الفصل السابع

العربُ في صقلية وإيطالية وفرنسة

(١) العرب في صِقِلّية وإيطالية

يدلُّنا درسُ تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دخلوها على أن لغزواتهم مناحيَ مختلفةً، أي يدلنا على أنهم إما أن يكونوا قد أغاروا عليها؛ ليستقروا بها نهائيًّا، وإما أن يكونوا قد اكتفوا بغزوهم الخاطف لها، فأما في الحالة الأولى فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وئامٍ مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفُوا بأخذ جزية طفيفة منهم كما صنعوا في سورية ومصر وإسپانية، وذلك خلافًا لعادة جميع الفاتحين في زمانهم، وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كلِّ فاتح، فعدُّوا البلاد التي أغاروا عليها كإيطالية، وفرنسة على الخصوص، من الفرائس وانتهبوا بسرعةٍ ما وصلت إليه أيديهم منها، وخرَّبوا فيها ما لم يقدِروا على حمله غير مبالين بسكانها.

وسار العرب على ذينك النَّجدين في صِقِلِّية، فبما أن عدد من أغار منهم على صقلية وعلى قطعة من إيطالية كان قليلًا وقفوا عند حد الغزو المؤقت وما ينشأ عنه عادةً من التخريب والنهب وقتل مَن يقاوم من الأهلين ثم العودة السريعة، ولما تكررت غزواتهم لتلك البلاد وأصابهم فيها من النجاح والتوفيق ما أصابهم رأَوا أن يستقروا بها، وأن يُحسِنُوا سياسة أهلها، ولما رَسَخَت أقدامهم فيها كَفُّوا عن عادة نهبها، وأنعموا عليها بِنَعم الحضارة، وكان لهم فيها مثلُ ما كان لهم في إسپانية من الأثر النافع البالغ.

ويُمكننا، ببيان هذه الفروق الأساسية في سياسة العرب، إدراكُ تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولَوا عليها، وإيضاحُ عِلَّة اختلاف سياسة العرب أنفسهم في البلدان المتجاورة.

ومسلمو إفريقية هم الذين غزوا صقلية وإيطالية، وأكثر هؤلاء المسلمين من البربر؛ لما كان من قلَّة عدد العرب في ذلك الدور، وهؤلاء البربر من أشد الشعوب التي دانت لشريعة الرسول بأسًا، وأضعفهم تمدُّنًا كما ذكرنا.

وأغار العرب على صقلية وجزر البحر المتوسط بضع مرات منذ القرن الأول من الهجرة، ولم يحاول العرب الاستيلاء على صقلية جديًّا إلا في أوائل القرن الثالث من الهجرة حين استقل شمال إفريقية عن خلافة المشرق، وحين حدث ما شجَّعهم على ذلك.

وكانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بزنطة، وكانت حكومة بزنطة ترسل إليها حكامًا ليمارسوا السلطة فيها، ومما حدث أن عُهد إلى أمير البحر أوفيميوس (فيمي) في الدفاع عنها، وأن عَلِم أوفيميوس أن قيصر بزنطة أمر بقتله، وأن قَتَلَ أوفيميوس حاكم صقلية ونصب نفسه أميرًا عليها، وأن ثار أهلها عليه ففرَّ إلى إفريقية طالبًا حماية المسلمين، وأن عاد إلى صقلية مع جيش من المسلمين لم يلبث أن سار على حساب نفسه، فأتمَّ فتح صقلية بدخوله بَلَرْمَ بعد وقائع دامت بضع سنين (٢١٢ﻫ / ٢١٧ﻫ).

ولم يقتصر العرب، بمقاتلتهم الروم، على غزو صقلية، فقد استولوا على جنوب إيطالية أيضًا، وبلغوا في تقدمهم ضواحي رومة، وأحرقوا كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس اللتين كانتا قائمتين خارج أسوار رومة، ولم يرجِعوا عنها إلا بعد أن وَعَدهم البابا يوحنا الثامن بدفع جزيةٍ إليهم، واستولى العرب على مدينة برنديزى الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتيِّ ومدينة تارانت، وأغاروا على دوكية بِنِيڨِنت، وصاروا سادة البحر المطلقين بفتحهم صِقِليَة وأهمَّ جزر إيطالية وقورسقة وقندية (الخندق) ومالطة وجميع جزر البحر المتوسط، ولم يَسَع البندقية إزاء ذلك إلا أن تعدل عن محاربتهم لطويل زمن.

والنورمانُ هم الذين قضوا على سلطان العرب السياسي في صقلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، وداومَ العرب، بعد زوال سيادتهم، على القيام برسالتهم الثقافية فيها كبير وقت، وذلك أن ملوك النورمان، إذ كانوا من الذكاء ما يستطيعون أن يدركوا به تفوقَ العرب العظيم استندوا إلى العرب؛ فظل نفوذ أتباع الرسول في أيامهم بالغًا.

وإذ كان لتاريخ النورمان صلة وثيقة بتاريخ العرب في صقلية رأيتُ أن أُحدِّث عن وقائعهم بإيجاز لفهم تاريخ حضارة العرب فيها، ومن المفيد أيضًا أن أذكر أسلوب الحرب في ذلك الزمن، وأن أُبيِّن أعمال التخريب، التي لام مؤرخو اللاتين العربَ عليها، هي مما كان يستبيحه مقاتلو جميع الأمم.

fig141
شكل ٧-١: مقدم قصر العزيزة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).

نَعُدُّ الأحوال التي ساقت النورمان من أمكنة بعيدة إلى فتح صقلية من غريب الحوادث، وذلك أن كَوكَبة من فرسان الفرنج والنورمان كانت قادمة، حوالي سنة ١٠١٥م، من بيت المقدس إلى جنوب إيطالية لتزور، وَفْقَ العادة، غار جبل غورغانو الذي اشتهر بظهور الملك ميكائيل فيه، وأن كونت أڨيلينو، روفريد، لما علم ذلك استنجد بهم للدفاع عن ساليرم التي كان العرب يحاصرونها، وأنهم استطاعوا أن يدخلوها، وأن يَشُدُّوا عزائم أهلها الذين لم يلبثوا أن فكُّوا الحصار وهزموا العرب، وأن أهل ساليرم وأميرهم فرحوا بذلك، ودارت الحمية في رؤوسهم، فأجزلوا عطاء أولئك الغرباء، ودَعَوهم إلى الإقامة بين ظَهْرَانَيْهم.

ومع أن أولئك الحجاج لم يَرضوا بذلك لرغبتهم في رؤية وطنهم مرة ثانية وعدوا بأن يبعثوا إليهم فتيانًا منهم للدفاع عن النصرانية ببسالة، ثم توجهوا إلى وطنهم الذي كانوا في أشد الشوق إليه، وأخذوا معهم من الهدايا نسائج ثمينةً وحُلَلًا فاخرة وسروجًا ذهبية وفضية زاهية، وما لم تعرفه فرنسة قبل ذلك الزمن من البرتقال الناضج، قاصدين بذلك أن يرى بنو قومهم تلك المنتجات، وأن يتشوَّقوا إلى زيارة ذلك القطر الذي يُنتج مثلها.

ولم يكد أولئك الفرسان النورمان يصلون إلى وطنهم حتى أخذوا يقصُّون على أهله من الأنباء ما ألهبوا به حميتهم، وما دفعوا به عددًا كبيرًا منهم إلى غزو صقلية.

ذلك هو سبب غارة النورمان الذين كان هَمُّهم مصروفًا إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثرَ مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوى الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يَسْلُبون هؤلاء جميعًا بنشاط، والذين عَدوا في خمسين سنة، أي حتى تم لهم الفتح، جزيرة صقلية وما جاورها من إيطالية بلادًا مباركةً يمكن الاغتناءُ فيها بسهولة.

ولم ينشأ عن أعمال حُمَاة الدين من النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشدُّ وِقْرًا من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم من النورمان، ولم يُجْدِ إنذارُ البابا للنورمان نفعًا، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتابًا يدلُّنا على سوء معاملة جيشٍ نصراني في ذلك الزمن لبلاد صديقة استولى عليها.

وإليك كتابَ البابا ليون التاسع الذي بعث به إلى قيصر القسطنطينية:

يكاد قلبي يتفطَّر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رُسُل ابني أرجيروس، فعزمتُ على تطهير إيطالية من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المَردة الأشرار الزنادقة الذين لا يحترمون شيئًا عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى، ويسومونهم أشد العذاب غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويُحرِقونها ويهدمونها، والذين يعدُّون كلَّ شيء فريسةً يُباح سلبها، والذين أكثرتُ من لومهم على فسادهم، ومن إنذارهم بسوء أحكامي، وخوَّفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًّا، فكان أمرهم كقول الحكيم: إن من يتركه الربُّ يظل خبيثًا على الدوام، وإن من يكون مجنونًا لا يُصلحه الكلام، ولهذا فقد عزمت على شهر الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم وصار أمرهم لا يُطاق، وهذا دفاعًا عن الشعوب والكنائس.

وإذ لم ينل البابا ليون التاسع أية مساعدة من قيصر الروم سَعَى إلى عقد حلفٍ ضدَّ النورمان، وخاطب الألمانَ في ذلك، ورأى الأسقفُ أيشتات عارًا في قيادة البابا لجيش يحارب به النصارى، ومنع ملك جرمانية، هنري الثالث، من الانضمام إليه، هنالك جمع البابا جيشًا أكثر عددًا من الجيش النورماني، وهجم على النورمان بصولةٍ متوكلًا على الرب فكُسِرَ وأُسر، وهنالك حاول البابا أن يستعطف قاهريه فاسترد حرمانه إياهم ومنحهم البركة، ولم يؤثِّر هذا في مشاعر النورمان، ولم يُسرِّحوه إلا بعد سنة، وبعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق الغليظة.

وداوم النورمان، الذين خلا لهم الجوُّ بذلك على اقتراف جرائم النهب عَمْدًا في صقلية وإيطالية، ودام النزاع بين الحاكمين والمحكومين زمنًا طويلًا، وتعوَّده الأهلون، وصاروا يألفون ما يقع كل يوم من حوادث السلب والقتل التي قصَّ المؤرخون خبر كثير منها كما لو كان ذلك من الوقائع اليومية التي لا أهمية لها، ومن ذلك أن فرسان النورمان كانوا يفاجئون الأديارَ السيئة التحصين، ويسلبون كل ما فيها، ويبقرون بطون رهبانها على بكرة أبيهم خشيةَ الفضيحة، وأن الرهبان من ناحيتهم كانوا يتغفلون بعضَ أولئك الفرسان بين حين وآخر فينتقمون منهم أشد الانتقام.

وتاريخُ اللاتين حافلٌ بوصف أنباء تلك المجاملات المتقابلة، ومن بين ألف حادثةٍ منها أختار الخبرَ الآتي الذي اطلع عليه مسيو دُولَاپريمُودِيري في وثائق رهبان جبل كاسِينُو للدلالة على طبائع أهل ذلك الزمن:

صَعِد الكونت رَادُلف في جبل كاسينو ذات يوم، وكان معه خمسة عشر نورمانيًّا، فترك هؤلاء النورمان، على حسب العادة، أسلحتَهم وخيولهم عند باب الدير الذي دخلوه للصلاة، وبينما كان هؤلاء النورمان جُثِيًّا أمام هيكل القديس «بِنْوَا» أغلق الرهبان أبواب الدير من فورهم، وقبضوا على تلك الأسلحة والخيول، ودقوا النواقيس إيذانًا بالخطر، فتدفَّق أنصار الدير كالسيل، وهجموا على هؤلاء النورمان الذين لم يبقَ لهم ما يدفعون به عن أنفسهم سوى السُّبُحات التي كانت بأيديهم.

وذهب عبثًا ما تضرَّعوا به لاحترام ذلك المكان المقدس الذي لم يحدُث أن احترموا أمثاله، وذهب عبثًا قَسَمُهُم إنهم لم يدخلوا الدير إلا للعبادة وللاتفاق مع رئيسه، فقد جعل الرهبان أصابعهم في آذانهم، ولم يرضوا أن يُضِيعوا ما سنح لهم من فرصة الانتقام، وقد قُتِل أصحابُ الكونت الخمسةَ عشرَ، ولم ينجُ الكونت نفسُه من القتل إلا بفضل شفاعة رئيس الدير الذي اهتبل هذه الفرصة فأعاد إلى الدير ما كان هذا الكونت قد اغتصبه من الأملاك والأموال، وقصرُ القديس أندره وحدَه هو الذي حاول المقاومة.

fig142
شكل ٧-٢: داخل قصر العزيزة في صقلية (من تصوير جيرول دوپرانجة).

واستمرَّ النورمان على نهب صقلية إلى أن فكر رئيسٌ ماهر من رؤسائهم، اسمه روجر، في فتحها بحزم، والفرصة كانت سانحة لتحقيق ذلك.

وكان الانقسام يأكل المسلمين، وكان ما بين العرب والبربر من المنافسة يقودهما إلى الهلاك في صقلية كما كان يقودهما إليه في إسپانية، وكانت صقلية في ذلك الزمن، أي في سنة ١٠٦١م، مجزَّأة إلى الإمارات الخمس: بَلَرْم ومَسِّينَة وقَطانية وأطْرَابُنْش وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقبَ ملك على أمير بَلَرْم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.

وجعل انقسامُ العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتمَّ استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة ١٠٧٢م، فأفل نجم العرب السياسيُّ عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرُهم الثقافيُّ بعدها زمنًا طويلًا بفضل دراية روجر وخلفائه.

وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميرًا على صقلية، منَظِّمًا قديرًا كما بد مقاتلًا شجاعًا، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.

وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا نُظُمهم، وشملوهم برعايتهم، وتَمَتَّعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوكٌ من السُّوآب على زمامها في سنة ١١٩٤م فأجلوا العرب عنها.

وكان يسكن صقلية، حينما نظَّم روجر أمورها، خمسةُ شعوبٍ ذاتِ لغاتٍ وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبارُ واليهود والعرب، وكان لكلٍّ من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأغارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفَرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يُحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضًا، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تُكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعضٌ منها يشتمل على رمز محمد، وبعضٌ آخر يشتمل على كلا الرمزين.

وسار خلفاء روجر على سُنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يَرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.

وروى مؤرخو العرب أن عدد العرب في صقلية أصبح كثيرًا في سنة ١١٨٤م، أي بعد قرن من ذلك الفتح، وأنه كان لهم في بلرم أحياءٌ واسعة ومساجد كثيرة وأئمةٌ وقاضٍ للفصل في خصوماتهم، وأزهرَ بلاط ملوك النورمان في صقلية بفضل العرب، وبالغ أبو الفداء في تقديره؛ فشبهه ببلاط الخلفاء في بغداد، وببلاط الخلفاء في القاهرة.

(٢) حضارة العرب في صقلية

إن المصادر التي يُرجع إليها في تصوير حضارة العرب في صقلية قليلةٌ، وليس لدينا منها غيرُ ما هو مبعثر في كتب المؤرخين من الفِقَر، وقليل من المباني التي لم تنلها يد التخريب، وبعض النقود، وتكفي هذه المصادر، مع ذلك، لإثبات أن حضارة العرب كانت في صقلية على شيء من التقدم، وإن لم تكن مثل ما كانت عليه في مصر وإسپانية، وأن صقلية كانت حين جلاء العرب عنها أرقى ثقافةً وصناعة واجتماعيًّا منها حين دخلوها، ونحن إذا علمنا أن قيمة تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى من ناحية الحضارة تُقدَّرُ بمقدار نهوضها بها وإصلاحها لها رأينا أنه كان للعرب تأثيرٌ عظيم في صقلية.

وعَقَب دورُ تنظيم العرب لصقلية دور فتحهم لها، فقسَّم العرب صقلية إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت مقسومة، منذ زمن القرطاجيين إلى الولايتين: بلرم وسرقوسة، فكان تقسيم العرب لها إلى ثلاث ولايات أكثرَ ملاءمةً لجغرافيتها، وكان على رأس كل واحدة من هذه الولايات الثلاث والٍ، وكانت كل ولاية مقسمةً إلى عدة أعمال، وكان يقوم بشؤون كل واحد من هذه الأعمال قائدٌ تابع للوالي، وكان يقيم ببلرم مفتٍ، وكان يقيم بكل ناحيةٍ قاضٍ ومسجلٌ، وكان في كل مدينة جابٍ، وكان يُشرف على إدارة أمور المال والمحاسبة ديوانٌ كبير.

fig143
شكل ٧-٣: جزئيات إحدى وجهات قصر القبة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).

وتُرِك لنصارى صقلية كلُّ ما لا يمسُّ النظام العام، فكان للنصارى، كما في زمن الروم، قوانينُهم المدنية والدينية وحكامٌ منهم للفصل في خصوماتهم وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم، وهي ٤٨ دينارًا عن كل غَنيٍّ، و٢٤ دينارًا عن كل موسر، و١٢ دينارًا عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية، التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد.

وجعل العربُ كلَّ ما له علاقة بالحقوق المدنية، كالتملك والإرث وما إليهما، ملائمًا لعادات صقلية، ولم يرغب النورمانُ عنه حين استولوا عليها.

وسَمَح العرب، في أيام سلطانهم، للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية، وقد رَوَى الدومينيكيُّ كواردين، وكان رئيسًا لدير القديسة كاترين في بلرم، أن القساوسة كانوا أحرارًا في الخروج لابسين حُلَلهم الدينية ليناولوا المرضى القربان الأقدس، وقد روى الأب مورُ كُولي أنه كان يُنصب في الحفلات العامة بمَسِّينة رايتان: إحداهما إسلامية وعليها صورة برجٍ أسود في حقل أخضر، والأخرى نصرانيةٌ وعليها صورة صليب مذهَّب في حقل أحمر، ولم يمسَّ العرب الكنائس القائمة في صقلية حين فتحهم لها، وإن لم يأذنوا لهم في بناء كنائس جديدة فيها كما كانوا يأذنون لنصارى إسپانية.

fig144
شكل ٧-٤: نقود نصرانية عربية لملوك النورمان في صقلية.
ولم تكد أقدام العرب تَرسُخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة والصناعة، فانتشلوهما بسرعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، وأدخلوا إلى صقلية زراعة القطن وقصب السكر والدَّردار١ والزيتون، وحفروا فيها التُّرع والقنوات التي لا تزال باقية، وأنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم.

وتقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب، واستغلَّ عربُ صقلية ثروتها الطبيعية، واستخرجوا منها الفِضة والحديد والنحاس والكبريت والرخام والغرانيت … إلخ، بأساليب فنية، وأدخلوا إليها صنع الحرير، ومما يُرى في نور نبرغَ رداءٌ من الحرير كان يلبسه ملوك صقلية مُطرَّزًا بكتابات كوفية مع تاريخ سنة ٥٢٠ﻫ / ١١٣٣م، ويحمل كل شيء على القول بانتشار فنِّ صباغة المنسوجات في أوربة من صقلية.

وانتعشت التجارة، واتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صِفرًا، تقريبًا، قبلهم كما يدلُّ على ذلك ما انتهى إلينا من جداول مكوسهم التي أدرجت فيما نظَّمه النورمان من القوائم في أوائل الفتح فتُثبت درجة تَحَوُّل تجارة صقلية حين هذا الفتح.

ولم يبقَ من المباني الإسلامية في صقلية سوى عدد قليل، وأشهرُ هذه المباني قصرُ العزيزة وقصرُ القبة القائمان بالقرب من بلرم، واللذان ثبت بهما أنه لم يكن من المبالغة ما رواه المؤرخون عن فخامة مباني العرب في صقلية، فعَن هذه المباني المزينة بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة والمحاطة بأجمل الرياض تكلَّم الراهب ثيودوز والعالم الجغرافي الإدريسيُّ مع الإعجاب، والراهب ثيودوز هذا أُسِرَ في أثناء حصار سرقوسة في سنة ٨٧٨م، ونُقِل إلى بلرم، وامتدح قصور هذه المدينة المهمة ومساجدها وضواحيها.

واسمع في وصف بلرم ما قاله العالم الجغرافيُّ العربي الإدريسي الذي ألَّف كتاب رحلته الكبير في بَلَرْم في عهد الملك روجر الثاني أي بعد الفتح النصراني بزمن قليل:
بلرم هي المدينة السَّنِيَّة العظمى، والمحلة البهية الكبرى، والمِنبر الأعظم الأعلى، عَلَمُ بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهاية القصوى، ذاتُ المحاسن الشرائف، ودار الملك في الزمان المؤتنف والسالف، ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي عليه الآن من ذلك، وهي على ساحل البحر في الجانب الغربي والجبال الشواهق العِظام محدقةٌ بها، وساحلُها بهج مُشرق فَرِجٌ، ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين: قصر ورَبَض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ السِّماط الأوسط يشتمل على قصور منيفة، ومنازلَ شامخةٍ شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمَّامات وحوانيت التجار الكبار، والسِّماطان الباقيان فيهما أيضًا قصورٌ سامية، ومبانٍ فاخرةٌ عالية، وبهما من الفنادق والحمامات كثير، وبهما الجامع الأعظم الذي كان بيعةً٢ في الزمن الأقدم، وأعيد في هذه المرة على حالته في سالف الزمان، وصِفته الآن تعزُب عن الأذهان، لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتخبة المخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزويق والكتابات، وأما الرَّبض؛ فمدينة أخرى تُحدِق بالمدينة من جميع جهاتها، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي كان بها سُكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين، وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء، والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة، ومبانيها ومتنزَّهاتُها حسنة، تُعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين، والقصر المذكور من أكبر القصور منعةً وأعلاها رفعةً، لا ينال بقتال، ولا يُطاق على حال، وبأعلاه حصن محدَث للملك المعظم رجار مبنيٌّ بالفصوص الجافية والحجارة المنحوتة الضخمة، وقد أُحكم نَسَقُه وأُعليت رُقَعُه، وأوثقت مناوره ومحارسه، وأُتقنت قصوره ومجالسه، وشيدت بنيانًا ونُمِّقت بأعجب المغتربات، وأودعت بدائع الصفات، فشهد لها بالفضل المسافرون، وغلا في وصفها المجوِّلون، وقطعوا قَطْعًا أن لا مبانيَ أعجب من مباني المدينة، ولا مكان أشرفُ من مغانيها، وأن قصورها مشارف القصور، وأن دورها منازِهُ الدور، والرَّبض المُحدق بالقصر القديم المتقدم ذِكره هو في ذاته كبير القطر كثير الفنادق والديار والحمامات والحوانيت والأسواق، وله سورٌ يحيط به وخندقٌ وفصيل، وله في داخله، بساتين كثيرة ومتنزهات عجيبة وسقايات ماء عذبة جارية مجلوبة إليها من الجبال المحدقة ببقعتها، وبخارج الربض من الجهة الجنوبية منها نهر عباس، وهو نهر جارٍ عليه جمل من الأرحاء الطاحنة لا يحتاج معها إلى غيرها.
وتُفسِّر إمامة العرب في الفنون والصناعات والعلوم سببَ حماية ملوك النورمان لهم، وكان الرهبان يُعجبون بحذق العرب وإن كانوا يَعزُون اكتشافاتهم إلى السحر، وإنني أنقل، العبارة الغريبة الآتية التي وردت في كتاب تاريخي لاتيني، وذلك من بين العبارات الطريفة الكثيرة التي قيلت في العرب، وذلك للدلالة على رأي أعداء العرب في العرب، قال المؤرخ:

اكتشف الكونت روبرت ويسكارد في إحدى غزواته تمثالًا على عمود رخامي متوج بإطار من نحاس منقورةٍ فيه هذه الكلمة: «سأكون عند طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو صاحبًا لتاج من ذهب»، فلم يستطع أحدٌ أن يدرك مغزاها، ولكنه كان عند الكونت روبرت أسيرٌ من عرب صقلية عنده علم الجَفْر، كجميع أبناء هاجر فأخبر الكونت هذا بأن لديه مفتاح ذلك اللغز وبأنه يقول له معنى تلك الكلمة إذا أُطلق، فوعده الكونت بذلك، فأشار ذلك العربي عليه بأن يحفر حين طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو المحلَّ الذي يدل عليه منتهى ظل ذلك التمثال، فصنع الكونت ما نصحه به فوجد كنزًا كبيرًا.

(٣) غزو العرب لفرنسة

شن العرب غارات كثيرة على فرنسة بعد فتحهم إسپانية، ولم يقع ما يدل على أنهم كانوا يريدون الإقامة الجدِّية بفرنسة، وفُسِّر هذا بعدم ملاءمة المناطق الباردة لهم.

والحقُّ أن الرخاء كان يصبح حليف العرب في المناطق المعتدلة الجنوبية، وأن العرب استقروا بأقصى جنوب فرنسة زمنًا طويلًا.

وكان يملِكُ بلادَ فرنسة، حين ظهر فيها العرب في القرن الثامن من الميلاد، أمراءُ يُعرَفون بالملوك الكُسالى، وكانت تأكلها الفوضى الإقطاعية، وكانت مستعدةً لتكون غنيمة لغزاة العرب الذين استولوا على أكثر مدنها الجنوبية بسهولة، ودخل العربُ قَرقَشُونة ونيم وليون وماكون وأوتون … إلخ، بالتتابع بعد أن فتحوا أربُونة من إقليم لَنْغدوكة، وحاصروا في سنة ٧٢١م مدينة طلُّوشة التي كانت عاصمة أكيتانية على غير جدوى، وانتشر العرب في جميع وادي الرون وفي دوفينة وبورغونية.

واستولى العرب بالتدريج على نصف فرنسة الحاضرة الذي يبدأ من ضفاف نهر اللُّوار وينتهي إلى مقاطعة فَرنْش كُونْتِه، ولم يَقصِد العرب الاستقرارَ بتلك البلاد، بل اكتفوا باحتلال بعض المراكز المهمة؛ لتكون قواعد يستطيعون أن يشنُّوا منها غاراتٍ جديدةً على بعض البقاع حيث يأمُلُون أن يَجدوا ما يغنَمون.

وأهم تلك الغارات هي التي كانت بقيادة عبد الرحمن الغافقي فوقَفَها شارل مارتل (قارلة) بالقرب من پواتيه سنة ٧٣٢م.

جمع عبد الرحمن الغافقي جيشًا على شيء من الأهمية في إسپانية وعَبَرَ نهر الغارون، واستولى على بوردو (برديل) على الرغم من دفاع الأكيتان والڨاسكون الذين كان يقودهم دوك أوديس، ثم توجَّه إلى پواتيه فاستغاث دوك أوديس بشارل مارتل الذي كان يُلقَّب بأمير القصر، ويمارس السلطة باسم ملكين ضعيفين من ملوك الميروڨنجيين في المقاطعتين: أُستَرازية ونُسطِريَة.

وروى أحدُ مؤرخي العرب أن كثيرًا من سنيورات الفَرَنج اشتكوا إلى شارل مارتل من الأضرار التي أحدثها المسلمون، ومن الخزي الذي يمكن أن يصيب البلاد من جرَّاء دحر أناس غير مدربين، وغير حاملين سلاحًا كافيًا؛ لمحاربين مجهَّزين بالدروع وبعدَّة الحرب الكاملة، فأجابهم شارل مارتل قائلًا: «دعوهم يصنعوا ما يشاءون، فهم الآن مستأسدون، وهم كالسيل الذي يأتي على كل ما يعترضه، وما عندهم من الحماسة والشجاعة يقوم مقام الدروع والحصون، ولكنهم إذا ما أثقلتهم الغنائم، وطاب لهم المُقام بالبيوت الجميلة، وأَلِفوا رَفاهية العيش، واستحوذ الطمع على قادتهم، ودب الشقاق في صفوفهم — زحفنا عليهم واثقين من النصر.»

fig145
شكل ٧-٥: إبريق عربي مصنوع من البلور في القرن العاشر من الميلاد (متحف اللوفر، صورة أُخذت من جريدة الفنون الجميلة).

أجل، كان رأي شارل مارتل صائبًا، غير أن الرُّعب الذي ألقاه العرب في القلوب كان من الشدة ما تُرِكوا معه يَنهبون البلاد التي قطعوها بدلًا من محاولة وَقفهم.

واستطاع عبد الرحمن الغافقي أن يسير، إذن، منتصرًا غير هَيَّاب إلى الأمام، وأن يُخرِّب الحقول الخصبة الواقعة بين مدينة بوردو ومدينة تور، وأن يأخذ غنائم كثيرةً من المدن، ونحن إذا علمنا أنه لم يكن من عادة العرب أن ينهبوا البلدان التي يرغبون في استيطانها، كما ذكرنا ذلك غير مرة، رأينا أن سلوك عبد الرحمن الغافقي يدل على أنه، بدخوله فرنسة، لم يفكر في غير الغنائم، ويتجلَّى لنا ذلك عندما نعلم أن العرب، حينما وصلوا إلى مدينة تور، كانوا مُثقلين بالغنائم وأنهم لم يستطيعوا التقدم إلا بمشقة، وأن عبد الرحمن الغافقي لمَّا عَلِم زحف شارل مارتل الذي جمع جيشًا من الممالك المتحدة تحت لواء كلوڨيس فيما سلف، فكر في الارتداد فنزل إلى پواتية واضطر إلى منازلة شارل مارتل الذي كان يَتَعَقَّبُه.

وكان جيش شارل مارتل مؤلفًا من البوغورن والألمان والغول، وكان جيش عبد الرحمن الغافقي مؤلفًا من العرب والبربر، وظلت المعركة غير حاسمة بعضَ اليوم، فلما كان المساء انفصلت فرقةٌ من جيش الفرنج لتُغِير على معسكر المسلمين، فترك المسلمون ميدان القتال ليحافظوا على غنائمهم، فأسفرت هذه الحركة الخرقاء إلى خسرانهم، فاضطروا إلى القتال متقهقرين إلى الجنوب، وقد تتبَّعهم شارل مارتل من بعيد، وحاصر أربونة غيرَ موفَّق، وأخذ ينهب البلاد المجاورة على حسب عادات ذلك الزمن، وحالف أمراءُ النصارى العربَ؛ ليتخلصوا منه، وحملوه على القتال مُرتدًا.

ولم يلبث المسلمون، بعد أن أفاقوا من تلك الضربة التي أصابهم بها شارل مارتل، أن أخذوا يستردون مراكزهم السابقة، وقد أقاموا بفرنسة قرنين بعد ذلك، وقد سَلَّم حاكم مرسيلية مقاطعة الپروڨنس إليهم في سنة ٧٣٧م، واستولَوا على الآرل، ودخلوا مقاطعة سان ترويز في سنة ٨٨٩م، ودامت إقامتهم بمقاطعة الپروڨنس إلى نهاية القرن العاشر من الميلاد، وأَوغلوا في مقاطعة الڨالة وسويسرة سنة ٩٣٥م، ورَوَى بعض المؤرخين أنهم بلغوا مدينة ميس.

fig146
شكل ٧-٦: أسلحة عربية صُنعت في مختلف الأزمنة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

وتُثبت إقامة العرب بفرنسة مدةً تزيد على قرنين بعد شارل مارتل أن النصر الذي أحرزه في پواتية لم يكن مهمًّا كما زعم المؤرخون، ولم يقُم إجماع هؤلاء المؤرخين الذين قَصُّوا علينا أن شارل مارتل أنقذ أوربة والنصرانية من العرب على أساس متين كما يبدو لنا، فلم تكن غزوة عبد الرحمن الغافقي سوى حملةٍ قام بها؛ لِيُمَوِّن جنوده، ويمكِّنهم من أخذ مغانم كثيرة، وما كان العرب ليفعلوا أكثر من نهب مدينة تور وبضع مدن أخرى، سواءٌ انتصر شارل مارتل أو لم ينتصر، وما كان همُّهم مصروفًا إلى غير العودة بما غنموه على أن يُعيدوا الكرَّة في سنة أخرى إلى أن يجدوا أمامهم من التحالف ما يدحرهم.

ولم يستطع شارل مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكريًّا، واضطر شارل مارتل إلى التقهقر أمامهم تاركًا لهم ما استولوا عليه من البلدان، والنتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره هي أنه جعل العرب أقلَّ جرأةً على غزو شمال فرنسة، ونتيجةٌ مثل هذه، وإن كانت مفيدةً، لم تكفِ لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.

ويرى المؤرخون الذين يُجسِّمون قيمة انتصار شارل مارتل على العرب بالقرب من پواتية أنه لولا هذا الانتصار؛ لاستمر العرب على غزواتهم، واستولوا على أوربة، ثم يسألون مذعورين عن مصير الشعوب النصرانية لو خَفَقَت فوقها راية النبي، قال مسيو هنري مارتن في كتابه عن تاريخ فرنسة الشعبي: «لقد تقرر مصير العالم في تلك المعركة، ولو غُلِبَ الفَرَنْج فيها لكانت الأرض قبضة محمد … ولخسرت أوربة والدنيا مستقبلهما، فليس النشاط الذي يَحْفِزُ الناس إلى التقدم مما تَجِده في عبقرية المسلمين التي تتلخص في فكرتهم عن الله، وإله المسلمين قد جنح إلى العزلة والسكون بعد أن خلق العالم، وهو لا يحثُّ الناس على العمل في سبيل الرقي.»

والجواب عن ذلك هو أن النصر لو تمَّ للعرب ما طَرَأ تبديل على مقادير البلاد، فإذا ما كان العرب غالبين انتهبوا بضع مُدُن، على ما يحتمل، زيادةً على المدن التي انتهبوها كما قلنا آنفًا، ثم ارتدوا حاملين غنائمهم إلى ملجأ أمين، ثم عادوا في السنين القادمة إلى سيرتهم الأولى ريثما يلقاهم عدوٌّ قوي يَدحَرُهم كما وُفِّق له شارل مارتل.

ولكن لنفرض جدلًا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جوَّ شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة التي تكون قد هُذِّبَت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتلمي، ومظالم محاكم التفتيش … وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضَرَّجَت أوربة بالدماء عدة قرون.

ويجب أن يكون المرء جاهلًا تاريخَ حضارة العرب جهلًا مُطبِقًا؛ ليوافق على ما زعمه ذلك المؤرخ العالم من «أن النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم ليس مما تجده في عبقرية المسلمين»، ومن «أن أوربة والدنيا كانتا تخسران مستقبلهما»، فمزاعم مثل هذه ليست مما يقف أمام سلطان النقد عندما يُعْلَم أن التمدن اللامع حلَّ بالبلاد التي خَضَعت لأتباع الرسول محل الهمجية، وأن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم لم يكن قويًّا في أمةٍ مثلَ قوته في العرب.

ولم يكن احتلال العرب لجنوب فرنسة عِدة قرونٍ غيرَ ذي أثرٍ ضعيف، فبما أن المدن التي استولوا عليها في جنوب فرنسة من القواعد الحربية التي كانوا يستندون إليها في غاراتهم لم يبالوا بتمدينها، ولم يكن لهم في جنوب فرنسة مراكزُ مهمةٌ للحضارة كما اتفق لهم في إسپانية وبلاد المشرق.

ومع أن إقامة العرب بفرنسة نشأت عن بعض السرايا نراهم قد تركوا أثرًا عميقًا في اللغة وفي الدم كما نذكر ذلك في فصل آخر، وذلك أنه استقرَّ أناسٌ كثيرون منهم بالأرَضين القريبة من المدن التي استولوا عليها وتَعَاطَوا فيها أمور الزراعة والصناعة، وأنهم أَدخلوا صناعة البُسُط إلى أُبُوسُون، وأنهم أدخلوا كثيرًا من أساليب الفلاحة كما عُزِي إليهم، وأنهم امتزجوا بسكان البلاد بسبب محالفاتهم الكثيرة لأمراء النصارى الإقطاعيين المتقاتلين على الدوام، وأنه وُجِدَ حَفَدةٌ للعرب في أماكن كثيرة من بلاد فرنسة كالمقاطعات: كروز والألب الأعلى ومونتمور (جبل المغاربة) وبنيو (شارانت) وبعض قرى لاند وروسيون ولنغدوكة وبيارن كما أثبت ذلك علمُ وصف الإنسان، فيمكن الإنسان أن يَعرِفهم بجلودهم السُّمر وشعورهم السود وأنوفهم القُنْو وعيونهم الثاقبة اللامعة، ويمكن المرء أن يُعرف نساءهم بألوانهن الزيتية ووجوههن الأسيلة وأعينهن النُّجْل الدُّعْج وحواجبهن الزُّجِّ وصدورهن الناهدة … إلخ، وإذا كانت هذه الصفات قد ظلت باقية فلم تمَّحِ بغَرَقها في صفات السكان المجاورين، تبعًا للسنن الإنتروپولوجية التي بيَّنَّاها، فلأن حفدة العرب أولئك ألَّفوا جماعاتٍ صغيرةً منفصلةً عن بقية الأهلين غير متصلة بهم بصلات التوالد.

fig147
شكل ٧-٧: قرب عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

انتهينا من تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دانت للإسلام، وعلمنا درجة اختلاف هذا التاريخ باختلاف البيئات التي أقاموا بها وبحسب مقاصدهم من الاستيلاء عليها، ورأينا أنهم ذوو أثر بالغ في تمدين الأقطار التي خضعت لهم خلا فرنسة على ما يحتمل، وأنَّ كل بلد خَفَقَت فوقه راية النبي تحول بسرعة، فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيما ازدهار.

ولنَدَع جانبًا بياننا المجمل الذي اقتصرنا عليه حتى الآن، ولنبدأْ بتفصيل تاريخ حضارة العرب ودرس مبتكراتهم في مختلف المعارف البشرية التي زاولوها، فمهما يكن تاريخ إحدى الأمم السياسي مبهمًا أو زاهرًا، فإن شأن هذه الأمة الحقيقيَّ في العالم يُقاس باكتشافاتها وتأثيرها في ميدان الحضارة.

هوامش

(١) الدردار: شجر عظيم له زهر أصفر، وورق شائك، وثمر كقرون الدفلى.
(٢) البيعة: معبد النصارى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤