سيوف الأقارب

لا تقتُل أباك يا ولدي!

اندفع بركات غاضبًا يريد الانتقام، بعد أن عرف السرَّ الذي أخفتْه أمُّه طوال هذه السنين، قالت «خضرة» الشريفة: يا ولدي … لا تترك الغضب يُعمي عينَيك عن الحقيقة، ولا تنسَ أنَّ رزقًا هو والدك الحقيقي!

الْتفت بركات ناحيتها في عصبية، مستنكِرًا قولها … وهو يحاول إخفاء غضبه: والدي يا أمي العزيزة هو الملك الزحلان، هو آواكِ وآواني … بعد أن رماكِ رزق ورماني لذئاب الصحراء، هنا في هذا البيت كبرتُ برعاية الزحلان وحُبه، وتأدبتُ بنصائحه وعرفتُ عنه الصوابَ والخطأ … في حِجره لعبتُ، وعلى صدره حبوتُ ونمت صغيرًا … وعرفتُ الحنان والهناء والأمان طفلًا … والمرح والفرح صبيًّا، والشجاعة والفروسية شابًّا … لا أعرف أبًا لي سواه.

ملأ الحُزن عيون «خضرة» بالدموع، وقالت وهي تربتُ على كتف ابنها، الذي يرتجف من الانفعال: يا بني، كلُّ ما قلتَه صحيح، ولكنك لن تستطيع، مهما أنكرتَ، أن تتخلَّص من الدم الذي يجري في عروقك … يا ولدي … هذا قدَرُك … أبوك هو الأمير رزق الهلالي، كما أنني أنا «خضرة» بنت الشريف أمُّك … وأنت مهما حدث هلاليٌّ من بني هلال … وإليهم تنتمي.

صاح بركات محتجًّا: كيف تقولين هذا يا أمي … بنو هلالٍ هم الذين أهانوكِ وطردوكِ إلى الصحراء بلا رحمةٍ أو شفقة.

نظرتْ «خضرة» في عينَيه محاوِلةً الابتسام، وقالت في محاوَلةٍ أخيرة لجعله يتراجع: الآن … عرفوا خطأهم.

– جريمتهم!

– أوافقك … عرفوا جريمتهم الآن … وأستطيع أن أؤكِّد لك أنهم تعمَّدوا أن يسألوك عن أبيك؛ كي تعرف الحقيقة التي يريدون الاعتراف بها … والاعتذار عنها … طالبين السماح والمغفرة.

وضَعَ بركات كفَّه فوق يد أمِّه التي كانت ما تزال فوق كتفه تهدِّئ من عصبيته: الجريمة لها عقاب … ولن أسامحهم على ما فعلوه بك … حتى ولو سامحتُهم عمَّا حدث لي … والآن مهما كانت نواياهم؛ فقد هاجموا أرضَ أبي … ويريدون النجاة بجريمتهم الجديدة … بجَرْحهم أبي ومحاولتهم قتْلَه … ولكني لن أتركهم يُفلتون، أولئك الذين طردوك وطردوني رضيعًا ضعيفًا إلى الفلاة والوحوش، تريدين أن يُجازوا على قسوتهم بالرحمة؟ وعلى نكرانهم صلةَ الدم بالمغفرة؟ … لا يا أمي إنَّها خدعةٌ للنجاة بأفعالهم وعذرهم.

ولمَّا وجدتْ «خضرة» إصراره على الخروج محاولًا الإفلات من يدها … نظرتْ في عينَيه بعد أن جذبتْه إليها وقالت في إصرار: لن أتركك تخرج إليهم إلا إذا وعدتَني ألَّا تؤذي والدك يا ولدي … إنها ستكون جريمةً بشِعةً، وعارًا لا يفارقك أبدَ الدهر إن قتلتَه … ستكون أبشعَ وأشدَّ هولًا من فعلته القديمة القاسية … لن تفعل … عِدني … وإلا فلن تخرج للميدان إلا على جثَّتي.

أراد بركات أن يردَّ متجنِّبًا سِهام نظراتها، لكنَّها لم تُعطِه الفرصة، وظلَّت تسلِّطها عليه وتحملق مباشرةً في عينَيه المبلَّلتَين بالدموع: عِدني يا بركات … هيَّا … عِدني!

مال برأسه مستسلِمًا متجنِّبًا نظراتها المتحدِّية وقال: أعدك يا أمي … أعدك … ولكنِّي سأُحضره أسيرًا مقيَّدًا؛ ليطلب السماحَ منكِ … ومن أبي الملك الزحلان، الذي ما زال جرحه يهدِّد حياته الغالية … وللملك أن يفعل به ما يشاء … ولا تحاولي منعي من ذلك؛ فأنا مصمِّم على أن يكفِّر عن ذنبه نحوكِ … وعدوانه على الملك الزحلان، الذي هو رغم كلِّ شيء … أبي.

مدَّت «خضرة» ذراعَيها واحتضنتْه في حنانٍ وهي تقول: مهما حدَثَ يا بني … ومهما يمكن أن يحدُث … فلا تنسَ أن في عروقك تجري دماءُ الأمير رزق، وأنَّك هلاليٌّ يا بركات.

وأطلقتْ سراحه؛ فانفلَتَ كالسهم خارجًا من الخيمة، ليقفز فوق فرسه صارخًا بأصحابه أن هيَّا إلى القتال يا رجال!

قتال … الأحبَّة!

قال الراوي …

اندفَعَ بركات على حصانه شاهرًا الحسام … وهو يصيح صيحاتِ الحرب ويُنشد ألحانَ الانتقام.

يا رزقُ لا تهربْ
قد جاءك الفرسانْ
اخرجْ إلى الحرب
هيَّا إلى الميدانْ
بركات جاء إليك
يجزيك صُنْع يديك
نار على عينيك
تكشف لنا ما كانْ!

وانقضَّ من ورائه فُرسان بني زحلان كالريح العاصف، يدفعهم للانتقام من رزقٍ ما أصاب مَلِكهم على يدَيه … ساعتها فوجئ بنو هلالٍ بالهجوم الخاطف؛ فأسرعوا مذعورين واستطاع البعض الوصول إلى سلاحه … بينما سقَطَ الكثيرون قبل أن يتمكَّنوا من الوصول للخيول.

كان الخبر الذي وصَلَهم، أنَّ بركات قد عرَفَ أنه ينتمي إليهم … وتوقَّعوا أن يمتنع عن قتالهم … ولذا اطمأنوا وفرحوا بهذا الظنِّ السعيد … حتى فوجئوا بالهجوم الجديد؛ فأسرعوا يحتمون بالدروع والزَّرَد الحديد، لكنْ هيهات … هيهات … كان الوقت قد فات … وأعمل فيهم بركات وأصحابه السيوف؛ فقتلوا منهم قبل أن يُفيقوا المئات وجرحوا الألوف!

وهنا خرج الأمير سرحانُ حيرانَ، لا يكاد يصدِّق ما يرى … فامتطي الحصان بلا سلاح؛ يريد أن يمنع ما جرى … كان يظنُّ أنَّ بركات سيُلاقيه بالأحضان … وسيُوقف عندما يراه الضربَ والطِّعان.

توقَّف بركاتٌ لِلحظة يتأمَّل سرحانَ المُقبِل عليه … لا سيفَ في يدَيه أو زَرَد عليه … فصاح به ساخرًا: هل أنت ذاهبٌ إلى العيد … أيها الرِّعديد!

تلعثَمَ سرحانُ وأخرستْه المفاجأة وقال: يا ولدي ما تفعله، لا يرضاه الرحمن ذو الجلال … فكيف تستبيح دماءَ أهلك بني هلال؟!

ضحِكَ بركاتٌ وهو يُخفي غيظه وقال: الآن أصبحتُ من بني هلال، افرحي يا شريفة، وتقولها أنت بالذات من بين الرجال … ومَن كنتُ أنا عندما كنتُ في سنِّ الأطفال … هه؟ … ألَمْ تتَّهم أمي بالخيانة يا سرحان؟ أم أنَّك نسيتَ ما كان يا جبان؟

صاح سرحان وهو يحاول تجنُّب وخزاتِ بركاتٍ له ولحصانه بالحربة من اليمين ومن الشمال … وقال: نحن الآن رجال … فلا تستمرَّ في فِعال العيال … آه … الآن أنت بطلٌ من الأبطال، وسيِّد … آه، من سادة بني هلال!

صاح بركات وهو يخزه وخزةً موجعة: اخرسْ يا دُون … واذهبْ وارتدِ سلاحك واستعدَّ للنزال يا بطَّال.

ثم هجم عليه هجمةً مفتعَلة وهو يخزه في جنبه وخزةً غيرَ محتملة … جعلتْه ينتفض من الألم، وجعلت حصانه يقفز في الهواء ملقيًا به على الغبراء … ولم يتركه بركاتٌ، بل هجم عليه مهوِّشًا … فانطلق سرحان صارخًا مهرولًا … مشوَّشًا … بطريقةٍ جعلت كلَّ مَن رآه … يضحك لمرآه … إذ مضى يتعثَّر في سراويله … متفاديًا بصعوبة وخزات بركات، مختبئًا منها خلفَ الرجال … متعثِّرًا في الأحجار والحبال، وبركات لا يريد أن يتركه … بل ظلَّ خلفه هنا وهناك يهدم فوق رأسه خيمةً بضربة … أو يدحرجه فوق الرمال بالحربة.

وسرحان لا يكفُّ عن الصياح والصراخ … ملوِّحًا بيدَيه الخاليتَين من السلاح.

ورأى الأميرُ رزقٌ ذلك المنظر الساخر، فغضب غضبًا شديدًا من ابنه، وثار واندفع ليحول بين سرحان وبركات كالإعصار.

وهنا صاح ابنه في استبشار: ها قد خرجت أخيرًا من مخبئك لمصيرك يا جبَّار.

فهجم رزقٌ عليه وقد قرَّر إنهاء هذا الموقف المهين الذي لم يعجبه … وقرَّر أن يكون الوالدَ الذي يقوِّم ابنه ويؤدبه … والْتحم الاثنان في قتالٍ مرير … اصطدم الأب مع الابن الصغير … وكان هذا هو المأزق الخطير … الأب ضد الابن.

وهنا توقَّف الجميع عن القتال … وقد خفقتْ قلوب الرجال … من بني زحلان ومن بني هلال، كلُّهم فزع ومُشفِق بما يكون:

سيفٌ لسيفِ قتال الابنِ والوالدْ
يا لهفَ قلبي عليه الباغي والجاحدْ
مَن الذي سوف يحملْ ذنبَ فعلته؟
الله فوق الجميعِ في السما شاهدْ!

مناوشات ومناقشات!

طال القتال بين البطلَين … رزق الهلالي … فارس بني هلال الجبار وبركات ابنه الغالي … المُنتسِب للملك زحلان، والفارس الذي لا يُشقُّ له غبار.

كان رزقٌ أقوى كثيرًا من بركات … لكنه كان يقاتل بقلبِ الوالد، الذي يخفِّف حدَّة الهجمات!

وكان بركات أكثر تهوُّرًا وخفَّة من رزق، لكنه كان يهاجم بعاطفةِ الابن الذي يجعل الضربات تخيب فلا تُصيب أباه في ذكاءٍ وصِدق!

حتى قال الأبُ: يا بني أمَا آنَ الأوانُ أن نستمع لصوتِ العقل … وأن نكفَّ عن هذا القتال السخيف … أنا لن أقتُل ولدي!

قال بركات وهو يشدِّد من هجماته: ولكنَّك ألقيتَ به إلى الفلاة طفلًا رضيعًا أيها الفارس الشريف.

اغرورقتْ عينَا رزقٍ بالدموع، وقال وهو يتفادى ضربات الرمح القاتل: أعترفُ أنَّ ذلك كان خطأ كبيرًا … من بني هلالٍ جميعهم؛ فقد ملأ بعضهم قلبي بالكُره لك … وحاصروا أذني بالتجنِّي على أمِّ ابني.

غامت عينا بركاتٍ بدموعِ الغضب: لماذا يصدِّق العاقل ذو الحسب والنسب قولَ الجهَّال وعديمي الأدب.

هنا صاح به رزقٌ صيحةَ والدٍ يأمُر ابنه في غضب ليُطاع: كفَّ عن الضرب … واستمعْ لي، فإن عندي ما يقال بين الرجال.

وتوقَّف بركات على الفور كطفلٍ كفَّ عن تمرُّده أمام غضب والده: وماذا عندك لتقول وقد طردتَ أمي وصدَّقتَ الكذبَ الذي قيل عن الشريفة ابنة الشريف … وصدَّقتَ ذلك القولَ السخيف؟

قال رزقٌ والحنان يملأ قلبه ويرقِّق صوته: الجهل يا بني … قالوا إنَّها اشتهتْ أن يكون ابنها أسودَ كالغراب الذي شاهدتْه وهي حامل.

زعق بركات: خرافات … كيف تصدِّق هذا القولَ الجاهل.

فتنهَّد رزقٌ وقال: يا ليتني صدَّقتُه … فما كنتُ لأطردها أو أتنكَّر لك لو صدَّقتُه. أنا لا أصدِّق الخرافات … ولذلك لم يُعطِني لونُك الأسودُ أيَّ فرصةٍ لتبيُّن الحقيقة.

هنا برقتْ عينا بركاتٍ كشعلتَين مضيئتَين وسطَ ليلٍ حالك … ولمعتْ أسنانه كضياءِ بدرِ التِّمام في ليلةٍ شديدةِ الظلام … وكفَّ لحظةً عن الكلام ثم صاح: أتعترض على قضاء الله؟ … وبماذا يضيرك لوني؟ ألَمْ يكُن بين أجدادك يومًا جدٌّ أسمرُ اللون أو جدَّة؟ ألم يكُن بين آباءِ «خضرة» أو أسلافها حبشيٌّ أو حبشية؟ … هه؟! من أين يأتيك هذا اليقين … يا ابن الكرام … لقد نسيت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.

وتجاهلتَ قدرة ربِّ الأنام … الذي يعلم ما في الأرحام.

واندفع أشدَّ غضبًا نحو والده وكأنه يريد أن يعاقبه … لولا أنَّ الوالد الفارس تجنَّب الضربةَ وتجنَّبه … كان موقفًا ما أصعبه! … صدَّ رزقٌ هجمته المباغِتة بهجومٍ أشدَّ. وعادا للاصطدام والقتال بقوةٍ فاقت كلَّ حَد.

وكان القوم من بني هلال ومن الزحلان، يُنصتون لمَا دار من كلام، وقد زاد أملهم في السلام … ولكن الفرح لا يدوم، فقد وجَّه بركات ضربةً ساحقة ماحقة، تلقَّاها رزق بمهارةٍ فائقة … فسقط السيف البتَّار فوق الدرع، وانزلق على رقبة الحصان … فسقط جثَّة هامدة … ووقع رزقٌ إلى جواره بلا سلاح … فانقضَّ بركاتٌ وصاح صيحةً شلَّت المراقِبين، وهو يحمل والده مقيَّدًا فوقَ حصانه … مُنطلِقًا به وسطَ ذهول الجميع من بني زحلان ومن بني هلال، نحو خيام الملك الزحلان … مُنهيًا القتال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤