حِلْمَك يا دياب!

اشتدَّ الكرب ببني هلال … وضاقت عليهم الحال.

أبو زيد في الغرب مريض يعاني من عضة الثعبان، ودياب في الشرق يرعى القطعان، من إبل وأغنام، والزناتي الذي قتَلَ الخفاجي عامر والقاضي بدير يصول ويجول طالبًا النزال والقتال، منتهزًا فرصةَ غياب الأبطال.

وفي كلِّ يوم يخرج إليه فارسٌ من الفرسان … فلا يلبث — إن طال بينهما القتال أو قصر — أن يُجَندِله أو يقتله … حتى قتل أكثر من ثمانين أميرًا، ما بين كبير وصغير، كان أولهم وأكبرهم القاضي بدير.

•••

قالت «الجازية» للأمير حسن: لقد فتحتُ ملحمةَ أبي سرحان … التي أقرأ فيها ما سيكون، على ضوء ما كان، بإذن الواحد الرحمن، فأخذتْني الأوراق والحروف … وصرَّح لي الكتاب أنَّه لا يقتُل الزناتي سوى الأمير دياب، وأنت يا أمير حسن أرسلتَه ليحرس القطعان وليرعى الغنم في الوديان … فابعث إليه كتابًا على وجه السرعة كي يعود … قبل أن يُفني الزناتي بقيَّة الجنود.

فقال الأمير حسن: ارفعي يا «جازية» همَّ دياب عني … هو لن يُجيبني أو يسمع مني.

فأسرعت «الجازية» إلى صيوانها … وكتبتْ كتابًا لدياب، تستنجد به وتستغيث، وتستحلفه بدماء الضحايا، ومنهم أخوه بدرٌ خير الفرسان، وموسى حامي العربان، ومثلهم ثمانون من زهرة الشباب والشيوخ … ولمَّا نزعت من الكتاب … نادَت النجَّاب الرسول … وطلبتْ منه ألَّا يجعل أيَّ شيء يعطِّله في الطريق، وأن يضع نُصب عينَيه ما هُم فيه من ضيق … ثم جمعتْ حوله البنات العذارى، اللاتي قُتل آباؤهنَّ أو إخوتهنَّ، والأمهات اللاتي قُتل أبناؤهن … ليخبرنَه أنَّ دموعهنَّ ستظلُّ على الخدود، تناديه وتنظُره حتى يعود. ومعه ديابٌ دون تأخير أو غياب … وأخَذَ النجَّاب سعدٌ الكتاب. وانطلق يطوي السهول والهضاب، ويصِلُ الليل بالنهار لمدَّة عشرة أيام … حتى وصل إلى مكانٍ فسيح مليء بالأشجار … يانع الأزهار … يحيط بمدينةٍ عالية الأسوار؛ فأخَذَ يدور حولها … ليجِدَ سبيلًا للدخول إليها، فوجدها شيئًا يحيِّر العقول في المنعة، ووجَدَ على بابها الكبير لوحًا من الذهب مكتوبٌ عليها تاريخها في ألفِ عام … يحكي أنَّ أهلها كانوا من الكِرام. وكان بها ألفان من الجوامع وألفان من الحمامات والأسواق … ولا يوجد مثلها في مصر ولا في العراق … ولكنَّ الفساد بدأ يستشري فيها … فجاب عاليها واطيها، وسبحان مدبِّر الأرض ومَن عليها.

ورأى النجَّاب سعدٌ بالقرب منها نهرًا رائقًا وحدائقَ وأعنابًا … وعيونَ ماءٍ رائق … فنزل من هجينه؛ ليُريحه ويستريح … ولكنَّ الهجين شطَّ عنه. فلَتَ منه وسار، نحو قطيعٍ من الجِمال تآلَّف معهم وتآلفوا معه … فلمَّا ذهَبَ ليُرجعه … هاجمه رجالُ صاحبِ المكان وقبضوا عليه … وأخذوه لحاكمهم الذي حكَمَ بالموتِ عليه؛ جزاءَ تعدِّيه على أرضه. وكان سعدٌ قد ربَّى ذلك الهجين منذ الصِّغر، لا يفارقه في مقامٍ ولا سفر، يتبعه إلى أين راح … فلما رآه مربوطًا والناسُ حوله في صياح … شقَّ صفوفَ الناسِ واقترب منه … وأخذ يلعَقُ وجهَهَ بشفتَيه، وكأنه يهمس في أذنَيه، ودموعه في عينَيه … فكبَّر الناس وهلَّلوا … ورأى الحاكم المنظرَ فأذهَلَه … فأرسَلَ لحرَّاسه أن يأتوا بهذا الرَّجُل إليه، وقال له: هل أنت سحَّار؟

فردَّ سعدٌ نافيًا: لا وحقِّ الواحد القهَّار … ولكنَّ الإنسان حين يُطيع الله في كلِّ شيء … يُطيِّع له اللهُ كلَّ شيء.

وهنا قال الملك: عندك حقٌّ … وفي بعض الأحيان، يكون الحيوان أكثرَ وفاءً من الإنسان.

وأطلق سراحه بعد أن خلَعَ عليه خلعةً ملكية … ولم يصدِّق سعدٌ أنَّه نجا من الشَّنق، فانطلق يسابق البرق، حتى وصَلَ إلى وادي الفضاء وبرِّ غلامس، بعد المرجة الخضراء، حيث دياب يقوم هو ورجاله من الزغابة، بحراسة قطعان بني هلال من الوحوش والديابة.

وكان هذا الأمر قد حزَّ في نفسه، ولم يغفر للأمير حسن أنه أبعده عن القتال … ليرعى الغنم والجِمال … وهو فارسُ الفرسان، وقاهرُ الأبطال والشجعان.

ولمَّا سأله دياب عن أحوال الأهل والخِلان … بكى سعدٌ بكاءً مرًّا … وراح يقصُّ عليه ما حدث منذ رحيله ثم غياب أبي زيد … ومقتل القاضي بدير ومن بعده عقل وأخيه معيقل … وما حدَثَ لأخيه البدر … ثم حكى قصة مقتلِ ضيفهم الخفاجي عامر … ثم أخبره أن هناك الكثير من الشباب والعذارى تيتَّمن، ومن الأمهات ترمَّلن … ولمَّا سأله عن أحوال الزناتي إن كان قد رآه، فأخبره بما عاينه من هولِ منظره … وما سمعه عن علمه ومعرفته بعلوم النحو واللغة وعلوم الفلك والسِّحر والأبراج … وكيف أنَّ الأهل صاروا مرعوبين منه، لا يجرؤ أحدهم على الخروج إليه.

•••

جلَسَ دياب ساهمًا يفكِّر فيما فعَلَ بنو هلال معه … فقرَّر أن ينتقم لكرامته … ليَشفِي نفسه من علَّته ومرارة نفسه، وأن يسقيهم كأسًا أذاقوه من مرارته. فكتَبَ كتابًا للأمير حسن … يطلب منه إرسال براقع بنات الميتَّمين من بناتِ القتلى الأمراء الثمانين، وهدَّد بأنه لن يعود إليهم إن لم يُرسلوا ما طلبه وسيظلُّ في وادي الفضاء يرعى الأغنام، ولن يشارك في القتال أو يعود إليهم … ولو انطبقتْ على الأرض السماء.

حين وصَلَ سعد إلى مضارب بني هلال وحده؛ تجمَّعت حوله بنات المغدورين وزوجات المقتولين، على يد الزناتي، وهم غير مصدِّقين أنْ يرفض ديابٌ نجدتهم والانتقام لهم، خاصَّة وقد قُتل إخوةٌ له فيمَن قتَلَ الزناتي.

ولكنَّ «الجازية» عندما عرفتْ شرط دياب … عرفتْ بما فكَّر فيه … وعذرتْه؛ لأنَّ ما فعله حسن معه، كان شيئًا لا يليق … أهان ديابًا وأوقع بني هلالٍ كلَّهم في الضيق.

فقامت على الفور، وذهبت إلى ميدان القتال، وأخذت تجمع تجلُّطات الدماء من على الأرض … والتي جفَّت على الرمال، فصارت مثل كُبود الجِمال … ثم ملأتْ بعضَ القدور بالماء وسخَّنتْها على النار، وبعد ذلك ألقتْ بالدماء الجافة فانثلَّت من سخونة الماء … ثم صفَّت الخليط وتركته يبرد، وأحضرَت براقعَ العذارى وكتبت على كلِّ برقع اسمَ صاحبته واسم زوجها أو عمِّها أو أخيها أو ابنها القتيل … ثم طبَّقت البراقع ووضعتْهم في قاع جراب، وغطَّتهم بالتمر، وقالت لسعد الهجين أو سعد النجَّاب: إذا سألك الأمير دياب ما الذي معك في جرابك؟ … قُل له إنَّ هذه زوادتي … فإن قال لك أطعمني فاكبشْ قبضةَ تمرٍ منها وقدِّمها إليه … عندئذٍ سوف يغضب ويثور ويتَّهمك بالبُخل، وحين يهجم عليك ليأخذ الجِراب منك … لا تُعطِه له إلا وأنت مُمسك بالشهبا فتكون تلك حصنًا أمينًا من غضبه وثورته … فقال سعد لها: سمعًا وطاعة.

•••

ثم إنه فعَلَ بالضبط مثلما قالت له … وحين غضِبَ دياب، وانتزع منه الجراب؛ أسرع واحتضن رقبة فرَسه الشهبا كأنَّه يستنجد بها … ولولا ذلك لقطع ديابٌ رأسه … لأنَّ غضبه قد زاد، وملك منه نفسه عندما دسَّ يده في الجراب وأخرَجَها؛ فخرجت ببرقع زوجة الخفاجي عامر … فاختنق من الغيظ ودسَّ يده مرة أخرى … فخرجت ببرقع زوجة بدر بن غانم، ثم برقع زوجة موسى.

وكلما خرج برقع فتاة أو امرأة وليس منهنَّ إلا قريبة أو عزيزة؛ انتفض دياب وصاح … صيحةً زلزلت البطاح. وهاج وثار، ولف ودار وهو يرفع سيفه يريد أن يهدِّئ غضبه ويفشَّ غلَّه … ولم يكُن أمامه سوى سعد فهجَمَ عليه … ولكنَّه لمَّا رآه يحضن فرسه الغالية العزيزة عليه … هدأت نفسه قليلًا، وكاد يضحك من منظره، وهو لا بد تحت بطنها وقد احتضن ساقَيها مرعوبًا مقطوع النفس كالفأر المحاصَر؛ فقال له: عليك الأمان يا سعد، والله لولا الخبز الذي بيني وبينك لكنتُ أطحتُ برأسك … ولو كان مكانك حسن الهلالي … لكنتُ مزَّقتُه ولا أبالي.

أخَذَ سعد النجَّاب يتحرَّك في بطء وهو لا يصدِّق أنه نجا من هذه الغضبة الهائلة.

وأخَذَ يراقب ديابًا وهو يجزُّ على أسنانه، ويعاني من السيطرة على مشاعره، التي كانت تغلي بالغضب مما فعله حسن الهلالي به، وحكمه عليه أن يخرج من القتال ليعمل حارسًا وراعيًا للمال والجِمال … وقلبه يكتوي بلهيب الحزن على كلِّ هؤلاء الفرسان الذين راحوا ضحايا خلوِّ الساحة أمام الزناتي … في غيابه.

كان يدور في المكان كسبعٍ وضعوه في قفص … وسعدٌ يراقبه وقد قطَعَ النفس … وأخيرًا الْتفت ديابٌ إليه وقال: فلْيسمع حسن الهلالي كلمتي … ولْيدفع ثمَنَ إهانتي … وغيبتي عن أهلي وعشيرتي … اذهبْ وقُل له إنني لن أركب، ولن أقاتل الزناتي، ولن أقتله … إلا إن جاءني هنا ثمانون من أمراءِ هلال … ومثلهم من فقرائها، ومثلهم من فقهائها حاملي القرآن … كما أنزل على سيد ولد عدنان … وعلى رأسهم أبي غانم وأختي غنيمة … ساعتها سوف أعود معهم لنجدتهم ولأقتل الزناتي وأفرِّج عنهم كُربتهم.

ابتسم سعدٌ في مكر، وقام من مكانه تحت الشهبا وهو لا يصدِّق أنه نجا … وقال له مداهِنًا: يا فارسَ الفرسان ومُجندِل الشجعان … ألَا ترى أننا نضيع الوقت … والزناتي يصول ويجول وينتهز هذا الغياب؛ ليقطع الرقاب.

كاد ديابٌ أن يعود لثورته … ونظَرَ لسعدٍ نظرةً أفقدتْه قوَّته وخلخلتْ ركبته.

– لا تُغضبني يا سعد.

أسرع سعد يعتذر وهو يُفأفِئ فزعًا: لا … فلتُعدِمني الحياة، لو أنني فتحتُ فمي بعد ذلك.

ضحِكَ دياب لمنظره … ثم شهَرَ حربته فجأةً؛ فأفزعه وشلَّ حركته … وقال: انظر يا سعد … هذا الذئب الراقد تحت الشجرة بيني وبينك … انظر … إن قتلتُ هذا الذئب، فهو بشارةٌ بقتل الزناتي … وإن سلِمَ الذئبُ قتلتُك أنت.

ثم أطلَقَ حربته نحو الذئب، لكن الذئب استشعر رفيف الحربة؛ فقفَزَ في خفَّة ذئبٍ مذعور، وفرَّ هربًا.

فارتعَدَ سعدٌ وأيقن بالممات … وصاح: يرحمك الله يا سعد برحمته الواسعة … فقَدْ عدمتَ الحياة.

وزحف كالجرو نحو الحربة يسحبها ليجِدَ فرصته لاستجداء النجاة.

وما إن سحَبَ الحربة حتى تدلَّت منها حيَّةٌ مسمِّرة عينَيها في سنِّها الحادِّ.

فأخَذَ سعدٌ يرقص ويقفز فرحًا كالمجنون … كسجينٍ فُك أَسره … أو محكوم أُعتقت رقبته.

فضحك دياب لمنظره … وقال: والله لولا طلعتْ هذه الحيَّة مسمَّرة في سنِّ الرمح؛ لكان رأسك مكانَها يا سعد.

فقال سعد المرعوب: وأنا والله يا أمير دياب … عندما رأيتُ الذئب يفرُّ … نويتُ قتلك.

فكاد ديابٌ يختنق من الضحك … وقال في تبسُّط.

– وأهون عليك يا سعد؟!

فقال سعد وهو يسلِّمه الرمحَ بعد أن انتزع منه الحيَّة: ألف ذقنٍ ولا ذقني … يا روح ما بعدك روح.

كفَّ دياب عن الضحك فجأة، وكستْ وجهه ملامحُ الغضب التي ترعب كلَّ مَن يواجهه.

– هيَّا لا تضيِّع الوقت … أيًّا كان الزناتي؛ ذئبًا أو حيَّة … فأنا قاتله … هيا وأبلغ ابنَ الهلالي بشروطي … وعُد بالموكب المطلوب … ليعود على رأسه قاتلُ الزناتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤