الفصل الخامس

الدينُ والأخلاق

(١) تأثير الدين في المسلمين

تكلمنا فيما تقدم عن أحكام القرآن كما عَلَّمه مُحَمَّد منذ ثلاثةَ عشرَ قرنًا، ولكن القرآنَ دستورٌ مكتوب، ويوجد فَرْق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يَعْلَم أهمية هذه التعاليم وَجَب عليه أن يدرس درجةَ تأثيرها في الحياة، وحدودُ هذا التأثير هو الذي تُهِمُّ معرفته إذن، وهذا لا نستطيعه إلا بالدخول فيما لم نأتِه حتى الآن من التفصيل: تأثيرُ دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا، أجل، قد تجد بين المسلمين عددًا قليلًا من الزنادقة والأخْلِياء، ولكنك لن ترى من يَجرؤ منهم على انتهاك حرمة الإسلام في عدم الامتثال لتعاليمه الأساسية كالصلاة في المساجد وصوم رمضان الذي يراعِي جميعُ المسلمين أحكامه بدقة مع ما في هذه الأحكام من صرامةٍ لا تجد مثلَها في صوم الأربعين الذي يقوم به بعض النصارى كما شاهدتُ ذلك في جميع الأقطار الإسلامية التي زُرتها في آسية وإفريقية، ومن ذلك أن أتيح لي أن أركب سفينة نيلية كان فيها أفرادُ عصابةٍ عربية مُقَرَّنين في الأصفاد، ومُتهمين بأنواع الجرائم؛ فقضيتُ العجب حين رأيتهم، وهم الذي خرقوا حومةَ جميع القوانين الاجتماعية مستخفِّين بأقسى العقوبات، ولم يجرؤوا على انتهاك تعاليم النبي، وحين شاهدتهم يرفعون تلك الأصفاد عنهم وقت الصلاة ليسجدوا لله القهَّار ويعبدوه.

وعلى من يرغب في فهم حقيقة أمم الشرق، التي لم يُدرِك الأوربيون أمرها إلا قليلًا، أن يتمثل سلطانَ الدين الكبير على نفوس أبنائها، وللدين ذي التأثير الضئيل فينا نفوذٌ عظيم فيهم، وبالدين يُؤْثَّر في نفوسهم، ولولا الدين ما حُرِّكَ ساكن المصريين منذ الثورة الحديثة التي ضَرَّجت مصر بالدماء، وقد تَجَلَّت لي صعوبة إدراك الناس لروح الأمم الأخرى من مطالعة الصحف الأوربية التي ذَكَرت أن ثورة عرب مصر الأخيرة حدثت لينالوا من الحقوق السياسية ما يجهلونه بالحقيقة جهلًا تامًّا، وذلك أن العرب إذ تعودوا الإذعان لأهواء ربٍّ، ولم يَصْعَب عليهم الإذعان لوكلائه، وأن الرجل الذي يخاطب العرب باسم الله يُطاع لا محالة، ما عَلِموا أنه يتكلم باسم الله حقًّا، فعلى الراصد المؤمن أو الملحد أن يحترم هذا الإيمان العميق الذي استطاع العربُ أن يفتحوا العالم به فيما مضى، وهم اليوم يَصبِرون به على قَسوَة المصير.

حقًّا إن مثل تلك المعتقدات يُورِثُ الجموع أوهامًا جميلةً تُعدُّ عنوان السعادة، والجموع تُبصِر من خلالها نعيم الآخرة الذي لا تَرَى مثله في هذه الحياة الدنيا، وهي تصونها من الوقوع في اليأس وما يَجُرُّ إليه اليأس من الفِتن الشديدة، ويجب على من يستخف بتلك الأوهام أن يستخف بجميع الأوهام؛ ليكون منطقيًّا فيزدري المجد والطموح والحب وجميعَ الخيالات الساحرة الجديرة بالاحترام التي نقضي حياتنا وراء تحقيقها، وهذه الأوهامُ أعظم عامل في سَيْر الإنسان حتى الآن، والمفكر الذي يكتشف ما يُغْني الناسَ عنها لم يُولَد بعد.

(٢) الطقوس الدينية في الإسلام

(٢-١) الفِرَق الإسلامية

أرى أن أقول بضع كلماتٍ عن الفِرَق الإسلامية قبل وصف طقوس العرب الدينية الأساسية: يشتمل الإسلام على عدة فِرَق ككل دين، وبلغ عدد الفِرَق الإسلامية، منذ أوائل التاريخ الهجري، اثنتين وسبعين فِرقةً، وأكثر من هذا عدد الفِرق الپروتستانية وحدها.

وفرقة أهل السنة وفرقة الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وأهمها، فأما الشيعة: فيزعمون أن الخلافة لصهر النبي عليِّ، ويحترمون عليًّا كاحترامهم لمحمد تقريبًا، وأما أهل السنة: فيَرَون خِلافة الخلفاء صحيحةً وَفق ترتيبهم، ويمثِّلُ أهل السنة الفريق الصحيح.

وإذا ما استثنينا تينك الفِرقتين رأينا فِرَقًا ثانوية في الإسلام، وأهمُّها الوهابية التي ظهرت منذ قرن فأقامت دولةً قوية في وسط جزيرة العرب، وتزعم الوهابية أنها تُعيد إلى الإسلام صفاءه القديم، والوهابيون پروتستان الإسلام في الحقيقة.

fig197
شكل ٥-١: محراب في الجامع الأزهر بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

والفُرْس من الشيعة، والعرب والترك من أهل السنة، وأهل نجد من الوهابيين.

وينظر بعض تلك الفرق إلى بعض بعين التسامح، وتصلح الفرق في سورية — على الخصوص — أن تكون قُدوَةً لمختلف الفِرق النصرانية، وأنت لا تجد في العالم الإسلامي محاكم مثل محاكم التفتيش أُلِّفت لحمل أنصار فرقةٍ على انتحال مبادئ فرقة أخرى بالحديد والنار، وأنت تجد أساتذة منتسبين إلى مختلف المذاهب يعيش بعضُهم بجانب بعض متفاهمين في الجامع الأزهر الذي هو أهم موئلٍ للتعليم الديني في الشرق.

ولنذكر الآن طقوس العرب الدينية المهمة:
  • الصلاة: الصلاة من أهم العبادات التي نصَّت عليها شريعة مُحَمَّد. المسلم لا يَفِرُّ من أدائها مهما كانت أُمَّته وطبقته.
    fig198
    شكل ٥-٢: ضريح ولي عربي في غابة البليدة المقدسة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).
    ويجب أن تؤدَّى الصلاة خمس مرات في أوقات معينة من كل يوم كما أمر النبي، ويدعو المؤذنون من المآذن، في بلاد الإسلام الواسعة، معشرَ المسلمين إلى الصلاة بأصواتهم الجهيرة وقت الفجر ووقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء، وصيغة الأذان هي:

    الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة.

    وإذا ما تم الأذان قام المسلمون إلى الصلاة رافعين أيديهم إلى آذانهم، ثم وضعوها تحت سُرَّاتهم تالين ما تيسَّر من القرآن، ثم ركعوا وسجدوا غير مرة.

    ويُؤدِّي المسلمون صلاة الجمعة وقت الظهر في المساجد بعد أن يستمعوا إلى خُطبة الإمام، ويدوم ذلك ثلاثةَ أرباع الساعة.

    وعلى المسلم أن يتوضأ قبل الصلاة، وتجد في كل مسجد حَوْضًا للوضوء.

  • الصوم: الصوم من أهم عبادات الإسلام أيضًا، ويصوم المسلمون على اختلاف طبقاتهم، ويراعِي المسلمون في صيامهم شروطَ الصوم الشديدة بدقة يَصعب على الأوربي أن يتصورها، ويقوم الصوم في شهر رمضان الذي يَحِلُّ في فصولٍ مختلفةٍ مع السنين، على الامتناع عن الأكل والشرب والتدخين من الفجر إلى غروب الشمس.

    ويتضمن امتناع المسلم عن الشرب والتدخين في النهار قهرًا لنفسه، فإذا ما اقترب وقت الغروب رأيت المسلمَ حاملًا سيغارته أو ممسكًا أنبُوب نارجيلته منتظرًا، فارغَ الصبر، إيذان المؤذن بحلول وقت الإفطار، وإذا ما غربت الشمس استدرك المسلم ما فاته، وتناول طعامًا وافرًا.

    fig199
    شكل ٥-٣: القسم الأعلى لمزار العباسيين الذي اكُتشف حديثًا في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).

    وفي ليالي شهر رمضان تُنارُ القَهَوَات، وتُمَثَّلُ الروايات، وتشاهد الألعاب بعد الإفطار، وتُضاء المساجد.

  • الأعياد الدينية: أعياد المسلمين الدينية، خلا رمضان كثيرةٌ، وأذكر منها يومَ مولد النبي، وليلة نصف شعبان المرهوبة التي تُوزَن فيها مصاير الناس وتُنَظَّم، وعيد الأضحى الذي يدوم أربعة أيام من آخر أشهر السنة ويَرمُزُ إلى ضَحِيَّة إبراهيم.

    وتذبح كلُّ أسرة خَروفًا أو حيوانًا آخر في عيد الأضحى، ويَلبَس المسلمون أفخر الملابس، ويمشون في الأسواق، وتضاء المساجد بالمصابيح ذات الألوان، وأَعُدُّ الليلة التي نظرتُ فيها إلى ميناء رودسَ المُنارِ ليلةَ عيد الأضحى من أروع ما رأيت في حياتي.

    وبلغ تأثير الإسلام في أدق شؤون العرب مبلغًا تكون معه جميع مراسمهم أعمالًا دينية، ومن تلك المراسم: أنكحتُهم وختاناتهم التي وَصَفْنَاها في فصل سابق، والتي ليست، في الحقيقة، سوى أعمال دينية ومدنية معًا.

  • الحج: يُعد حجُّ المسلم لمكة مرةً في العُمُر من أهم ما أَمَر به محمد من الأمور الدينية والسياسية.
    fig200
    شكل ٥-٤: سقف جامع المؤيد في القاهرة (من تصوير كوست).

    ويَتمُّ الحج بواسطة القوافل العظيمة التي يُعَدُّ أهمها ما يخرج من القاهرة والشام، وتَكون الرحلة طويلةً، ويَهْلِك فيها حُجاجٌ كثير، وتهون المشقة في سبيل زيارة الكعبة المُشَرَّفَةِ الشهيرة أيام محمد، والتي يرجع أصلُها إلى أقدم قرون التاريخ.

    وإذا ما اقترب الحجاج من مكة حَلَقوا، وخلعوا ثيابهم، وقاموا بضروب الوضوء، ولَبِسوا الأُزُر، ثم طافوا حول الكعبة سبع مراتٍ، واستلموا الحجرَ الأسود الشهير الذي تكلمنا عنه في فصل آخر، ثم توجهوا إلى جبلِ عرفاتٍ القريب من مكة وسمعوا فيه خُطبةَ الإمام، ثم أفاضوا إلى حيث يَرمون الشيطانَ بحَصَيات في الوادي الذي طَرَده منه إبراهيم، ثم نَحَروا الذبائح، ثم زار أكثرهم حميةً المدينةَ التي تضمُّ قبر الرسول.

    وفي الغالب يبلغ عدد الذين يزورون مكة كلَّ سنة مئتي ألف حاج، وفي موسم الحج يتقابل المسلمون الذين يجيئون من أنحاء العالم الإسلامي الممتد من مراكش إلى الهند وحدود الصين مارًّا بإفريقية الوسطى.

    والحقُّ أن المؤمنين إخوةٌ كما أمر القرآن، وأن الحج فُرِض لتوثيق عُرَا الإخاء الإسلامي كما ذهب إليه متكلمو العرب، فإذا ما عَقَد الحجاج اجتماعاتهم التي لا يستطيع نصراني أن يَلِج فيها من غير أن يُقتَل استقصى بعضهم احتياجات بعض، وتفاهموا في شؤون الإسلام، ثم نشروا ذلك في جميع نواحي الإسلام، ولا نرى أن نُسهب في بيان ما قد ينشأ من النتائج السياسية المهمة عن اجتماع الحجيج الذين يأتون مكةَ في موسم الحج من الأقاصي فتُوحِّد بينهم المصالح الدينية المشتركة.

    fig201
    شكل ٥-٥: نافذة في مسجد عربي بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

    ولمكة أهميةٌ تجارية كبيرة إلى الغاية عدا أهميتها الدينية والسياسية، فمكة من أعظم أسواق العالم، وفيها يُتَقايَض بالسلع التي تَرِدُها من أنحاء الدنيا.

  • أذكار الدراويش: عَرَفَ الإسلام الزهد والذِّكر كما عرفتهما الأديان الأخرى، وأدى الزهد والذكر إلى تأليف الطرق الدينية التي تهدف إلى النجاة الأبدية، وتظهر الطرق الدينية في الأديان التي تميل إلى التشاؤم عادة، وليس القرآن أقلَّ تشاؤمًا من الإنجيل؛ فالقرآن، كالإنجيل، يَعُدَّ الحياة الدنيا طريق ابتلاء وامتحان للوصول إلى الآخرة، وأوجب هذا مَيْلَ ذوي الوَرَع والقلق إلى التحرر من مفاسد الدنيا، ودخول ملكوت السماوات بالزهد.

    وأذكر، من بين الطرق الدينية التي تَسْتَوقف النظر، طريقة الدراويش الدَّوَّارين (المَوْلَوِيَّة) وطريقة الدراويش الصَّخَّابين، ونُعِتَ هؤلاء بهذا الاسم؛ لِمَا يأتون من الأعمال والحركات التي يَصِلون بها إلى درجة الوَجد والانجذاب كما كان يصنع رهبان أديارنا كثيرًا.

    وفي الآستانة شاهدتُ الدراويش الدَّوَّارين في أثناء أذكارهم فرأيت حالهم، بعد أن يَدُوروا كثيرًا على أنفسهم، قريبةً من حال السائرين في النوم، ويقوم الدراويش الدَّوَّارون، قبل دوَرانهم على أنغام الناي والطبل والرَّباب، ببعض التراتيل التي تشابه تراتيل كنائسنا، وإن كانت أعذب وأشجى مع عدم طنينها.

    fig202
    شكل ٥-٦: نافذتا مسجد في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
    وجَرَّبْتُ تأثير تلك الموسيقا في المؤمنين بنفسي، وسَبَحْتُ في بحر من الرُّؤَى حين سَمِعتها، قال تِيُوفيل غُوتيه موضحًا هذا التأثير في الأسطر الآتية:

    كان ذلك اللحن العجيب يُثير في قلبي ما لا يُعرَف من الحنين إلى الأوطان، وكان يُثير فيه ما لا يُوصف من الولَه والجذَل، وكان يثير فيه ميلًا إلى الانسياق مع التيار، وما أكثر ما كان يَهيج في نفسي من الذكريات والمناظر الخيالية الجميلة الساحرة! وما أكثر ما كنت أتَمَثل به ما نَسِيتُ من الصور والرسوم والمشاهد والأماني اللطيفة فأترنَّح مُسَلِّمًا أمري إلى سحره! وهو المؤثِّر الذي يناقض ما تعودناه.

    fig203
    شكل ٥-٧: نافذة مسجد عربي (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
    وإذا ما دام تأثير تلك الأنغام بعض الزمن خلع أولئك الدراويش أَرْدِيَتِهم، ولم يبقَ عليهم سوى قُمُصِهم، باسطين أَذْرُعَهم كالصليب، راقصين حول أنفسهم بانتظام، متدرجين ببطء مائلي الرؤوس، فاتحي الأفواه مُغمضي العيون فاقدي المشاعر، وما كان وَضعُ ذُرْعانهم المُتعِبُ، الذي لا يحتمله الإنسان في الأحوال العادية إلا لبضع دقائق؛ ليُزعِجهم في ربع ساعة، وما كنت لأجدَ في حركاتهم غيرَ العذوبة والانتظام الرائع، فيُخيَّل إليَّ أنني تِهت فيما لا حَدَّ له من الأخيلة التي يَعجِز عن وصف سحرها القلم، قال ذلك الكاتب:

    ما يَرَون في تلك الرُّؤى التي تُرنِّحهم؟ أَيَرَون فيها جَنَّة مُحَمَّد التي تشتمل على غاباتٍ من الياقوت، وجبال من العنبر، وقصورٍ من الألماس، وخيام من اللؤلؤ؟ لا ريب في أنهم، في تلك الرؤى، يُقبِّلون بمباسمهم العَطِرَة، الحورَ العين البيض والخضر والحمر، ويشاهدون نور الله الساطع الذي يُعْشِي الأبصار فتبدو الشمس بجانبه مظلمة، ويشاهدون الأرض، التي يُمسكونها بطرف أباهمهم، تُطوى كورقة دفترٍ ملقاةٍ في كانون، ويتمايلون بهُيَام في صُورَتي الله، أي في الخلود، وفيما لا حدَّ له.

    ومتى خرج الدراويش الدَّوَّارون من وَلَهِهم وقفوا وركعوا وخرجوا من القاعة.

    ولم أشاهد أذكار الدراويش الصَّخَّابين، ولكني أرى، مما وُصِفوا به، أنهم يدخلون في حال من التنويم كالحال التي يكون عليها الدراويش الدَّوَّارون بفعل الرقص والموسيقا، وذلك أنهم يَصِلون إلى درجةٍ من عدم الإحساس ما يَقْدِرون أن يَثْقُبوا به أعضاءهم بآلات مُذَرَّبة١ من غير أن يشعروا بشيء كما يفعل العيساوية.

(٢-٢) المباني الدينية

المساجد والزوايا والمدارس … إلخ.

  • المسجد: مركز الحياة الحقيقي عند العرب؛ فالعرب يتخذون المسجد محلًّا للاجتماع والعبادة والتعليم، والسكن عند الاقتضاء، لا لعبادة الله فقط كبِيَعِ النصارى.

    وقد أوضحنا في فصلٍ سابق رسمَ المساجد العامِّ، فذكرنا أن المساجد القديمة بُنيت على نمطٍ واحد، أي أنها مؤلفة من ساحات قائمة الزوايا محاطةٍ بأروِقَة، وأن الصلاة تُقام في أوسع تلك الأروقة، وتجد في وسط كلِّ ساحةٍ حوضًا للوضوء، وتجد في مكان الصلاة محرابًا في الحائط متَّجِهًا نحو مكة، ومنبرًا للوعظ، وقِمَطرًا يُفتَح عليه المصحف عند القيام بالأعمال الدينية، ومصابيح كثيرةً معلقة بالسقف، وتجد الحُصر والبُسُط كلَّ ما فيه من أثاث.

    وتوجد بجانب مكان الصلاة، في الغالب، حجرة تَضُم ضريح مؤسس المسجد.

    وتقوم على أركان المساجد مآذن؛ ليُدْعَى المؤمنون من فوقها إلى الصلاة.

    fig204
    شكل ٥-٨: شمعدان للسلطان قلاوون (من تصوير پريس الأفيني).

    ومن توابع المساجد، على العموم: حماماتٌ وفنادق وأصابل ومشافٍ ومدارس، وهكذا يتجلى اختلاط الحياة المدنية بالحياة الدينية عند المسلمين في مساجدهم.

    تظل المساجد مُفَتَّحَة الأبواب من الفجر إلى العشاء، أي إلى نحو الساعة الثانية بعد الغروب.

    وكل مسجد مستقلٌّ عن الآخر، ويُنفَق على المسجد من رَيْع ما وَقَفَه عليه مؤسسوه مع ما يُضاف إليه من الحُبُس، ويدير شؤونه قَيِّمٌ يساعده جماعةٌ من الأئمة والحجاب والمؤذنين والسَّقَّائين والخَدَم … إلخ، ممن تجدهم حتى في أصغر المساجد، ويمارس أئمة المساجد، في الغالب، مِهَنًا أخرى بالإضافة إلى أَمِّهم المصلين في الأوقات المعينة.

    وكما أن مساجد المسلمين مراكزُ للاجتماع وملاجئ للغرباء ومراجع للمرضى هي، كذلك، موائل للتعليم، وفي أصغر المساجد يُعلَّم الأولاد، وتُعد المساجد الكبيرة من الجامعات التي لا تَقِلُّ، أحيانًا، عن جامعات أوربة أهمية، ونذكُر منها: الجامع الأزهر الشهير القائم في القاهرة، والذي يضم ثلاثمائة أستاذٍ، وأكثر من عشرة آلاف طالب يَقصِدونه من جميع نواحي العالم الإسلامي.

    fig205
    شكل ٥-٩: شمعدان للسلطان قلاوون (من تصوير پريس الأفيني).

    حقًّا إن الجامع الأزهر مركزٌ دينيٌّ وأدبيٌّ مهمٌّ إلى الغاية، وأنه يَتَخَّرَج على أساتذته خلقٌ كثير من الوعاظ والعلماء والقضاة والأعيان والنافذين … إلخ، ومن دواعي الأسف أن يَظَلَّ التعليم في الجامع الأزهر على الحال التي كان عليها عند بدء انحطاط العرب، وأن يسير على برنامج مماثل لبرنامج جامعاتنا في أواخر القرون الوسطى، ويُدَرَّسُ في الجامع الأزهر علمُ الحساب والهندسة والفلك والنحو والأدب والبيان والمنطق، وذلك عدا تلاوة القرآن وتفسيره.

    وليس التدريس في المساجد مشابهًا لِمَا في جامعاتنا السابقة من حيث البرامج وحدها؛ بل نرى شبهًا بينهما في المناهج، وفي حياة الطلاب أيضًا، فلما قُيِّض لي أن أجوب الجامع الأزهر في أثناء دروس أساتذته رأيتُني قد انتقلت، بعصا سحرٍ، إلى إحدى جامعاتنا القديمة في القرن الثالث عشر، فتمثل لي ما كان فيها، كما في الجامع الأزهر، من التشويش في دروس علم الكلام ودروس الأدب، وتَمَثَّل لي ما كان فيها مثلَ ما في الجامع الأزهر من المناهج، ونُظُم جمعيات الطلاب، وتمتُّعهم بالحرية والإعفاء.

    ويجلس كلُّ أستاذ على حَصير في أكبر رواق من الجامع الأزهر، وهو المُصلَّى، وتحيط به حلقةٌ من التلاميذ اللابسين الجِبَابَ السُّودَ والعمائم البيض، والحاملين أقلامًا قصبية؛ ليكتبوا بها ما يُملَى عليهم، والمُدخلين محابر إلى زنانيرهم، ويُنفق الجامع الأزهر على الفقراء من تلاميذه ويُسكنهم حُجُراته.

    وقد رأيت جميع أولئك الشبان جادِّين في أعمالهم مجتهدين في دروسهم، ومنهم من أَتَى لِنَيْل العلم من الهند ومن مراكش؛ فالعلم الذي استهانت به الأديان الأخرى يُجِله المسلمون حقًّا، وإلى المسلمين يُعْزَى القولُ الصائب: «مِن البشر مَن يتعلمون فيَعْلَمون، ويُعَدُّ من سِوَاهم من الحشرات أو ممن لا يَصلُحون لشيء ولا يَنْفَعون.»

    ولدى المسلمين أماكن دينية أخرى أقلُّ أهمية من المساجد، كمزارات الأولياء التي هي أبنيةٌ صغيرةٌ مكعَّبة تعلو كلَّ واحدة منها قُبَّة، والتي لا يخلو منها بلدٌ إسلاميٌّ تقريبًا، ويقع مزار الولي الذي نشرنا صورته في هذا الكتاب في الغابة المقدسة الرائعة الواقعة بالقرب من البليدة.

    وأذكر، بجانب تلك المباني الدينية، الزوايا التي يُقيم بها أصحاب الطرق من الدراويش، والتي أرى عددنا قليلًا إذا ما قيست بعدد الأديار الواسعة الانتشار لدى الأمم النصرانية في أوربة، ولا تختلف الزوايا عن مباني المسلمين الأخرى إلا قليلًا، ولا ترى فيها منظر أديارنا الأدجن.

(٣) الأخلاق في الإسلام

أصول الأخلاق في القرآن طيبة؛ فالقرآن يأمر بالصدقة والإحسان والقِرَى والاقتصاد في الرغائب والوفاء بالعهد وحب الأقربين واحترام الوالدين وحماية الأيامى واليتامى وبما نجده مكررًا فيه من درء السيئة بالحسنة، وتُطابق أصول الأخلاق في القرآن ما ورد في الإنجيل تقريبًا.

fig206
شكل ٥-١٠: مسرجة مسجد قديمة مصنوعة من البرونز (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

بيد أنه لا أهميةَ كبيرةً لدراسة ما في أحد الكتب من أصول الأخلاق ما كانت مبادئ الأخلاق في كل دين طيبة، وليست مكارم الأخلاق التي تُؤمر بها الأمم، إذن، هي التي تجب معرفتها عند البحث في شؤونها؛ بل يُنظر إلى ما عَمِلت به منها، ولا عَجَب، فقد دلَّت المشاهدة على أن مطابقة الأعمال للأقوال ضعيفة جدًّا على العموم.

وقد حاولنا، في الفصل الذي خصصناه في كتابنا الأخير للبحث في نشوء الأخلاق، أن نُثْبِت أن شأن الدين في تكوين الأخلاق أمرٌ ثانويٌّ على العموم، وأن الأخلاق وليدة المنفعة والبيئة والرأي وقواعد الحقوق والانتخاب الطبيعي والتربية والذكاء … وما إلى ذلك، وقد ذكرنا فيه أن أقدم الديانات لم تنص على أصول الأخلاق، وأن النص على مبادئ الأخلاق لم يكن في غير أديان الهندوس وأديان موسى وعيسى ومحمد، وأن هذه الأديان لم تَصنع أكثر من تأييدها لما كان معروفًا، وأن هذا التأييد قام على الأمل في الثواب والخوف من العقاب في اليوم الآخر، وأن خوف العقاب لم يكن مهيمنًا على أكثر الناس ما جعلت تلك الأديان غفران الذنوب أمرًا سهلًا.

fig207
شكل ٥-١١: مصباح عربي قديم كان في مسجد الحمراء (يبلغ ارتفاعه مترين و١٥سنتيمترًا، متحف العاديات الإسپاني).

ومن يَطُفْ قليلًا في العالم، ويدرُس أحوال الناس في غير الكتب يَرَ الدين أمرًا مستقلًّا عن الأخلاق استقلالًا تامًّا، ولو كان بين الدين والأخلاق سبب؛ لكان أكثر الأمم تدينًا أكثرها أخلاقًا مع أن العكس هو الواقع. وعندي أن إسپانية وروسية أكثرُ بلاد أوربة عملًا بالشعائر الدينية، وعندي أن مستوى الأخلاق فيهما دونَه في البلاد الأخرى كما ذهب إليه مَن دَرَس أمرهما بعناية.

وليس في ديانة الأمة، إذن، ما يجب أن يُبحث عن علل أخلاقها ما كان لجميع الأديان، كما قلتُ، أصولٌ أخلاقية طيبة لو عُمِل بها لدخل العالم في دور ذهبي، وما اختلفت طريقة العمل بتلك المبادئ باختلاف البيئات والأزمنة والعروق والأحوال، وما تباينت الأمم ذات الديانة الواحدة في مقاييسها الأخلاقية.

ويُطبَّق ما تقدم على جميع الأديان، ومنها الإسلام، فمبادئ الأخلاق التي نص عليها القرآن، وإن كانت كاملةً، اختلف تأثيرُها باختلاف الشعوب والبيئات والأجيال.

وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيرًا من أخلاق أمم الأرض قاطبةً، ولا سيما الأمم النصرانية، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة ووفاؤهم بعهودهم ونبلُ طبائعهم مما يستوقف النظر ويناقض سلوك الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوربية أيام الحروب الصليبية.

fig208
شكل ٥-١٢: دراويش دوَّارون (موْلَوية، من رسم إعدادي).

ولو صحَّ أن يكون للأديان ما يُعزَى إليها من التأثير لوجب أن نقول: إن القرآن أفضلُ من الإنجيل ما بَدَت أممُ الإسلام أسمى أخلاقًا من أمم النصرانية فيما مضى، ولكن ما قلناه من استقلال الأديان على الأخلاق يدل على انتفاء صحة هذا الاستنتاج، فأخلاق المسلمين، كأخلاق النصارى، اختلفت باختلاف العوامل المذكورة صعودًا وهبوطًا.

ونشأ عن سيادة الترك الطويلة ونظامِهم السياسي انحطاطٌ في أخلاق الشرقيين الذين خضعوا لحكمها، وإذا كانت مكارم الأخلاق تتبخَّر، ويَعُمُّ الفساد في بلادٍ كتركية، حيث يكون دين ولي الأمر وعُمَّاله أهواءهم، وحيث يكون كل إنسان عرضةً لمظالم هؤلاء الطامعين في انتهاب ما في أيدي الناس ليغتنوا، وحيث يقنط الناس من العدل فلا ينالون شيئًا إلا بالرشوة، فإنك ترى أخلاق الشرقيين الخاضعين لسلطان الترك قد انحطت بحكم الضرورة، ولكن القرآن بريءٌ من هذا الانحطاط براءةَ الإنجيل من انحطاط النصارى الخاضعين لمثل ذلك السلطان.

fig209
شكل ٥-١٣: نوافذ زجاجية في مكان الصلاة من المسجد الأقصى بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).

وما تقدَّم يُثبِت، بدرجة الكفاية، فسادَ الرأي الأوربي القائل: «إن دين محمد هو سببُ ما يشاهَد في بعض أمم الشرق من الانحطاط»، ورأيٌ فاسد مثل هذا مصدره ما قيل من إبداعه لمبدأ تعدد الزوجات، وما زُعم من أن جبريته تحمل الإنسان على الكسل، وما أذيع من أن محمدًا لا يطالب أتباعه بغير الشعائر السهلة؛ فالقارئ الذي سار معنا إلى هنا يرى درجة بُعْد هذه المزاعم من الصحة، وقد رأينا أن مبدأ تعدد الزوجات كان شائعًا في الشرق قبل ظهور مُحَمَّد بقرون كثيرة، وأن جبرية القرآن ليست أشدَّ مما جاء في كتب الأديان الأخرى، وأن العرب، إذا كانوا جبريين بسجيتهم، ولم تؤدِّ جبريتُهم إلى الخمول ما شادوا دولةً عظيمة، وأن أصول الأخلاق في القرآن ساميةٌ سموَّ ما جاء في أي كتاب ديني آخر، وهذا إلى أن القرآن لو كان عاملًا في انحطاط مسلمي الشرق لوجب أن يَتَفَلَّت من ذلك الانحطاط الشرقيون الذين لا يقولون بمبدأ تعدد الزوجات ولا يَبْدُون جَبريين كنصارى سورية. ونصارى سورية، كما أجمع كلُّ من بَحَث في أمور الشرق، أحطُّ أخلاقًا من المسلمين بدرجات.

وكان يمكننا أن نختم هذا الفصل بقولنا: إن أصول الأخلاق في القرآن عاليةٌ علوَّ ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها، وإن أخلاق الأمم التي دانت له تحولت بتحول الأزمان والعروق مثل تحول الأمم الخاضعة لدين عيسى، وإن التحول نشأ عن عوامل لم يكن للمبادئ الدينية أثرٌ كبير فيها، غيرَ أن أهمَّ نتيجة يمكن استنباطُها من جميع ما تقدم: هي تأثير القرآن العظيم في الأمم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها ما للإسلام من السلطان على النفوس قليلة جدًّا، وقد لا تجد دينًا اتفق له ما اتفق للإسلام من الأثر الدائم، والقرآن هو قُطب الحياة في الشرق، والقرآن هو ما نرى أثره في أدق شؤون الحياة.

أجل، دَخَلَت دولة العرب في ذمِّة التاريخ، بيد أن الدين، الذي كان سببًا في قيامها لا يزال ينتشر، ويسيطر ظلُّ النبي من قبره على ملايين المؤمنين الذين يسكنون أقطار إفريقية وآسية الواسعة الواقعة بين مراكش والصين والبحر المتوسط وخط الاستواء.

أجل، إن الإنسان ألعوبةٌ في يد كثير من السادة من غير أن يَدرِي، ولكن أشد هؤلاء السادة جبروتًا هم الذين يقضي الإنسان حياته مستغيثًا بهم خائفًا منهم، ويَسفِك الدماء ويذرِف الدموع من أجلهم، ويشهَر أقسى الحروب، ويقترف أفظع الجرائم في سبيلهم، مع أنهم ليسوا غيرَ ظلالٍ عابرة مقيمة بعالم الرؤى والأوهام.

حقًّا إنها لظلالٌ خفيفة، ولكنها مرهوبة، وحقًّا أن فاتحين كثيرين سادوا العالم، وأخضعوا الناس لسلطانهم، ولكنك لا تَجِد واحدًا منهم كان له من السلطان ما يساوي سلطان بعض الأموات.

هوامش

(١) مذربة: حادة قاطعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤