حرف الظاء

ظبية ابنة البراء بن معرور

امرأة أبي قتادة الأنصارية. كانت من المحدثات المتقدمات الصحابيات اللاتي لهن التقدم في الرواية وصحة الخبر. أخذت من أجلة، وروت جملة أحاديث عن النبي .

وروى عنها جملة من الصحابة والتابعين، ومن أحاديثها أنها سألت النبي قائلة: هل علينا معشر النساء جمعة أو جهاد؟ فقال لها: «ليس عليكن جمعة ولا جهاد»، فقالت: علِّمني يا رسول الله تسبيح الجهاد، فقال: «قولي: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.» فجعلت تقول ذلك كلما حضرت جهادًا مع قومها.

ظريفة ابنة صفوان بن وائلة العذري

كانت جميلة المنظر، لطيفة المخبر، حسنة المعشر، عذبة المنطق، سلسة الألفاظ. خرجت يومًا مع نسوة يغترفن الماء وقد انفردت تمشط شعرها على جانب الغدير، وقد أسبلته كأنه الليل المظلم، ووجهها من خلاله كأنه البدر في تمه. وقد مرَّ بهن زرعة بن خالد العذري يريد الصيد، فلما ورد الغدير وجد النساء على تلك الصورة، وظريفة على الحالة التي ذكرناها، فحين أبصرها سقط مغشيًّا عليه! فقامت إليه فرشَّت عليه الماء، فلما أفاق وأبصرها قال: وهل مقتول يداويه قاتله؟! قالت: كيف؟ ما تشكو؟! وحادثته فثابت نفسه إليه وقد داخلها ما داخله من الحب، ثم رجع وهو يقول: خرجنا لنَصيدَ فاصطُدنا، ثم أنشد:

خرجت أصيد الوحش صادفت قانصًا
من الريم صادتني سريعًا حبائله
فلما رماني بالنبال مسارعًا
رقاني، وهل ميت يداويه قاتله؟!
ألا في سبيل الحب صب قد انقضى
سريعًا ولم يبلغ مرادًا يحاوله

ولزم الوساد وقطع الزاد، فلما أعيته الحيلة أخبر والدته بحاله، فمضت إليها وأعلمتها بالقصة، وقبَّلت رجليها على أن تزوره فعسى أن يشفى ولدها، فقالت: إن الوشاة كثيرون، ولكن خذي هذا الشعر إليه، فإن أمسَكه فإنه يشفى! وجزَّت لها شيئًا من شَعْرها.

فلما ذهبت إليه به جعل ينتشقه فتراجعت نفسه شيئًا فشيئًا، حتى اشتهى ما يأكل، فقُدِّم إليه فتناوله وقام، فكان يأتي قريبًا من الأبيات فيسارقها النظر وتخالسه هي أيضًا، إلى أن فطن أهلها فعوَّلوا على قتله، وبلَغه فذهب إلى اليمن. وكان كلما اشتد شوقه قبَّل الشَّعْر وجعله على وجهه فيستريح، فخرج يومًا لبعض حاجاته فسقَط منه الشَّعْر، فلما أيس منه عزم على العود فضعف، فقال: دعوني؛ فإني أرجو أن أظفر أو أموت! فصَحِبه غلامٌ، وأخَذ يُعلِّمه أبيات، وهي هذه، وقال له: إذا حاذيتَ موضعَ كذا فأنْشِد:

مريض بأفناء البيوت مطرَّح
به ما به من لاعج الشوق يبرح
وقالوا لأجل اليأس عودي لعلَّما
تشكَّاه من آلام وجدك يمسح
وليس دواء الداء إلا بحيلة
أضرَّ بنا فيها غرام مبرِّح
إذا ما سألناها نوالًا تُنيلُه
فضمُّ الصفا منها بذلك أسمح

ومضى الغلام حتى بلغ المكان ورفع صوته بالأبيات، فخرجت له ظريفة وأنشدت تقول:

رعَى الله مَن هام الفؤاد بحبه
ومَن كدتُ من شوقي إليه أطير
لئن كثرت بالقلب أتراح لوعة
فإن الوشاة الحاضرين كثير
فيمشون يشتدون غيظًا وشرة
وما منهم إلا أب وغيور
فإن لم أزر بالجسم خيفة معشر
فللقلب آتٍ نحوكم فيزور

ثم رجع الصبي فأنشد أبياتها، فغشي عليه ساعة ثم أفاق وهو ينشد:

أظن هوى الخود الغريرة قاتلي
فيا ليت شعري ما بنو العم صنع
أراهم، وللرحمن درُّ صنيعهم
تراكي دمي هدرًا وخاب المضيع

وقد زُفَّت ظريفة إلى رجل منهم يقال له: ثعلب، فلما بلَغه الخبر اضطرب ساعة وغشي عليه، فحُرِّك فإذا هو ميتٌ! فلزمت ظريفة البكاء أيامًا ولم تُمكِّن الرجل من نفسها.

فلما كانت ذات ليلة خرجت من بعد نصف الليل، فتبعها زوجها حتى انتهت إلى النهر فألقت نفسها فيه، فأخرجها وليس بها حراك ثم حملها إلى الخيمة.

فلما أصبح جاءت أمها فوجدت بها رمقًا، ولكنها لم تفقه كلامها، فأشارت أن تسقى الماء، فسقوها فقضت من وقتها ودُفنتْ بجانب زرعة بن خالد بعدما نقلت إلى محل مدفنه!

ظريفة كاهنة حمير

كانت في زمن الملك عمرو بن عامر مزيقيا الحميري، وهي التي تنبأت في سيل العرم، وكانوا يسمونها ظريفة الخير. وكان أول شيء وقع بمأرب بينما هي ذات يوم نائمة؛ إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضها وأرعدت وأبرقت، ثم أصعقت فأحرقت ما وقعت عليه ووقعت إلى الأرض فلم تقع على شيء إلا أحرقته، ففزعت ظريفة لذلك وذعرت ذعرًا شديدًا، وانتبهت وهي تقول: ما رأيت مثل اليوم قد أذهب عني النوم؛ رأيت غيمًا برق وأرعد، ثم أصعق فما وقع على شيء إلا أحرقه، فما بعد هذا إلا الغرق، فلما رأوا ما داخلها من الرعب خفَّضوها وسكَّنوا من جأشها حتى سكنتْ، ثم إن الملك عمرو بن عامر دخل حديقة من حدائقه ومعه جاريتان له، فبلغ ذلك ظريفة فأسرعت نحوه وأمرت وصيفًا لها يقال له سنان أن يتبعها.

فلما برزت من باب بيتها عارضها ثلاث مناجذ منتصبات على أرجلهن، واضعات أيديهن على أعينهن — وهي دوابُّ يشبهن اليرابيع يَكُنَّ بأرض اليمن — فلما رأتهن ظريفة وضعت يدها على عينها وقعدتْ، وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه المناجذ عنا فأَعْلِمني، فلما ذهبتْ أعلَمها فانطلقت مسرعة.

فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثَبَتْ من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها، وجعلت تريد الانقلاب فلا تستطيع، فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول، فلما رأتها ظريفة جلست إلى الأرض.

فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت إلى أن دخلت على الملك عمرو في الحديقة، حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها، فإذا الشجر يتكفَّأ من غير ريح، فغدت حتى دخلت على عمرو ومعه جاريتان على الفراش.

فلما رآها استحيا منها، وأمر الجاريتين فنزلتا عن الفراش، وقال: هلمي يا ظريفة إلى الفراش واجلسي إلى جانبي، فتكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الشجر لهالك، وسيعود الماء كما كان في الدهر السالف.

قال عمرو: مَن أخبرك بهذا؟ قالت: أخبرتني المناجذ بسنين شدائد، يقطع فيها الوالد الواحد، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول قول الندمان لهفًا، قد رأيت سلحفًا تجرف التراب جرفًا، وتقذف بالبول قذفًا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر يتكفأ، قال عمرو: متى ترين ذلك؟ قالت: هي داهية كبيرة ومصائب عظيمة لأمور جسيمة.

قال: وما هي؟ قالت: إن لي الويل، وما لك فيها من نيل، فلي ولك الويل مما يجيء به السيل! فألقى عمرو نفسه عن الفراش وقال: ما هذا يا ظريفة؟! قالت: هو خطب جليل، وحزن طويل، وخلف قليل، والقليل خير من تركه، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: تذهب إلى السد، فإذا رأيت جرذًا يكثر في السد الحفر، ويقلب برحليه من الجبل الصخر، فاعلم أن القريب حضر، وأنه قد وقع الأمر.

قال: وما هذا الأمر الذي يقع؟ قالت: وعيد الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نزل، فتعمَّده يا عمرو فليكن الثكل، فانطلق عمرو إلى السد يحرسُه، فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلًا، فرجع إلى ظريفة فأخبرها الخبر وهو يقول:

أبصرت أمرًا عاد لي منه ألم
وهاج لي من هوله برح السقم
من جرذ كفحل خنزير أجم
أو تيس حرم من أقاوين الغنم
يسحب صخرًا من جلاميد العرم
له مخاليب وأنياب فطم
ما فاته سجلًا من الصخر قصم
كأنما يدعي حصيرًا من سلم

فقالت له ظريفة: إن علامات ما ذكرت لك أن تجلس في مجلسك بين الجنتين، ثم تأمر بزجاجة فتوضع بين يديك؛ فإنها ستمتلئ بين يديك من تراب البطحاء من سهلة الوادي ورمله، وقد علمت أن الجنان مظلة ما يدخلها شمس ولا ريح.

فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه، فلم تمكث إلا قليلًا حتى امتلأت من تراب البطحاء، فذهب الملك إلى ظريفة فأخبرها بذلك وقال لها: متى ترين هلاك السد؟ قالت: فيما بينك وبين السبعين سنة! قال: ففي أيها يكون؟

قالت: لا يعلم ذلك إلا الله، ولو علمه أحد لعلمته، ولا يأتي عليك ليلة فيما بينك وبين السبعين سنة — وأظنها من سني حياته — إلا ظننت هلاكك في غدها، أو في تلك الليلة. فكان كما قالت، وحصل ما حصل في خبر طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤