كريم الأصل لا يهرب

اشتدَّ المرض على المنذر، ولزم الفِراش.

وملك جابر ابن «هذبا» الأمر، فجلس على كرسيِّ الإمارة وحكَمَ وتجبَّر وقهقَهَ ضاحكًا في تشفٍّ عندما بلغتْه الأخبار أنَّ مُفلِح خاف من تهديداته ورفَضَ أن يُئوي جبيرًا وأمَّه «عذبا» وطرَدَهم إلى الصحراء.

أمَّا المنذر بن هلال … فقد بكى بكاءً شديدًا عندما وصله الخبر … حتى أبكى الحاضرين … حتى «هذبا»، فقد أحسَّت أنَّها كانت السببَ في كلِّ هذا الأمر … فلو أنَّها صبرتْ قليلًا؛ لأنجبتْ للمنذر الابن الذي يتمنَّاه … دون أن تخطب له «عذبا» فتنجب للعَذاب ولَدَه جُبير.

قال لها الشيخ: يا ابنتي، إنَّ المقدَّر لا بد أن يكون … فلله في خلقه شئون، ومَن كان يدري أنَّكِ لو لم تفعلي ذلك، لمَا كان لكِ نصيبٌ في جابر … ولظلَّ المنذر مهمومًا لعدم الإنجاب.

فقالت وقد زاد همُّها: ها هو مهمومٌ مكسور الخاطر بسبب الإنجاب … يا سيدي … وأنا السبب.

هدَّأ من رَوعها، وقال: لستِ مَن يكتُب أقدار الناس يا بُنيَّتي … هذه مشيئة الإله … وحين يريد الله فلا رادَّ لإرادته … وما صنعه جابرٌ بأخيه … حدَثَ من المنذر؛ بأمرِ أبيه … فاتركي الأمر لله وهو القادر على تهوين الأمر عليه.

ولم يرعَ جابرٌ خاطِرَ أبيه حين طلَبَ منه أن يُرسل إلى جُبير؛ طالبًا منه أن يعود، ولكنَّ جابرًا تمادى في غيِّه وصاح: لقد أرسلتُ وراءه لا ليعود، ولكن لأعرف أخباره، وإلى أين يذهب وفي أيِّ مكانٍ يستقرُّ؛ لأطارده حتى آخر الأرض ولآخر الزمان.

قال الراوي …

أمَّا ما كان من أمر جبير … فقد سار مع أمِّه ومَن صحبهما من الفرسان في البر، على غير هدى، لمدة سبعة أيام … حتى كاد أن ينفد ما معهم من شراب وطعام … ثم قال أحد رجاله … إن في بلاد نَجْد ملكًا عظيمَ الشأن … يقال له ابن حنظل النعمان … لا يُردُّ عن حوضه إنسان … وإنَّ مَن ينزل بأرضه ويلوذ بحمايته، يعيش سعيدًا تحت رايته … فقال جبير: سيروا بنا إلى نَجْد … لعلَّنا نجِدُ عند أهلها مَن يصون العهد.

وكان بينهم وبين نَجْد مسيرة يومَين … فمالوا إلى وادٍ به عين … ليُصيبوا شيئًا من الراحة، في تلك الواحة … وبعد أن اغتسلوا وأكلوا وشربوا. هلَّ عليهم رهطٌ من الفرسان؛ كأنهم من معركةٍ قد هربوا … ولمَّا سألوهم عن شأنهم، وما هو سرُّ هرولتهم وفرارهم … قال كبيرهم «رحال»: إنهم من أعيان نَجْد. وقد هاجمهم عدو اسمه الجليلي بن سالم … الذي هو على أرض سنبس أمير وحاكم … فقامت بيننا وبينه حربٌ وقتال … انتصر فيها علينا واستولى على ما لنا من أنعامٍ ومال … فهربتُ أنا والعيال، ومَن بقي من الرجال … ولا نعرف ما جرى بين الجليلي وبين ابن عمِّنا النعمان بن حنظل … وها نحن هنا ولا ندري ماذا نفعل.

وهنا قال له جبير: كيف وأنت أميرٌ وابنُ عمِّ أميرٍ … تترك ابن عمِّك تحت وطأةِ الحصار … وتهرب من الديار؟ لو كنتُ مكانَك لبعتُ رُوحي مع ابن عمي، الذي كنتُ في حمايته وكان همُّه من همِّي … هيَّا … وأنا أضع رُوحي وجماعتي معكم … وأضع يدي في يدكم … وسوف ترى ما يحلُّ بالأعداء من الدَّمار … أو نمحو بدمانا ودماكم عنكم العار.

فأجابه رحال: وكَمْ معك من الفرسان والرجال؟

قال جبير في ثقة: معي ثلاثمائة فارس لا يُشقُّ لهم غُبار.

فاستلقى «رحال» على قفاه من الضحك وقال: لقد كان معي مائة ألف من الفرسان يا خليلي، ولم يصمُدوا أمام قوة الجليلي … قُم يا رجُل وامضِ إلى حال سبيلك واطلُب النجاة … فقد يكون الجليلي في أثرنا … فيُعدمنا ويُعدمكم الحياة.

غضِبَ جُبير لهذا القول الجبان … وقال له: اهرُب بجِلدك أنت يا عرَّة الفرسان … أمَّا أنا فسوف أرحل برجالي ولكنْ إلى النعمان … وستري كيف سيكون النصر حليفي وحليفه.

وتعجَّب «رحال» لقوله هذا، وإن وقَفَ يتأمَّله وهو يُتبع قوله بالعمل. فيأمر فرسانه بالركوب على عَجَل … ويخطب فيهم بما قرَّره فيملأ قلوبهم بالأمل … ويقودهم في حماسٍ لنجدة أهل نَجْد … وملكهم النعمان بن حنظل!

وهنا قال «رحال» لرجاله: يا قوم … هذا الرجل معه حقٌّ فيما رمانا به من تقريع ولوم … هيا بنا نسير وراءه؛ لنرى ما سيحدُث بينه وبين الجليلي … فإن كان النصر له … دخلنا المعركة إلى جانبه وشاركناه النصر … أمَّا إذا هُزم … عُدنا كما كنَّا، ويا دار ما دَخَلك شر.

فوافقوه على هذا الأمر … وساروا خلفَ جُبير ورجاله ولكنْ في طريقٍ غير الطريق … حتى يتبيَّن لهم العدو من الصديق.

أمَّا جُبير فقَدْ حثَّ الخُطى مع رجاله إلى حيث كان النعمان محاصَرًا بجنود الجليلي من يمينه وشماله … يبحث عن مَخرَج من ذلك الكرب … ويدعو الله أن يُخرجه من هذا الموقف الصعب.

وبينما كان الحصار على جنوده يشتدُّ … وبين لحظةٍ وأخرى يتوقَّع أن تحلَّ ساعةُ الجِد. فإذا بالدائرة تدور … والمأزوم المكسور يكاد يُصبح هو الفائز المنصور … ولم يعرف الملك النعمان بن حنظل … السرَّ فيما حصل … فبدَّل يأسه إلى أمل … ولم يستطع تفسيرَ كيف أتتْهُ النجدةُ من السماء … فارتبكتْ بسبب هجومها الصاعق جيوشُ الأعداء، فأربكتْ قوات الميمنة وخلخلتْ صفوةُ الميسرة … وجعلتْ أمامهم إلى الوراء … ووراءهم إلى الأمام.

صلُّوا على سيِّد الأنام، وسبِّحوا مَن له الثبات والدوام … ومُسبِّب أسبابَ الحرب ومدبِّر أمورَ السلام.

•••

حين أطلَّ جُبير وفرسانه على الوادي الذي الْتقى فيه الجليلي مع النعمان … وجدوا موقفَ ملك نَجْد في غاية الصعوبة … إذ أحاطت الجيوش بالجيوش … وأحكمتْ قوات المُعتدِين الحصارَ حول مَن خرجوا ليحموا الديار … وكالبرق الخاطف هبطوا من فوق الجبل مُنقضِّين كالسيل مُشهِرين السيوفَ … يصيحون بالمحاصَرين أن اصمُدوا وهبُّوا للقتال.

وانقلب الحال …

وفي الوقت الذي فُوجئ فيه الجليلي بهذا الهجوم المفاجئ الذي لم يكُن في الحسبان … بلع الملك النعمان ريقه الجافَّ وسارع يأمُر رجاله بالتقدُّم … فانقلب المحاصَرون إلى محاصِرين … وغسَلَت دموعُ الأمل قلوبَ الذين كانوا خائفين.

وأخَذَ الملك الجليلي يبحث وسطَ المعركة عن قائد المُهاجِمين حتى وصَلَ إليه، وهجَمَ عليه وهو يصيح به: مَن أنت، ومن أين أتيتَ أيها المقتول؟

فعَلا صوتُ جُبير، حتى صار أعلى من صليلِ السيوف ودقِّ الطُّبول، وقال له: أنت القتيل يا مَن تجبَّرتَ واعتديت.

صاح به الجليلي: قُل لي مَن أنت ومن أين أتيت، أيها المُهان؟

قال جبير: لستُ مُهانًا ولا جبانًا أيها الطاغية؛ فأنا جُبير … ابن المنذر الهلالي … الذي في الحقِّ لا يبالي … فاحذر لنفسك يا جليلي، وانظرْ إلى شأنك، وارجعْ عن عدوانك.

وانقضَّ عليه فتلقَّاه الجليلي بما يعادل قواه … وظلَّ البطلان كالجبلَين يصطدمان ويفترقان … وكلٌّ منهما لا يجِدُ طريقًا للآخر حتى حلَّ الليل، وحان وقت الانفصال … فافترقا على موعدٍ في الصباح لاستئناف القتال.

وحين عاد الجليلي لقومه سألوه عن خصمه؛ فقال لهم كيف كان … وكيف أصبح النصر الآن من الصعوبة بمكان … وأشار عليه صَحْبه أن يرسل إلى جُبير هذا ويساومه ويرغِّبه … ويُغريه أن ينضمَّ لصفوفه، وأن يعِدَه أن يمكِّن له في أرض النعمان … وأن يزوِّجه من ابنته غُصن البان حتى يتجنَّب الخسران.

واقتنع الجليلي بذلك … وقد رأى أنَّ جُبيرًا لا مصلحةَ له مع هذا أو ذاك … أو هكذا اعتقد … فدعا فتًى من فتيانه وسلَّمه رسالةً إلى جُبير بما معناه: «ما دامتْ ليست لك مصلحةٌ معهم … فكُن معنا؛ فتنال منَّا الغِنى والجاه.»

أمَّا ما كان من أمر جُبير؛ فقد نزل في ضيافة الملك النعمان الذي اعتبره من الأهل والخِلان … واستقبله بكلِّ حفاوة وإكرام … ودعا أهله ليسلِّموا عليه ويزفُّوا آيات الشكر إليه.

وحين رأى ابنة النعمان «حسنا» … ملكت فؤاده … ولمَّا نظَرَ في عينَيها أحسَّ أنها من الدنيا مراده … ولم يعُد يرى فيمَن حوله سواها … وكما وقعتْ هي على أرض هواه؛ سقط هو في بئر هواها.

وحين وصَلَ رسولُ الجليلي بخطابه إلى جُبير اختلط عليه الأمر؛ فلم يعرف زيد من عبيد … وسلم الخطاب إلى غير المقصود به العنوان … وأوصل الكتاب إلى الملك النعمان.

فلمَّا قرأه خاف أن تغري العطايا التي وعَدَ بها الجليلي جبيرًا بالانضمام إليه. فقرَّر أن يقدِّم له من الهدايا ما هو أكثر، وأن يقطع الطريق عليه … وراح يستشير أهل بيته … والمقرَّبين من عشيرته.

فقالت له «حسنا» وكانت تقرض الشِّعر وتُحسن الأدب: اذهبْ يا أبي إليه واتخذه ولدًا … فلولاه لكنَّا الآن أسرى وجواري … ولولاه لكنَّا مشرَّدين في البيد، أو في بلاد الجليلي إماءً وعبيد.

اطمأنَّ النعمان لحكمة ما استقرَّ رأيه عليه، رغم معارضة أبيه حنظل، الذي قال لجُبير: يا بني … لقد صِرتُ كبيرَ السنِّ، واهن العظم، غير قادرٍ على حُكم البلاد … ولقد عزمتُ وتوكلت على الله … إن قتلتَ الجليلي وكفيتَنا شرَّه … أن تكون لنجْدٍ حاكمًا؛ فأنت لها … ومن أهلها … وأن أزوجك ابنتي «حسنا» … التي لولاك اليوم لصارت عند الجليلي جاريةً أسيرة … فأنقذتَنا وأنقذتَها لتظلَّ مكرَّمةً وأميرة … فهي لك وأنت لها.

فوجي جبيرٌ بما يعرضه عليه النعمان، فهبَّ من مكانه إليه وقبَّل يديه … وقال له: أنت كأبي يا سيدي … وقد غمرتَني بفضلك، وجعلتَني من ضمن أهلك. فافعل ما بدا لك فأنا طوع أمرك … وما جئتُ إلا لنُصرتك على عدوك؛ فلا تشغل بغير ذلك بالَك.

لكنَّ الملك النعمان لم يُضع الوقت؛ بل أراد أن تسير الأمور إلى ما عقَدَ النية عليه … فدعا رجاله وأهل دولته وعرض عليهم فكرته … وأمرهم أن يُلبسوا جبيرًا بدلةَ المُلك فألبسوه … وأن يُجلسوه على كرسيِّ الإمارة؛ فأجلسوه وبايعوه.

وقال له: الآن يا جُبير أصبحتَ حاكم بلاد نَجْد، فخلِّصها من الأعداء … واكشفْ عنها البلاء.

ثم أحضروا القاضي … وعقَدَ له على «حسنا» بنت النعمان، وبات الجميع في طرب وانشراح، حتى طلع الفجر ولاح الصباح.

أرسل جُبير إلى الجليلي مكتوبًا يهدِّده بالويل … إن لم يقُم بتسليم نفسه إليه، أو ينسحب إلى بلاده بما معه من رجالٍ وخيل … فاشتدَّ الغيظ بالجليلي، وأرغى وأزبد … وأمر بدقِّ الطبول، وبالهجوم على رجالِ نَجْد.

والْتحم الجيشان، وتلاقَت السيوف … واصطدَمَت الدروعُ بالدروع … والْتحمَت الرماحُ بالرماح … وأخذ جُبير يبحث عن الجليلي وسط الجموع حتى عثر عليه … وطارده حتى لحق به … وطوَّقه حتى حصره … وضغَطَ عليه حتى عصره. وضربه بالسيف فأطاح برأسه … وما إن رأت جيوشُ الجليلي ما حدَثَ لقائدها … حتى وهنتْ منها العزائم، ولم يقُم لها قائم … فولَّوا هاربين مهزومين … بينما لاحقتْهم جيوش جُبير والنعمان … حتى طرَدُوهم من بلادهم … وعادوا بكلِّ الغنائم والأسلاب، وردُّوا ما سلبوهم من أموال، وحرَّروا ما أسروهم وسبوهم من نساء ورجال … عادوا جميعًا ومعهم رجالُ «الرحال» … الذي اندفع، بعد أن تأكَّد من انتصارهم، إلى القتال؛ ليشاركهم شرف النصر كما قال.

قال الراوي …

سبحان مغيِّر الأحوال.

ومقدِّر مصائر الرجال.

فقد وهَبَ النعمان جبيرًا كلَّ ما ملكت يداه … فصار هو ملكَ نَجْد، حاكمًا على مائة ألفِ قرية … وشاع خبره في البلاد، وانضم إليه المئات من خير الأبطال والأجناد … وتحدَّث عنه وعن كرمه الشعراء والأمراء … فقد فاق النعمان في كسوةِ العريان وإطعامِ الجوعان … وإكرام الضيف … وصارتْ بلاده مقصدَ كلِّ الناس في الشتاء وفي الصيف.

ألم أقُل لكم سبحان مغيِّر الأحوال ومبدِّل مصائر الرجال.
فها هو الشريد ابن الشريد،
يستقر له الأمرُ من جديد،
لدرجةٍ لا يستطيع معها أن يطلُب المزيد.
ولكنَّك تريد وأنا أريد، والله يفعل ما يريد.
وإلا لظلَّ القديم قائمًا؛ لا يفسح الطريقَ للجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤