أسيرة في قصر النعمان
ظلَّ بكاء القاضي بدير المبالَغ فيه، كما قال أبو القمصان، يخيِّم على مضارب بني هلال … فيزيد من حزنهم عندما يُهزمون … ويعكِّر صفوَ فرحتهم إن عادوا منتصرين.
وكانت خطواته الثقيلة برأسه المنكفئة على صدره، خجلًا وحزنًا … لأَسر ابنته … تُثير تعليقات العامَّة والأمراء.
– ما الذي يفعله بنفسه؟ … هل هذه أول مرة تُؤسر له ابنة؟
– وهل ابنته أعزُّ عليه من بناتنا؟
– ما الذي كانت تفعله عند نهر الفرات؟
– هذا هو الأمر العجيب … هل كانت ذاهبةً لتستطلع أمور الأعداء؟
– أم كانت تخطِّط للهرب إليهم؟
– اخرسوا … المارية لم تكُن لتذهب إلا غصبًا عنها.
– إذن أين جاريتها … ولمَ أخذتْها معها؟ أليس هذا ما يؤكِّد أنهما كانتا تحاولان الهرب.
– أغرتْها الجارية بالذهاب.
وكان هذا الكلام يصل إلى القاضي؛ فيزيد من غضبه وحُزنه … ولكنه لم يكُن يستطيع إيقافَ حديث الناس أو الرد عليهم … لأنه هو نفسه لم يفهم لمَ ذهبَت ابنته في صحبة جاريتها إلى النهر؟ … ولمَ خرجتْ أصلًا من خِبائها وابتعدتْ عن المعسكر كلَّ هذه المسافة؟
كانت شكوكه تزداد؛ فتقبض بيَدٍ من حديد على قلبه … كلما وصَلَ إلى سمعه ما يقوله الناس، ويحكونه عنها ومن غرامها بالملك الصلصيل … الذي يدَّعون أنه قابلها كثيرًا قبل هذا المرة، التي خطَفَها فيها، بل وتطوَّع بعضهم كي يؤكِّد أنه رآهما بنفسه … وأضاف البعض من عنده ما يؤكِّد أن الصلصيل هو الذي أرسل الجارية من قبل عندما سمِعَ عن جمال المارية.
ضاق صدر القاضي بدير بهذه الحكايات … فلجأ إلى أبي زيد ليفتح له الكتاب أو ليقرأ الرمل، أو يستخدم قدراته الخفية السحرية، ليبين له وجه الحقيقة؛ حتى يرتاح قلبه … وهو يُقسم له أنها لو كانت قد ذهبت إلى الملك الصلصيل بنفسها، فسوف يوافق على زواجها منه … وقد يكون ذلك هو السبيل لوقف هذا الاقتتال المُفجِع، الذي لا تبدو له نهاية.
– قد يكون زفافها إليه السبيلَ إلى السلام، يا أبا زيد … لكن لا بد أن نعرف … وأن يكون هذا برضائي … ارحمني يا أبا زيد … فالشكوك تكاد تقتلني … والشعور بالعار يشقُّ قلبي.
•••
في اليوم التالي قرَّر أبو زيد ألَّا يخرج للقتال. فسخر دياب وهو يقول: مرة أخرى تفضِّل أمور السِّحر والكيمياء على القتال … ألذلك غضبتَ لأنني رددتُ رسولهم خائبًا، وأهنته وأهنتهم لأنهم يريدون نهبَ أموالنا.
قال أبو زيد دون أن يتحرَّك من أمام باب خيمته: ما دمتَ استطعت أن تقنع الأمير حسن بما فعلتَه يا دياب … فحاول اليوم أن تبرِّر له كلَّ هذه الخسائر … فقَدْ تعيد الفرحة إلى قلب القاضي بدير … بأن تعيد إليه ابنته المارية.
أدار دياب فرسه في كبرياء وهو يقول: فلتبقَ في الخباء يا أبا زيد … ولسوف تنصرني اليوم الأرض والسماء معًا … لأُذيق ملوك العجم الردى لتطاولهم … ولتعُد أنت لكتبك وأباريقك … أعانك الله على ساعات ضيقك.
وانطلق دياب ومعه الأمير حسن على رأس الهلالية إلى المعركة، حيث كانت جيوش الأعجام … منتشرة فوق التِّلال والسهول في أبَّهة ونظام.
كان دياب قد أقنع الأمير حسن بصحة ما فعله مع رسول ملوك العجم … لأنهم لو استجابوا لهم لطمعوا في كلِّ ما حصلوا عليه من غنائم الدبيسي.
وكان الأمير حسن قد عاد من نَجْد بعد أن حمل إلى أهلهم هناك الكثيرَ من الخيرات والأنعام، التي كسبوها خلال معاركهم السابقة … ولمَّا عاد كانت شهيَّته قد تفتَّحتْ للمزيد من الغنائم … ولذا أقرَّ دياب على خطته، وخرج معه رغم أنَّ رجاله كانوا متعبين من الرحلة … وصوَّر له دياب أنَّ كلَّ شيء على ما يُرام.
ولكنهم ما إن خرجوا للأرض المكشوفة حتى انقضَّتْ عليهم جيوش العجم … من كلِّ ناحية … وبذل الهلالية كلَّ ما لديهم من جهدٍ وقوة … ولكنَّ الدائرة دارتْ عليهم … فقَدْ كان العجم يخرجون إليهم فيلقًا وراء فيلق … وجيشًا وراء جيش … حتى حصروهم وحاصروهم … فتراجعوا مدافِعين عن أنفسهم حتى وصلوا إلى مشارف المضارب وازداد الصراخ والعويل … ولمَّا وصلت بعض النساء إلى خيمة أبي زيد تستنجد به وتستثيره … ترك ما بيده وأخذتْه النخوة … واندفع فوق حصانه شاهرًا سيفه يهاجم العدو … ويشدُّ أزر المنسحِبين ويُعيد الرُّوح إلى الخائفين وهو يصيح صيحاتٍ تهتزُّ لها الجبال … حتى صدَّ الهجوم ومنع تقدُّم العدو.
واستعاد الهلالية مع صرخاته وصيحاته عزمهم … فقويتْ روحهم وصاروا يكرُّون حوله وخلفه … حتى استطاعوا استعادةَ زِمام النصر … وحرَّروا مَن وقع في الأَسر … وردُّوا العجم عن المال والحريم … وسبحان الله العظيم مبدِّل الهزيمة نصرًا.
وعندما عاد أبو زيد بعد أن هبَطَ المساء وحوله الجند يهتفون وسط زغاريد النساء.
قال له الأمير حسن: مِثلك تكون الأبطال يا زينة الرجال.
وقال دياب في خجل: لولاك يا فارسَ الفرسان لكنَّا في خبر كان.
بينما تعلَّق القاضي برقبة فرسه وهو يصرخ: لكنني أريد المارية؛ فما زالت في الأَسر ضحية.
فطيَّب أبو زيد خاطره وقال: اطمئنَّ يا قاضي العرب … غدًا ستعود لك ابنتك أيها الشيخ الجليل … وستَشفي عودتُها ما بقلبك وقلبي من غليل.
•••
قبيل الفجر، تسلَّل أبو زيد ومعه أبو القمصان وبدر بن غانم وقد ارتدوا ملابسَ الأعجام … وتسلَّلوا إلى مدينة الكوفة مع الداخلين إليها من تجَّار ورعاة وباعة وسمَّاكين وجمَّالين … كان الجنود يراقبون الداخلين والخارجين في حذَرٍ وتدقيق.
ولكنَّ لغة أبي زيد الفارسية، سهَّلَت الأمر عليهم؛ فأخذوا يعرضون ألعابهم في السوق … ولعب أبو القمصان دورَ المهرج المُضحِك البهلوان … بينما راح أبو زيد يقوم بدور المصارع الجبَّار الذي يأكل النار … ويفكُّ سلاسل الحديد … بينما بدر بن غانم يلعب دور الأخرسِ الذي يقرأ الفنجان.
وكان أبو زيد يقود جماعته عبْرَ حواري وشوارع الكوفة التي يعرفها تمامًا … حتى حلَّ الظَّلام … وخفَّ حولهم الزِّحام … وتفرَّق الناس كلٌّ إلى بيته … فتغيَّر الحال.
وقفزوا في خفَّة الفهود، وتسلَّلوا إلى قصر الملك الفرمند، حيث عرفوا من أحاديث الناس وثرثرة الحرَّاس … ما جرى بين ملوك العجم حين رأوا جمال المارية. وكيف قرَّروا، منعًا للخلاف والاختلاف، إهداءها إلى الملك الفرمند … وكيف خضَعَ الصلصيل لقرارهم على مضض.
•••
كالفهد قفَزَ أبو زيد، وتسلَّق شجرةً باسقة تطلُّ على القاعة الرئيسية، حيث تجمع ملوك العجم وحريمهم، يحتفلون ويتدارسون الموقف، بعد ظهور أبي زيد وصدِّه لهجومهم.
ولمَحَهم جالسين على عروشهم، حول عرش الملك الأكبر الفرمند، والمارية وسط الحريم كالقمر، بعد أن ألبسوها ملابس الأميرات … وكانوا يستمعون للغناء وهم يأكلون ويشربون.
حاول الملك الفرمند أن يعطي المارية كأسًا من الشراب، فرفضت وقالت له: نحن بنات العرب لا نشرب إلا لبنَ النُّوق يا ملك.
فضحك الفرمند وضحك معه الجميع، ما عدا الملك النعمان الذي كان، وهو العربي، حزينًا لأَسر المارية، التي يعرف أصلَها وفصلَها … وأخذ يتحيَّن الفُرَص لإنقاذها.
وأمر الملك الفرمند أن يحضروا العُود لمارية؛ لتسمعهم بعض غناء العرب … الذين يُعرف عنهم أنَّهم يعلِّمون نساءهم فنون الطَّرب.
وعزَّت على المارية نَفْسها، أن تكون مغنيةً تطرب أعداءها … ولكنها أمام إصرار الملك، تناولَت العُود وأخذت تغالِبُ حُزنها وبكاءها، وغنَّت فطرب السامعون إلا أبا زيد؛ فقَدْ مزَّقت الأغنية قلبه … إذ كانت تناديه أن يُنقذها ممَّا هي فيه.
ولمَّا زاد طرب الفرمند، أمَرَ لها بكأسٍ من الخمر، ولكنَّها رفضت إطاعةَ الأمر، وذكَّرتْ بأنها لا تشرب إلا لبن النُّوق والغنم … وليست كبناتِ العجم.
وهنا تدخَّل الملك النعمان وقد زادت به الأشجان … وكان الملك الفرمند متزوجًا من ابنته هند فائقة الجمال … وكان له عليه بعض الدلال.
وطلب من الفرمند قائلًا: أَعفِها من هذا الكاس … فهي ليست كغيرها من الناس … وتناول الكأس وشربه هو … وقال للملك … سوف آخذُ المارية إلى بيتي بعد إذنك؛ لتكون في الحفظ والصون حتى تنتهي الحرب … فقَدْ يكون من سلامتها ما يساعدنا على إملاء شروطنا.
وهنا اندفع الصلصيل مُعترِضًا: أنا الذي أحضرتُها، وما دام الملك الفرمند لا يريدها؛ فأنا أحقُّ بها … أنا الذي كسوتُها فاخرَ الثياب وسآخذها إلى قصري.
وكادت تنشب بينه وبين النعمان معركة؛ إذ جرَّدا سيفَيهما … وكاد أبو زيد نفسه يقفز إلى الداخل، لولا أنه تماسك حتى يرى ما ينتهي إليه الأمر … إذ زعق الملك الفرمند في الصلصيل ونهاه، وسمح للنعمان أن يصحبها إلى قصره … حتى يفكِّر في الأمر وينفِّذ ما يراه.
– لستُ أريد أن ينشب بينكما خلاف … ولكن متى ظفرنا بهؤلاء العرب سوف نرى ما نفعله بها … أمَّا الآن فلْتذهب مع النعمان … حيث تجِدُ بين أهله من تتكلم معه … ولْيعاملها كأميرةٍ وليس كأسيرة.
ونزل أبو زيد بسرعة من على الشجرة … وحكى لزميلَيه ما جرى … وانتظر خروج النعمان، فتبعه معهم إلى قصره … حتى اطمأن على سلامة المارية … ولمَّا اعترض زميلاه على تركها تذهب معه … قال أبو زيد: إنها في بيت النعمان في أمان … هذا الرجل النبيل … يستحقُّ كلَّ جميل … فلا يجب أن نُحرجه أمام الأعجام … وسوف نُعيدها إلى أبيها بعد أيام … حين ننتصر عليهم … ونفرض السلام.
