الفصل الثاني

اللغة والفلسفة والآداب والتاريخ

(١) اللغة العربية

تُعد اللغة العربية من اللغات السامية، وتُشبه اللغة العبرية كثيرًا، وتختلف في مخارجها عن أكثر اللغات الأوربية، فيجد الأجانب صعوبةً كبيرة في النطق بها.

ونجهل تاريخ نشوء اللغة العربية كما نعرفها الآن، ولكننا نعلم من الشعر العربي الذي قيل قبل ظهور مُحَمَّدٍ بقرنٍ واحد أن اللغة العربية كانت قد وَصَلت إلى درجة كمالها الحاضر.

حقًّا، تشتمل اللغة العربية على لهجاتٍ كثيرة، ولكن كتَّاب المسلمين أجمعوا على أن لهجة قبيلة مُحَمَّد تمتاز بأنها أفصحُ لهجات العرب، وكان من تأثير القرآن أن جعل من اللهجة التي كُتِب بها لغة عامَّة.

واللغة العربية من أكثر اللغات انسجامًا، وهي، لا ريب، مختلفة اللهجات في سورية وجزيرة العرب ومصر والجزائر وغيرها، ولم يكن هذا الاختلاف في غير الأشكال، فترى المراكشي يفهم بسهولة لهجة المصريين أو لهجة سكان جزيرة العرب مثلًا، مع أن سكان القرى الشمالية الفرنسية لا يفهمون كلمةً من لهجات سكان القرى الجنوبية في فرنسة، واسمع ما قاله الرحالة بُرْكُهارْد الذي يُعد حُجَّةً في هذا الموضوع:

تجد اختلافًا كبيرًا، لا ريب، في لهجات اللغة العربية العامية أكثرَ مما في أية لغة أخرى على ما يحتمل، ولكنه لا يصعب عليك أن تفهمها جميعها إذا ما تعلَّمت إحداها، وذلك على الرغم من اتساع البلدان التي يتكلم أهلوها بها، وهي الواقعة بين مدينة مُغَادر (الصُّوَيرة) ومدينة مسقط، وقد يكون لاختلاف طبيعة البلدان تأثيرٌ في اختلاف تلك اللهجات التي هي عذْبةٌ في أودية مصر والعراق الدنيا، وجافَّةٌ في سورية وجبال بلاد البربر، وأعظم فَرْقٍ، كما أعلم، هو ما بين لهجة المغاربة في مراكش ولهجة الأعراب بالقرب من مكة في الحجاز، ولكن هذا الفَرق بين تَيْنِك اللهجتين لا يزيد على اختلاف لَهْجَة فلاحي سوآب (جَنوب ألمانية) عن لهجة فلاحي سكسونية (شمال ألمانية).

fig212
شكل ٢-١: دواة على الطراز الفارسي العربي مصنوعة من النحاس المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ولم تتحوَّل اللغة العربية، إذن، إلا قليلًا منذ زمن مُحَمَّد، ولكنه طرأ تغييرٌ كبير على الخط، فالخط الأول المعروف بالخط الكوفي، الذي رُوِي أنه اختُرع في مدينة الكوفة، كان صَعبَ القراءة لخلوِّه من حروف العلة، فتحوَّل هذا الخط حوالي القرن الثامن من الميلاد بإدخال أصول الشكل والحركات إليه مع المواظبة على استعمال الخط الكوفي في الكتابات، فجَعَلَ هذا من العسير كثيرًا أن يُستدل على قِدَم هذه الكتابات مما عليها من الحروف المنقوشة.

وما قلناه في فصل آخر عن الدين نقول مثله عن اللغة العربية، فمع أن الفاتحين الذين ظهروا قبل العرب لم يستطيعوا أن يَفْرِضوا على الأمم المغلوبة لغاتِهم قَدَرَ العربُ، بالعكس، على فَرض لغتهم عليهم، ولما صارت اللغة العربية عامةً في جميع البلاد التي استولَوا عليها حلَّت محلَّ ما كان فيها من اللغات، كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية … إلخ، وكان للغة العرب مثل ذلك الحظ زمنًا طويلًا، حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، أي ظلت اللغة العربية في بلاد فارسَ لغةَ أهل الأدب والعلم، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية، وكُتِب ما عرفته بلاد فارس من علم الكلام والعلوم الأخرى بلغة العرب، وللغة العربية في هذا الجزء من آسية شأنٌ كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتحل الترك أنفسُهم، وهم الذين قهروا العرب، الخط العربي، ولا تجد في تركية إنسانًا على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة.

ولم يَشِذَّ عن ذلك سوى الأمم اللاتينية الأوربية التي لم تَقُم اللغة العربية مقام لغاتها القديمة، ومع ذلك فإن اللغة العربية ذات أثر عميق في اللغات اللاتينية، وقد ألَّف دوزي وأَنْجِلْمَن مُعجمًا في الكلمات الإسپانية والپرتغالية المشتقَّة من اللغة العربية.

وترَكَت لغة العرب أثرًا مهمًّا في فرنسة نفسِها، وذكر سيديُّو، والحق ما ذكر، «أن اللهجات السائدة لولاية أوڨِرن وولاية ليموزان الفرنسيتين محشوَّةٌ بالكلمات العربية، وأن أسماء الأعلام فيهما ذاتُ مسحة عربية.»

قال هذا المؤلف: ومن الطبيعي أن تقتبس فرنسة وإيطاليا من العرب، الذين كانوا سادة البحر المتوسط منذ القرن الثامن من الميلاد، أكثرَ الاصطلاحات البحرية مثل: Amiral وEscadre وCorvette وFrégate وFlotte وCaravelle وFelouque وChaloupe وSloop وBarque وChiourme وDarse وCalfat وEstacade ولا سيما البوصلة Boussole التي عُزيَ أمرُها إلى أهل الصين على غير حق، وأن تَقْتَبِس جيوشهما ألقابَ ضباط جيوش المسلمين، وتعابير وَغَى الحرب، واستعمال بارود المدافع والقنابل والحرَّاقات والقذائف، وأن تأخذ عن حكومة بغداد وحكومة قرطبة التعابير الإدارية مثل: Syndic وAides وGabelle وTaille وTarif وDouane وBazar، وأن يُقَلِّد ملوك الأسرة الثالثة الفرنسية العرب في شيء فيأخذوا عنهم معظم اصطلاحات الصيد مثل: Chasse وMaute وLaisse وCurée وHallali وCore de Chasse وFanfares، وكذلك كلمة: Tournoi التي عدها علماء اللغة المعاصرون مشتقة من كلمة Torneamentium، وأهم من ذلك كله اصطلاحات العلوم التي اقتبسناها من العرب، فعلم الفلك عندنا مملوء بالتعابير العربية مثل: Azimuts وZénith وNadir، وبالاصطلاحات العربية لأجزاء الأسطرلاب مثل: Alidade وAlancabuth وبأسماء الكواكب مثل: Aldébaran وRigel وAlthair وWéga وAcarnar وAghol، وقل مثل ذلك عن الرياضيات حيث أخذنا عن العرب الاصطلاحات: Chiffres، Zéro وAlgébre إلخ، وقُلْ مِثلِه عن الكيمياء حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات: Alchimie وAlcool وAlcali وAlambic إلخ، وقُل كذلك عن التاريخ الطبيعي والطب حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات: Bol وElixir وSirops وJuleps وSorbet وMirobolans إلخ، والكلمة: Haschich التي اشتُقت منها الكلمة: Assassins.

وزعم مؤلف أحد المعجمات الاشتقاقية الفرنسية الذي أُلِّف حديثًا أن إقامة العرب بجنوب فرنسة لم تُسفر عن أثر، لا في اللهجات، ولا في اللغة، فقلةُ قيمة هذا الرأي تبدو مما قلناه آنفًا، ومن العجيب أن يكرر بعض المثقفين مِثل هذا الزعم.

واللغة العربية غنية جدًّا، وزاد غناها بما أضيف إليها، دائمًا، من التعابير الجديدة التي تسربت فيها من اللهجات التي اتصلت بها، وانظر إلى المعجم الذي ألَّفه ابن سِيده المتوفَّى سنة ١٠٦٥م تجده مشتملًا على عشرين مجلدًا.

(٢) فلسفة العرب

كانت فلسفة العرب، حينما شرعوا يَدخلون ميدان الحضارة، مقتصرةً على مبادئ علم النفس العملية التي هي وليدةُ التجربة، لا الكتب، والتي ينتفع الإنسان بها وحدها في مضمار الحياة.

واليونان هم أساتذة العرب الأولون في الفلسفة كما أنهم أساتذتهم في مختلف العلوم، ولم تلبث كتب أرسطو وثاليس وأبيذقليس وهرقليوس وسقراط وأبيقور وجميعِ أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة أن تُرجِمَت.

وفاق العرب أساتذتهم بسرعة في جميع العلوم التي تقوم على التجربة، ولكن بما أن الفلسفة لم تقم حينئذ على التجربة وما إليها لم يتَّفق للعرب فيها تقدم محسوس.

وكانت الجماهير تَمْقُت الفلاسفة مع ما تم لهم من المقام الأسمى في جامعات العرب، وكان الخلفاء يَرَون أن يَدْرَأُوا ما ينشأ عن مذاهب الفلاسفة من الفتن الشعبية فيُضطرون في الغالب إلى نفيهم لوقت معين.

وللجماهير ما تعتذر به عن معارضتها للفلاسفة، فقد نَبَذ الفلاسفة أكثر أحكام الإسلام، ولم يُسلموا بغير العقائد الأساسية كوحدانية الله ورسالة محمد، ثم كانوا ينشرون آراءَهم علنًا، ويهاجمون بها عقائد المؤمنين بدلًا من الاكتفاء بعرضها على المثقفين.

والحق يقضي بالاعتراف للعرب بأنهم أولُ من أغضى عما نُسمِّيه حرية الفكر في الوقت الحاضر، فمع ما كان يبديه الفلاسفة من التحفظ الكبير في كتبهم كانت تَبْدُر منهم، في الغالب، تأملاتٌ مشتملة على جانب كبير من الشك والارتياب، ومن ذلك قولُ أبي العلاء التَّنُوخيِّ الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد:

اثنان أهل الأرض: ذو عقلٍ بلا دين
وآخر دَيِّنٌ لا عقلَ له
fig213
شكل ٢-٢: كتابات دفة مصحف قديمة (من تصوير إيبر).
ثم رأى فلاسفة العرب أن يَفْصِلوا الدين عن الفلسفة مراعاةً للجماهير، وأجمل الفيلسوف الغزالي، الذي كان يُدَرِّس في القرن الحادي عشر من الميلاد في بغداد، ما انتَهَوا إليه في الكلمة الآتية:

ليست الحقائق التي يؤيِّدُها العقل كلَّ ما في الأمر، فهنالك من الحقائق ما يَعْجَز إدراكنا عن الوصول إليها، ونحن نقول بها وإن كنا لا نقدر على استخراجها بقواعد المنطق وبالأصول المعروفة، وليس مما يخالف الصوابَ وجودُ افتراضٍ قائل بوجود دائرة أخرى فوق دائرة العقل، وإن شئت فقل دائرة التَّجَلِّي الرَّبَّاِني، ونحن إذ كنا نجهل سُنن تلك الدائرة ونواميسها جهلًا تامًّا نجد الكفاية في قدرة العقل على الاعتراف بإمكانها.

fig214
شكل ٢-٣: كتابة زخرفية مؤلفة من تشابك حروف كوفية.
fig215
شكل ٢-٤: ختم الخلفاء الأربعة الأولين.
وأبعد فلاسفة العرب صِيتًا هو الفيلسوف الشهير ابن رشد الذي كان له أعظمُ تأثير في أوربة، أجل، يُعَدُّ ابن رشد، عادةً، شارحًا لفلسفة أرسطو فقط، ولكنني أرى أن هذا الشارح سبق أستاذه في بعض الأحيان سبقًا يثير العجب، وأن فلسفتَه مقبولةٌ في كثير من الأمور أكثر من تلك، وإذا لم يكن ابن رشد مفكرًا حرًّا بالمعنى العصري على ما يحتمل، فإنه فَكَّر بحرية عظيمة في بعض الموضوعات: وتدل العبارة الآتية التي أنقلها من كتاب مسيو رينان حول خلود الروح وقواعد الأخلاق على عظيم استقلال ابن رشد، قال رينان:

يرى ابن رشدٍ أن العقل العامَّ المطلق باقٍ على الدهر قابلٌ للانفصال عن الجسم، وأن العقل الفرديَّ فانٍ مع البدن

وينكر ابن رُشد الخلود والبعث ويُصرِّح بأن على المرء ألا ينتظر ثوابًا غير ما يلاقي في هذه الحياة الدنيا بكماله الخاص.

وعند ابن رشد أن الأشخاص يتميزون مادةً ويتحدون صورة، وأن الخلود للصورة لا للمادة، وأن صورة الأشياء أساسُ تسميتها، وأن الفأس بلا حدٍّ ليست فأسًا بل حديدٌ، وأن من التَّجوُّز دعوة جسم الميت إنسانًا، وأن الفناءَ لمادة الشخص والبقاءَ لنوعه.

ويقول ابن رشد: إن روح الفرد لا تُدرِك شيئًا بغير تصور، فكما أن الحواس لا تَشْعُر إلا إذا اتصلت بالأشياء لا تُفَكِّرُ النفس إلا إذا وُجدت صورةٌ أمامها، ومن ثم كان الفكر الشخصيُّ غيرَ خالد، وإلا وَجَب أن تكون الصور خالدة أيضًا، وإذا كان الإدراك خالدًا بذاته فإنه لا يكون كذلك عند الممارسة.

ولم يُخفِ ابن رشد نفوره من أقاصيص العوام عن الحياة الآخرة، وهو يذهب إلى أنه يجب أن يُعَدَّ من الأوهام الخَطِرة نظرُ المرء إلى الفضيلة وسيلةً للسعادة؛ لما يتضمن ذلك من الإنكار للفضيلة نفسها، ومن مَعنَى الامتناع عن الملاذِّ رجاءَ الثواب المضاعف، ومن طلب العربي للموت اتقاءً لما هو أسوأ، ومن عدم احترام اليهودي لمال الآخرين طمعًا في الكسب الزائد، وفي ذلك من الإفساد لروح القوم والأولاد، وعدم وجود نَفْع في إصلاحهم ما لا يخفى، ويعرف ابن رشدٍ أناسًا من ذوي الأخلاق يضربون بتلك الأوهام عُرضَ الحائط، ولا يقولون بفضيلة من يتمسكون بها.

(٣) الأدبُ العربيُّ

(٣-١) الشعر عند العرب

لا يزال أمر الأدب القديم في اليمن وفي مختلف أجزاء جزيرة العرب المتمدنة مجهولًا لدينا تمامًا، وما علمناه من أشعار العرب قيل بعد المسيح وقبيل ظهور مُحَمَّد، ولم تكن هذه الأشعار في غير الغزل وتمجيد الملاحم، وكان العرب يحبون أن يسمعوا شعراءهم يُشيدون بمفاخرهم كما كان الأغارقة في عصر البطولة.

وتبدأ تلك الأشعار، في الغالب، بالتصوير والتشبيه، شأنُ شعرِ الأمم الفطرية التي تُحِسُّ كثيرًا وتفكر قليلًا، وتختلف تلك الأشعار عن الشعر الإسرائيلي كثيرًا في خُلُوِّها من التكهن والدُّجُون والتغني بسفك الدماء، ولا تجد فيها ذكرًا لمثل المجازر الوحشية والمذابح والإبادات ولعنات الرب الدائمة التي مُلِئت بها التوراة.

ونال الشعراء نفوذًا كبيرًا بفضل حب العرب للشعر، فكان الشعراء يحركون المشاعر، ويرفعون أقوامًا ويخفضون آخرين كما يشاؤون، وكان من نفوذهم أن مَنَحَت قريشٌ الشاعر الأعشى مائة جملٍ حَمْلًا له على عدم نشر قصيدة مَدَحَ النبيَّ بها.

وكان من عبادة العرب للشعر ما أقاموا معه، قبل محمد بعدة قرون، مؤتمرات أدبية يقصدونها من جميع نواحي جزيرة العرب، وكانت هذه المؤتمرات تقوم في مدينة عكاظ الصغيرة القريبة من الطائف والبعيدة من مكة مسافة ثلاثة أيام، وكانت القصائد التي تنال الحُظْوَة فيها تُكتب بحروف من ذهب على نسائج ثمينة وتعلَّق في الكعبة بمكة لتُنْقَل إلى الأعقاب.

وبلغ الشعر العربي الذروة في القرن الذي سبق ظهور محمد، ونشأ عن ذلك أن صارت لغة الشعراء الفصحى عامَّةً، وأن صُهرت لهجات بلاد العرب المختلفة في لغة واحدة.

وانتهت إلينا المعلقات السبع بفضل حفظ أهم أشعار العرب في الكعبة، ويُرى في المعلقات السبع وَصفٌ لحروب العرب، ولحياة البادية الجافية القاسية، ولمغامرات الأعراب … إلخ.

وإنني أقتطف الأبيات الآتية من معلقة طَرَفة التي وَصَف بها الحياة وصفًا لا أرى أكثر الفلاسفة ارتيابًا يضيف إليه شيئًا كبيرًا، قال طرفة:

كريمٌ يُرَوِّي نَفسَه في حياته
سَتَعْلَم إن مِتنا غدًا أَيُّنا الصَّدِي١
أرى قبر نحَّام٢ بخيل بماله
كقبر غَوِيٍّ٣ في البطالة مُفسد
أرى جُثْوَتَيْن٤ من تراب عليهما
صفائح صُمٍّ من صَفِيح مُنَضَّدِ
أرى الموت يَعْتَام٥ الكرام ويصطفي
عقيلة٦ مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة
وما تَنْقُص الأيام والدهر يَنْفَدِ
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفَتَى
لكالطِّوَل٧ المُرْخَى وثِنْيَاه٨ باليد
متى ما يشأ يومًا يَقُدْهُ لحَتْفِهِ
ومَن يَكُ في حَبْلِ المنيَّة يَنْقَدِ

وتَقْرَبُ من تلك الأفكار الممتازة أنشودة حرب جاء بها پلغريڨ من نجد، ولم يُعرف زمن قَرْضَها، فمنها يبدو للقارئ بوضوح، كما يبدو له من القصيدة السابقة، ماذا كان يَجُول في خاطر المحارب العربي، وإليك تلك القصيدة:

أقول لها وقد طارت شَعَاعًا
من الأبطال وَيْحَك لن تُراعِي
فإنكِ لو سألتِ بقاءَ يوم
على الأجل الذي لكِ لن تُطَاعي
فصَبْرًا في مَجال الموت صَبرًا
فما نَيْل الخلود بمُسْتَطَاعِ
ولا ثوب البقاء بثوب عِزٍّ
فيُطْوَى عن أخي الخَنَع٩ اليَراع١٠
سبيل الموت غاية كل حي
فَدَاعِيهِ لأهل الأرض دَاعِي
وما للمرء خير من حياة
إذا ما عُدَّ من سَقَط المتاع

وداوم العرب على قَرْضِ الشعر دوامَ حضارتهم، وإن لم يَسْبِقوا المستوى الذي وُصِل إليه قبل النبي، وكان يَقْرِض الشعرَ كل رجل مثقف، سياسيًّا كان أو فلكيًّا أو طبيبًا، ولم يكن لغوًا قول بعضهم: «إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أممُ العالم مجتمعةً»، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظمًا، ومن يُطالع قصصهم يَرَ أكثرها ممزوجًا بقِطعٍ شعرية.

ومما بلغ درجة الثبوت في أيامنا، كما يظهر، أن الأوربيين اقتبسوا فنَّ القافية من العرب، ودلَّت مباحث ڨياردو وغيره من الكتَّاب الكثيرين على هذا الأمر الذي كان الأسقُف هُويهِ قد بينه منذ زمن طويل.

ويُعزَى مصدرُ الشعر الإسپاني والشعر الپروڨنسيِّ إلى ما كان لشعراء عرب الأندلس من التأثير، ويلوح لي هذا الرأيُ قويمًا كالرأي السابق، ولكنَّ إيضاح الأسباب التي يُستند إليها في هذا يتطلب إفاضةً لا يحتملها صَدر هذا الكتاب.

(٣-٢) الروايات والأقاصيص

زاول العربُ جميعَ أنواع الأدب، فضلًا عن الشعر، ويُوجَدُ للعرب رواياتٌ في المخاطر والحبِّ والفروسية … إلخ، وترى في روايات العرب، مع قلة اعتنائهم بنفسية الأشخاص، فوائدَ كبيرة لاشتمالها على ضروب المغامرات العجيبة، وجَمَّلَ العرب، بخيالهم الساطع، كل شيء لَمَسوه،١١ وهم الذين لا نظير لهم في الفن.

والعرب هم الذين ابتدعوا روايات الفروسية، قال سيديُّو: «كان خيال الشعراء يتجلَّى في الروايات والأقاصيص، وكان أتباع محمد من أكابر المحدِّثين دائمًا، وكانوا يجتمعون مساء تحت خيامهم؛ ليسمعوا بعض الأقاصيص العجيبة التي تتخللها الموسيقا والغناء كما في غَرْنَاطَة، ويُخبر ما في إسپانية من القصص المؤلفة من قطعٍ مترجمة، أو التي قُلِّد بها العرب، إخبارًا صحيحًا عن الأعياد وألعاب الخواتم وصراع الثيران وحروب النصارى والمسلمين، والتفاخر ورقصِ الفرسان والتشبيب والغَزل … وما إلى ذلك من الأمور التي اشتهر بها عرب الأندلس في أوربة.»

ومن أشهر أقاصيص العرب نذكر مقامات الحريري، ومقاماتِ الهمذانيِّ، وروايةَ ألف ليلة وليلة على الخصوص.

واشتهرت مقاماتُ الحريريِّ في الشرق بأَسره. ووُلِد الحريريُّ سنة ١٠٥٤م، وتوفِّيَ سنة ١١٢١م في البصرة بعد أن ذاع صيتُه بأنه من علماء عصره، وتشتمل كلٌّ من مكتبة باريس الوطنية ومكتبة مسيو شِيفِر على نسخةٍ خَطيَّة مصورة جميلة من مقاماته.

وكان الهمذاني، المتوفى سنة ١٠٠٧م، ذا شهرة واسعة في ذلك المضمار أيضًا، وكان الهمذاني ذا ذاكرة قوية فيحفظ القصيدة على ظهر القلب عندما يسمعها أولَ مرة، وكان الهمذاني مشهورًا، أيضًا، بصفاء لغته وانتقاء التعابير في ارتجالاته.

وتُعَدُّ رواية ألف ليلة وليلة الباهرة أكثر القصص العربية شهرةً لا ريب، واختُلِف كثيرًا في مصدرها، ويظهر من الثابت اليوم أنها مجموعة قطع وُضِعَت في أزمنة مختلفة جدًّا، وأن بعضها وُضِعَ قبل القرن العاشر من الميلاد لذِكْرها في كتاب مروج الذهب الذي ألَّفه المسعوديُّ في ذلك الزمن، وتجد في هذه الرواية قِصَصًا من أصلٍ هندوسي وفارسي، ولكن أكثرها ألَّفَه عرب مصر فيما بين القرن الثالث عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد.

وذكر أستاذ اللغات الشرقية في هَيْدِلْبِرْغ، مسيوڨيل، وذلك في مقدمة الطبعة الألمانية لرواية ألف ليلة وليلة وَفْقَ النص الشرقي، أنه لا يجوز الشك في أن أكثر القصص فيها عربيٌّ، وأن ما فيها من أصلٍ عربي يختلف كثيرًا عما فيها من أصلٍ هندوسيِّ بارزٍ في المجموعة المعروفة بذلك الاسم، أيضًا، في القرون الأولى من الإسلام.

وتُعد رواية ألف ليلة وليلة من أكثر كتب الأدب التي وضعها الإنسان إمتاعًا مع ما فيها من نقائصَ واضحةٍ جدًّا، وأضيف إلى ما فيها من مُتْعَةٍ ما في قراءتها من فائدة، فيها ينال القارئ معارف صحيحةً عن طبائع العرب ومشاعرهم ووجِه تفكيرهم في بعض الأدوار.

fig216
شكل ٢-٥: إفريز كوب عربي ذي كتابة بتشويه القسم الأسفل من رسم الأشخاص.

وكل تاريخ يكون مدخلًا لها يَشمَل النظر، وذلك لما يُلقيه من نور قويٍّ على أحوال الشرقيين النفسية الصميمة، ودوافعهم الخلقية، ورأيهم في المرأة … إلخ، والحق أن أقاصيص الأمم وأساطيرها من الأدلة التي أهمل التاريخ أمرها زمنًا طويلًا، والتي أخذ العلماء يدركون شأنها في الوقت الحاضر، ومن ذلك أن تَوَصَّلنا، بتحليل الأغاني الشعبية والأساطير، وذلك في درسنا أمر تلك الأمة الغريبة التي أتيح لنا أن نَرْقبُها في جبال تَتْرَة، إلى معارف ثمينةٍ تمكنَّا بها من رسم المزاج النفسي لأجداد شعبٍ لم يُكتب له تاريخٌ قط.

(٣-٣) الحكايات والأمثال

الحكايات والرموز والأمثال من أكثر مَا عُنِي به في الشرق، ومنها يتألف نوعٌ من الآداب التي تلائم النفس، وتُحفظ في الذاكرة بسهولة، مع أن الأفكار المجردة تُتْعِب وتُنْسَى سريعًا.

ويعد لقمان الأسطوري أشهر من جاء بالحكايات، وجعل محمدٌ من لقمان، في القرآن، مثالَ الحكمة، ويرى فريقٌ من العلماء أنه معاصر لداود، ويراه فريق ثانٍ معاصرًا لإبراهيم، ويرى فريق ثالثٌ أن مؤلفَ الحكايات شخصٌ غير لقمان ظهر بعد محمد؛ ويدل ما بين حكايات لقمان وحكايات إيزوب من الشبه على أن ذلك اقتبس من هذا أو أن كليهما استقى من منبعٍ واحد على الأقل.

وأمثال العرب كثيرة إلى الغاية، ومن أمثال العرب اقتَبَسَت إسپانية وبقيةُ أوربة عددًا من الأمثال غيرَ قليل، ومن يُدَقِّق في حكمة سانكُو پانْسَا يَرَ قِسمها الكبير، الذي لا ينضِب معينه من أصل إسلامي.

وإنني، تنويرًا للقارئ، أنقلُ بعضَها الآتي من كتاب مسيو پياس:
  • العيشُ تحت جَنَاح الذبابة خيرٌ من النوم في الجبَّانة.

  • استَفِدْ من شَبَابِك فالعمر قصير.

  • انسْ هُمُومَك في ليلتك ما دمتَ جاهلًا ما في غَدِك.

  • عاشرْ حدادًا تُضرَّج بالسِّناج،١٢ وعاشرْ عطَّارًا تَنَلْ شَذَا الأزهار …
  • خشبةٌ تُلهِب المحبة.

  • مَن يتزوج امرأة من أجلِ جمالها يُخدع، ومَن يتزوجها من أجل مالها يَطمَعْ، ومن يَخْتَرْها من أجل رشادها يُمْتَعْ.

  • إذا ما أحبكم النساء فتَحْنَ لكم الأسداد، وإذا ما كَرِهْنَكم أَقَمْنَ أمامكم سورًا من خيط العنكبوت كأنه من صُنع حَدَّاد.

  • راحة بالٍ مع فَقْرٍ خيرٌ من هَمٍّ مع يُسْر.

  • لا تدخل الذبابة فمًا يستطيع السكوت.

  • التدبيرُ نصفُ المعيشة، وقد يكون به كل المعيشة.

  • لا تلد الفأرة إلا فأرة.

  • الشجرة التي تُخرج الورد تُخرج الشوك.

  • شاور من يُبكِيك لا من يُضحِكك.

  • في الصلاح سر النجاح.

  • ثلاثةٌ خير من ثلاثين: الجمال والتقوى وكتمان الهوى.

  • منهومان١٣ لا يشبعان: طالب علم وطالب مال.
fig217
شكل ٢-٦: كتابة عربية حديثة وجدها المؤلف في بيت بدمشق.
fig218
شكل ٢-٧: كتابة عربية حديثة وجدها المؤلف في بيت عربي بدمشق.

(٣-٤) التاريخ

مؤرخو العرب كثيرون، وقد عَدَّ حاجِّي خليفة وحده في مكتبته الشرقية (كشف الظنون) ١٢٠٠ مؤرخٍ عربي، وكان يُعوِزُ مؤرخي العرب روحُ النقد على العموم، كما كان يُعَوِّز جميع مؤرخي القرون الوسطى، وكما يُعَوِّزُ الكثيرين ممن قلدهم من الكتَّاب المعاصرين، وقد قَلَّت «على العموم» لوجود مؤرخين قليلين بلغوا درجةً عالية من تلك الروح المسيطرة كابن خلدون.

ونذكر من قدماء مؤرخي العرب: الطبري الذي ألَّف، في أواخر القرن التاسع من الميلاد، تاريخًا عامًّا عن الزمن الذي مر منذ بدء العالم إلى سنة ٩١٤م، ونذكر من مؤرخي العرب المشهورين: المسعوديَّ الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد فألَّف عدةَ كتب في التاريخ، ككتاب أخبار الزمان وكتاب مروج الذهب … إلخ.

قال مسيو كاترمير عن المسعودي: «إذا ما نظر الإنسان إلى كُتُبه بُهِتَ من تنوع المواد التي كَتب فيها، ومن كثرة المسائل المهمة العويصة التي حلها، والحق أنه كان واسع الفضل في الزمن الذي نبغ فيه، لا لأنه قَرَأَ جميع الكتب الخاصة بالعرب وتأمل فيها فقط، بل لإحاطة مباحثه الواسعة بتاريخ اليونان والرومان وجميعِ أمم الشرق حديثِها وقديمها أيضًا.»

وألَّف مؤرخو العرب كتبًا كثيرة في التاريخ العام، ونذكر منهم أبا الفرج الذي توفِّي سنة ١٢٨٦م.

fig219
شكل ٢-٨: جزء من كتابة صندوق فارسي مرصع بالصدف (مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

ويتَّصِف ابن خلدون، الذي وُلِد في سنة ١٣٣٢م، بروح النقد التي تكلمنا عنها آنفًا، وألف ابنُ خلدون تاريخ البربر حيث عَرَضَهم بادئًا بمبادئَ رائعةٍ في النقد التاريخي، وتُرجم كتابُه هذا إلى الفرنسية.

وألف المقريزيُّ، المعاصر لابن خلدون، تاريخًا عن مصر يُعَدُّ أحسنَ مصدر للبحث فيها، ويظهر أن هذا التاريخ قِسْمٌ من ثمانين مجلدًا له في التاريخ العام.

وألَّف النويريُّ، المتوفَّى في مصر سنة ١٣٣١م، موسوعةً تاريخية كبيرة.

وألَّف صاحب حماة أبو الفداء، المتوفَّى سنة ١٣٣١م، والمشهورُ بأنه من علماء التاريخ والجغرافية ومن رجال الحرب معًا، كتابًا في أخبار البشر عظيمَ الفائدة في معرفة ما هو خاصٌّ بالشرق.

وكُتُبُ التراجم عند العرب كثيرةٌ أيضًا، وأشهرُها كتابُ المكتبة الشرقية (كشف الظنون) الذي ألَّفه حاجِّي خليفة المتوفَّى سنة ١٦٥٨م، والذي هو معجم لأسماء نحو ١٨٥٠٠ كتاب شرقي، والذي أَلْحَقَ فيه اسم كلِّ كتاب منها باسم مؤلفه مع بيانٍ عنه.

(٣-٥) البيان والبلاغة

اهتم مؤلفو العرب بالأسلوب كثيرًا، وكثُرَت كتبهم في البلاغة والنحو، فأحصى الغزيريُّ في مكتبة الإسكوريال، وهي التي ليس فيها سوى القليل من كتب الأدب العربي، التي تَفَلَّتت من يد الإبادة والتخريب، أكثر من ثلاثمائة كتابٍ في البلاغة، ولم تُنْقل هذه الكتب إلى اللغات الأخرى، ولا أرى كبيرَ فائدةٍ في نقلها إليها؛ لأن من شأن علم النحو والبلاغة تهذيبَ الأسلوب، لا ابتداعه، ولأن بدائعَ الفن، لا كتبَ النحو، هي التي يجب درسها للحكم في آداب الأمة، ولأن علم النحو وعلم البلاغة وليدا آداب الأمة.

ولا نستطيع أن نحكم في بلاغة العرب من رسائلهم في البيان وفي النحو، وما كان العربُ ليَعْرِفوا غيرَ البلاغة الدينية خارجَ التعليم الجامعي، وما كان نظامهم السياسيُّ ليحتمل غيرَ هذا، والحق أن البلاغة الدينية ذاتُ سلطان عظيم على النفوس في الشرق، ولكن ما أسفرت عنه قرائحُ خطبائهم لم يَنْتَهِ إلينا.

وليس ما تقدم سوى خلاصةٍ لخلاصةِ تاريخ آداب اللغة العربية، ومع ذلك فإنه يكفي للإلمام بأهمية آثارهم الأدبية وتنوعها، ولن يكون لنا هدفٌ غيرُ هذا في كتابٍ مُجمَل كهذا الكتاب.

هوامش

(١) الصدي: العطشان.
(٢) النحام: الحريص على الجمع والمنع.
(٣) الغوي: الضال.
(٤) الجثوة: الكومة من التراب وغيره.
(٥) يعتام: يختار.
(٦) العقائل: كرائم المال والنساء، الواحدة عقيلة.
(٧) الطِّوَل: الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه.
(٨) الثني: الطرف.
(٩) الخنع: الذل
(١٠) اليراع: الجبان.
(١١) يتجلى خيال العرب وميلهم إلى التجميل في كل شىء صغر أو كبر، ويمكن القارئ أن يستدل على ذلك من بعض الكنايات التي ينادي بها البائعون في شوارع دمشق لفتًا لأنظار المشترين كقول بائع الأزهار «هدئ حماتك»، وكقول بائع الخبيزة: «خبيزة طرية تأكلها العجوز ترجع صبية»، وكقول بائع اللوز المحمص: «لا تحتمله الأسنان»، وكقول بائع الحلوى: «أكل السنونو» وكقول بائع التين: «ثمر العسل» … إلخ.
(١٢) السِّنَاج: أثر دخان السراج في الحائط.
(١٣) المنهوم: ذو النهم، من نهم في الأكل: شَره وحرص وأفرط فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤