك والأوربيين والزنوج وغيرهم من الآدميين الذين تَلاقَوا في تلك السواحل والبِقاع، وشاهدتُ في سواحل إفريقية الشمالية جميع المُثُل التي تترجَّح بين زنوج السودان والحور العين، وليس من الصواب أن يُناط عربُ الجزائر بمثالٍ واحد أو ببضعة مُثُل كما فعل ذلك حديثًا أحدُ علماء وصف الإنسان الذي لم يأتِ بغير بحث سطحي عنها.
ويُجمِع أولئك الحضريون والأعراب على مقت الأوربيين القاهرين لهم وحقدِهم الشديد عليهم، ويُضحِّي الجزائري، الذي نصفه بالخلي المتردد المِكسَال القانع الوضيع المتزيِّد، بماله ونفسه، ويشترك في كل عصيان وتمرد؛ للخلاص من حكم الأجنبي الذي فتح بلاده، وقد تَتِمُّ إبادة عرب الجزائر بوسائل منتظمة كالتي اتخذها الأمريكيون لإبادة أصحاب الجلود الحُمْر، ولكن الذي أعتقده هو أن الفرنسيَّ لن يستطيع حمل الجزائري على التفرنس، وأن من المتعذر أن يسود السلام في قطرٍ واحد بين العرب والفرنسيين الذين ينتسبون إلى عرقين مختلفين، وقد سمعت هذا الرأي، الذي يُجتَنَب تدوينه في الكتب عادةً، من جميع أولي البصائر في الجزائر، وإني أوافق عليه موافقة تامة.
(٥-٥) عرب إسپانية
جميع العرب الذين ذكرناهم آنفًا من الأحياء الذين يصلحون أن نتمثَّل بهم أجدادهم مع ما طرأ عليهم من التغير، وغيرُ ذلك أمرُ عرب إسپانية الذين بادوا ولم يتركوا من الذراري من نَتَنَوَّر بهم أجدادَهم، ونحن مع جهلنا حقيقة مثالهم نراه كان مختلفًا عن مثال العرب السابقين الذين فتحوا إسپانية، فقد تغيَّر المثال العربيُّ الأصلي بتوالده هو والموالي من النصارى وبربر إفريقية الذين أغاروا على إسپانية، ونتج عن هذا التوالد الذي دام ثمانية قرون عِرْقٌ جديد يختلف مثالُه عن مثال الغُزاة الفاتحين اختلافًا محسوسًا كما تشهد بذلك السنن الأنثروپولوجية التي بينَّاها في بدء هذا الفصل، وتشهد آثار حضارة العرب في إسپانية بسمو ذكاء هذا العرق الجديد المولَّد، ويدل تاريخهم على عُلُوِّ فروسيته وبسالته، ويُثبت صراعُه الأهلي الذي كان عِلَّةِ زواله اتصافَه بسجايا العرب الأصلية، ونحن، إذ لا نستطيع أن نستدل على عرب إسپانية الذين انقرضوا إلا بدراسة حضارتهم وتاريخهم، نحيلُ القارئ إلى الفصول التي خصصناها للبحث في تلك الحضارة وذلك التاريخ.
(٥-٦) عرب الصين
أخذ خلفاء العرب وملوك الصين يتبادلون السفراء بعد أن أقام العرب دولتهم، وسترى في مكانٍ آخرَ من هذا الكتاب أن صِلَاتِ العرب والصين التجارية كانت منتظمةً برًّا وبحرًا.
ولم يلبث الإسلام في الصين، كما في كل بلد دَخَلَه العرب، أن صار له أتباع، ويقدِّر مسيو دابري دُوتِيرِسَان عددَ مسلمي الصين بعشرين مليون نفس، وذلك في كتاب نشره حديثًا عن الإسلام في الصين، ويرى هذا المؤلف أن دماء عربية تجري في عروق مسلمي الصين وإن لم يكونوا عربًا حَصْرًا، وأنه يتألف منهم عرقٌ مزيج من العرب والترك والصينيين، ثم يقول: «إن المسلمين في الصين متحدرون من الكتيبة المؤلفة من أربعة آلاف جنديِّ الذين أمدَّ بهم الخليفةُ أبو جعفر الإمبراطورَ سُوتسُونغَ في سنة ٧٥٥م حين شقَّ أنلُوشين العصا، والذين سمح هذا العاهل لهم بالإقامة بأهم مدن الصين مكافأةً لهم على ما قاموا به من الخِدَم فتزوجوا صينياتٍ، وكان بهم أصلُ مسلمي الصين.»
إنهم يتصفون بروح الصدق والشرف على العموم، وإن من يتقلد منهم بعضَ مناصب الدولة يحترمه الأهلون ويحِبُّونه، وإن من يتعاطى التجارة منهم يتمتع بالسمعة الطيبة، وإنهم يؤتون الصدقات كما يأمر الدين، وإن الناظر إليهم يُخيَّل إليه أنهم يؤلفون أسرةً كبيرة واحدة يشد بعضها أزْرَ بعض.
وإنهم، مع طابعهم الخاص، استطاعوا بفضل نباهتهم وإخائهم الديني وتسامحهم أن يلائموا بيئتهم وأن ينموا ويكثروا، وذلك خلافًا لدُعاة الأديان الأجنبية الأخرى الذين أرادوا أن يكون لهم شأنٌ في الصين فلم يتقدموا خطوة حتى الآن.
ونشأ عما فُطِر عليه مسلمو الصين من التسامح والروح الحرة واحترامهم عادات الصين وشرائعها ومعتقداتها أن يتمتعوا بما للصينيين من الحقوق، وأن يكون منهم حكامٌ وقواد ومقربون من الإمبراطور.
أسهبت في هذا الفصل في بيان بعض المسائل التي أغفلها المؤرخون مع ما لها من الأهمية الكبرى في إيضاح ارتباط حوادث التاريخ، ونَعُدُّ سجايا العرق الخُلُقية والذهنية أقوى العوامل في تطور الأمم، فالسجايا الخلقية التي تنتقل بالإرث هي التي تُعيِّن اتجاه السير، ولا يستطيع أحد أن يتخلص من سلطانها، وعالم الأموال هو الذي يُملي على الأمة اتجاهها.
وفي الماضي تنضج عوامل سَيْرِنا الحاضر، وفي الحاضر تنضج عوامل سير أبناء المستقبل، والحاضر، وهو عبدُ الماضي، سيدُ المستقبل، فيجب على من يرغب في معرفة المستقبل أن يدرس الحاضر.
هوامش
ويعامل اليهودي في البلاد العربية المستقلة عن نفوذ الأوربيين بأسوأ مما يعامل به الحيوان، وإليك كيف وصف مسيو كوت في سنة ١٨٥٥ حال اليهود في مراكش: «يحرم على اليهودي أن يلبس غير الثياب السود التي هي رمز اللعنة والشقاء، ويحظر عليه ركوب الخيل، وإذا مر أمام مسجد أو زاوية أو ولي أو مرابط أو شريف — وجب عليه خلع نعليه وحملهما بيده، ويمتنع على اليهودي أن يدخل مقابر المسلمين، وتجلد العريفة المسلمة اليهودية في الأماكن العامة لأتفه الأسباب، وإذا ما ضرب مسلم يهوديًّا وجب على اليهودي ألا يدافع عن نفسه بغير الفرار أو الاستعطاف، وإلا أمكن قتله، وما أكثر ما يرجم صبيان العرب شباب اليهود، ويضربونهم بالعصي ويصفعونهم ويعضونهم ويخدشونهم، وشباب اليهود يركعون ويتلوون ويتلمسون الخلاص، ويرجون النجاة من غير أن يقدروا على ضرب أحد من أولئك الصبيان أو جرحه.»
وما تقدم، وإن كان يقع في داخل مراكش، لا يحدث مثله في طنجة حيث يقيم كثير من قناصل الدول الأوربية الذين يحتمي اليهود بهم على العموم، ولما أتيت تلك المدينة العجيبة، وزرت واليها، وصحبني ترجمان القنصلية البلجيكية اليهودي لاقى هذا الترجمان من الوالي كل رعاية.