واحدة بواحدة

قال الراوي …

بعد حروبهم وانتصارهم على الأعجام، وصل بنو هلال إلى بلاد الشام … ودارت بينهم وبين ملوكها وأمرائها حروبٌ يشيب لهولها الولدان.

وكان لحكمةِ أبي زيد وحُسن تقديره للأمور … فضلٌ كبير لمَا هم فيه من انتصار وسرور … فقَدْ كان يقدِّر لرِجله قبل الخطو موضعَها. وكان يختار للمعركة التي يدخلها موعدها وموقعها.

وحين وجَدَ أن جيوش الملك برديس، ملك «حلب»، أقوى من جيوش بني هلال … من حيث العتاد والسلاح والرجال … وافق على أن يدفعوا له عُشر الأموال … ولكنَّه دبَّر أن يرحلوا بأموالهم تحت جُنح الظلام … ممَّا أثار غضب برديس؛ فصمَّم على الانتقام.

وخرجتْ جيوشه بقيادة وزيره الخزاعي تطاردهم … حتى لحقتْ بهم، وكان الحظُّ يعاندهم … ولمَّا برز الخزاعي يطلب أبا زيد للنزال … خرج إليه مُثقَل القلب مشغولَ البال … ولذا تمكَّن الخزاعي من إصابة الجواد؛ فسقط أبو زيد يتخبَّط فيما عليه من سلاحٍ وعتاد … وهنا هجم ديابٌ على الخزاعي ليُلهيه ويعطي فرصةً لأبي زيد أن يركب جوادًا آخر يُنجيه.

وجال الفارسان واشتدَّ بينهما القتال … حتى استطاع ديابٌ أن يضرب الخزاعي ضربةً فقتله في الحال … وهنا هجمتْ جيوشُ «حلب» … وقد تملَّك من ملكها برديس الغضب … ولكن الزغبي دياب، تصدى له في قوة غير هيَّاب … حتى استطاع أبو زيد أن يجمع أشتات بني هلال … ويقودهم من جديد إلى القتال … وظلَّت المعركة تدور بين الجيشَين … حتى حلَّ المساء وهبط الظلام … ففصَلَ الليلُ بين «بني هلال» وجيوش الشام.

وشكَرَ الأمير حسن لدياب ما فعله مع أبي زيد الهلالي، لكن دياب قال له: يا أمير لا تُبالِ … فلَمْ أفعل سوى ما يُمليه عليَّ واجبي … وسيظلُّ أبو زيد رغم كلِّ شيء حبيبي وصاحبي.

وكالعادة … ظنَّ الأمير حسن أن ديابًا يعرِّض بما فعله معه … حين لامه بشدَّة وأسمعه كلامًا أوجعه … يوم تسبَّب في إشعال الحرب مع الأعجام، بينما كان من الممكن أن يعبُروا أرضهم في سلام.

حينئذٍ قام أبو زيد واحتضَنَ ديابًا وشكَرَه على إنقاذِ حياته، بتدخُّله في اللحظة المناسبة، فكان سببًا في نجاته.

وقضى الجميع الليل في استعدادٍ لمعركة اليوم التالي … وهم يتعاهدون على أن يدفعوا في سبيل هزيمة برديس كلَّ رخيص وغالٍ.

وفي الصباح، خرج إليهم برديس وفي قلبه تشتعل نيران الرغبة في الانتقام، لمقتل وزيره الهُمام … وخرَجَ إليه دياب على الفور، بعد أن طلب من أبو زيد أن يترك له الدور … واستطاع دياب بعد قتالٍ دام طويلًا، أن يُردي برديس قتيلًا.

فلمَّا رأى جنوده ما حدث له؛ زاد غضبهم … وهجموا هجمةَ رجُلٍ واحد لينتقموا لمَلِكهم … واشتبك الفريقان، وجرى بينهم الدم وسال. ووقَعَت النِّصالُ على النصال … وتزلزَلَت الأرض من ضجيج الأبطال … حتى أحسَّ جيشُ حلب أنَّ الدائرة قد دارت عليهم، وأيقنوا من الانكسار؛ فلاذوا بالفرار … وتحصَّنوا بأسوار المدينة، التي باتت مهزومة حزينة.

ولمَّا أتى الصباح … خرج التُّجار والأعيان، وعلى رأسهم الأمير جمال بن الملك برديس يطلبون الأمان، وأن يعامل بنو هلال أهلَ المدينة بالإحسان … وأقام بنو هلال في مدينة حلب عشرةَ أيام … في سلام واحتفالات وطرب.

ثم تجهَّزوا للرحيل قاصدين مدينة «حماه» … محمَّلين بأطنان ممَّا افتدتْ به حلبُ … نفسها من الفضَّة والذهب.

وودَّعهم أهلها في فرحٍ وسرور، بعد أن تصالحوا معهم وسوَّوا ما بينهم من أمور … إلا واحدًا من تُجَّارها … كان اسمه كساب … لم يغفر أبدًا لدياب قتله للملك برديس … وما سبَّبه هذا له ولتِجارته من خراب.

صلُّوا على المصطفى الهادي يا أولي الألباب، واستغفروا المولى عالِم الغيب ومسبِّب الأسباب.

•••

كان كساب من أشهر تجَّار المدينة وأغناهم، وكان أقرب التجار للملك المقتول برديس؛ لأنه كان حلقة الاتصال مع ملك «قبرص» المسمَّى بالهراس.

وكان الهراس يسيطر على تجارة العبيد في شرق البحر المتوسط، يخطف الأطفال من بلاد الشام والعجم، ويهرِّبهم إلى قبرص، حيث يأتي تجَّار العبيد من أوروبا لبيعهم هناك في المزارع والمناجم.

وكان برديس يحمي كسابًا ويشاركه هذه التجارة … التي كانت تقوم على مبادلة المخطوفين بكافة أنواع البضائع.

وقد حدث، قبيل مقتل الهراس، أن كانت قافلةٌ كبيرة له عائدةً من «قبرص»، محمَّلةً بمختلف البضائع، فوقعت في يد دياب والزغابة … ولمَّا قتَلَ دياب برديس؛ انقطع أملُ كساب في استرداد بضاعته، التي كان الاستيلاء عليها كارثةً تكاد تقضي عليه وعلى ثروته … بل وعلى مكانته عند الهراس … فقرَّر أن يذهب إلى الأمير دياب، يرجوه أن يردَّ إليه ما اغتصبه من أمواله … فضحك دياب وقال: أنا لا أعرفك يا رجل، وهذه القافلة كانت ملكًا لبرديس، كما تدلُّ كل الأوراق … وكما قال الرجال المصاحِبون لها … كيف تدَّعي بعد ذلك أنَّها مِلكٌ لك؟!

فتوسَّل إليه كساب، وحاول أن يشرح له العلاقة فقال: يا سيدي … أنت لا تفهم.

ولم يتركه دياب يكمل كلامه، بل هبَّ غضبًا شاهرًا سيفه … زاعقًا: أنا لا أفهم يا كلبَ حلب … اغرُب عن وجهي، والله لولا سنُّك لقطعتُ رأسك … وفرَّ كساب مهرولًا من أمام دياب والحسرة تأكل قلبه … وخاف أن يبقى في المدينة؛ فهرب إلى قبرص، يشكو المصيبة لشريكه وصديقه الملك الهراس … الذي استشاط غضبًا وأقسم أن يخطف ديابًا نفسه … ويذيقه العذاب بيدَيه.

وكان عند الهراس ثلاثةُ شبَّان من البهلوانات، كانوا يشتغلون في سيرك متجوِّل … ويلعبون في الأسواق والأعياد ألعابَ خفَّة اليد والمصارعة والمشي على الحبال. ألحَقَهم بخِدمته وجعَلَهم من المقرَّبين جدًّا من حاشيته وخاصته … يرفِّهون عنه ويتجسَّسون لحسابه … ويهيِّئون له كلَّ متعة ويحقِّقون له كلَّ رغبة، فلمَّا رأوه مهمومًا مغمومًا … أخذوا يروِّحون عنه بكلِّ الوسائل … فلَمْ يبتسم وجهه، ولم ينشرح صدره إلا حين أكَّدوا له أنهم قادرون على انتزاع دياب من فوق فرسه، ولو كان في قوة «شمشون» … وإحضاره إلى قبرص خاضعًا ذليلًا، ولو كان في «برج بابل».

وعلى هذا الوعد … أسرعوا بتجهيز مركبٍ بكلِّ ما يحتاجونه من بضاعةٍ وأدواتٍ وموادَّ، وأخذوا معهم من الهدايا والعطايا ما يليق بالملوك … وأبحروا إلى اللاذقية دون تأخير.

وكان الثلاثة يُتقنون من اللغات، ما يجعلهم يبدون كأنهم من أبناء البلد التي ينزلون إليها … وقد أكسَبَهم تَجوالهم وسط الأسواق في كل بلدان شرق المتوسط؛ خبرةً بالناس وبالحيل والحكايات، ما يشقُّ لهم أيَّ طريق، ويسهِّل أمامهم كلَّ صعب، فقد كانوا مهرِّجين وممثلين ومصارعين وسحرة.

وما إن وصلوا، حتى أمَّنوا حراسة مركبهم، وحملوا معهم ما خفَّ وغلا من الهدايا، وبدلوا ملابسهم، وانطلقوا يتبعون أثر بني هلال.

وما إن وصلوا إلى «حماة» … حتى طلبوا المثول أمام الأمير دياب؛ فقد أحضروا له ولأمراء الهلالية من الهدايا ما يأخذ بالألباب، ويفتح عَصيَّ الأبواب.

– هذا يا سيدي سيف العقرب، الذي يلدغ مثل العقربة السوداء؛ فلا نجاة للملدوغ به ولو بشكَّة.

– وهذا خنجر إمبراطور الهند وملك السيخ، الذي يقطع الشعرة الطائرة في الهواء.

– وهذا إبريق فضَّة، صنعه حارس النار في جبل «الأولمب» بنفسه هديةً لأمِّه … ولا يفرغ منه الماء، ما دام غيمٌ في السماء.

وفهِمَ دياب منهم أنهم ينوون إهداءَ كلٍّ من هذه العجائب الثلاث، مع مملوكٍ أشقر الشعر، مليح الوجه، من بلاد الغرب، لا يقدَّر بمال … إلى كلٍّ من حسن بن سرحان، وأبي زيد الهلالي، والقاضي بدير بن فايد.

كانوا يعرفون كيف يثيرون غيرة دياب وحنقه على هؤلاء؛ بسبب تهوُّره، وبسبب ما به من غباء يتعلَّق بما يمسُّ كرامته، أو يضعه في مرتبةٍ دنيا عمَّن ذكروه من أسماء.

– ولماذا تأتون إليَّ تطلبون حمايتي وأنتم تفضِّلونهم عليَّ؟ … اذهبوا إليهم أيها الأشقياء.

وصنَعَ فعْلُهم ما قصدوه … فطيَّبوا خاطرَ دياب، وأقنعوه أنهم لم يأتوا إلا إليه … وهذه الهدايا له يفرقها على مَن يشاء ويعطيها لمَن يريد … أو يحتفظ بها إن شاء.

– ومع ذلك فهديتك أكبرُ قيمة … فنحن نعرف أقدار الرجال … يا سيد أبطالِ بني هلال.

ووضعوا أمامه صندوقًا يحمله رجلان بصعوبة، ما إن فتحه حتى خطَفَ بريقُ اللؤلؤ والجواهر عينَيه … وملأ قلبه غبطةً وسرورًا، ووضَعَ على عقله سُتورًا … وقالوا له إنهم لا يطلبون حماية غيره … فهو وحده القادر على تأمين تجارتهم الفاخرة الغالية، خلال نقلها من اللاذقية إلى حماة … وكان غرضهم من إهداء تلك الهدايا للمذكورين أن يأمنوا شرَّهم عليه … وأن يُبعدوا عنه أطماعهم.

وأصاب كلامهم عقل وقلب دياب في مقتل، خاصَّة أنَّهم أكَّدوا له أنَّ هذه التجارة كان يحميها برديس، وأن قاتله هو الأحقُّ بنصف الأرباح، التي كان يأخذها لقاءَ حمايته لهم.

قال دياب: سأفعل … ولو كانت بضاعتكم تحتاج لمائة ناقة … لقُمت بحِراستها بنفسي … وسوف آتي معكم وحدي؛ لكي أعاين بضاعتكم وأهيِّئ لها كلَّ سُبل الأمان.

وعلى الفور … ركب الثلاثة عائدين بصيدهم إلى اللاذقية.

وحرص دياب على ألَّا يراه أحد من رجاله … ولكنهم ما إن خرجوا من حماة حتى لاقاه الأمير عمَّار أخو الأمير حسن … فناداه: إلى أين تقصد وحدك يا ابن غانم؟ ومَن هؤلاء الأغراب؟

فارتبك دياب، ولكنَّه تمالك نفسه وقال: لا تشغل بالك يا عمار … إنهم ضيوفي الشرفاء، أصحبهم على الطريق؛ لأجنِّبهم الغوغاء والسفهاء.

أصرَّ عمار أن يذهب معه على غير رغبته: دعْني آتي معك لأعود معك.

لكن دياب زجره: وهل أنا في حاجةٍ إلى حمايتك … أشكُر لك همَّتك، ولكني كفيلٌ بذلك؛ فلا تُتعب حالك … وارجع.

وعاد الأمير عمار إلى الديار.

بَينَا انطلَقَ دياب مع البهلوانات الثلاثة، حتى أشرفوا مع الفجر على البحر … ولم يكُن دياب قد سمع أو رأى بحرًا في حياته … وكانت الليلة بلا قمر … والبحر هائج؛ فأُرتِج عليه.

وبلغ دويُّ الماء أذنَيه كأصوات شياطين أُطلقت من حبوسها … وأطبقت عليه أوهام الغدر والخيانة … خاصة عندما رأى الثلاثة غيرَ مبالين بهذا العصف والقصف، الذي لا يعرف له مصدرًا، ولا يفهم له سرًّا ولا تفسيرًا.

وكاد يُصيبه المرض، وأحسَّ بدُوار، كأنَّ روحه تُنتزع من بين ضلوعه … ولمَّا وصلوا إلى حيث السفينة؛ رفض أن يركب معهم. ولما لاحظوا ما أصابه … ترفَّقوا معه وطيَّبوا خاطره … وأسرع أحدهم فأحضر خيمةً رائعة، نصَبَها على الشاطئ. وحين دخلها رُدَّت إليه رُوحه … وعاد إليه وعيه … إذ كانت خيمةً رائعة … صفراءَ مذهبةً بخيوط الذهب، ومرصَّعةً بالجوهر والمرجان والزمرد الأخضر … مفروشةً بالطنافس والأرائك … ولمَّا سَقَوه بعض الشَّراب انتعش … فأخرجوا له من إحدى البقج بذلةً إمبراطورية مزدانة بكلِّ فاخر وباهر … لبسها دياب فظنَّ نفسه إمبراطور الروم والعجم … وعاد له اطمئنانه فابتسم، وأتوا إليه بالمأكل والمشرب … وجلسوا حوله يطيِّبون خاطره، ويشرحون له ما ظنَّه من صُنع الجِن … وحكوا له عن البحر وما وراءه … وعزَفَ بعضُهم على السنتوري ألحانًا راقصة، حتى اطمأن تمامًا … فبنَّجوه … في الحال … وقيَّدوه بالسلاسل والحبال … وحملوه إلى المركب، التي سرعان ما فردتْ أشرعتها … وحوَّلت دفَّتها مع المدِّ إلى «قبرص»، إلى الهراس قاتِل الرجال.

ولمَّا أفاق دياب في الصباح، وجد نفسه مقيَّدًا إلى الصاري الرئيسي على السفينة … وكلُّ مَن حوله يرتدون ثيابَ الأغراب؛ فتأسَّف على حاله وندم، وعرف أنه قد أُخِذ غدرًا من نقطةِ ضعفه، التي تطارده أينما راح … وهي تهوُّره وغروره الذي لا يفلُّه سلاح.

قال الراوي …

ولمَّا غاب دياب، عمَّ القلقُ الهلاليةَ … وحين حكى عمَّار ما حدَثَ منه حين قابله مع الأغراب … عرَفَ الجميع أنَّه وقع في مكيدةِ شيطانه … وخُدع بحيلةٍ بهلوانية … فلجَئُوا لأبي زيد الذي ضرَبَ الرمل وفتح الكتاب … فعرف أنَّ ديابًا مأسورٌ في قبرص وأنَّ الهراس يسومه العذاب.

ورغم أنَّ شماتةً خفيَّة برقتْ في قلب الأمير حسن … إلا أنه لم يستسلم لها … وطردها في حُزن وشجن. ولمَّا رأى أبو زيد حاله … قال له: يا أمير، أنا سأخلِّص الأسير … لقد أنقذ بالأمس حياتي وكنتُ قد أيقنتُ مماتي، وسأرد له الجميل … وتكون واحدة بواحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤