الفصل الثامن

فن عمارة العرب

(١) معرفتُنا الحاضرة لفن عمارة العرب

لم يعتنِ علم الآثار الحديث بمباني العرب إلا قليلًا، وأكثر هذه المباني في أماكن بعيدة، ولا يسهل درسها دائمًا، وإذا عَدَوتْ َثلاثة كُتب أو أربعة كتب مهمة خاصة بالبحث في قصر الحمراء ومساجد القاهرة والقدس وَجَدتَ الكتب غافلةً عنها تقريبًا، قال باتِيسْيِه الذي هو مؤلفٌ لتاريخٍ من أحسن ما لدينا من تواريخ فن البناء، وذلك في الطبعة الأخيرة التي طَبَع بها كتابه «تاريخ فن البناء» في سنة ١٨٨٠م: «إن مباحث تاريخ العمارة الإسلامية تحتاج إلى توسيعٍ كبير»، ثم أسِفَ هذا المؤلف على نقص معالجته لهذا الموضوع، والحق أن هذا المؤلف اقترف عدَّة غلطات، ومن ذلك أنك لا تجد بين صور كتابه المهم الكثيرة صورةً لبناء إسلامي في بلاد سورية وفارس والهند، ولم يكن المسجد المصري، الذي نَشَر صورته فيه مثالًا، إلا أسوأ نموذجٍ للمباني المصرية القائمة على الطراز العربي، وذلك ببابه ونوافذه القائمة الزوايا وقُبَّته البصلية الشكل.

وقال سيديَّو في الطبعة الثانية، التي تمَّت سنة ١٨٧٧م، لكتابه «تاريخ العرب العام»: «من دواعي الأسف أننا لم نبحث حتى الآن بحثًا عامًّا في المباني التي أقامها العرب في بلاد سورية والعراق وفارس، حتى الهند، في مختلف أدوار سيادتهم، ففي هذه المباني، لا ريب صفاتٌ خاصة نرى من المفيد تعيينها.»

ومنذ زمنٍ طويل أبدى ج. دوپرَنْجهِ مثل هذا الرجاء في كتابه الممتع عن فن عمارة العرب في الأندلس على الخصوص، وقال: «نَعُدُّ من حب الدرس أن يُبحَث في أهم المباني التي أقامها العرب في بلاد سورية وفارس ومصر وإفريقية (نسي المؤلف أن يذكر بلاد الهند)، وما الرسوم العامة للمسجد الأقصى الذي أقامه عمر (!) في القدس، ومساجد دمشق، ومسجد عمرو بن العاص، ومسجد ابن طولون في القاهرة، ومسجد القيروان؟ وما أوضاع هذه المباني الخاصة؟ وما دقائقها؟ وما زخارفها؟ وما طابعها؟»

fig258
شكل ٨-١: أقواس جامع قرطبة.

إن المقابلة بين مباني العرب في مختلف البلدان التي دانت لهم من الأمور التي لا غُنية عنها للوصول إلى معرفة طرازها، فبهذه المقابلة يظهر تماثلها الذي نشأ عن وَحدة النظم والمعتقدات، ويظهر تباينها الذي نشأ عن اختلاف البيئات والعروق التي كانت تلك النظم والمعتقدات سائدةً لها، وما لدينا من كُتُب الوصف القليلة طرح هذه المسائل المهمة جانبًا.

وقد يقع الباحث، حين يقتصر على دراسة فن العمارة العربي في أحد الأقطار التي كانت للعرب سلطان عليها، في مِثل الغلطات الفظيعة التي اقترفها شاتو بريان في كتابه الذي سمَّاه «رحلة من باريس إلى القدس»، وذلك وقتما تكلم عن مساجد القاهرة، وذكر أنها تشابه مباني قدماء المصريين، والحق أنه لا أحد يستطيع في الوقت الحاضر أن يأتيَ مثلَ هذا الزعم، فإذا وُجد طِرازان متباينان أشد التباين من جميع الوجوه كان ذانك الطِّرازان الطراز الفرعوني والطراز العربي، ولن يجد المرء مثالًا يستند إليه في اقتباس العرب شيئًا من الفراعنة مهما كان صغيرًا.

ولم يدُر في خَلَدنا أن نُفَصِّل في فصل مختصر كهذا الفصل تاريخَ فنِّ العمارة العربي الذي غفل العلم عن بيانه، ومع ذلك فإنه يمكننا أن نذكر تقسيماته الأساسية، وأن نُبيِّن وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بين البنايات التي أقيمت على الطراز العربي، والتي لا تزال ماثلةً في الأقطار الممتدة من الأندلس إلى الهند.

وليس هذا العمل سهلًا كما يُظن، فهو يتطلب منا أن نسلك طريقًا لم يَسبقنا إليها أحد، فضلًا عن عدم اتساع دائرة هذا الكتاب لغير أهمِّ البواعث.

(٢) عناصرُ فنِّ عمارة العرب المميِّزة

بيَّنَّا في الفصول السابقة مصادر فن العمارة العربي، وذكرنا فيها ما اقتبسه العرب من الفرس والبزنطيين، وأوضحنا كيف تحرروا من هذه المصادر، وانتهوا إلى إبداع طرازٍ مستقل خَصِب.

وإنني، قبل أن أبحث عن المباني التي تركها العرب في مختلف البلدان بحثًا جامعًا، أرى أن أدرس العناصر التي يتألف منها فنُّ عمارتهم درسًا موجزًا:
  • الموادُّ الإنشائية: تختلف المواد الإنشائية التي استخدمها العرب في إقامة مبانيهم باختلاف البلدان التي استولوا عليها وباختلاف مقاصدهم من إنشائها، وكان الآجرُّ أولَ ما استعملوا في إنشائها، ولسُرعان ما استخدموا الحجارة في إقامة ما هو مهمٌّ منها كقصر العزيزة، وقصر القبة في صقلية، وجامع السلطان حسن في القاهرة … إلخ، وكانوا في الأندلس يستعملون في إنشاء مبانيهم، غالبًا، نوعًا من البِيتُون الذي هو مزيجٌ من المواد «الكلس والرمل والصلصال والحصباء» التي لا تلبث أن تصبح طبقة صُلبةً كحجارة النقش.
    fig259
    شكل ٨-٢: أبراج عدة كنائس في طليطلة أُقيمت تقليدًا لمآذن عربية قديمة.

    ويقال: إن عيب المباني العربية في قلة متانتها، فإذا صح هذا القول بالنسبة إلى الكثير منها فإنه غير صحيح بالنسبة إليها كلِّها، وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا إنشاء بناء على جَنَاح السرعة، مكتفين بالظاهر، أقاموه غيرَ متين كما نقيم بيوتنا في الوقت الحاضر، وأن ما شادوا من المباني التي لا تزال قائمة مع مرور أكثر من ألف سنة عليها يدل على معرفتهم إنشاء بناياتٍ خالدة عند الضرورة، وها هي ذي قصورهم البسيطة، كقصورهم في صقلية، لا تزال تقاوم تقلبات الفصول مع مرور ثمانمائة سنة عليها، وها هو ذا قصرُ الحمراء نفسه لا يزال يقاوم مع خفَّتِه الظاهرة.

  • الأعمدة وتيجانها: وَجد العرب، في جميع البلاد التي استولَوا عليها، عددًا كبيرًا من المباني الإغريقية والرومانية والبزنطية المتداعية أو المهجورة، وانتفعوا بأعمدتها وتيجان أعمدتها، كما تشهد بذلك مبانيهم الأولى التي تضم عددًا غير قليل من الأعمدة الغربية المصدر، ولما استنفد العربُ ما وَجدوا اضطروا، بحكم الطبيعة، إلى إنشاء ما احتاجوا إليه منها بأنفسهم، وطبعوا عليه طابَعهم الخاص الذي كانوا يعرفون كيف يطبعونه على جميع آثارهم كالأعمدة وتيجان الأعمدة التي لم تُشتَقَّ من أي طراز آخر كما قال مسيو. ج. دوپرانجه، والتي تُرى في قاعة الأسود من قصر الحمراء، فيجب عَدَّها خاصةً بالعرب من كلِّ وجه.
    fig260
    شكل ٨-٣: برجا كنيستين في طليطلة أقيما تقليدًا لمآذن عربية قديمة.
  • الأقواس: إن القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نعل الفرس مما امتاز به فن العمارة العربيُّ، فيشاهد في المباني العربية الأولى. وإن استعمال القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نصف الدائرة معًا مما رأيتُ في أقدم المباني العربية في أوربة وآسية وإفريقية، فأتيحَ لي درسُه.

    والقوس المصنوعة على رسم البيكارين مع كَسْرَةٍ خفيفة في أعلاها وخَصْرٍ خفيف في أسفلها مما تَجِد في المباني العربية التي شِيدَت في دورٍ لاحق؛ فيحتاج المرء إلى شيء من الانتباه ليتبيَّنه فيها، وتكفي هذه الأقواس، التي وُجدت مع ذلك لمَنح المنحنِي شكلًا رائعًا.

    ثم تطورت القوس المصنوعة على رسم البيكارين في مصر وصِرْتَ لا ترى لأسفلها خصرًا، وذلك خلافًا لما اتفق لها في الأندلس وإفريقية حيث اكتسبت شكل نعل الفرس أو القوس المجاوِزة، وأصبحت هذه القوس صفةً لفن العمارة العربي فيهما في بعض الأزمنة.

    fig261
    شكل ٨-٤: برج كنيسة سانتياغو العربي في طليطلة (من صورة فوتوغرافية).

    وقد قيل: إن القوس المجاوِزة (المصنوعة على شكل نعل الفرس) كانت معروفةً عند البزنطيين، ولكن هذا لم يستند إلى دليل ما دامت تلك القوس غير مشهودة في معظم مباني ذلك الزمن، وأرى، مع ذلك، أنها لم تكن مجهولة فيه، وإن كانت قليلة الاستعمال، والحق أنني وَجَدت في كنيسة كاپْنِيكارْيا، التي أقامتها القيصرة أودوكسي في أثينة ٤١٨م، على حسب ما جاء في كتابةٍ تَبَيَّنتُها على عمود، أقواسًا مجاوِزةً قليلًا جدًّا، وظهرَ ارتداد أسفل القوس منها إلى داخلها من الضعف بحيث يحتاج إدراكه إلى شيء من الدقة.

  • المآذن: أوجبت ضرورةُ دعوة المؤمنين إلى الصلاة، وَفْقًا لأحكام الدين، إقامةَ المآذن فوق جميع المساجد الإسلامية كما هو معلوم، وتختلف أشكال هذه المآذن باختلاف البلدان اختلافًا أساسيًّا، فهي مخروطة الشكل في بلاد فارس، ومُربعةٌ في بلاد الأندلس وإفريقية، وأسطوانيَّةٌ ذاتُ مِطفأةٍ في أعلاها في تركية، ومتنوعة الشكل في كل طبقة منها بمصر.

    ونرى الكثير من مآذن مصر، ولا سيما مِئذنة قايتباي في القاهرة، من العجائب، ولا شيء أدل على دقة العرب وذوقهم الفني من قدرتهم على تحويل البروج البسيطة، ويتجلى الفرق الكبير بين ذوق العرب الفني، وذوق الترك عند مقابلة تلك المآذن العربية بالمآذن التركية على الخصوص.

    ومآذنُ العرب، كأكثر مبانيهم، مُتَوَّجةٌ — على العموم — بأنواع الشُّرف ذات الأشكال المختلفة المعروفة بأقسام الحواجز الواقعة بين الكُوَى،١ ونعدُّ من هذه الأشكال: الدُّرَقَ،٢ والنصل، والحربة، والمنشار … إلخ، والمناور، وإن عُرِفت في بلاد فارس أيام بني ساسان، كانت أشكالها أقلَّ تنوعًا من تلك بدرجات.
  • القِبَاب: ليست القباب مما اخترعه المسلمون وإن كان أصل الكلمة عربيًّا، فقد كانت القباب معروفة عند البزنطيين، وكان للأكاسرة من بني ساسان قِبابٌ في قصورهم، وإنما العرب هم الذين ابتكروا القِباب الهيف ذاتَ الخَصر، ويتألف من مرور مقطع القُبة العربية العمودي من مركزها خطٌّ مُنحنٍ يذكِّرنا بشكل القوس العربية، ثم أفرط الفرس في حَنْو قِبابهم، فانتهوا إلى شكلها البَصَلِيِّ الذي سنتكلم عنه قريبًا.

    ويختلف شكل القباب العربية باختلاف البلدان؛ فهي منخفضة في إفريقية، ولا سيما القيروان، انخفاضَ القباب البزنطية، ويُرى على كل مسجد فيها عدةُ قباب من هذا الطراز، والقِباب في مصر — على العموم — هي من الطراز التي وَصَفْنَاه آنفًا، ولا تُرَى على المساجد فيها، بل على المزارات أو على الحجرات المجاورة للمساجد والمشتملة على أضرحة، وكلما شاهدت في مصر قبَّةً على مسجد أمكنك أن تقطع بوجود ضريح فيه.

    fig262
    شكل ٨-٥: باب بيزاغرة (باب شقرة) في طليطلة.
    fig263
    شكل ٨-٦: منظر في داخل قصر الحمراء (من صورة قديمة).

    وهنالك بعض الشبه بين القباب المصرية والقباب السورية، أو قُبة جامع عمر ذات الخصر الضيق قليلًا على الأقل، وإن كانت القباب السورية أقلَّ هَيَفًا، وأكثر وزنًا، وعاطلةً من الزخارف الخارجية.

    وترى في مصر، ولا سيما في المقبرة القريبة من أسفل قلعة القاهرة، والتي سميتها سَهْلَ القبور، وذلك في الصورة التي نشرتها لها، تمييزًا لها من المقبرة الأخرى المعروفة باسم مزارات الخلفاء، جميعَ أنواع القِباب، كالقباب التي هي على شكل نصف الدائرة، والقباب الإهليجيَّة،٣ والقباب الأسطوانية، والقباب المخروطة، والقباب المجاوزة، والقباب المُقَرَّنة … إلخ.
  • المتدلِّيات «المقرنصات»: يظهر أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبُّه الأغارقة من الأوجه المُلْسِ المُوَحَّدة والزوايا والأشكال القائمة، فكانوا يُنشئون الكُوَّاتِ الصغيرةَ الناتئة المثلثة الكُرِيَّة المسماة بالمُتَدَلِّيَات؛ لتَدَلي بعضِها فوق بعضٍ في الفضاء تدليًا هندسيًّا تدريجيًّا يذكِّرنا بخلايا النحل، وذلك لِمَا نرى من رغبتهم في ملء زوايا الجُدُر القائمة، وفي وَصْلِ القباب المستديرة بما تقوم عليه من الرِّدَاه المربعة وصلًا غير محسوس، وقد استُعمِلت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والقرن الحادي عشر من الميلاد، وقد حوَّل عرب الأندلس تجوفاتها الكرية إلى مواشير٤ قائمةٍ ذات وجوه مقعرة.

    والمتدليات مما انفرد به العرب، ولم توجد عند أية أمة حتى الآن، وما كاد القرن الثاني عشر من الميلاد يَحِلُّ حتى كان أمرها شاملًا لجميع البلدان الإسلامية، وقد استخدمها العرب في ربط أطناف أروقة المآذن بأوجهها القائمة، وفي ملء قباب المساجد، وفي وصلها بالجدر القائمة عليها، وفي وَصل القباب الكرية بالأوجه المربعة … إلخ.

    حقًّا إن المتدلِّيات مما امتاز به الفن العربي، ولا أوافق على رأي مسيو شارل بلان القائل: «إنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة»، فالمتدليات كثيرة في داخل المباني، حيث لا فائدة في إحداث الظل، كثرتها في خارجها، ولم تنشأ متدليات المآذن، كذلك عن «ضرورة إحداث أروقة عالية لدعوة المسلمين منها إلى الصلاة»، ما رأينا مآذنَ الآستانة ومآذن بلاد فارس ذات أروقة عاطلة مما يُشاهد في مآذن مصر من المتدليات، وإنما الذي أراه هو أن اختراع العرب للمتدليات نشأ عن كُرههم للزوايا والأوجه الموحدة المُلس، كما ذكرت آنفًا، ويتجلى هذه الكره في جميع آثارهم الفنية، سواء أكانت مآذن أم جلودَ قرآن أم دُوِيًّا.

  • النقوش العربية ودقائق الزخرف: زخارف المباني العربية ذات طابع خاص ينتبه إليه، في الحال، حتى أجهل الناس بفن العمارة، وهذه الزخارف المؤلفة من رسومٍ هندسية ممزوجة بالكتابات من الأمور التي نرى رسمها أسهل من وصفها، وهي تابعةٌ لقواعد بسيطةٍ نص عليها مسيو بُرغوان على الرغم من ظواهرها الخيالية.

    وكانت النقوش العربية تُنْقَر في الحجر كما في كثير من مساجد القاهرة، أو تُصَبُّ في قوالب كما في قصر الحمراء.

    وللخط العربي شأنٌ كبير في الزخرفة، ولا غرو فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم يُستعمل في الزخرفة، حتى القرن التاسع من الميلاد، غيرُ الخط الكوفي ومشتقاته كالقرمطي والكوفي القائم الزوايا.

    وتؤخذ هذه الكتابات من القرآن على العموم، وأكثر هذه الكتابات استعمالًا هو السطر الأول من القرآن، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم» أو القول الجامع الذي يُلخَّص به الإسلامُ وهو: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.»

    وقد بلغ الخط العربي من الصلاح للزينة ما كان رجال الفن من النصارى في القرون الوسطى وفي عصر النهضة يُكثِرُون معه من استنساخ ما كان يقع تحت أيديهم اتفاقًا من قطع الكتابات العربية على المباني المسيحية تزيينًا لها سائرين في ذلك مع الهوى، وقد شاهد مسيو لُنْغِپرْيِه ومسيو لاڨوَا وغيرهما الشيء الكثير منها في إيطالية، ومما شاهده مسيو لاڨوا في مكان الأمتعة من كتدرائية ميلانو «بابٌ مبنيٌّ علي طراز رسم البيكارين يُحيط به إفريزٌ حجريٌّ مؤلفٌ من كلمة عربية مكررةٍ عدةَ مرات، وكتابةٌ عربيةٌ حول رأس المسيح المصور فوق أبواب القديس بطرس التي أمر بإنشائها البابا أوجين الرابع، وخطوطٌ كوفية طويلة على قميص القديس بطرس والقديس بولس، ومن دواعي أسفي عدمُ ترجمة هذا الكاتب لهذه الكتابات، فلعل الكتابة التي حَول رأس المسيح هي كلمة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله!»

  • الزخارف الملونة: اعتقد الناس زمنًا طويلًا أن الأغارقة لم يُلَوِّنوا مبانيهم وتماثيلهم، وإذ كان للقواعد التي اصطلح عليها الأغارقة قوةُ القانون عند الأمم اللاتينية نشأ فينا ذوقٌ مصنوع صِرنا نُعد به المباني البيض أبنيةً جميلةً جدًّا، غافلين عن أن أشعة الشمس على المباني البِيض تُعمي الأبصار وتُغرِق دقائقها، وعن أننا نُعْجَب بها بقوة التقاليد فقط، ومن الحظ الحسن أن أثبتت المباحث الحديثة أن أذواق الأغارقة كانت تختلف عما عُزِيَ إليها، وأن الكثير من مبانيهم كان مستورًا بالألوان، وأن اللون الأزرق واللون الأصفر واللون الأحمر أكثر الألوان استعمالًا فيها، وأن أعالي العَمَد في معبد إجين كان مصبوغًا باللون الأحمر المتشعِّبة منه تروسٌ مذهبة، وأن مُقَدَّمه كان مصبوغًا باللون الأزرق المموَّه بأُطُرٍ حُمْرٍ وخُضْرٍ.

    وفضَّل العرب، بأذواقهم الفنية الغريزية، ملوَّن المباني على بيضها، وكانت نقوشهم العربية مغطاةً، على العموم بألوان يدل تنضيدها على معرفة كبيرة وذوق سليم، وكانت جدر الحمراء ووجوهها والجدر الخارجية للمساجد مستورةً بأزهى الألوان.

    fig264
    شكل ٨-٧: دقائق زخارف عمود وتاجه في قصر الحمراء.

    والألوان التي استعملها العرب في مصر هي اللون الأحمر واللون الأزرق واللون الأصفر واللون الأخضر واللون الذهبي، وأثبت أُوِين جونس، الذي هو أفضل مَن بَحث في دقائق قصر الحمراء، والذي أدار تجديد قاعدة الأسود في قصر البِلَّور بلندن، أن العرب إذ استُثني الميناء الذي يغطي أسفل الجُدُر، لم يستخدموا في قصر الحمراء سوى اللون الأزرق واللون الأحمر واللون الذهبي، أي اللون الأصفر، وأن هذه الألوان رُتبت ترتيبًا معقولًا جدًّا؛ فأُحدث اللون الأحمر في أساس نقوشه، وصُبِغت حواجزه الجانبية باللون الأزرق على مدًى واسع لتعديل التأثير الذي ينجُم عن اللون الأحمر واللون الذهبي، وفُصِل بعض الألوان عن بعض بعصائب بيضٍ أو بظِلِّ نُتُوء الزخرف، ومن المرجح أن كانت العَمَد مصبوغةً باللون الذهبي لما بين العمد البيض وما يقوم عليها من الزخارف ذات الألوان الكثيرة من عدم الانسجام.

    وأما ما نرى أثرَه في قصر الحمراء من اللون الأخضر والأسمر والأرجوانيِّ فقد بين ذلك المؤلف أنه من بقايا الترميمات الرديئة التي قام بها الإسپان في مختلف الأزمنة، وقد أضلَّت بقايا هذا الطَّلي الرخيص، على الأرجح، مُرمِّمِي قصر الحمراء في الوقت الحاضر، فالأجزاء التي أصلحوها، ولا سيما الكِسْرات التي يبيعونها من الجمهور، لا تَمُتُّ بصلة إلى الطريقة المذكورة التي اتَّبعتُها بقدر ما تسمح به اللتوغرافية في تحديد أحد لَواوِين الحمراء الذي تجدُ لوحةً له في هذا الكتاب.

(٣) المقابلة بين مباني العرب الفنية

(٣-١) مباني بلاد سورية

لم نذكر من مباني سورية، حتى الآن، غير ما أُنشئ فيها بعد ظهور محمد، مع أن قبائل عربيةً توطنت بلاد سورية قبل ظهوره، وأقامت فيها دولًا قوية، وتدل البقايا القليلة التي اكتُشفت في بُصْرَى، والتي لم تُدرَس جيدًا حتى الآن، على أن فن العمارة فيها كان راقيًا في ذلك الزمن، ولذا فإن من المحتمل أن يكون المسلمون الذين استولَوا على سورية قد استفادوا من معارف أبناء قومهم أولئك، ولكن فُقدان الوثائق حَمَلنا على السكوت عن ذلك الدور المُنْسِي قانعين بذكر ما شاده العرب بعد الإسلام من المباني العريقة في القِدَم والمختلفة الطُّرُز، والتي ترجع أقسامها المهمة على الأقل إلى القرن الأول من الهجرة كجامع عمر والمسجد الأقصى (في القدس) والجامع الكبير في دمشق.

ويُرى في هذه الآثار الثلاثة بعضُ المؤثِّرات البزنطية والفارسية التي لم يتحرَّر فنُّ العمارة العربي في سورية منها تمامًا، ومما هو جدير بالذكر أنه يُشاهَد فيها، حتى في أقدم أقسامها، بَدءُ العمل بالأقواس المصنوعة على رسم البيكارين والمصنوعة على شكل نعل الفرس، أي الأقواس ذات الانكسار الضعيف في أعلاها والضيق قليلًا في أسفلها، ويبدو لك هذا النوع من الأقواس في الرِّواق (من الجامع الكبير) بدمشق، وفي جميع أقسام المسجد الأقصى تقريبًا، وفي أعلى عَمَدِ الصفِّ الأول من داخل جامع عمر.

ومما يُرى في جميع تلك الآثار الأولى أن تيجان عَمَدها مُتصل بعضها ببعض بجسور وَصْلٍ كبيرة اتصالًا انفرد بعمله مهندسو العرب.

وإذا استعنت بمبدأ القياس، فنظرت إلى أقدم مئذنة في الجامع الكبير بدمشق، علمت أن شكل المآذن العربية الأولى في سورية كان مربعًا.

وقد استُخدمت القباب المنخفضة المشابهة للقباب البزنطية على العموم، وذلك باستثناء قُبَّة جامع عمر التي أقيمت في تاريخ متأخر عن تاريخ بنائه.

(٣-٢) مباني بلاد مصر

أوضحنا في الفصل الذي خصصناه لتاريخ العرب في مصر سلسلة تحولات فن العمارة العربي العميقة بمصر في ثمانيمائة سنة، أي منذ بُنِي جامع عمرو بن العاص في سنة ٦٤٢م، حتى تمَّ إنشاء جامع قايتباي في سنة ١٤٦٨م، ورأينا أن هذا الفنَّ العربيَّ، الذي كان بيزنطي النزعة في البُداءة، لم يلبث أن تحرر من كلِّ تأثير أجنبي، وأنه انتهى إلى أشكال مبتكرة تمامًا.

ويظهر أنه احتُرم قسمٌ من زينة جامع عمرو بن العاص الأولى مع ترميمه عدة مرات، ويُرى في جامع عمرو بن العاص أصل الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين والمصنوعة على شكل نعل الفرس، ولا تَرى في جامع عمرو بن العاص غير المآذن البسيطة التي ليس لكلٍّ منها غيرُ رواقٍ واحد، والتي تنتهي برأس.

ويتجلَّى في مسجد ابن طولون، الذي أُنشئ في سنة ٨٧٦م، بدءُ الخلاص من المؤثرات البزنطية، أي أن أقواسه صُنعت، بدون التباس، على رسم البيكارين، وأنها قائمة على دعائم مؤلفة من أعمدة مرصعة في الزوايا، وترى في جامع ابن طولون نقوشَ الأزهار والأغصان الصالحة للزينة والمصنوعة على طراز جديدٍ قريب من طراز النقوش العربية، ولم تبدُ المتدلِّيات فيه بعدُ.

وأُنشئ جامع ابن طولون من الآجر، وتتألف مئذنته من ثلاث طبقات، وليس فيها شيءٌ من الزينة الخارجية، وإنما تَرَى لكل طبقة منها شكلًا خاصًّا؛ فالأولى: مُربعة، والثانية: أسطوانية، والثالثة: مُثَمَّنة.

والزخارف أغزرُ مادةً وأكثرُ تنوعًا في الجامع الأزهر الذي شُرِع بناؤه في أواخر القرن العاشر من الميلاد وأتم في تواريخ أخرى، وأقواس الجامع الأزهر حادَّة أكثر مما في المساجد السابقة، وتشاهد المتَدَليِّات في كل مكان منه، ولمآذنه عدة أروقة، وزخارفه غنية.

fig265
شكل ٨-٨: دقائق الطبقة العليا من قاعة الأختين في قصر الحمراء (من تصوير أوين جونس).

وعُدَّت أقواس جامع قلاوون (١٢٨٣م) مثالًا بارزًا لبلوغ الأقواس العربية المصنوعة على رسم البيكارين ذُروة الرقيِّ، ورأينا أنه يوجد شبه كبير بين هذا الجامع والمباني القوطية في القرون الوسطى.

ونرى جامع السلطان حسن (١٣٥٦م) مثالًا لاقتراب الفن العربي من درجة العظمة، ويوجد بين كنائسنا الكبيرة، وهذا الأثر العظيم، الذي يبلغ ثِخَن جُدُره ثمانية أمتار، وارتفاع رتاجه عشرين مترًا، وارتفاع قُبَّته ٥٦ مترًا، وارتفاع مآذنه ٨٦ مترًا — شَبَهٌ أكثر مما بينها وبين المساجد الإسلامية الأولى، ويدل جامع السلطان حسن على أن العرب كانوا يعلمون كيف يقيمون مبانيَ واسعة متينةً عند الاقتضاء.

ويُثبِت جامع برقوق (١٣٨٤م) وجامع المؤيد (١٤١٥م) وجامع قايتباي (١٤٦٨م) تقدمًا جديدًا تم للعرب، ويُعدُّ جامع قايتباي مبتكرًا تمامًا بقُبَّتِه العجيبة ومئذنته الرائعة ذات المساند والأفاريز والأروقة والنقوش الغنية الزاهية، ولو لم يكن للعرب من المباني غيرُ جامع قايتباي لاعتقد الناس، لا ريب أنه عنوان فنٍّ لا صلة قريبةً أو بعيدة بينه وبين أي فن آخر.

ويعدُّ جامع قايتباي، والجوامع التي أُقيمت في عصره، كجامع قاغباي (١٥٠٢م)، آخر المباني المهمة التي أُنشئت في مصر على الطراز العربي، ولما حلَّ القرن السادس عشر، واستولى السلطان سليم التركي على مصر أصبحت لا ترى فيها فنًّا عربيًّا، فقد قضى الترك الفاتحون على الفن العربي بسرعة، وأخذ هذا الفن ينطفئ شيئًا فشيئًا، والحق أن الفن لا يعيش إلا حيث يُقدَّر ويُشجَّع، والحق أن دماغ التركي لا يستطيع تقدير الفن الرفيع.

وترى المبانيَ التي أقيمت في العهد التركي من ذوات الشكل الثقيل والزخارف المتعبة والألوان الكريهة، وأصاب إيبر حيث قال: «إن من الحظ الحسن أن كانت هذه الآثار غيرُ محتاجة إلى زمن كبير حتى تؤذي عيونَ رجال الفن، ولم تُبن هذه الآثار لتدوم، وإنما لتكون وسيلة لخدمة الساحات التي أقيمت عليها، وما جزاء الذين أقاموها، من غير أن يفكروا في أمر الأجيال الآتية، إلا أن تنتقم منها هذه الأجيال بأن تنساهم.»

(٣-٣) مباني بلاد إفريقية الشمالية

لا ترى غيرَ شَبَهٍ ضعيف بين المباني العربية في إفريقية الشمالية أو صقلية وبينها في مصر، وذلك خلافًا لمماثلتها لمباني الأندلس الأولى.

ونحن لا نقدر أن نتكلم عن القصور الإفريقية؛ لعدم وجودها في الوقت الحاضر، وإنما نذكر أن مارمول، الذي زار قصور مراكش وفاس بعد سقوط غرناطة بقرنٍ واحد، قال في وصفه لإفريقية: «إن هذه القصور تشابه قصر الحمراء على العموم.»

fig266
شكل ٨-٩: رواق عالٍ في إحدى رداه القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

والشبه الذي يرجَّح وجوده بين القصور العربية القديمة في إفريقية وبينها في الأندلس موجودٌ حقًّا بين مبانيهما الدينية، وما انتهى إلينا منها دليلٌ قاطع على هذا، وأظهر ما يكون هذا الشبه في مآذنهما المربَّعة العاطلة من الأروقة والأطناف الخارجية، والمؤلف بعضها من طبقتين مُتَقَبِّضَتَيْن أو ثلاث طبقات مُتقبِّضات.

وتختلف هذه المآذن العربية الإفريقيةُ الأصلية عن مآذن مصر جملةً وتفصيلًا، ونجد جميع المآذن الإفريقية التي أقيمت بين القيروان وفاس من فصيلةٍ واحدة، ومنها التي أقيمت بالجزائر وطنجة في تواريخ لاحقة مع شَيْدها على الطُّرُز القديمة، ونجد من هذه الفصيلة برج لاجيرالدة (برج لعبة الهواء) القائم في أشبيلية، وأبراج كنائس طليطلة الكثيرة البادية العروبة.

وإذا عَدَوْتَ هذه المآذن المبتكرة وجدت مساجد إفريقية القديمة، كمساجد القيروان مثلًا، تختلف اختلافًا كبيرًا عن مساجد مصر وفارس باتخاذها القباب البزنطية المنخفضة عنصرًا خاصًّا، ويعلو جامع القيروان الكبير، الذي كان هذا السِّفر أول كتاب اشتمل على صور له، أربعُ قباب منخفضة.

وإذا أردنا أن نحكم في الأمر مستعينين بالمباني التي لا تزال ماثلةً قلنا: إن الفن العربي عانى باستمرارٍ تأثيرَ الفن البزنطي في إفريقية الشمالية، مع استثناء مراكش، وإنه لم يستطع أن يتخلص منه كما تخلص في مصر والأندلس.

(٣-٤) مباني بلاد صقلية

إن قصر العزيزة وقصر القبة القائمين بالقرب من مدينة بلرم هما العمارتان المهمتان العربيتان اللتان أقيمتا في صقلية في أواسط القرن العاشر من الميلاد، ولا يشاهَد في مكان قصرٌ عربيٌّ له من القِدَم ما لهما، وهذا يجعل لدرسهما فائدةً عظيمة، وإن مما يزيد في أهميتها إنما هو الظنُّ الغالب بأنهما مشابهان لما كان في إفريقية الشمالية من القصور نظرًا إلى الصِّلات القديمة التي كانت بين عرب البلدين في غابر الأزمان، وكونُنا نستطيع أن نَتَمَثل بهما قصور إفريقية.

وقد كان قصرُ العزيزة وقصر القبة حِصنين ومسكنين في آنٍ واحد، وقد قاوما تعاقب القرون لبنائهما من الحجارة المنقوشة الملتصق بعضها ببعض التصاقًا محكمًا.

وشكل قصر العزيزة الواقع بالقرب من بَلَرْم مُكعب واسع، ويبدو للناظر إلى جدره أنها مؤلفة من أقواسٍ طويلة مصنوعة على رسم البيكارين صنعًا خفيفًا ومحيطة بنوافذ مزدوجة ذات أعمدة صغيرة، وُسِترَ الإفريز، الذي أُعِدَّ ليكون تاجًا وحاجزًا، بالخطوط القرمطية التي بقي بعض آثارها، ونشرتُ في فصل آخر من هذا الكتاب صورةً عن التي رسمها جيرول دوپرانجه لإحدى رِداهه كما كانت منذ أربعين سنة، فظهر منها أنه ذو زخارف بسيطةٍ أنيقة ومتدلياتٍ مشابهة لما في مباني الأندلس.

ومن الصعوبة أن نعرف هل غيَّر عمال العرب طرازَ قصر العزيزة الأصلي أولًا حينما رمَّموه في عهد ملوك النورمان.

ويُرى قصر القبة غير بعيد من قصر العزيزة كثيرًا.

ويختلف قصر العزيزة وقصر القبة عن قصور العرب في إسپانية بشكلهما الخارجي وأقواسهما الطويلة المصنوعة على رسم البيكارين وانتظام شكليهما، ولا أرى شبهًا بينهما وبين المباني المصرية، وذلك خلافًا لجيرول دُوپرَنْجِه، وذلك مع ما قمتُ به من البحث والتدقيق، وذلك خلا مماثلتهما البعيدة لبعض أجزاء جامع قلاوون.

(٣-٥) مباني بلاد الأندلس

fig267
شكل ٨-١٠: أحد أبواب ردهة الصبايا في القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).

قسَّم جيرول دوپرانجه فن العمارة العربيَّ في بلاد الأندلس إلى ثلاثة أدوار مختلفة: الدور البزنطي ودور الانتقال والدور المغربي، ولا أرى سببًا جديًّا للتسليم بهذا التقسيم مع رضا الآخرين به على العموم، فلا معنى للتعبير عن فن العمارة العربي بالفن المغربي أي البربري ما دام البربر لم يُدخلوا أيِّ عنصر جديد إلى فنون العرب، أجل، حَكَم ملوكٌ من البربر عرب الأندلس كما حكم ملوك من الشركس عرب مصر، ولكن البربر والشركس لم يبتدعوا شيئًا في الفنون، ولذلك لا نجد فن بناء مغربي في الأندلس كما أننا لا نجد فن بناء شركسي في القاهرة.

على أن لدينا من البينات ما يثبت أن البنائين في أيام ملوك البربر كانوا من العرب، فقد روى ابن سعيد «أن أميرَي الموحِّدِين، يوسف ويعقوب المنصور، أحضرا من الأندلس مهندسين لإنشاء جميع المباني التي أقاموها في مراكش ورباط وفاس والمنصورية … ومن المعروف اليوم (١٢٣٧م) أن هذا الازدهار وهذا الرخاء في مراكش انتقل إلى تونس فأقام سلطانها قصورًا وغرس حدائق وكرومًا على الطريقة الأندلسية مستعينًا بمهندسي الأندلس وبنَّائيها ونجَّاريها ولبَّانيها ودهَّانيها وبُستانييها، أي تم شَيْد هذه المباني وفق رسوم وضعها أناسٌ من الأندلس أو صُنعت تقليدًا لمبانٍ أندلسية.»

fig268
شكل ٨-١١: مسجد همذان القديم بفارس (من تصوير كوست).

وجامعُ قرطبة هو أقدمُ مباني العرب في بلاد الأندلس، وأقيم جامعُ قرطبة في دور فنِّ العمارة الذي أُسَمِّيه دورَ فنِّ العمارة البزنطي العربي، لا البزنطي وحده، وذلك لما لم نَجد من بناء بيزنطي يشابهه، وهو، وإن كان يشتمل بوضوح على بعض عناصر الفن البزنطي «كتيجان عَمَدِه التي هي على شكل أوراق الشجر ونقوشِه التي هي على شكل الأغصان وزينتِه المتشابكة وفسيفسائه وزخارفه التي هي على أساس من ذهب … إلخ»، يختلف عن المباني البزنطية بما فيه من الزينة بالخط الكوفي، وبأقواسه المصنوعة على شكل نعل الفرس بفِلَق كثيرة والقائم بعضها فوق بعض، وبجزئيات زخارفه، ويكتسب جامع قرطبة بهذا طابعًا باديَ الإبداع يتميز به من أي بناء بيزنطي، وما قضت به الحال عند صنعه، أي ضرورة تنضيد ما كان عند القوم آنئذ من العَمَد لينال به عُلوًّا مناسبًا لعَرضه، أكسب صحونه منظرًا لا تجده في أي بناء سابق، ومن تَجَلِّي ذوق العرب الفني في شَيْده طريقتُهم في تركيب أقواسه لستر ذلك التنضيد، فعلى من يَعْزو مثل هذا الذوق الفني البديع الرفيع إلى البزنطيين أن يدلنا على مبانٍ أخرى استعملوا فيها هذه الطريقة.

وتخلَّص عرب الأندلس من المؤثرات الفنية البزنطية بسرعة كالتي تخلَّص بها عرب مصر، ولم تلبث النقوش العربية والمتدليات أن قامت مقام الزخارف البزنطية على أساس ذهبي، ولم تلبث الحنايا أن تحوَّلت إلى أقواس مصنوعة على رسم البيكارين ومنقوشة نقشًا لطيفًا.

ومباني العرب في طليطلة أقدمُ آثارهم في الأندلس خلا ما في قرطبة، وفي طليطلة آثارٌ عربيةٌ مهمة كباب بيزغرة (باب شقرة) الذي بُدِئَ بإنشائه في القرن التاسع من الميلاد وباب الشمس الذي أُنشئ في القرن الحادي عشر من الميلاد … إلخ، ويمكن الباحث في طليطلة أن يتبيَّن بعضَ مراحل تطور الفن العربي.

وهُدِمَت مآذن المساجد القويمة في الأندلس، ولم يبقَ منها سوى برج لاجيرالدة (لعبة الهواء) الذي أقيم في أشبيلية في القرن الثاني عشر من الميلاد، ويمكننا أن نذهب إلى أنها كانت مُربعة الشكل كالمآذن التي أُنشئت في إفريقية، وإنني أستند في رأيي هذا إلى ما في بروج كنائس طليطلة التي لا تزال قائمةً من التقليد لمآذن العرب في الشكل والفروع الجوهرية، ويمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من هذا فنقول: إن الأندلس لم تَعرِف مآذن مشابهةً لمآذن القاهرة، ولو عرفوها لكان النصارى قد قلَّدوها أيضًا.

fig269
شكل ٨-١٢: مسجد شاه خدا وضريحه في سلطانية (القرن السادس عشر، من تصوير تكسيه).

وكلما كانت إقامة العرب بإسپانية تطول زاد فنُّ بنائهم غِنًى وزخرفًا، ولسرعان ما تحرر هذا الفن من كل مؤثر أجنبي، ولسرعان ما غابت الزخارف البزنطية، ولا سيما الفسيفساء على أساسٍ ذهبي، تاركةً المجالَ لطرازٍ جديد في الزينة، فكان القصر في أشبيلية والحمراء في غرناطة بناءين وصل فنُّ العمارة بهما إلى أسطع أدواره.

وبدئ ببناء القصر في أشبيلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، ثم صُلِّح في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الميلاد، وذلك عدا ترميمه في زمن شارلكن وزمن فليب الثاني والزمن الحاضر، وأُنشئت وجهته في القرن الثالث عشر من الميلاد، ويعدُّ بهوُ الدُّمى وبهو السفراء وغيرُهما من أقسامه آثارًا قديمة جدًّا.

ولا يلاحَظ في أقسام القصر الأشبيلي الأولى مثلُ ما في قصر الحمراء من فَيْض الزخارف ومن القباب ذات النقوش المتدلية، ومع ذلك فكلا القصرين متقارب، ولا يختلفان في غير الدقائق، ويكثر في القصر الأشبيلي ما نَدَر وجوده في قصر الحمراء من الأقواس المجاورة (المصنوعة على شكل نعل الفرس) والأقواس المصنوعة على رسم البيكارين، وتجد في القصر الأشبيلي من السقوف ذات التقاطيع الملوَّنة المذهَّبة المحفورة ما يشابه سقوف قصور القاهرة ودمشق القديمة.

وبلغ خِصْب الفن العربي الأندلسي غايته في قصر الحمراء الذي أنشئ في القرن الثالث عشر من الميلاد، وعلى ما فيه من غُلُوٍّ في الزُّخرف نرى هذا الغلو وليد ذوقٍ رفيع لا يتجلى في آثار دورٍ مُنحط.

ومع أن جُدُر قصر الحمراء مصنوعةٌ من مزيج من الكلس والرمل والصلصال والحصباء، لا من الحجارة المنحوتة، ومع أن زخارفه من الجِصِّ المضروب في القوالب، تجده متينًا إلى الغاية، فقد قاوم تقلبات الجو مدَّةَ خمسة قرون من غير أن يحتاج إلى ترميمٍ ذي بال.

وأهم ما يختصُّ به قصر الحمراء ويتميز به من القصر الأشبيلي على ما أرى، هو ما يأتي: جُدُرُه المغطاةُ بقطعٍ ملوَّنة مصنوعة في القوالب، وعَمَده الخفيفة الأفقية الخطوط الحاملة تيجانًا منقوشة على شكل الأغصان المتشابكة، ونوافذه المؤلفة من الأقواس ذات الحنائر٥ والمنقوشات على شكل الأزهار والمحاطة بأطر قائمة الزوايا، وسقوفه المغطاة بالمتدليات.

ولا يجد الإنسان في مصر قصورًا عربيةً معاصرة لقصر الحمراء، ولكننا إذا حكمنا بأن زخارف قصور مصرَ كانت مشابهة لزخارف مساجدها رَجَح عندنا وجود فروقٍ مهمة بين قصور ذينك القطرين، أجل، إن هنالك تقاربًا بين الفنِّ العربي في مصر وبينه في الأندلس، ولكنهما لم يُبديِا سوى تشابهٍ بعيدٍ في جميع وجوههما.

وكان تأثير فنِّ عِمارة العرب في فن عمارة النصارى الذين حلُّوا محلهم في إسپانية عظيمًا إلى الغاية، وكان النصارى يستخدمون العرب — قبل إجلائهم — في إقامة مبانيهم أو إصلاحها، فنشأ عن تمازج الفنين ظهورُ الفن المُدَجَّن الجديد كما ذكرنا ذلك في فصل آخر، وسنأتي بأمثلةٍ كثيرة على ذلك في الفصل الذي خصَّصناه لدرس تأثير العرب في أوربة.

fig270
شكل ٨-١٣: ضريح تيمورلنك في سمرقند (من صورة فوتوغرافية، من مجموعة الجنرال كوفمان).

ويُرَى طِرازٌ خاص قريب من الطراز العربي يمكن تسميته بالطراز العربي الإسرائيلي، وذلك خلا الطِّراز الذي ذكرته، وذلك في معابد اليهود القديمة التي أُقيمت في إسپانية، ولا يختلف هذا الطرازُ عن الطِّراز العربيِّ إلا باستخدام الحروف العبرية في زينته وبالأغصان والأوراق العريضة في زخارفه، ونَعُدُّ كَنِيسَ الترانسيتو وكنيس سَنتا مارية لابلانكا في طليطلة أمثلة بارزة على هذا الطِّراز الذي لا يخلو من مؤثِّرات الدور البزنطي.

(٣-٦) مباني بلاد الهند

مباني المسلمين في الهند دليلٌ واضح على التطورات التي يمكن أن تتَّفِق لفن عمارة أمة بتأثير العروق التي تتصل بها.

وقد رأينا أن العرب حينما وصلوا إلى الهند وجدوا أنفسهم أمام حضارة قويمة قديمة، وأنهم أثروا فيها بديانتهم ولغتهم وفنونهم تأثيرًا لا يزال باقيًا حتى الآن، وذلك مع ضعف تأثيرهم السياسي فيها دائمًا.

وظهر من وصفنا للمباني الإسلامية في الهند درجةُ ما كُتِب عليها بوضوح من تاريخ تأثير إحدى الأمم، فقد كانت المؤثرات العربية والهندسية مجتمعةً اجتماعًا وثيقًا في المباني الأولى كباب علاء الدين مع ضعف أثر الفن الفارسي فيها، ثم اجتمع الفنُّ الفارسيُّ والفن الهندوسي بنِسَبٍ متقلبة فيها، وصار الفنُّ العربيُّ لا يبدو إلا في الأقسام الثانوية كاتخاذ الكتابات والمتدليات وسائلَ للزينة، وكاتخاذ أشكال بعض الأقواس.

ويعدُّ مزار أكبر وتاج محل وقصر المغول … إلخ، من الأمثلة لاجتماع هذه المؤثِّرات التي نشأ عن تنضُّدها بالحقيقة، طرازٌ خاصٌّ يمكن تسميته بالطراز المغولي في الهند، أو الطراز الهندوسي الفارسي العربي.

ويتجلى هذا الطراز — على الخصوص — في مآذن الهند المخروطة الشكل كمآذن بلاد الفرس.

وتختلف مآذن الهند عن مآذن بلاد الفرس بتخاريمها وبطبقاتها غير المطلية بالميناء، وتختلف عن مآذن الأندلس وإفريقية والقاهرة بالزخارف الخارجية والأشكال العامة، فيبدو ذلك أول وهلة.

(٣-٧) مباني بلاد فارس

يصل إلينا من المباني الفارسية التي أقيمت أيام الدولة الساسانية المعاصرة للفتح العربي، ولأكثر المباني التي شِيدَت في الصدر الأول من الخلافة، سوى بقايا ناقصة، فكان هذا سببًا في صعوبة تمثلنا تاريخ فن العمارة الفارسي ومَدَى تأثيره في فن العمارة العربي على الخصوص، ثم مدى تأثير فن العمارة العربي في فن العمارة الفارسي فيما بعد.

وأقيم أكثر مباني الفرس المهمة في القرن السادس عشر من الميلاد، أي في عهد الشاه عباس، فإذا قوبلت هذه المباني ببقايا العمارات السابقة ظَهَر أنها مقتبسة منها، وهي قائمةٌ على طراز يختلف عن طراز العرب الفني، ولا تشارك طراز العرب في غير الزخارف.

قال باتِيسِيه في كتاب «تاريخ فن العمارة» وذلك في مَعرِض الكلام عن مساجد فارس: «يظهر أن مساجد بلاد الفرس لا تختلف عن مساجد بلاد سورية» وتراني أجهل الأسس التي بَنَى عليها زعمَه هذا ما فُقِدَ الشبه بين هذه المباني، والواقع أن المقابلة بين مساجد سورية القديمة (أي بين مساجد دمشق والقدس وحبرون) ومساجد أصبهان أمرٌ متعذر، ولا نجادل في وجود طابعٍ خاصٍّ للفن الفارسي مع ما بين الفن الفارسي والفن العربي من صلة القرابة الواضحة التي مصدرها ما في الفن الفارسي من تأثرٍ بالفن العربي بعد أن كان مؤثِّرًا فيه.

fig271
شكل ٨-١٤: رسم مجدد لمسجد السنية في تبريز (فارس، من تصوير تكسيه).

ولمساجد الفرس صفات خاصة كثيرة يتجلى أهمُّها في شكل مآذنها وأقواسها وقبابها وزينتها الخارجية.

ويذكرنا شكل مآذن الفرس، حتى القديم منها، بمداخن مصانعنا، وهي مخروطة الشكل قليلة الارتفاع مكسوة بالميناء ذاتُ رواقٍ واحد في أعلاها، وهي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن مآذن سورية وإفريقية والأندلس المربعة، وهي تختلف أكثر من ذلك عن مآذن مصر ذات الأروقة الكثيرة التي يتغيَّر مقطعها على حسب الطبقات، والمزينة بأنواع النقوش البارزة.

وللمساجد الفارسية طابع خاصٌّ أيضًا؛ فيُرى لكل مسجد من المساجد القديمة الفارسية المتداعية، كمسجد همذان مثلًا، بابٌ عظيم يبلغ ارتفاعه علوَّ المقدَّم، وينتهي بقوس طريفة مُفَرْطَحَة مصنوعة على رسم البيكارين من طراز خاصٍّ مما لا ترى مثلَه في أي مسجد عربي كان.

ونرى لزخارف المساجد الفارسية من الخارج شكلًا خاصًّا أيضًا، أي أنها مكسوَّةٌ بالميناء ذي الرسوم المنوعة، ولا سيما رسمُ الأزهار، مما امتاز به فن الزخرفة الفارسي، وإذا حدث أن رُئي مثلها في بعض المباني العربية، كجامع عمر، أمكن القطع بأنها من صنع عمال من الفرس.

وبُنيت قباب المساجد الفارسية الحاضرة بَصَلِيَّة الشكل، وهذه القباب، وإن بدت مبتكرةً، لم تنشأ عن غير فرطحة القبة التي يشبه مقطعها نعل الفرس أو عن تضييق قاعدة القبة المشابهة لقباب المساجد العربية في القاهرة، وبالغ الفرس في فرطحة القبة ذات المقطع الذي هو على رسم البيكارين فانتهوا إلى القباب التي تشاهد أيضًا في مساجد بغداد الحديثة، والتي رأيت مثلها في الكنائس الروسية، ولا سيما كنائس موسكو، حقًّا عُدت القباب الروسية قائمةً على الطراز البزنطي، ولكن الإنصاف يقضي بعدِّها مبنيةً على الطراز الفارسي البزنطي وحقًّا عَجَز الروس، كما عجز الترك، عن إبداع طراز خاص، ولكنهم علموا جيدًا كيف يُوفقون بين احتياجاتهم وبين عناصر فنون البناء التي اقتبسوها من الأمم التي اتصلوا بها، وذلك بخلطهم هذه العناصر.

fig272
شكل ٨-١٥: مسجد في أصبهان (من تصوير كوست).

ولم يكن في بقايا أقدم المساجد الفارسية قبابٌ بصلية الشكل، وأكثر قباب سمرقند ومشهد وسلطانية ووَرَامين وأريفان … إلخ. التي أُنشئت على طراز آثارٍ أقدمَ منها لا ريب، بيزنطيُّ الطراز أو من القباب التي ضُيِّقَت قواعدها قليلًا.

وأكثرَ الفرسُ من استعمال المتدليات والخطوط العربية في مساجدهم، وهذه هي أهم العناصر أخذوها عن العرب.

والقارئ الذي يَدرُس الصور التي نشرناها في هذا الكتاب، إتمامًا لِمَا علمه مما تقدم، يشاطرنا رأينا في اختلاف فن العمارة العربي باختلاف البلدان، وفي أن من المتعذر جمع متباين المباني تحت وصفٍ واحد، كما أنه يتعذر جمع المباني الرومانية والقوطية ومباني عصر النهضة التي أُقِيمَت في فرنسة تحت اسم الطراز الفرنسي.

ولا تجد غير شَبَه بعيد بين الطراز البزنطي العربي الذي تجلَّى في الأندلس في جامع قرطبة، والطراز العربي البزنطي الذي تجلى في مصر في جامع عمرو بن العاص وجامع ابن طولون، كما أنك لا تجد غير شبهٍ بعيد بين الطراز العربي الذي تجلى في قصر الحمراء والطراز العربي الذي تجلى في جامع قايتباي، ولذا يجب أن نُقسم الطراز العربي تقسيمًا أساسيًّا، وأن نستند في هذا التقسيم إلى اختلافه باختلاف البلدان على حسب الطريقة التي سِرنا عليها في مباحثنا في العروق، ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة:

(أ) الطراز العربي قبل ظهور مُحَمَّد

لا يزال هذا الطراز مجهولًا، خلا ما يُستَشف من بقايا مباني اليمن القديمة، ومن بقايا المباني التي أقيمت في المملكة العربية السورية القديمة كمملكة الغساسنة مثلًا.

(ب) الطراز البزنطي العربي

  • الطراز البزنطي العربي في سورية: أقيمت بنايات هذا الطراز، أو جُدد بناؤها، فيما بين القرن السابع والقرن الحادي عشر من الميلاد، ومنها: جامعُ عمر والمسجد الأقصى في القدس، والجامع الكبير في دمشق.
  • الطراز البزنطي العربي في مصر: أقيمت بنايات هذا الطراز فيما بين القرن السابع والقرن العاشر من الميلاد، ومنها: جامع عمرو بن العاص، وجامع ابن طولون.
  • الطراز البزنطي العربي في إفريقية: بُني جامع القيروان الكبير ومساجد الجزائر على حسب النماذج القديمة، وبَقِي تأثير الفن البزنطي ثابتًا في إفريقية، وظلت قباب إفريقية بيزنطية، على العموم، حتى الزمن الحاضر.
    fig273
    شكل ٨-١٦: قصر راجا غوڨر دهام (الهند، من صورة فوتوغرافية).
  • الطراز البزنطي العربي في صقلية: كانت البنايات، التي أقامها العرب في صقلية قبل الفتح النورماني، على هذا الطراز، كقصر العزيزة وقصر القبة.
  • الطراز البزنطي العربي في الأندلس: بُني على هذا الطراز جامع قرطبة والمباني العربية في طليطلة، وذلك قبل انقضاء القرن العاشر من الميلاد.

(ج) الطراز العربي الخالص

  • الطراز العربي في مصر: تكامَل هذا الطراز فيما بين القرن العاشر والقرن الخامس عشر من الميلاد، وبلغ ذروة كماله في جامع قايتباي، ويمكن القارئ أن يتبيَّنَ تطوراته من النظر إلى سلسلة صور المساجد التي أحصيناها ونشرناها في هذا الكتاب.
  • الطراز العربي في الأندلس: تحول فنُّ العمارة العربيُّ في الأندلس بين قرن وقرن أيضًا، ولكن الوثائق الضرورية لوَصْل أدواره المتوسطة فُقِدَت أيضًا، ولم يبقَ من البنايات التي أُقيمت على هذا الطراز غيرُ ما هو قائمٌ في أشبيلية وغرناطة، ومع ذلك فإن هذا يُعد نموذجيًّا.

(د) الطراز العربي المختلط

  • الطراز الإسپاني العربي: يُشاهَد اختلاط عناصر فن العمارة النصراني بعناصر فن العمارة العربي في المباني التي أُقيمت بعد فتح النصارى لبلاد الأندلس على الخصوص، وواظب سكان القسم الجنوبي من إسپانية على إقامة بعض بناياتهم على هذا الطراز المختلط حتى الوقت الحاضر، ويعد كثيرٌ من آثار طليطلة أمثلة على هذا الطراز المختلط الذي نشرنا كثيرًا من صوره في هذا الكتاب.
  • الطراز الإسرائيلي العربي: نذكر من هذا الطراز ما أقيم من المباني التي كانت معابدَ لليهود في طليطلة كسَنْتَا مارية لابْلَانْكا والترنسيتو … إلخ.
  • الطراز الفارسي العربي: إن المباني التي أقيمت في بلاد فارس بعد أن اعتنقت الإسلام، ولا سيما مساجد أصبهان، هي من هذا الطراز، ولهذه المباني طابعٌ فارسي واضح وإن كانت ذات أثر عربي.
  • الطراز الهندوسي العربي: مباني هذا الطراز خليطٌ من عناصر الفن العربي وعناصر الفن الهندوسي، ومن هذه المباني منارة قطب ومعبد بِنْدِرَابن، ولا سيما باب علاء الدين الرائع.
  • الطراز الهندوسي الفارسي العربي، أو الطراز المغولي في الهند: شِيدت المباني التي أقيمت أيام سلطان المغول في الهند على هذا الطراز، ومنها تاج محل وقصر ملوك المغول وكثيرٌ من مساجد الهند، وحلت المؤثرات الفارسية في مباني هذا الطراز محل المؤثرات العربية التي كانت سائدة إلى حد كبير، ونرى مباني هذا الطراز خاليةً من الإبداع الحقيقي وإن دلت على فن خاص تنضَّدت فيه عناصرُ الفنون الأجنبية التي تتألف منها أكثر من أن تتمازج.
fig274
شكل ٨-١٧: سوار من ذهب يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وهو على الطراز الإسپاني العربي (من صورة فوتوغرافية، متحف العاديات بمدريد).

هوامش

(١) الكوى: جمع الكوة، أي الخرق في الحائط.
(٢) الدرق: جمع الدرقة، أي الترس من جلود.
(٣) الإهليجيي: البيضي.
(٤) الموشور في علم الطبيعيات: مجسم من بلور تكون قاعدته مثلثة الأضلاع.
(٥) الحنائر: جمع الحنيرة، وهي الطاق المبني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤