«هذبا» تخطب «عذبا»

قال الراوي …

منذ عاد وزيرُ هلالِ بن عامرٍ إليه دون أن يعثر على ولده المنذر، وأخبره بهجرته من الشام إلى العراق، وهو في غمٍّ وهمٍّ شديد. فقَدْ أضاع ابنه الوحيد، وأحسَّ بأنَّه لن يلقاه بعد الآن.

وأحسَّ أنَّ الله الواحد الديَّان … يعاقبه على ما ارتكبه حِياله من ذنب، وما جلبه عليه من الأحزان. عندما نسي أهمَّ ما علَّمه إيَّاه الإسلام … أن لا فضلَ لإنسانٍ على إنسان إلا بالتقوى والإيمان … ورفَضَ أن يزوِّجه ممَّن هواها القلب … وطرده ليَهِيم في الدنيا ويعاني الغربة والكرب … لأنها ليست في مقامه … ولا تصلُح إلا أن تكون من عبيده وخُدَّامه … فهي من نسل جسَّاس القاتل ومن عشيرة البكريين، وأين هؤلاء من أرومة التغلبيين … سلالة المهلهل العنيد … وكُليب الشهيد.

صرَخَ هلالٌ في الليل صرخةً تزلزل الجبال.

وتُوقظ من النوم الرجال … فَزِعين لمَا أصاب سيدهم من حسرة … وضعف لا يليق ببَنِي مُرَّة … لكنَّ الحزن في قلب هلال، كان ثقيلًا كصخور الجبال … فقَدْ سلك من ابنه سلوك الجاهلية … عندما رفض أن يزوجه من الفتاة البكرية … ناسيًا ما استقرَّ بقلبه منذ رأى رسول الله … من سماحةِ الإسلام الذي لا يحطُّ من كرامةِ الإنسان … بسبب الأديان أو الأجناس أو الألوان.

هذا ما كانت عليه حالُ هلالِ بن عامر.

فماذا كان من أمرِ ابنه المنذر المطرود المهاجِر؟

صلِّ على رسول الله المنزه عن الكبائر والصغائر.

•••

وصَلَ المنذرُ ومَن بقي معه من أصحابه إلى تُخوم بغداد، وسأل عن ملكٍ كريم وأميرٍ عظيم يلجأ إليه ويحتمي به. فدلُّوه على الأمير حاكم بلاد الشيخ. وهو الأمير مهذب الذي كان يحكم على مائةٍ وثمانين ألفَ بطَلٍ … ويملك الأرض الخصبة ما بين النهر والجبل.

وكانت للأمير مهذب عيونٌ وأرصاد … تراقب حدود البلاد … فوصَلَه لُجوء المنذرِ بن هلال إليه وقدومه مع صحبه عليه … فركب في عشرين ألفًا من رجاله … ليكون في استقباله … فقَدْ كان يعرف مقامه وشجاعته … وما فعلتْه به الأيام، وما بدَّلت من أحواله.

وما إن أقبَلَ المنذر عليه؛ حتى نزَلَ عن حصانه وسلَّم عليه … وأكرمه غايةَ الإكرام. وأظهَرَ له الترحيبَ والاحترام. وعاد به إلى بلاده ومستقر حكمه، وهو يحسُّ أنَّ الله سيحقِّق به حُلمه … إذ لم يكُن له ولد … وكان هذا الأمر يُقلِقه ويسبِّب له في شيبته بعضَ الهمِّ والكمد … وها هي الأقدار تسوق إليه بطلًا من الأبطال … وأيَّ بطَل؟! فراح عنه الهمُّ وملأ قلبه الأمل … أن يتحقَّق حُلمه قبل أن يوافيه الأجل!

الآن يمكن أن يطمئن على ابنته التي فتَنَ جمالها الكثيرين … ولكنَّها رفضتْهم أجمعين. فزرعتْ بينهم فتنةٌ لا ينطفِئ لها لهيب. ووضعته في موقفٍ عجيب … لذا كان يتمنَّى أن يزوِّجها من غريب … حتى لا يُقال إنَّه فضَّلَ رجُلًا منهم على بقيَّة الرجال … ومَن في الدنيا يحلُّ له هذا الإشكال … أفضلُ من المنذرِ بن هلال.

صلُّوا على طه أعظمِ الأبطال.

•••

تذكَّرَت «هذبا» كلَّ ذلك وهي تراقب زوجها الحبيب الحزين … مرَّت الأيام الحلوة أمامها بكلِّ تفاصيلها وجمالها … منذ رأت المنذر أولَ مرَّة وهي مع صاحباتها وسطَ المرج المُزهِر بالقُرب من الجبل … قبل أن يلتقي مع أبيها يومَ وصوله … وكيف رأت في خصاله وفِعاله ما أوقَعَ بقلبها حُبَّه.

كانت قد شردتْ عن صاحباتها وابتعدت، وفقدت طريق العودة … وامتلأ قلبها رُعبًا، حين لاح لها فجأةً ذلك الضبع الكريه الذي كاد يفتك بها … لولا ذلك الفارس الذي عاجله بضربةٍ من سيفه أردتْه قتيلًا على بُعد خطواتٍ منها … وكيف حمَلَها فاقدةَ الوعي إلى صاحباتها … وهو لا يعرف مَن هي، ولا أنَّها أفاقتْ بين ذراعَيه القويَّتَين، وظلَّت تتظاهر بالإغماء؛ لتُشبع عينَيها بما يشعُّ به وجهه من رجولةٍ وبهاء.

ابتسمتْ حين تذكَّرت كيف سلَّمها لصاحباتها في خَجَل، واختفى على عَجَل … فلَمْ تعرف اسمه، وهو الذي ملأ عليها الدنيا، وملك قلبَهَا حُسنُه وخُلقُه ورَسمُه.

وحين فُوجئتْ به يجلس مكرَّمًا معزَّزًا إلى جوار أبيها، ظنَّته لأول وهلةٍ ممَّن جاءُوا لطَلَب يدها … ففرحتْ ورقَصَ قلبُها … لولا أنَّها رأت والدها يضحك في سعادة، على غير العادة عندما يكون في الأمر خِطبةٌ لها؛ فانقبض قلبها … فالأمر بالتأكيد على غير ما دار بخَلَدها … لأنَّ طالبي يدها، وهم كثيرون، لم يجلِبُوا لأبيها سوى الغمِّ والحزن؛ لأنَّهم يزيدون من عدد الذين يُرفضون، وعليه وعليها يحقدون. كادت تصيح من مكانها خلفَ الستائر: «إنِّي موافِقةٌ يا أبي.» ولكنَّها … كانت تملك من الأدب ما يمنعها من التصريح بحبِّها … فأسرَّت ما بقلبها، وأغلقت مفاتيحَ صدرها … على سرِّها.

عادت الابتسامة تلوح على وجهها … حين تذكَّرت كيف تقدَّم هو بعد تردُّد وكتمان لطلَبِ يدها … كان غيرَ واثقٍ، وهو الغريب المهاجر، أن يَقبَل والدُها زواجَها منه … صحيحٌ أنَّه قرَّبه إليه، حتى صار كوزيره وأحبَّه كأنَّه ابنُه … ولكنْ بعد أن وصلتْه أخبارُ رفْضِها لهذا العدد من الفرسان والرجال … يَئسَ وتأكَّد أنَّ زواجه منها هو بعينه المُحَال.

وكادت تُقَهقِه عندما تذكَّرتْ والدها وهو يقفز كالأرنب، وهي عادةٌ تَغلبُ عليه حين تغلبُه الفرحة … ساعةَ حدَّثتْه زوجتُه … عما أسرَّت به إليها ابنته.

– لمَ … لم تحدِّثيني بهذا من قبل؟

– لم يكُن من حقِّي أن أكشف لك سرَّها … ونحن لا نعرف ما نعرفه الآن.

– أوَلستُ أباها … وكان من حقِّي أن أعرف ما يدور في بيتي؟

– دعْكَ من هذا! … لم أكُن أجرؤ … ولم تكُن هي لتسمح لي إلا بعد أن تتأكَّد أنَّه يريدها كما تريده.

شجَّعتْها المشاعر التي اجتاحتْها أن تخترق حاجز الصمت، الذي أحاط المنذِرُ نفْسَه به، وسط سكون الليل … فاقتربتْ خفيفةً كالطَّيف منه … ووضعتْ كفَّها الرقيق على كتفه في حنان الأمِّ أكثرَ من شوقِ الزوجة.

فالْتفَتَ ناحيتها وقد غمَرَت وجهه ابتسامةٌ مُغتصبَة … لم يفُتْ عليها أنَّه بذَلَ جهدًا خارقًا ليجعلها ابتسامةً حقيقية.

– ماذا بك … يا منذر؟

– لا شيء يا حبيبةَ القلب.

– أنا «هذبا» يا منذر. أنا التي تقرأ صفحةَ وجهك، بل وثنايا داخلك، كالكتاب … بُح لي بما يهمُّك … ويُقلِقك.

– هل تظنِّين أنَّ قلْبَ رجُل يجِدُ نفسه فجأةً في موقع الأمير مهذب، ويحكم هذه الأرض باسمه، يمكن أن يخلو قلبه من قَلَق … بعض المشاكل تطارد الإنسان حتى إلى فِراشه.

– منذر … لا تُخفِ ألَمَك؛ فأنا أعرف سرَّه.

اختلجتْ عينا المنذر فزعًا أن تكون عرفتْ بالفعل سرَّ حُزنه أو خمَّنته؛ فاستدار إليها وأخذها بين أحضانه في حنانٍ، وهمَسَ في أذنها: لا تشغلي بالك بأمورٍ … لا تخصُّك.

– لا … إنَّها أشدُّ الأمور التي تخصُّني … أنا أعرف مقدار ما يسبِّبه لك من ألَمٍ، أنني لم أنجب لك الطفل الذي تريده.

حاوَلَ أن يعترض، ولكنَّها أسرعتْ ووضعتْ إصبعها المُضِيء على فمه طالبةً ألَّا يقاطعها.

– أتظنُّ أنني بَلهَاء … أو أنني على هذا القدْرِ من الغباء، الذي لا يجعلني أشعُر بما يدور في داخلك … عندما تداعِبُ أطفالَ الآخَرين … أو ذلك الحنان والحنين الذي يفيض حولك حين تحمل طفلًا أو تُطعِم طفلةً أيَّ طفلة.

صمَتَ المنذر فلَمْ يجِدْ كلماتٍ ليردَّ على هذه المرأة الذكيَّة، التي يحبُّها كما لم يحبَّ أحدًا في الوجود … والذي يكتُم في قلبه شوقَه القاتلَ لطفل من صُلبه؛ خشيةَ أن يجرح مشاعرها. لكنَّها واصلتْ كلامها وهي تتظاهر بالمرح.

– أنا بنَفْسي التي ستُزوِّجك من امرأةٍ أخرى … تُنجب لك الطفل الذي تريد، بل لقد اخترتُها بالفعل من سلالةٍ مُنجِبة، حتى تحقِّق أمَلَك ولا تخيِّبه.

لم تُعطِه الفرصةَ لكي يعترض … فهي تعرف أنَّ اقتراحها قد وافَقَ رغبته وهواه … فأرادتْ هي (بيدها لا بيدِ القدَر) أن تختار بنفسها مَن تحقِّق له مُناه … رغمَ كلِّ النار التي تتأجَّج في داخلها … واليأسِ والخوف الذي يعصر قلبَها، ويشعل نيرانَ الخوف من فَقْده بين ضلوعها.

قال الراوي …

بعد أن زوَّج الأميرُ مهذب ابنته «هذبا» من ضيفه وحبيب قلبه المنذر، وارتاح من همِّ الفرسان المرفوضين، الذين شُفوا من ألمهم وحُزنهم الدفين، بعد أن صارتْ لرجلٍ يحبُّونه أجمعين.

أقام لهذا الليالي الطِّوال المِلاح، التي قضاها الجميع في سرورٍ وانشراح … انزاح عن قلبه الهمُّ الوحيد الذي كان ينغِّص عليه حياته، ويحرمه من فرحته أن يقفز كالأرنب في مرحٍ بسبب الهمِّ والقلق الذي كان يعصر قلبه، كلما لاحظ نظراتِ الغضب والغيرة، التي يتراشق بها الفرسان العرسان المرفوضون.

الآن صارت «هذبا» زوجةً للمنذر ولا سبيلَ إليها؛ فارتضى الجميع حُكم القدَر … الذي دبَّره لمهذبٍ؛ كي يجعل الأمرَ عليهم جليلًا … والطمعَ فيها مستحيلًا.

بعد ذلك، أعلن أنه يجعل من صهره المنذر حاكمًا مكانه، وأميرًا يعلو بهم شأنه؛ فهل من مُعترِضٍ … أو طامع؟

كان الجميع قد أحبُّوا المنذر؛ فبايعوه. حتى أولئك الذين كانت لديهم بعضُ المطامع. لم يجِدُوا بدًّا من أن يؤيِّدوه.

وألبَسَ المهذب الأمير المنذر لِباسَ الإمارة، وألبسه الخاتم وسلَّمه الإشارة، وطلب منه أن يُقسِم ويعاهده أمام الجميع أن يحكم بالعدل والإنصاف … وألَّا يبيت في أرضه، كما كان في عهده، جائعٌ أو خوَّاف.

وجلَسَ المنذر على كرسي الإمارة، وأظهَرَ الكثير من المهارة والجسارة … فأكرم العربان والرُّعيان وزارعي البساتين، وحكَمَ بما يُمليه عليه العقل والدين … فانقاد له العِباد وأمِنت البلاد.

لكن حنينه للولد كان ينغِّص فرحته … ويُنقص من راحته، حتى كانت تلك الليلة التي كاشفتْه فيها زوجتُه بأنَّها تعرف سرَّ حُزنه … وشوقه لابنه … وأنها عاهدتْ نفسها أن تزوِّجه بمَن تهبه الولد بأمر الله … لأنها لم تعُد تحتمل أن تراه يتعذَّب، وهي ابنة المهذَّب الذي لم يكُن يحبُّ الحزن ولا القلق … ويتمنى أن يظلَّ طول الوقت يقفز فرحًا كالأرنب من مرح ونزق.

ادعوا اللهَ وصلُّوا على خير مَن خلق.

•••

ذهبت «هذبا» متنكِّرة في زيِّ ملكٍ من ملوك الشام … قاصدةً بلاد السرو، واستقبلها الملك الصالح ملك بلاد السرو بكلِّ إجلال واحترام … وأقام الولائم التي تليق بما عُرف عنه من كرم. ولمَّا انتهى الطعام. ودار بينهما الحديثُ والسَّمر والكلام … أُعجب الملك الصالح بذلك الملك الجميل الشديد الذكاء والفصاحة.

ولذا لمَّا وجد الملك المتنكِّر الفرصة؛ فاتَحَ الملك الصالح وطلب منه يد ابنته.

وردَّ عليه الملك الصالح أنَّ الأمر يحتاج لمعرفة رأيها … وأخذ موافقتها … لكنَّ «هذبا» المتنكِّرة … أصرَّت على أن تحصل على موافقته أولًا … لأنَّها بعد ذلك سوف ستحصل على موافقة «عذبا»، وهي متأكِّدة من موافقتها.

ازدادتْ دهشةُ الملك الصالح.

واضطر أن يقول إنه موافق … ولا يجِدُ مانعًا.

فقالت «هذبا» وهي تنزع ثياب تنكُّرها وتكشف عن شخصيتها: الآن اطمأن قلبي … لكني سأقوم الآن لأُقنع «عذبا» … فنحن النسوة نفهم بعضنا جيدًا.

لم ينطق الملك الصالح بكلمة، وازدادتْ دهشته؛ فلم يستطِع أن يعبِّر عمَّا أحسَّ به من هَول … خاصَّة وقد استطردتْ «هذبا» مبتسمة: لستُ أنا الذي يطلُب يدها طبعًا يا سيدي … إنما أنا أريدها زوجةً لزوجي … فهل تُعطيني الفرصةَ أيها الملك الصالح.

ظلَّ الملك الصالح مندهِشًا ذاهلًا، لا يستطيع النطق بكلمة … فقد كان الأمر غريبًا وعجيبًا.

امرأةٌ تسعى لتزويج زوجها.

– إنَّ هذه غايةُ العجَب … ولم تسمع من قبل به العرَب.

لكنَّها عندما شرحتْ له الأمر أكبَرَه وأكبَرَها … ودعا ابنته وأحضرها … ولم تفهم «عذبا» تمامًا، وكادت أن ترفض لولا أنَّها أحسَّت بصِدق نوايا «هذبا» … وقوة إقناعها … فكتمَت الخوف الخفي في قلبها … فما من امرأة ترضى أن يشاركها أحدٌ في رَجُلها … فما بالك والمُنذِر كان لها بطَلَها وحبيبَ قلبها.

لكنَّ الفتاة الرقيقة لم تستطع إلا أن تصدِّق أنَّ «هذبا» تقول الحقيقة.

والحقيقة أنَّ «عذبا» كانت قد سمعتْ بالمنذر وحكاياته، وأعجبتْها، بل وملكتْ قلبَها مغامراتُه … لذا أزاحتْ قلقها جانبًا … ووافقتْ على أن تصبح زوجةً لزوج «هذبا» … وأن تشاركها فيه المحبة … بعد أن أقنعتْها، بل وفتنتْها … إذ جاءت بنفسها وطلبتْها. وفي موكب عظيم أصحبتْها … لتكون زوجةً لزوجها. عسى أن تحقِّق له الحُلم الموعود … وتأتي له بالمولود.

وزُفَّتْ «عذبا» للمنذر … كما هو مكتوبٌ ومقدَّر.

•••

وعندما همَّ الملك الصالح بتوديع ابنته، بعد أن تركها أمانةً بين يدي المنذر وزوجته، وجدتْ نفسها وقد غلبها قلَقٌ خفي … وخوفٌ لا تدري مصدره … تهمس لأبيها بصوتٍ لم تخفَ عليه رعشتُه: أبي … أرجوك أن تزورني بين وقتٍ وآخر … فمَهمَا كانت فروسيةُ زوجي وطِيبةُ قلبِ زوجةِ زوجي … فإنَّها ستكون لي ضرَّة! وأنا أخشى الخفيَّ في قلبها، مهما أظهرتْ لي من المحبة والمسرَّة.