الفصل الخامس

الفلسفة والدين في العالم العربي المعاصر

لو تأمَّلنا نوع المشكلات التي كانت الفلسفة تعالجها خلال أهمِّ فترات تاريخها، وقارنَّاه بالموضوعات الرئيسية للعقيدة الدينية، لبَدَا لنا أنَّ الخلاف الطويل الأمد بين الفلسفة والدين لم يكُن له داعٍ على الإطلاق؛ ذلك لأنَّ الفلسفة ظلَّت تُبدي اهتمامًا أساسيًّا بالبحث في أصل الكون ونشأته، والغاية التي يتجه إليها، وفي مركز الإنسان أو موقعه من العالم، وفي الحياة الأخلاقية وسُبُل تحقيقها، وفي مركز الإنسان ومآله، وهل سيفنى بعد الموت أم يبقى. وهذه المشكلات تُكوِّن في الوقت ذاته محور العقيدة (في الأديان السماوية على الأقل). ومن ثَم فإنَّ ميدان اهتمام الفلسفة، في صورتها التقليدية على الأقل، لم يكُن يختلف كثيرًا عن ميدان اهتمام الدين. وهنا يحقُّ للمرء أن يتساءل: لماذا إذَن كان هذا التاريخ الطويل من العداء وفقدان الثقة بين الطرفَين؟ ولماذا ظلَّ الاعتقاد راسخًا لدى الكثيرين بأنَّ بين الفلسفة والدين منافسةً لا ترحم، وبأنَّ عقل الإنسان أو روحه لا يتسع للاثنين معًا، فإمَّا أحدهما وإمَّا الآخر؟

إنَّ قصة العلاقة بين الفلسفة والدين قصة طويلة شديدة التعقيد، لم يكُن المسار فيها واضحًا مستقيمًا، بل كان يسير في معظم الأحيان في خطوط شديدة التعرُّج والالتواء. وليس من مهمَّتنا في هذا البحث أن نتتبع هذه العلاقة في تفصيلاتها المُعقَّدة، وإنَّما يكفينا أن نشير إلى أنَّ السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين، طوال تاريخ الحضارة الإنسانية، لم يكُن نوع الأفكار التي ينادي بها كلا الطرفَين، وإنَّما طريقة التفكير لدى كلٍّ منهما. إنَّ الخلاف بين الفلسفة والدين لم يكُن في الأساس خلافًا في المحتوى أو المضمون، بل كان خلافًا في المنهج. ويتلخَّص هذا الخلاف في أنَّ منهج التفكير الفلسفي نقدي، على حين أنَّ منهج التفكير الديني إيماني. إنَّ الفلسفة تناقش كافة المسلَّمات، ولا تعترف إلَّا بما يصمد لاختبار المنطق الدقيق، على حين أنَّ مبدأ «التسليم» ذاته أساسي في الإيمان الديني، وأقصى غايات ذلك الإيمان هي أن يؤدِّي بالمرء إلى قبول المُعتقَد بلا مناقشة، بل بغير أن تطرأ على باله أصلًا فكرة المناقشة وعلى حين أنَّ التناقض هو المعيار الأول للرفض في الفلسفة، فإنَّ الإيمان الديني لا يبحث أصلًا عن التناقض، بل يصل الأمر ببعض اللاهوتيين إلى حدِّ القول إنَّ المرء يؤمن لأنَّ ما يؤمن به ممتنع ومتناقض، ويرى في قبول المتناقص والممتنع أبلغ دليل على رسوخ الإيمان.

إنَّ المنهج الفلسفي يسير في طريق التشكيك والتدقيق إلى نهايته، بينما الإيمان يرتكز على القبول والتصديق. بل إنَّ اللفظ المُعبِّر عن الإيمان هو نفسه المُعبِّر عن التصديق في كثير من اللغات (الإنجليزية belief، والفرنسية Croyance، والألمانية Glaube … إلخ). وإذا كان بعض المُفكرين قد سعَوا إلى دعم الإيمان ومعتقداته الأساسية (كوجود الله وخلود النفس وخلق العالم … إلخ) على أساس براهين عقلية ومنطقية، فإنَّ هؤلاء كانوا، في هذه المسألة بالذات، أقرب إلى الفلاسفة منهم إلى رجال الدين، فضلًا عن ذلك فإنَّ أمثال هذه البراهين لم تكُن، في الأغلب، تسير في الطريق العقلي من بدايتها إلى نهايتها، بل كانت بدَورها ترتكز في مراحلها الحاسمة، على قبول مسلَّمات دينية مُعيَّنة، ثم تُكمِل هذه المسلَّمات بالاستدلال العقلي.

وهكذا فإنَّ الأُسس الأولى للحوار بين الفلسفة والدين لا ترتكز على أرض صلبة؛ ذلك لأنَّ الفيلسوف يريد أن يناقش كل شيء. على حين أنَّ رجل الدين، حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة، لا يسمح بهذه المناقشة إلا في حدود مُعيَّنة، ويرفض أن تمتدَّ حتى تشمل المعتقدات الأساسية. وحين يصرُّ الفيلسوف على أن يُخضِع كل المعتقدات لاختبار العقل، فهو في كثير من الأحيان لا يفعل ذلك لأنَّه يسعى إلى هدمها، وإنَّما هو يتمسك بمنهجه الخاص بطريقة مُنسَّقة فحسب، ولو وصلَت هذه المناقشة إلى دعم تلك المعتقدات الدينية فلن يعترض على ذلك، وكل ما في الأمر أنَّه سيكون عندئذٍ قد وصل إلى هذه المعتقدات لأنَّه «اقتنع» بها، لا لأنَّه «سلَّم بها». ومن جهة أخرى فإنَّ رجل الدين حين يصرُّ على أنَّ المنطق لا مكان له في عقيدته، فإنَّه لا يفعل ذلك كراهيةً في المنطق، بل إنَّه قد يقبل المنطق والتفكير المنطقي، ويطبِّقهما في مجالات أخرى عديدة غير المجال الديني، وكل ما في الأمر أنَّه يتمسك بالمعنى الأصلي للإيمان من حيث هو تسليم وتصديق لا مجال فيه للتدقيق أو التحقيق.

وتترتَّب على هذا الاختلاف نتائج أساسية تشير إلى فوارق هامة بين المجالين؛ فالفلسفة (فيما عدَا استثناءات قليلة) تُغلِّب جانب العقل، على حين أنَّ الدين يُغلِّب جانب العاطفة والشعور الوجداني. والفلسفة إنسانية المصدر، بينما الدين (في حالة العقائد السماوية على الأقل) وحي إلهي.

ولعلَّ أهمَّ هذه النتائج جميعًا هو أنَّ الدين يقوم على أساس فكرة الحقيقة الواحدة المطلقة. فمُعتنقُو كل عقيدة دينية يؤمنون بأنَّهم هم الذين يملكون «الحقيقة». وحتى لو اعترفوا بالعقائد الأخرى، فإنَّهم يرَون فيها مجرَّد تمهيد لعقيدتهم، كان ينبغي أن يختفي وينتهي دَوره في اللحظة التي تظهر فيها «الحقيقة» في صورتها النهائية المكتملة. أيْ إنَّ أقصى ما تفعله العقيدة المتسامحة هو أن تَعُدَّ غيرها من العقائد صورةً ناقصةً للوحي الذي اكتمل فيها هي، أمَّا في بقية الحالات فإنَّنا لا نجد إلا إنكارًا تامًّا للعقائد الأخرى، وتأكيدًا بأنَّ كل ما عداها هو عقائد «دخيلة» زيفَت بشكل أو بآخر.

على أننا لا نودُّ أن نستطرد طويلًا في هذه التحليلات ذات الطابع العام للعلاقة بين الفلسفة والدين؛ ذلك لأنَّ هدفنا هو بحث هذه العلاقة في سياق العالم العربي المعاصر على وجه التحديد. وهنا ينبغي أن نشير إلى مسألة على جانب عظيم من الأهمية، هي أنَّ أيَّ بحث كهذا لن يستطيع، عمليَّا، أن يتحدث عن موقف «الدين في ذاته» من الفلسفة، بل سيتحتَّم عليه أن يكتفي في بحثه بمعالجة مواقف مُعيَّنة تجاه الدين، يتخذها المسلمون المعاصرون؛ ذلك لأنَّ الاتجاهات تتشعَّب إلى حدٍّ هائل، في العالم الإسلامي المعاصر، بين التفسيرات التي يصل اختلافها إلى حدِّ التضاد في كثير من الأحيان، والأهمُّ من ذلك أنَّ كلًّا من هذه التفسيرات يُقدِّم نفسه إلينا على أنَّه هو وحده الصحيح، بحيث لا يقول أصحابُه أبدًا إنَّهم يتحدثون عن اجتهادهم الخاص في فهم مسائل إسلامية مُعيَّنة، بل يؤكدون أنَّهم يتحدثون عن «الإسلام في ذاته»، وعن وجهة نظر الدين — بالمعنى العام لهذه الكلمة — في تلك المسائل. ونظرًا إلى التضادِّ الشديد بين هذه الاجتهادات، فلا بدَّ للباحث الجاد أن يعترف بالأمر الواقع، وهو أنَّ ما يقوم بتحليله لا يمكن أن يكون موقف «الدين في ذاته» (إذ إنَّه لو ادَّعى ذلك لَمَا كان يُقدِّم إلينا في الواقع سوى «اجتهاد» آخر يضيفه إلى الاجتهادات المتباينة الكثيرة الموجودة بالفعل)، وإنَّما هو موقف المسلمين المعاصرين من الدين، أو طريقتهم الخاصة في تفسيره. وغنيٌّ عن البيان أنَّه سيجد عندئذٍ كثرةً من المواقف وطرق التفسير، وسيكون عليه أن يعمل حسابًا لهذا التعدد. ولكن المهمَّ في الأمر أنَّنا لو وجَّهنا انتقاداتٍ إلى الموقف الإسلامي المعاصر إزاء الفلسفة، فينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أنَّ هذه الانتقادات ليست مُوجَّهةً إلى الإسلام في ذاته، وإنَّما هي مُوجَّهة إلى طريقة فهم المسلمين المعاصرين لدينهم.

(١) الحوار بين الدين والفلسفة

هل هناك حوار حقيقي بين الدين والفلسفة في مجتمعنا المعاصر؟ في رأيي أنَّ الشروط الأساسية لهذا الحوار غير قائمة، ومن ثَم فإنَّ الوصف الأصدق للعلاقة بين هذين الطرفَين — في ظلِّ أوضاعنا الفكرية والاجتماعية السائدة — هو «المواجهة» وليس الحوار.

إنَّ الشرط الأول للحوار هو أن يقوم بين طرفَيه نوعٌ من التكافؤ في الفرص على الأقل، ولكن هذا الشرط مُفتقَد في حالة الفلسفة والدين. فالفلسفة تفترض مقدَّمًا تعدُّد الآراء، وتَقبَل الرأي الآخر وتناقشه وتنقده، وترى في ذلك إثراءً لها. أمَّا الدين فإنَّ ارتكازه على فكرة الحقيقة المطلقة يؤدِّي به إلى أن يرى في الرأي الآخر مروقًا وزندقة، أو بدعةً على أقلِّ تقدير. إنَّ مناقشة الأُسس والمبادئ الأولى جوهرية في الفلسفة، وهي مصدر غناها الفكري، على حين أنَّ هذه المناقشة مستحيلة في الدين، إذ إنَّ ما يمكن أن يُناقَش فيه ليس إلَّا الفروع لا الأصول. وحتى الفروع قد لا تُقبل مناقشتُها في عصور التزمُّت والانغلاق الفكري. وهكذا فإنَّ معارضة أيَّة نظرية فلسفية هي تعميق لها، على حين أنَّ معارضة عقيدة أساسية قد يُعَدُّ «كفرًا». ومن ثَم تُمنع ممارسة هذه المعارضة بكافة ضروب التحريم المعنوي، والتجريم المادي. وإذا كانت أوروبا في القرون الوسطى قد مارست هذا الحظر بكل قسوة، ووسَّعَت نطاق التحريم والتجريم، بحيث اشتمل على أبسط خروج عن الخطِّ الرسمي للكنيسة، فإنَّ مجتمعنا العربي المعاصر لا يعدم أمثلةً قريبة الشَّبه بهذه، يمارس بعضها بسُلطة الدولة الرسمية، والبعض الآخر عن طريق جماعات مُنشقَّة عن الدولة، تحكم بسهولة بتكفير مَن لا يتفق معها في تفسيرها الخاص للدين، ومن ثَم تُحِلُّ دمه. وليست هذه بالطبع هي الصورة الكاملة، ولكن وجود مثل هذه الحالات المتطرفة هو وحده كافٍ لإفقاد الحوار شرطه الأساسي، وأعني به التكافؤ.

فماذا يكون شكل الحوار بين الفلسفة والدين، في ظلِّ أوضاع كهذه؟ لقد أدَّت هذه الأوضاع إلى عجز الفلسفة عن مناقشة المسائل الدينية بطريقتها الخاصة، وعلى أرضها هي. فهي لا تستطيع أن تنظر إلى هذه المسائل على أنَّها تؤلِّف نسقًا فكريًّا قابلًا للنقد، سواء في أُسسه الأولى أم في نتائجه. وهي تبدأ مقدَّمًا بافتراض أنَّ أيَّة مناقشة تدور حول هذه المسائل الدينية لا يمكن أن تسفر عن رفض أيِّ مبدأ أساسي فيها، ومن ثَم تدور المناقشة في حدود ضيِّقة تختلف كثيرًا عن تلك التي اعتادتها الفلسفة عند مناقشة مسائلها الخاصة.

وإذا كان عدم التكافؤ هذا وافتقار أسلوب الحوار ومنهجه إلى أرض مشتركة بين الطرفَين، إذا كان ذلك ظاهرةً عامةً تسري على كافة المراحل التي مرَّت بها العلاقة بين الفلسفة والدين، فإنَّ المرحلة المعاصرة لهذه العلاقة تتسم بسمة أخرى ينبغي ألَّا يتجاهلها أيُّ باحث علمي نزيه لهذا الموضوع، وأعني بها عنصر الخوف. فقد تدهور مستوى التسامح الفكري في عالمنا العربي، خلال القرن الأخير، تدهورًا ملحوظًا، وهبط الخطُّ البياني لحرية الفكر هبوطًا حادًّا، في السنوات الأخيرة بوجه خاص، وأصبحَت كثير من الموضوعات التي كانت تُناقَش بسماحة وسعة أفق في أوائل هذا القرن، بل في القرون الأولى للعصر الإسلامي؛ أصبحَت من الممنوعات والمحظورات، وتحوَّل هذا القرن، الذي اصطلحنا على أن نُسمِّيَه بعصر النهضة العربية؛ تحوَّل إلى عصر كبوة وارتداد وتخلُّف شديد، ولا تبدو في حياتنا الراهنة أيَّة بادرة تدل على أنَّنا سنتخلص قريبًا من ضِيق الأفق هذا، بل إنَّ كل الدلائل تدل على أنه سيشتدُّ إلى أن يصبح انسدادًا تامًّا لأفقنا العقلي. ولستُ هنا في معرض تعليل هذه الظاهرة الشديدة التعقيد، وإن كنت أستطيع أن أقول بوجه عام إنَّ التسلط السياسي والاستبداد في الحكم كان من الضروري أن ينعكس على فكرنا في صورة خضوع متزايد للسُّلطة العقلية والروحية، وانكماش متزايد لقدرتنا على النقد والمعارضة الفكرية، يوازي بالضبط اختفاء المعارضة السياسية من حياتنا.

وعلى أيَّة حال فإنَّ فكرة السُّلطة هذه تنعكس على حياتنا الفكرية بصورة واضحة، إذ نجد في العقود الأخيرة اتجاهًا متزيِّدًا إلى الاستشهاد بالنصوص من أجل حسم أيَّة مشكلة فكرية. ومن الواضح أنَّ منهج الاستشهاد بالنصوص يعكس في داخله اتجاهًا إلى التخويف، ومن ثَم فإنه هو نفسه — في جانب من جوانبه — يُمثِّل نوعًا خاصًّا من ممارسة الإرهاب؛ إذ إنَّ الفكرة الكامنة من ورائه هي: «هذا ما يقوله النص، فإمَّا أن تقبله كما هو، وتقبل بالتالي وجهة نظرنا، وإمَّا أن تتحدى النَّص إن كنت تملك الشجاعة، وعليك بعد ذلك أن تتحمل العواقب!» وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا ليس على الإطلاق أسلوب حوار يستطيع الفكر الفلسفي أن يشارك فيه، لأنَّ عملية التحريف الكامنة من ورائه تمنع هذا الفكر، منذ البداية، من ممارسة فاعليته.

فما الذي يفعله الفكر لكي يتخلَّص من موقف كهذا؟ إنَّه يتحايل على هذا الموقف بأن يلجأ، هو بدَوره، إلى الاستشهاد بالنصوص لتأييد وجهة نظره الخاصة، أيْ إنَّه يصبح طرفًا فيما أُحبُّ أن أطلق عليه اسم «لعبة النصوص». فإذا كان هناك مَن يستشهدون بالنصوص من أجل تأييد وجهة نظر مضادَّة للفكر الفلسفي ومؤكِّدة للسُّلطة القطعية الجازمة، فلماذا لا يستشهد أهل الفلسفة بالنصوص أيضًا لكي يؤيِّدوا وجهة النظر المتسامحة، الواسعة الأفق؟ وبطبيعة الحال فإنَّ في النصوص متسعًا لشتَّى الآراء المتعارضة، وذلك إذا عملنا حسابًا للاختلاف الهائل في السياقات التي وردَت فيها هذه النصوص، وإذا استخدمنا براعتنا في تأويلها بالطريقة التي تدعم وجهة نظرنا. وهكذا تستطيع، بانتزاع النَّص من سياقه، وباستخدام التعدُّد الهائل للنصوص، وبالالتجاء إلى ذكائك في التأويل، أن تستخلص من النصوص تأييدًا لأيَّة وجهة نظر تشاء. والمهمُّ في الأمر أنَّ الفكر الفلسفي، حين يجد نفسه مضطرًّا إلى التخلِّي عن طريقته الخاصة في البحث، وأعني بها طريقة مناقشة المُسلَّمات، مهما كانت أساسية، يلجأ إلى ممارسة فاعليته بشروط الطرف الآخر، وعلى أرض الطرف الآخر، فلا يعود مرتكزًا على المنطق الداخلي لحُجَجه العقلية، وإنَّما يجادل في المسائل الدينية من داخل النصوص الدينية ذاتها، مع تأويلها عقليًّا (كما كان يفعل ابن رشد مثلًا منذ قرون عديدة) على النحو الذي يدعم وجهة نظره.

ومع الاعتراف بأنَّ هذا الأسلوب قد يكون هو الوسيلة الوحيدة المتاحة في ظروف كهذه للاحتفاظ بقدْر من الاستنارة العقلية وسط موجات جارفة من التيارات التي تهدف إلى إلغاء العقل والاعتماد المطلق على التقليد والاتباع، فلا بدَّ لنا أن نشير إلى أنَّ هذه الطريقة في المعالجة يشوبها، من وجهة النظر الفلسفية الخالصة، عيبان أساسيان:
  • أولهما: أنَّ الفكر الفلسفي حين يلجأ إلى المواجهة من خلال النَّص يكون قد اعترف بأنَّه ألقى سلاح العقل والمنطق؛ أعني أنَّه اتخذ موقف المهزوم الذي سلَّم مقدَّمًا بأنَّه خسر أهمَّ أرض يرتكز عليها، فهو حين يفترض أنَّ النَّص لا يقبل المناقشة، وحين يدعم موقفه الخاص من خلال نصوص يواجه بها تلك النصوص الأخرى التي يلجأ إليها الطرف الآخر، يكون قد سلَّم مقدَّمًا بأنَّ النَّص هو المرجع غير القابل للمناقشة العقلية، وهو الذي يُمثِّل حقيقةً مطلقةً تتجاوز المنطق والعقل، وهو تسليم ينطوي ضمنًا على اعتراف بأنَّ العقل النقدي قد توقَّف عن ممارسة عمله.
  • العيب الثاني: الذي يرتبط بالأول ويترتَّب عليه، فهو أنَّ هناك تناقضًا داخليًّا في المحاولة ذاتها؛ أعنى في أن تلجأ إلى سُلطة النَّص لكي تستخلص منها موقفًا عقلانيًّا يسمح بالمناقشة المنطقية المفتوحة؛ ذلك لأنَّ هذه المناقشة المنطقية، إذا شاءت أن تكون متسقةً مع ذاتها، ينبغي أن تكون (من الوجهة النظرية على الأقل) قادرةً على التصدِّي للنصِّ ذاته، بحيث لا تكون هناك حدود لقدرتها على النقد والتقويم. ومن هنا فإن المرء لا يستطيع منطقيًّا أن يتخذ في آنٍ واحد موقف الاعتراف بسُلطة مطلقة، ويحاول استخلاص موقف نقدي عقلاني من داخل هذه السُّلطة. فالتناقض واضح؛ لأنَّ السُّلطة نقيض العقل النقدي، واستخلاص أحد الطرفَين من الآخر ممتنع عقليًّا.

وإذا كنَّا نرى المُفكرين المستنيرين المعاصرين (من أمثال محمد خلف الله وخالد محمد خالد … إلخ) لا يناقشون الأمور في أيامنا هذه إلَّا باتِّباع هذا الأسلوب، فليس معنى ذلك أنَّنا نوجِّه إليهم اللوم على منهجهم هذا، إذ إنَّه قد يكون هو الوسيلة الوحيدة — في ظروفنا الراهنة — للتخفيف من غلواء المدِّ الاتِّباعي بشيء من العقلانية، وكل ما في الأمر أنَّنا حين نناقش الموضوع مناقشةً فلسفيةً نظرية، نجد لزامًا علينا أن نشير إلى الصعوبات الداخلية لهذا الموقف، بغضِّ النظر عن الاعتبارات العملية الواقعية.

واستكمالًا لهذه المناقشة النظرية، نستطيع أن نقول إنَّ من الممكن تصوُّر مواقف أخرى، مغايرة تمامًا، تتخذها الفلسفة إزاء النَّص الديني، وهي مواقف اتخذَتها الفلسفة بالفعل في بعض مراحل الحضارة الغربية، ويكفينا أن نشير إليها بوصفها ممكناتٍ نظريةً فحسب، بغضِّ النظر عن كونها مقبولةً أو غير مقبولةٍ في مجتمعنا:

  • (أ)

    ففي كثير من الفلسفات الدينية الغربية التي بدأت مع حركة النقد التاريخي للنصوص، كان يُنظر إلى النَّص الديني على أنَّه نسبي زمنيًّا، أيْ على أنَّه موجَّه إلى عصر مُعيَّن. كما أصبحَت فكرة النسبية تسري على النطاق الذي ينطبق عليه النَّص الديني، فيُقال إنَّ مهمَّته هي الإرشاد الأخلاقي والمعنوي للإنسان، ومن ثَم فإنَّه يُقدِّم توجيهاتٍ ومبادئَ إنسانيةً عامة، أمَّا التفاصيل المتعلقة بالشئون الدنيوية فتُترك لعقل الإنسان وتجربته.

  • (ب)

    بل إنَّ بعض الفلسفات العربية (أوجست كونت مثلًا) ذهبَت أبعد من ذلك، فنظرَت إلى المرحلة الدينية بأَسرها على أنَّها مرحلة أولية من مراحل الفكر البشري، ومن ثَم فلا بدَّ من تجاوزها. وبالفعل فإنَّ عصر العلم يتجاوز هذه المرحلة بحيث لا تعود لها أهمية إلَّا من حيث أنها تُمثِّل مرحلةً تاريخيةً غابرةً فحسب.

هاتان، كما قُلت، حالتان ممكنتان نظريًّا، وهما تُمثِّلان موقفًا للفلسفة إزاء سُلطة النَّص الديني يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي يتخذه الفكر العربي المعاصر من هذه المسألة. وبالطبع كانت الظروف الخاصة لتطوُّر العلاقة بين الفكر الفلسفي والعقيدة الدينية في الغرب هي التي أتاحت لبعض فلاسفة الغرب اتخاذ مواقف كهذه، ولكن ما يُهِمُّنا في هذه الإشارة هي أنَّ هناك — على المستوى النظري — إمكاناتٍ أخرى للعلاقة بين الفكر الفلسفي والنَّص الديني تختلف كل الاختلاف عمَّا هو سائد في عالمنا العربي المعاصر.

وهكذا فإنَّ الشكل الذي تتخذه العلاقة بين الفلسفة والدين، في مجتمعنا الحالي، لا تُمليه الاعتبارات العقلية وحدها، بل إنَّ هناك عناصر أخرى تتدخَّل في تحديد شكل هذه العلاقة، أهمُّها — إذا شئنا أن نطلق على الظواهر أسماءها الصحيحة — الخوف، الذي يُضفي على الحوار سماته الخاصة المميزة، فأحد الطرفَين، وهو الفلسفة، لا يستطيع أبدًا أن يمضيَ في ممارسة عمله إلى المدى الذي وصلَت إليه الفلسفة في المجتمعات التي تحرَّرَت من الخوف منذ أمد بعيد، ومن ثَم يظلُّ جهده في هذا الميدان محدودًا، وتظلُّ مناقشاته ملتويةً غير مباشرة، بل يمكن القول إنَّ دخول الفكر الفلسفي العربي المعاصر في «لعبة النصوص» — وهو أمر أصبح عظيم الشيوع في هذه الأيام — هو ذاته أوضح مظاهر الخوف في الفكر الفلسفي.

وبعبارة أخرى، فحتى لو جاز لنا أن نطلق اسم «الحوار» على المناقشات الفكرية للمسائل الدينية في مجتمعنا المعاصر، فلا بدَّ أن تكون على وعي بأنَّ هذا حوار يستطيع فيه أحد الطرفين، وهو الطرف الديني، أن يُعبِّر عن وجهة نظره كما يشاء، على حين أنَّ الطرف الآخر مغلول بألف قيد وقيد، ووجود هذه القيود يفرض عليه أن يلجأ أحيانًا إلى التحايل والالتفاف حول أهدافه بطُرق غير مباشرة، بل قد يرغمه على اللجوء إلى الخداع.

وهناك نتيجة هامة تترتَّب على عدم التكافؤ في الحوار بين الفلسفة والدين. ففي الفكر العربي الحديث كان الموقف الفلسفي العام هو الذي يؤثِّر في تحديد طبيعة المفاهيم الدينية ويُحدِّد مواقف المُفكرين منها. بل إنَّ تصوُّر الألوهية، وهو التصور الأساسي في العقيدة الدينية، قد تشكَّل في أوروبا الحديثة وفقًا لتطورات الفكر الفلسفي. ففي مطلع العصر الحديث، حين سادت النظرة الرياضية إلى العالم في الفلسفة، تحدَّث الفلاسفة عن الله بوصفه «مُنظِّم الكون هندسيًّا»، وانتشرَت فكرة «الإله الهندسي Le Dieu geometre» على نطاق واسع. وبالمثل فإنَّ شيوع النظرة الميكانيكية إلى الكون، وانبهار العقل الفلسفي بالدَّور الذي تلعبه الآلات الميكانيكية (وخاصةً الساعة) من حيث إنَّها تُمثِّل الطريقة التي يسير بها العالم، قد أدَّى إلى تطبيق نموذج «الساعة» على تصوُّر الألوهية، وعلاقة الله بالعالم. ومن هنا رأينا عددًا من الفلاسفة (لينيتس وجولينكس Geulinex مثلًا) يلجئون إلى تشبيه «الساعة» في تصوُّر العلاقة بين الله والعالم، وينظرون إلى الله على أنَّه «صانع الساعات» الذي لا تُخطئ صنعته، والذي ضبط حركة العالم منذ البدء — كأنَّه ساعة مُحكَمة — بأدقِّ الطرق الممكنة. ومضى العالم في مساره بعد ذلك بإحكام وانضباط. أمَّا إذا انتقلنا إلى الفكر الغربي القريب العهد، فسوف نجد تطوراتٍ هائلةً تطرأ على المفاهيم الدينية الرئيسية في ضوء النظريات العلمية الهامة، كنظرية التطور، والتحليل النفسي والنسبية، وسوف نجد مراجعةً مستمرةً لمفاهيم الألوهية والخلود والبعث … إلخ، في ضوء التغيرات التي يجلبها التطور العلمي والفلسفي.

ومن المهمِّ جدًا أن نلاحظ أنَّ هؤلاء الفلاسفة الغربيين لم يكونوا يفعلون ذلك استخفافًا بالدين أو استهانةً به. فقد كان معظم أولئك الذين عدَّلوا المفاهيم الدينية الرئيسية في ضوء التطورات الفكرية مؤمنين بعمق، ولم يكونوا يرَون في تعديلاتهم هذه انتقاصًا من الإيمان، بل كانوا يرَون فيه تثبيتًا وتعميقًا للعقيدة الدينية.

هذا النوع من التعديل في المفاهيم الدينية الرئيسية يستحيل تصوُّره في مجتمعنا، بل إنَّ محاولة كهذه تُدان بشدة وتُعرِّض صاحبها — ونحن في الرُّبع الأخير من القرن العشرين — لأخطار معنوية ومادية شديدة، بل إنَّ ما يحدث في المجتمعات هو العكس، أعنى أنَّ نظرتنا إلى المفاهيم الدينية — وهي نظرة سكونية ثابتة — هي التي تؤثِّر إلى حدٍّ بعيدٍ في موقفنا من المسائل الفلسفية والعلمية، وفي قبولنا أو رفضنا لأيِّ اتجاه جديد في هذه الميادين. وحسبُنا أن نضرب لذلك بعض الأمثلة ذات الدلالة الواضحة.

فمن المؤكَّد أنَّ العوامل الدينية هي التي تُفسِّر جانبًا كبيرًا من المكانة التي أحرزَتها الفلسفة المثالية، والسُّمعة السيئة التي اكتسبَتها الفلسفة المادية، وكذلك الوضعية، لدى الكثيرين من مُفكرينا ومن المُشتغلين بالفلسفة في بلادنا؛ ذلك لأنَّ المثالية ترتبط في أذهان هؤلاء بالجوانب الروحية، وبالمُثل العُليا، ومن ثَم بتلك القِيَم التي تسعى العقائد السماوية إلى تأكيدها، على حين أنَّ المادية ترتبط بالسعي وراء «الماديات»، والتحلُّل الخلقي. أمَّا الوضعية فتثير في أذهان الكثيرين فكرة «القوانين الوضعية»؛ أعني التشريعات التي يضعها البشر في مقابل التشريعات الإلهية المنصوص عليها في الدين. ومن المؤسف أنَّ هذه كلها ارتباطات باطلة، لا تصمد أمام التحليل الفلسفي المُتعمِّق، ولكن المجال لا يتسع هنا لإثبات هذا البُطلان، الذي أصبح راسخًا في أذهان الكثيرين، حتى من المتخصِّصين في الفلسفة، وحسبُنا الآن أن نُقرِّر وجود هذا الارتباط في الأذهان، وأن نستخلص دلالته، وهي أنَّ العامل الديني هو الذي يُحدِّد موقف الكثيرين إزاء المذاهب الفلسفية المختلفة، بحيث لا يُصدِرون حُكمهم على هذه المذاهب تبعًا لمنطقها الداخلي، بقدْر ما يُخضِعونه لاعتبارات إيمانية وأخلاقية قد لا تكون لها في الواقع صلة حقيقية بتلك المذاهب. وهذا يُمثِّل الموقف العكسي بالقياس إلى ما رأيناه في الفكر الأوروبي الحديث، الذي يكون فيه الموقف الفلسفي هو المتحكِّم في تشكيل كثير من المفاهيم الدينية وتحديد طبيعتها.

(٢) تحليل مظاهر الاختلاف بين الفلسفة والدين

على أنَّ هذا الوضع غير المتكافئ للعلاقة بين الدين والفلسفة في عالمنا العربي المعاصر، لا ينبغي أن يحُول بيننا وبين القيام بتلك المهمَّة الأساسية التي يأخذها هذا البحث على عاتقه، وأعني بها تحديد معالم هذه العلاقة وإبراز الاختلافات الخاصة بين الفلسفة والدين في كل جانب من جوانبها، وبطبيعة الحال فإنَّ هذه المحاولة ستتم، في بحثنا هذا، من منظور فلسفي، أيْ إنَّها استكشاف لطبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين من وجهة نظر باحث في الفلسفة. وهذا لا يمنع أن يكون لرجل الدين في هذا الموضوع نفسه، رأي مختلف كل الاختلاف. ومن جهة أخرى فلا بدَّ أن يتذكَّر القارئ طوال مراحل هذا البحث، ما قُلناه في البداية من أنَّ المقصود بالدين هنا هو تفسير المسلمين المعاصرين للدين، أمَّا وجهة نظر «الدين في ذاته» فنحن لا ندعي لأنفسنا معرفتها، ومن المشكوك فيه أن يكون في ذهن أولئك الذين يزعمون امتلاكها شيء أكثر من تفسيرهم المنبثق عن نظرتهم الخاصة إلى الدين وإلى وظيفته في حياة الإنسان:

  • أولًا: أول جوانب هذه العلاقة هو الموقف من العقل والمنطق، على النحو الذي أشرنا إليه عندما تحدثنا من قبل عن الفوارق بين منهجَي الفلسفة والتفكير الديني. ولا شكَّ أنَّ التضاد بين الفكر الفلسفي والفكر الديني في مجتمعنا المعاصر يظهر بأوضح صوره في موقف كلٍّ منهما من المنهج العلمي الذي يسير وفق منطق صارم دقيق.

    فالفلسفة لا تُشكِّك في هذا المنهج العلمي، بل إنَّها تقبله وتعمل على تحليله وكشف أُسسه النظرية، بل إنَّها ربما أسهمَت بإضافات هامة تساعد العلماء أنفسهم على إدراك الطريق الذي يسلكونه بوضوح، أمَّا التيارات الدينية المعاصرة فإنَّ قِلَّة منها هي تلك التي تتقبَّل هذا المنهج، وأغلب هذه التيارات يتخذ موقفًا قَلِقًا من أساليب التفكير العلمي، يهدف في نهاية الأمر إلى إثبات أنَّ علم الإنسان قليل، مهما اتسع، وعقله هشٌّ هزيل، مهما اكتشف واخترع، ومن ثَم فإنَّ الوحي — الذي يضعونه في مقابل الاستدلال العقلي والعلمي — هو المصدر الحقيقي للمعرفة.

    هذا الهجوم على العلم وعلى المنهج العلمي، يتخذ أشكالًا متعددة:
    • (أ) التشكيك في مبدأ التفكير المنطقي ذاته، وهو المبدأ الذي يرتكز عليه كل منهج علمي، على أساس أنَّه يؤدِّي إلى زعزعة العقيدة الدينية وتخلخُل الإيمان. وهنا نجد أنَّ هذا الهجوم ليس إلا إحياءً للشعار القديم المشهور «مَن تَمَنطَق تَزندَق».

      فما هو بالضبط المضمون الذي ينطوي عليه هذا الشعار؟ ينبغي أن نُلاحظ أنَّ هذا الشعار لا يتحدث في الواقع عن محتويَين فكريَّين، هما المنطق والزندقة، يؤدِّي أحدهما إلى الآخر؛ ذلك لأنَّ المنطق، وعمليات التفكير المنطقي التي ينطوي عليها كل استدلال علمي، والتي يُعبِّر عنها لفظ «تَمنطَق»، ليس مجموعةً من التعاليم والنظريات التي تُقال بشأن العالِم والإنسان … إلخ، وإنَّما المنطق — كما أدرك العقل الإنساني منذ القِدَم — أداة، أو طريقة مُعيَّنة في التفكير، أساسها الحُجَّة العقلية والاستدلال السليم الذي يُفضي إلى الإقناع. وهكذا فإنَّ ما يؤدِّي إلى الزندقة، وفقًا لهذا الشعار، ليس مجموعةً من الآراء أو النظريات التي ينادي بها أهل الفلسفة أو العلم، الذين يستخدمون المنطق، وإنَّما هو «منهج» التفكير العقلي المنطقي الذي يسيرون وفقًا له. فالشعار يقول في الواقع إنَّكَ إذا استخدمتَ عقلكَ وفكَّرتَ تفكيرًا منطقيًّا متماسكًا، أوصلكَ هذا إلى الزندقة.

      وغنيٌّ عن البيان أنَّ الشعار، بصورته هذه، لا يخدم قضية القائلين به على الإطلاق، ففي الوقت الذي يهدفون فيه إلى الدفاع عن الدين، تراهم يصوِّرون الدين وكأنَّه يهتزُّ ويضعُف بمجرَّد أن يبدأ المرء في استخدام عقله والاستدلال على النتائج من المقدِّمات بطريقة مُتَّسقة متماسكة. وهم الذين يجعلون بناء الدين هشًّا إلى حدٍّ أنَّه لا يستمدُّ قوته وسيطرته على النفوس إلَّا من ابتعاد العقل عنه، ووقوف التفكير المنطقي بمعزل عن حصن الإيمان المتين، أمَّا لو اقترب العقل من الوحي أو حاول التفكير المنطقي مهاجمة قلعة الإيمان، فإنَّها سرعان ما تستسلم. هذا إذَن موقف يضرُّ بقضية الإيمان إضرارًا بالغًا، وهو يتعارض بالطبع — كما لاحظ الكثيرون — مع نصوص دينية كثيرة تدعو إلى التفكُّر والتدبُّر وإعمال العقل، بل يتعارض مع ممارسات كثير من الفقهاء الذين طبَّقوا الاستدلال العقلي على الأحكام الفقهية، فألقَوا بذلك ضوءًا ساطعًا على الكثير منها.

      والواقع أنَّ هذا الشعار، على الرغم من أنَّه ينتمي إلى عصر غابر، ما زال كامنًا من وراء نظرة كثير من نُقَّاد الفكر العلمي باسم الدين؛ فالعقل الإنساني في نظرهم متغير زائل، وقدرتنا على اكتساب المعرفة هزيلة، وحقائقنا العلمية تعطينا إحساسًا بالثقة الكاذبة في أنفسنا، وكأننا قادرون على الإحاطة بكل شيء علمًا. وفي هذا كله يخدعنا العلم الحديث ويدفعنا، دون أن نشعر، بعيدًا عن طريق الإيمان. ولكن، يكفينا أن نشير إلى أنَّه مثلما أدَّى اختلاق معركة بين التفكير المنطقي والإيمان إلى عكس الهدف المقصود منه، فكذلك لا بدَّ أن يؤدِّي التقابل المُصطنَع بين عقل الإنسان، وهو يسعى إلى المعرفة العلمية، وعقل الإنسان وهو يبحث عن الحقائق الدينية، إلى موقف لا يخدم قضية العلم ولا قضية الإيمان.

    • (ب) أمَّا الشكل الثاني الذي يتخذه الهجوم على الفكر العلمي في مجتمعنا، فهو التوسُّع في تفسير النصوص الدينية إلى الحدِّ الذي يجعلها صالحة لتفسير أحدث النظريات العلمية، وهذا، كما نعلم، اتجاه واسع الانتشار بين مجموعة من المُفكرين الذين ينسبون أنفسهم إلى الفكر الديني بحماسة شديدة، ويدافع كلٌّ منهم عن شكل من أشكال «التفسير العصري للقرآن»، يستمدُّ فيه حقائقَ ومفاهيمَ ونظرياتٍ علمية، في أصل الكون وفي الفيزياء وفي علم الأحياء، بل وفي علوم الفضاء، من النصوص الدينية.

      ومن الجدير بالذكر أنَّ الفلسفة قد تراجعَت، منذ وقت طويل، عن الخوض في هذا الميدان. فمن الجائز أنَّه كان هناك تداخُل، وأحيانًا تنافُس، بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة العلمية في العصور القديمة، ولكن منذ اللحظة التي أصبح فيها للعلم منهجُه المستقل، وأخذ فيه نجاحُ العلم، بفضل منهجه هذا، يظهر للعيان بصورة لا تقبل الجدل؛ منذ هذه اللحظة توقَّفَت الفلسفة عن التنافس مع العلم في هذا الميدان، فلم تعد تدَّعي مثلًا (كما كانت تفعل في العصور القديمة) أنَّها قادرة على تقديم تفسير لأصل الكون أو مبادئه الأولى، وتركَت هذا الميدان كليَّةً للعلم. وحتى في الحالات التي يبدو فيها أنَّ الفيلسوف قد تخطَّى الحدَّ المقبول، واقتحم أرض العلم بغير مُبرِّر، كما في حالة التجاء ديكارت إلى المنهج الاستنباطي من أجل كشف قوانين طبيعية، أو استنباط هيجل للعلم الطبيعي بالعقل المجرَّد — يظلُّ الفيلسوف في هذه الميادين «تابعًا للعالِم»، لأنَّ أقصى ما يفعله هو أن يستنبط بالعقل الخالص ما سبق أن توصَّل إليه العالِم بمناهجه التجريبية أو الرياضية الخاصة.

      ومن هنا فلن يكون المرء قد جانَب الصواب إذا قال إنَّ الفلسفة تخلَّت للعلم عن البحث في الكونيات والطبيعيات منذ بداية العصر الحديث، وكفَت نفسها بذلك مئونة الدخول في معركة لن تخرج منها منتصرةً بأيِّ حال من الأحوال.

      أمَّا أصحاب التفسيرات العصرية للنصوص الدينية، ممَّن يضعون أنفسهم في معسكر المُدافعين عن الدين، فإنَّهم يُصرُّون على إحياء منافسة ما كان ينبغي لها أن تظهر أصلًا في عصر العلم، فعلى الرغم من ادِّعائهم «العصرية»، فإنَّ جوهر قضيتهم، والهدف الأساسي الذي يسعَون إلى تحقيقه، ينتمي في الواقع إلى عصور سحيقة، كان الإنسان يتصوَّر فيها أنَّه قادر على تفسير الظواهر الكونية، في جملتها وتفاصيلها، بوسائل أخرى غير العلم.

    • (جـ) وأخيرًا، فإنَّ الهجوم على العلم يتخذ شكلًا ثالثًا، لا نعتقد أنَّه، بدَوره، قادر على الصمود في وجه التحليل الفلسفي. فالعلم يُوصَف بأنَّه «مادي»، وقد أصبح تعبير «العلم الغربي المادي» من التعبيرات الواسعة الانتشار في أدبيات الكُتَّاب الإسلاميين المعاصرين، فضلًا عن ترديده بلا انقطاع في الأحاديث والخُطَب وعلى المنابر. والتعبير يُقال، بالطبع، بمعنًى مذموم، دون أن يبذل أحدٌ ممَّن يستخدمونه أيَّ مجهود لكي يفكر في مدى صحة استخدامه على هذا النحو. ونتيجة ذلك هي أنَّ العلم، بمنهجه هذا الذي يُحلِّله الفكر الفلسفي ويشارك في بنائه، مرفوض من وجهة النظر الدينية، لأنَّه يرتبط ﺑ «الماديات»، ولا يوصلنا، آخر الأمر، إلَّا إلى بعض المكاسب التي تمسُّ حياة الإنسان «المادية»، ولكنها لا ترتقي بروحه ولا تُعينه على أن يعيش حياةً نقيةً طاهرة. وهو أيضًا علم يتعلَّق ﺑ «القشور»، مهما تعدَّدَت انتصاراتُه وامتدَّت إنجازاتُه، لأنَّ العالم المادي، الذي تنحصر فيه تلك الإنجازات، عالم زائل، ومن ثَم فإنَّ مَن يبحث عمَّا هو دائمٌ وباقٍ ينبغي أن يولِّي وجهه بعيدًا عن العلم.

      هذه، كما قُلتُ، مجموعةٌ من الآراء التي تشيع على نطاق واسع في نظرة كثير من المُفكرين الدينيين إلى العلم، وإلى الفكر الفلسفي الذي يسانده ويرتبط به. ولا يتسع المقام ها هنا لتقديم تفنيد مُفصَّل لهذه الآراء، بل يكفينا أن نشير إلى أنَّها ترتكز كلها على مجموعة من المغالطات الفكرية، أو الأحكام المُبتَسَرة التي تُطلَق بتسرُّع وبلا رويَّة؛ ذلك لأنَّ العلم أعظم انتصار لروح الإنسان على المادة. وحين يفهم العقل الإنساني الطبيعة ويكشف قوانينها ثم يسيطر عليها، فإنَّه يعلن بذلك سيادة عقله على العالم المادي. أمَّا الابتعاد عن العالم والانصراف عن المادة بحُجَّة العزوف عنها والترفُّع عليها، فإنَّه يُبقي الإنسان في حالة من الجهل المقيم، والخضوع الدائم لتقلُّبات العالم الطبيعي، ومن ثَم فإنَّه هو الذي يؤدِّي بالفعل إلى أسوأ أنواع المادية. إنَّ انتصار الإنسان على الطبيعة ليس على الإطلاق إعلاءً للمادة، بل هو أعظم دليل على انتصار الجوانب العقلية والمعنوية في الإنسان. وإذا كانت فكرة السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم قد اقترنَت، في الحضارة الغربية بالذات، بالتوسُّع الاستعماري والاستخدام اللاإنساني لأدوات الحرب والقتل والدمار، وإذا كانت هذه الحضارة قد اشترَت كثيرًا من انتصاراتها العلمية والتطبيقية على حساب إنسانية الشعوب الأخرى واستقلالها ورخائها، فمن الواجب أن نُحذِّر من الربط الدائم بين الأمرَين؛ ذلك لأنَّه لا مبرِّر على الإطلاق للاعتقاد بأنَّ العلم لا بدَّ أن يؤدِّيَ إلى تطوير أسلحة الحرب الفتَّاكة، وإلى استعمار الشعوب الأخرى واستغلالها. فقد تمَّ هذا الربطُ في الحضارة الغربية في إطار ظروف مُعيَّنة، ومن المشروع تمامًا أن نتصوَّر مسارًا آخر للتقدُّم يكون العلم فيه مُسخَّرًا لخدمة البشرية كلها، لا لخدمة شعوب على حساب غيرها، والمهمُّ أنَّ هذا الارتباط عارض، مهما بدَا قويًّا في عصر السيطرة الغربية الذي امتدَّ طوال القرون الأربعة الأخيرة. والشيء الأصيل حقًّا هو أنَّ قدرة الإنسان على تلجيم الطبيعة المادية وكبح جماحها بالعقل، وإعلاء حكم التفكير المنظَّم على الاضطراب والفوضى الظاهرية للطبيعة؛ هو انتصار هائل للروح على المادة، وليس على الإطلاق «علمًا ماديًّا» كما يُردِّد بعض الدُّعاة بلا فهم.

      فإذا أضفنا إلى ذلك ما يفترضه البحث العلمي من جهد عقلي صارم، ومن نزعات أخلاقية رفيعة، تُعين الباحث على تحمُّل مشاقِّ عمله، وما يبعثه الكشف من متعة معنوية وروحية هائلة في نفوس العلماء، اتضح لنا مدى زيف العبارات السطحية التي تتداولها الألسُن وتُضلِّل بها عقول أجيال كاملة.

      وخلاصة القول أنَّ الهجوم على المنهج العلمي، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأسلوب الإقناع والبرهان العقلي كما طوَّرَته الفلسفة على مرِّ العصور، يتخذ أشكالًا متعددة، ولكنها جميعًا لا ترتكز على أساس سليم. وهذا الهجوم يُمثِّل نقطةً جوهريةً من نقاط الاختلاف والافتراق في العلاقة بين الفلسفة والدين في مجتمعنا العربي المعاصر.

  • ثانيًا: لقد أشرنا من قبل إلى أنَّ فكرة الحقيقة الواحدة، المطلقة، تُمثِّل جانبًا أساسيًّا من جوانب الاختلاف بين الفكر الفلسفي وبين الطريقة التي يُعرَض بها الفكر الديني. والواقع أنَّ فكرة الحقيقة المطلقة لا تتَّخذ شكلًا واحدًا، وإنَّما يضيق نطاقها تدريجيًّا، ويضيق معها نطاق التسامح واتساع الأفق في عقول مُعتنقيها. وفي وُسعنا أن نتتبَّع مراحل هذا الاتجاه التدريجي إلى التضييق من نطاق الحقيقة الواحدة، وما يترتَّب عليه من نمو متدرج للتعصُّب وللتسلُّط الفكري وضِيق الأفق العقلي.

    ففي البدء كانت الحقيقة الواحدة المطلقة في الدين بوجه عام، من حيث هو مُستمَد من مصدر إلهي، في مقابل حقائق المعرفة المُستمَدة من مصادر بشرية متعددة ومتغيرة، وكان من الطبيعي أن تتخذ هذه الحقيقة المطلقة شكل دين مُعيَّن، بحيث يُقال عن الأديان الأخرى إنَّها مراحل أو خطوات على طريق الوصول إلى حقيقة هذا الدين الواحد، وهنا يظلُّ التسامح سائدًا على وجه العموم، في نظرة الدين الواحد إلى غيره من الأديان، ويتمثَّل ذلك بوجه خاص حين ينظر الإسلام إلى أصحاب الأديان الأخرى على أنَّهم من «أهل الكتاب». ولكن كل دين آخر كانت له حقيقته المطلقة في إطاره الخاص، وكان ينظر إلى غيره على نحوٍ مُشابه، أيْ على أنَّه غير مكتمل بالقياس إليه.

    ثم يزداد ضِيق «الحقيقة المطلقة»، فإذا بها المذهب الخاص الذي تعتنقه جماعة مُعيَّنة، كالسُّنة مثلًا في مقابل الشيعة (أو الكاثوليك في مقابل البروتستانت)، ولمَّا كان كل مذهب ينسب لنفسه الصحة المطلقة على حساب غيره، فقد كان من الطبيعي أن يضيق نطاق التسامح في ظلِّ هذه النظرة، وأن تشهد المجتمعات التي تأخذ بها، من آنٍ لآخر، مظاهر للاضطهاد، كانت تصل أحيانًا إلى حدِّ قيام حروب وارتكاب مذابح.

    وأخيرًا، تزداد الحقيقة المطلقة ضِيقًا، فتصبح هي تفسير جماعة أو فِرقة مُعيَّنة لهذا المذهب، بحيث إنَّ كل مَن يفسرونه على نحوٍ آخر يخرجون عن نطاق الحقيقة المطلقة، ومن ثَم فهم «كافرون». هكذا أمكن ظهور جماعة مثل «التكفير والهجرة»، يدل اسمها ذاته على أنَّ الحقيقة المطلقة عندها هي فهمها الخاص للدين، وكل ما عداها، حتى في إطار عقيدتها نفسها، بُطلان وكفر، وأمكن ظهور تنظيم «الجهاد» الذي لا يكتفي بتوسيع نطاق التكفير إلى أبعد حد، بل يُنفِّذ العقوبة على مَن يتصفون في رأيه بهذه الصفة، فيصبح دمهم مُستباحًا وقتلهم حلالًا.

    وهكذا كان نطاق «الحقيقة المطلقة» يزداد ضيقًا بالتدريج، وكلما ضاق، ازدادت حِدَّة تأثيم الخارجين عن هذه الحقيقة المطلقة، واتسع نطاق هؤلاء الخارجين. فبينما كان التأثيم في البدء يلحق بمَن ليست له عقيدة على الإطلاق، أصبح يمتدُّ إلى كل مَن لا ينتمي إلى عقيدة مُعيَّنة بالذات (اليهودية مثلًا)، ثم اتسع النطاق فأصبح يشتمل على كل مَن لا ينتمي إلى مذهب بعينه داخل عقيدة مُعيَّنة (مَن ليس كاثوليكيًّا مثلًا). ثم جاء مَن يوسعون نطاق التأثيم إلى حدِّ أن يصفوا بالكفر جميع البشر، حتى أبناء عقيدتهم، إن لم يكونوا يشاركونهم تفسيرهم الخاص للدين (التكفير والهجرة). وخلال ذلك كانت قسوة الحكم على أولئك الخارجين عن «الحقيقة المطلقة» تزداد بصورة واضحة، فأصحاب العقائد الأخرى لا يدعون، مثلًا، إلى الإسلام، ولكنَّهم إذا تمسَّكوا بعقيدتهم يظلُّون «من أهل الكتاب»، ولكن أصحاب المذاهب الدينية المخالفة لمذهب مُعيَّن «خارقون ومارقون»، وربما «ضالُّون». أمَّا حين تضيق «الحقيقة المطلقة» فتصبح هي التفسير أو الفهم الخاص للدين عند جماعة مُعيَّنة، فإنَّ مَن لا يأخذون بهذا التفسير يُستباح قتلُهم بضمير مستريح.

    إنَّه قانون دموي، يتناسب فيه مدى انطباق «الحقيقة المطلقة» تناسبًا عكسيًّا مع نطاق «التجريم والتكفير»، بحيث إنَّه كلما ضاق المجال الذي تنطبق عليه هذه الحقيقة المطلقة، ازداد عدد مَن يوصفون بالمروق والكفر، وازدادت في الوقت ذاته قسوة أصحاب «الحقيقة المطلقة» عليهم. وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا القانون إنَّما هو النتيجة المباشرة لتناسُب عكسي آخر بين الفكر النقدي المتحرِّر وبين الفكر الخاضع لسُلطة لا تناقش. ولستُ أزعم أنَّ هذا قانون شامل، لأنَّ تطوُّر الروح الدينية كان في حالات كثيرة يتجنَّب التطرُّف في الاتجاهَين معًا، ولكن كل مَن يرصد ظاهرة التعصُّب الديني لا يملك أن يتجاهل هذا القانون.

    وفي ضوء هذه الظاهرة، فإنَّ المقارنة بين الوضع السائد في ميدان الفكر الديني وحالة الفكر السياسي في عالمنا العربي تفرض نفسها بوضوح؛ ذلك لأنَّ الانتقال المُتدرِّج الذي أشرنا إليه منذ قليل يظهر بصورة مطابقة في ميدان السياسة، حيث توجَد أيضًا، في نُظم الحُكم الاستبدادية، حقيقة مطلقة يضيق نطاقها بالتدريج، ويتسع بالتالي، تدريجيًّا، نطاق «الخوَنة والعملاء» الخارجين عليها. فبعد انقلاب عسكري يحدث في بلدٍ ما، تكون «الثورة» هي الحقيقة المطلقة، ويُوصَف كل ما عداها بالفساد أو انعدام الوطنية أو ما شئتَ من الأوصاف السلبية. ثم تأتي، بعد تقلُّبات عديدة، «ثورة تصحيح» (توازي ظهور مذهب مُعيَّن داخل العقيدة الدينية)، فتصبح هي مقياس الوطنية الأوحد، وهي الحقيقة المطلقة، ثم يضيق نطاق هذه الحقيقة فيصبح منحصرًا في فكر الحاكم وحده، وربما ازدادت ضِيقًا في بعض الحالات فأصبحَت هي فكر الحاكم في مرحلة مُعيَّنة بالذات.١ ومع هذا التضييق المُتدرِّج تزداد شِدَّة التنكيل بالخارجين عن هذه الحقيقة الواحدة، ويتسع نطاق الذين ينبغي، في نظر الحاكم، أن يُحرَموا من جنَّته.
    هذا التوازي بين ضِيق الأفق في التفسير الديني وبين ازدياد الاستبداد السياسي هو، بلا شكِّ، أمر لافت للنظر. وليس من مهمَّتنا ها هنا أن ندخل في الجدل الدائر بين مدارس فكرية مختلفة حول مسألة أيهما هو الأصل، فهناك مَن يقولون إنَّ رسوخ تفسيرات ضيِّقة الأفق للدين هو الذي أدَّى إلى الاستبداد السياسي، وهناك مَن يرَون، على عكس ذلك، أنَّ الأصل هو الاستبداد السياسي، وهو الذي ينعكس على المجال الديني في صورة تفسيرات لا تعرف التسامح. إنَّ الموضوع شديد التعقيد، ويحتاج إلى دراسة مستفيضة لا مجال لها في بحثنا هذا، وحسبُنا أن نُقرِّر حقيقة الارتباط الوثيق، والتوازي الواضح، بين ما يحدث في المجالَين. ومن الواجب أن نُنبِّه إلى أنَّ هذا الارتباط لا يعني، في كل الأحوال، تحالفًا بين الاثنين. ففي كثير من الأحيان يحدث تصادم شديد العنف بين الجماعات الدينية شديدة التطرُّف وأنظمة الحكم الشديدة الاستبداد، وتتحوَّل العلاقة بينهما إلى حرب شِبه سافرة، يروح ضحاياها الكثيرون من كلا الجانبَين. ومع ذلك فإنَّ الجوَّ الذي يُفرح الاتجاهَين معًا هو جوٌّ واحد، والظروف التي ينتعشان فيها واحدة، أمَّا الاقتتال بينهما فما هو إلا مظهر لذلك الصراع الذي يبلغ أشُدَّه، في كثير من الأحيان، بين أكثر الاتجاهات تشابهًا (كما هو الحال، مثلًا، في الصراع الدموي بين النازية والصهيونية). إنَّ زوال حُكم العقل، وانعدام النقد والمناقشة، وتأكيد السُّلطة المطلقة، هو قاسم مشترك بين التطرُّف الديني والاستبداد السياسي، وكلاهما يساند وجود الآخر ويدعمه حتى لو حاربه وقاتله.

    وعلى العكس من ذلك فإنَّ التطرُّف الديني لا يظهر عندما ينتشر المدُّ الديمقراطي المستنير، ويتجلَّى ذلك بوضوح في تلك الفترات القصيرة التي استمتعَت فيها بعض البلاد العربية بفترات من الديمقراطية النسبية؛ إذ لم يكُن للجماعات المتطرفة دينيًّا أيُّ كيان حقيقي في تلك الفترات، ولم تستطع أن تستقطب الشباب إليها كما أصبحَت تفعل في العقد الأخير. وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ الديمقراطية تفترض سيادة حُكم العقل والكمال وانكماش السُّلطة المطلقة، الاختبار الحر بين الاتجاهات والتفضيل بينها، بعد أن يكون كلٌّ منها قد شرح برنامجه بوضوح. وفي مثل هذا الجو يذبل التطرُّف من تلقاء ذاته، دون حاجة إلى القمع أو إلى خوض معارك دموية.

    وفي اعتقادي أنَّ هذا هو السبب الحقيقي للعداء بين الحركات الدينية المتطرِّفة وبين الديمقراطية، فكثيرًا ما تقرأ في أدبيات هذه الحركات كلامًا عن الأصل «الغربي» لكلمة الديمقراطية، وكيف أنَّها فكرة «مستورَدة» انبثقَت أصلًا عن المجتمع اليوناني وارتبطَت بنمو الحضارة الغربية، ولا تصلُح لظروف مجتمعنا العربي الإسلامي … إلخ. ولكن هذه في اعتقادي هي الحُجَج الظاهرة، وهي على أيَّة حال حُجَج واهية يسهُل الردُّ عليها. ولكن السبب الحقيقي للعداء بين التطرُّف الديني وبين الديمقراطية هو — في رأينا — أنَّ هذه الأخيرة، بما تفترضه من عقلانية ومن روح نقدية ترتكز على المناقشة الحرة، تهدم — بلا معركة — الأرض التي يرتكز عليها التطرُّف الديني، وتزيل من عقول الناس مفهوم «السُّلطة المطلقة التي لا تناقش»، الذي هو المُسلَّمة الأولى لكافة الاتجاهات المتطرِّفة.

    ولو شئتُ أن أُلخِّص العلاقة بين الفكر الديني المتطرِّف من جهة وبين الديمقراطية والاستبداد السياسي من جهة أخرى، لقُلتُ إنَّ الديمقراطية لا تحارب هذا الفكر المتطرِّف، وإنَّما تزيل أسباب وجوده. فالتطرُّف الديني لا يُضطهَد في النظام الديمقراطي، بل إنَّه، ببساطة، لا يجد التربة الصالحة للظهور. أمَّا الاستبداد السياسي فإنَّه يُعطي التطرُّف كل مُقوِّمات وجوده، ويُهيِّئ له المناخ الذي يسمح له بالازدهار، ولكنَّه سرعان ما يقمعه بعنف إذا تجاوز حدودًا مُعيَّنة، وهو لا بدَّ أن يتجاوز هذه الحدود؛ لأنَّ التطرف لا يمكن حصرُه أو رسم «خط أحمر» لا يصحُّ له أن يتعدَّاه. وهكذا فإنَّ الاستبداد يدخل مع التطرُّف في علاقة شديدة التعقيد؛ إذ إنَّه ينفعه ويضرُّه في آنٍ معًا، وينعشه ثم يخنقه في حركة جدلية مأساوية لا مفرَّ منها، ومع ذلك فإنَّك لو سألت المتطرف الديني: أيهما عدوك الأكبر؛ الحاكم المستبد الذي يفتح لك الأبواب ثم يقمعك، أم الحاكم الديمقراطي الذي لا يضطهدك ولكنه لا يعطيك فرصة الظهور؟ لكان جوابه، الذي أثبتَته أحداث التاريخ، هو أنَّ العدوَّ الحقيقي الأخير.

    ولو تساءلنا عن موقع الفلسفة من هذا الصراع، وعن الوضع الذي تزدهر فيه، لكان الجواب واضحًا؛ فالفلسفة، بوصفها جدلًا يرتكز على الحُجَّة والبرهان، هي ذاتها نوع من الديمقراطية العقلية. وهي لا تعيش طويلًا في جوِّ الاستبداد السياسي أو السُّلطة الدينية المطلقة، إنَّها تذبل إذ ما ساد الاعتقاد بأنَّ هناك مَن هو معصوم من الخطأ، سواء أكانت هذه العصمة لشخص الحاكم، أو لمذهب أو تيار مُعيَّن. إنَّ الديمقراطية، إذا ما فُهِمَت بمعناها الصحيح، هي المبدأ السياسي الذي يساعد جموع الشعب على أن تقول «لا» في الوقت المناسب، وعلى أن تناقش وتعترض ولا تقبل مُسلَّمات مطلقة، وتلك كلها مُقوِّمات أساسية للفكر الفلسفي. أمَّا تلك الاتجاهات التي ترتكز على الطاعة المطلقة، سواء أكانت سياسيةً أو دينيةً متطرِّفة، فإنَّها تُولِّد في الناس أبعد الصفات عن الطبع الفلسفي الأصيل.

    ولكن النظرة الواقعية إلى الأمور تقنعنا بأنَّ مجتمعنا العربي المعاصر يزداد تباعدًا، يومًا بعد يوم، عن ذلك المناخ الذي يسمح بالعقلانية والديمقراطية وازدهار الفكر الفلسفي. إن جوَّ الأُميَّة المتفشية، التي لم تُبذَل طوال القرن العشرين أيَّة محاولة جادَّة لاستئصالها في أيِّ بلد عربي، برغم ما مررنا به من «ثورات» وتصحيحات للثورات، ثم تصحيحات للتصحيحات … وكذلك جوُّ الجهل والإرهاب والتسلط المطلق، والهزائم التي تتوالى في الميادين العسكرية والسياسية، والإخفاق الذريع في حلِّ المشكلة الاقتصادية؛ كل هذه العوامل تُحدِّد بوضوح نوع الاتجاه الهابط الذي لا بدَّ أن يسير فيه تفكيرنا. ولكن، عندما يتحدث الناس — داخل بلادنا وخارجها — عن «صحوة إسلامية»، فإنَّ الأمر يبدو محيِّرًا حقًّا؛ هل من المعقول أن نكون متدهورين في كافة الميادين، ثم تظهر لدينا على أوسع نطاق، صحوة ويقظة ونهضة في ميدان واحد دون غيره؟ هل هذه صورة يمكن تخيُّلُها لمجتمع يعاني الهزائم على كل صعيد، ومع ذلك تنتصر دعوة التقدم والنهوض عنده على صعيد الفكر الديني وحده؟ سيُقال بالطبع إنَّ هذه الصورة معقولة، لأنَّ الصحوة الدينية ردُّ فعل على كل هذه الهزائم، يهدف إلى قهرها وتجاوزها، ولكن هل قدَّمَت هذه الصحوة أيَّ برنامج لتجاوُز تلك الهزائم، فيما عدَا تلك الصيغ الغامضة التي تدور كلها حول معنى: إنَّ ما صلح به أول هذه الأمة هو ما يصلُح بها آخرها؟ يبدو لي أنَّ نوع الصحوة الذي يسود بيننا اليوم ليس إلَّا انعكاسًا لتلك الأحوال المُتردِّية ذاتها، يتمثَّل في تفسيرات للعقيدة معظمُها شكلي متزمِّت، ومن ثَم فإنَّ تلك الصحوة تعبير مباشر عن حالة الهزيمة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي نعانيها، وليست على الإطلاق محاوَلةً للتخلُّص من هذه الهزيمة، أيْ إنَّها تسهم، بصورة أو بأخرى، في الأوضاع التي تجعل من المستحيل تحقُّق الحدِّ الأدنى من العقلانية، ومن الديمقراطية، ومن الفكر الناقد الذي هو شرط أساسي لازدهار الفلسفة. فهل من المُستغرَب أن نجد بعضًا من أقطاب هذه الصحوة يهاجمون الفكر الفلسفي بكل عنف، ويؤكدون أنَّ فتح أبواب العالم الإسلامي أمام الفلسفة اليونانية، أيام الرشيد والمأمون، كان أكبر جريمةٍ ارتكبها خلفاء ذلك العصر؟

  • ثالثًا: يتصف الفكر الديني في عالمنا العربي المعاصر — باستثناء تيارات قليلة مستنيرة فيه، لا تزال تُشكِّل أقليَّة ضعيفة — بنظرة خاصة إلى الزمان تتجاهل البُعد الرئيسي فيه، وهو الحاضر، لحساب الماضي في المحلِّ الأول.

    ذلك لأنَّ الصيغة التي عرضناها منذ قليل، والتي تنادي بإصلاح الحاضر من خلال إعادة بعث نمط الحياة الذي كان سائدًا في عصر ذهبي ماضٍ؛ هذه الصيغة تنطوي في صميمها على إغفال لكل ما هو مميز للعصر المحاضر، وعلى نظرة جامدة إلى تيار التاريخ الطويل وتقلُّباته فيما بين البداية المجيدة والواقع المُتردِّي. إنَّها، ببساطة، تُسقط من حسابها قرونًا عديدةً من التغير والتطور، وتُبسِّط الأمور تبسيطًا مُخِلًّا حين تتصور أنَّ الأُسس التي أصلحَت حياة أُمة، منذ أربعة عشر قرنًا، هي ذاتها التي يمكن أن تُصلح حياتها الآن. وليس المقصود من ذلك نقدًا لهذه الأُسس أو انتقاصًا من شأنها، بل إن ما نعنيه هو أنَّ إخراج المبادئ من سياقها التاريخي لا بدَّ أن يُفقدها طابعها الأصلي، ولا مفرَّ من إدخال تغييرات جوهرية على المبادئ لكي تصبح قابلةً للانطباق بعد هذه المسافة الزمنية الهائلة.

    فما أسهل أن يُقال، مثلًا، إنَّ ما ينقصنا، من أجل علاج مشاكلنا الراهنة، هو ذلك الإيمان المتوقِّد الذي أتاح للمسلمين الأوائل أن يهزموا أعظم أمم الأرض وأضخم إمبراطورياتها. ولكن الواقع يشهد بأنَّ هذا الإيمان المتوقِّد لا بدَّ أن يكمله اقتصاد قوي، ويسنده علم متقدِّم، وتدعمه تكنولوجيا راقية، ويحافظ عليه نظام سياسي متين، حتى يستطيع أن يُحدِث في عصرنا نفس الأثر الذي أحدثه في العهد الأول من حياة المسلمين. والواقع يشهد بأنَّ هزيمة أعظم أمم الأرض، إذا كانت قد أصبحَت ممكنةً في نمط الحروب الذي كان سائدًا عندئذٍ، فإنَّها تصبح في ظروف عصرنا الحاضر مستحيلة، وهي على أيَّة حال ليست أمنيةً تستحقُّ أن نسعى وراءها، بل إنَّ أقصى ما نأمل فيه هو أن نعيش أحرارًا، ونصدَّ عن أنفسنا ضروب العدوان الداخلي والخارجي، ونرسم طريقنا لأنفسنا بأنفسنا.

    هذان مَثَلان واضحان يكشفان لنا عن عنصر هام من عناصر الفكر الديني المعاصر في مجتمعنا، وأعني به تجاهل الحاضر من حيث هو حاضر، والعجز عن تكوين فهم تاريخي ناضج لتطوُّر أوضاعنا، والامتناع عن مواجهة الواقع من خلال مقولاته الخاصة، والتصدِّي له — بدلًا من ذلك — من خلال مقولات عصر تفصله عن عصرنا مسافات زمنية هائلة.

    هذا الإسقاط الغريب للحواجز الزمنية الضخمة لا يقتصر على الفكر النظري أو الدعوة العقائدية وحدها، بل إنَّه يترجم نفسه عمليًّا في ظروف حية وملموسة إلى أبعد حد. ففي حرب أكتوبر ١٩٧٣م لم يكُن اسم «بدر» مجرَّد رمز للعملية القتالية، بل كان العبور في نظر كثير من الدُّعاة الدينيين تكرارًا لغزوة بدر، بملائكتها ومعجزاتها وجند الله الذين حاربوا معنا دون أن يراهم أحد. وفي الحرب العراقية الإيرانية لا يكفُّ أحد الطرفَين عن الحديث عن استشهاد الحسين وأهله وتنكيل يزيد بن معاوية به، كوسيلة لشحذ همم المقاتلين، فيجد الطرف الآخر نفسه مضطرًّا إلى الحديث عن تلك الحرب بوصفها «القادسية» الجديدة، ويجعل هذا الاسم محورًا لتوجُّهاته الإعلامية. ويصل الأمر إلى حدِّ شحذ همم الشباب من أجل القضاء على رئيس دولة أصبح رمزًا للتهاون والتفريط في حقِّ الوطن، عن طريق فتوى تُشبِّه إسلامه بإسلام التتار الذين أحلَّ ابن تيمية دمهم. في هذه الحالات — وكثير غيرها — يُسقط الفكر الديني الزمن من الحساب، ويعالج الأمور وكأنَّ مسار التاريخ متوقِّف، أو كأنَّ مُضيَّ القرون لا يحمل في طيَّاته إلا تكرارًا لمواقف وأوضاع متماثلة.

    وعلى حين يتجه الفكر الديني في بلادنا، بصورة متزايدة، نحو هذه النظرة اللازمانية، نجد الفكر الفلسفي يزداد اعترافًا، يومًا بعد يوم، بالنسبية التاريخية، ويربط على نحوٍ متزايدٍ بين الفكر المجرَّد وظروف العصر الذي نشأ فيه. صحيح أنَّ الفلسفة قد تحدَّثَت، في مذاهب مُعيَّنة، عن حقيقة لا زمانية، ووصفَت وجهة النظر العقلية بأنَّها تتأمَّل الأمور من منظور الأزل، ولكن معنى اللازمانية والأزلية يختلف هنا كل الاختلاف عن المعنى الديني؛ فالحقيقة الأزلية التي تقول بها الفلسفة هي حقيقة المعرفة التي يبرهن عليها العقل بقدْر من الإقناع لا يترك لمجرى الزمان تأثيرًا فيها. وحتى الحقائق المتغيرة، التي يتجاوزها العلم، يمكن أن تكون أزليةً بمعنًى ما؛ إذ إنَّ كل مرحلة من مراحل العلم تترك في المجرى العام للمعرفة البشرية أثرًا يستحيل محوُه، وتدخل في هذا المجرى بوصفها جزءًا لا يتجزأ منه، وتكتسب نوعها الخاص من الأزلية حتى في قلب هذه الصيرورة المتغيرة التي يتسم بها تطوُّر العقل. وعلى أيَّة حال فإنَّ أزلية الكيانات العقلية، القائمة على الاقتناع والبرهان، تختلف كل الاختلاف عن أزلية التسليم والإذعان والتوقُّف عند نقطة في الزمان تُمثِّل قمةً يستحيل أن تتجاوزها البشرية مهما تعاقبَت على حياتها القرون.

    ومع هذا كله، فإنَّ مفاهيم الأزلية واللازمانية أصبحَت أقلَّ شيوعًا بكثير في الفكر الفلسفي، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، ممَّا كانت عليه في العصور السابقة. وأصبح الحديث الغالب للفلسفة في عصرنا الحاضر هو ذلك الذي لا يجد بأسًا في الاعتراف بنسبية المعرفة وفقًا للزمان من ناحية، وتبعًا لظروف المجتمع من ناحية، وبعبارة أخرى فإنَّ مبدأ «الصلاحية لكل زمان ومكان»، الذي يحتلُّ مكانةً هامةً في الفكر الديني المعاصر (وفي كل فكر ديني لو شئنا الدقة) ليس له دَورٌ في الفلسفة، وهو يُمثِّل بذلك نقطة افتراق هامة بين الفكر الفلسفي والفكر الديني في عالمنا العربي.

  • رابعًا: وأخيرًا، فإنَّ الفلسفة — كما قُلنا في بداية هذا البحث — تُقدِّم نفسها إلينا بوصفها نشاطًا إنسانيًّا. وهكذا يدور الفكر الفلسفي أساسًا حول الإنسان، ويتصف كل مذهب فلسفي بقدْر — يزيد أو ينقص — من النزعة الإنسانية، حتى لو كان المحور الذي يدور ذلك المذهب حوله موضوعاتٍ تبدو متجاوِزةً للإنسان كالإلهيات والطبيعيات؛ إذ إنَّه يُقدِّم هذه الموضوعات على الدوام من منظور إنساني، ويطرح خلال معالجته لها آراء تستهدف، في أغلب الأحوال، غاباتٍ إنسانيةً عمليةً أو نظرية. أمَّا الفكر الديني فيؤكد على الدوام أنَّ مصدره هو الوحي الإلهي، ومن ثَم فإنَّ حقيقته تعلو على كل ما يستطيع العقل الإنساني أن يصل إليه. وهكذا فإنَّ الإنسان، في نظر هذا الفكر، ليس هو المصدر، ولكنَّه قد يكون الهدف، أعني أنَّ غاية الدين في النهاية هي سعادة الإنسان بقدْر ما يظلُّ متصلًا بالوحي الإلهي وممتثلًا لأوامره.

    وقد اتخذ هذا التقابل في عالمنا العربي المعاصر شكلًا عمليًّا سياسيًّا واجتماعيًّا، هو الدعوة إلى «الحاكمية»، بمعنى أنَّ الحكم في المجتمع ينبغي أن يكون لله لا للبشر. وهكذا فإنَّ القوانين الوضعية والدساتير تُوصَف بأنَّها نتاج عقول بشرية فانية قاصرة، على حين أنَّ الشريعة السماوية هي التي ينبغي أن تكون مصدر الحكم في كافة شئون البشر. ومن المهمِّ أن نشير إلى أنَّ فكرة «الحاكمية» هي، في نظر البعض، فكرة محدودة النطاق، يقتصر القول بها على جماعات دينية مُعيَّنة مرَّت بظروف خاصة (هي الجماعات المتأثرة بفكر المودودي وسيد قطب … إلخ)، ولكنَّنا إذ أمعنَّا النظر في جوهر الفكر الديني المعاصر وجدناه يقترب منها إلى حدٍّ كبير، واتضح لنا أنَّ الفكرة، في صيغها المختلفة، أوسع انتشارًا بكثير ممَّا يبدو للوهلة الأولى.

    فالدعوة إلى أن يكون الإسلام «دينًا ودنيا» أصبحَت، في العقدَين الأخيرَين، مميزةً لجميع الحركات الإسلامية على وجه التقريب. على حين أنَّها كانت محدودة النطاق في النصف الأول من هذا القرن. وفكرة أن يكون الإسلام «دنيا» تمتدُّ رويدًا رويدًا فتشمل ميادين السياسة والتشريع وتنظيم المجتمع والأحوال الشخصية والاقتصاد … إلخ. وفي نهاية الأمر يكون النَّص الديني هو الحاكم في هذه الميادين، وتصبح النظم التشريعية مُستمَدة منه، ومطابقة له، فإذا تأمَّلنا هذا المطلب — الذي تسعى الحركات الإسلامية المعاصرة إلى تحقيقه بكل قوة في البلاد التي لم تُطبِّقه بعد — بمزيد من التعمُّق، ألن نجد فيه صيغةً من صيغ فكرة «الحاكمية»؟ يبدو لي أنَّ الفكرة أساسية لدى الجميع، وكل ما في الأمر أنَّ البعض كانوا أصرح من غيرهم في الدعوة إليها بعد بطريقة مباشرة، وفي التنظير لها بمزيد من التعمُّق.

    إنَّ فكرة الحاكمية بصيغها المتعددة، هي النقيض المباشر للنزعة الإنسانية في التراث الفلسفي؛ فالأخيرة تؤمن بالإنسان، مع اعترافها بأنَّه مخلوق فانٍ، قاصر العقل، مُعرَّض للزلل، وتنظر إلى تطوُّر البشرية على أنَّه محاولة لا تنقطع للسير في طريق لا نهاية له، يُمارس فيه الإنسان قُدراته المحدودة. ويُحقِّق خلال حياته إنجازاتٍ محدودة، ولكن الطريق كله يُمثِّل جهدًا ضخمًا رائعًا، وتجربةً شيقة لروح تسعى إلى تجاوُز ذاتها على الدوام. وهكذا يستمد الإنسان في نظرها قوةً من ضعفه وقصوره ذاته، ويكون أروع ما في الإنسان هو محاولته التي لا تكلُّ لكي يعلوَ على ذلك الوضع الفاني، الهش، الذي وجد نفسه فيه. أمَّا فكرة الحاكمية فتعلن صراحةً عدم ثقتها بالمحاوَلة الإنسانية برُمَّتها، وتلتزم بالمصدر الإلهي لأنَّه يعلو على ضعف الإنسان وتغيُّره وتقلُّبه.

    ويصل موقف الحركات الدينية المعاصرة من كل نزعة إنسانية إلى حدِّ العداء الصريح، الذي يتمثَّل فيما أصبح لفظ «العلمانية» يحمله عندها من معانٍ سلبية مذمومة. لقد أصبح يكفي، في حياتنا الفكرية المعاصرة، أن يُوصَف أيُّ اتجاه، أو أيُّ شخص، بأنَّه «علماني» لكي يُعَدَّ موصومًا، ويخرج تلقائيًّا من نطاق ما هو مقبول وما يمكن التعامل معه، ولو حلَّلْنا المعاني التي يقصدها معظم مَن يستخدمون هذا اللفظ، لوجدناها لا تعدو أن تكون إشارةً إلى الأصل الإنساني لكل نتاج فكري يُوصَف بهذه الصفة.

    ولكن المشكلة التي تغيب عن ذهن هؤلاء جميعًا هي أنَّ دعوة «الإسلام دين ودنيا»، وصيغتها الواضحة والمتطرفة في فكرة «الحاكمية»، لن تستطيع — مهما فعلَت — أن تفلت من سيطرة النزعة الإنسانية التي تتعالى عليها؛ ذلك لأنَّ الوحي الإلهي ليس هو الذي يحكم بيننا بنفسه، وإنَّما يحكم دائمًا من خلال بشر يفهمونه، ويُفسِّرونه ويُقنِّنونه، ويطبقونه. إنَّ المصدر الإلهي للوحي لن يغنينا بأيَّة حال عن الإنسان، بكل ما يتسم به من قصور وضعف وهوى. والنَّص الإلهي بمجرَّد أن يجد طريقه إلى عقل إنسان يفكر فيه ويستوعبه ويسعى إلى تحقيقه وتجسيده في حياة البشر، يكتسب الكثير من صفات البشر، ويتغيَّر بتغيُّرهم، شِئنا أم أبَينا. والدليل القاطع على ذلك هو الاختلاف الهائل في طُرق فهم النصوص الدينية الواضحة الصريحة. ففي قلب المجتمعات التي تنادي بالتطبيق المباشر للنصِّ الإلهي، تجد البلاد التي تُشكِّل الثروة أساس الحكم فيها تُفسِّر الأحكام الدينية على نحوٍ يؤكد مفهوم التفاوت في الأرزاق، ويُبرِّر غياب العدالة الاجتماعية، على حين أنَّ تلك التي تنادي بالثورية تؤكد «اشتراكية» الإسلام من خلال النصوص أيضًا. وفي المجتمعات الاستبدادية تكون الطاعة لولي الأمر، وفي الليبرالية تؤكِّد فكرة التسامح وقبول الرأي الآخر. إنَّ الشريعة الإسلامية مُطبَّقة في السعودية، وفي إيران، وتكاد تكون مُطبَّقةً في ليبيا، فمن أين أتى الاختلاف بين هذه النماذج إن لم يكُن من البشر؟ وهكذا فإنَّ النصوص لا يمكن أن تحكم مجتمعاتنا بنفسها (وليتها كانت تفعل)، إذَن لأراحتنا من عناء لا نهاية له! وإنَّما هي تستطيع أن تحكم فقط من خلال بشر، فيهم كل العيوب والتقلُّبات التي ينسبها الفكر الديني إلى ما هو «علماني». إذَن ﻓ «العلمانية» لا مفرَّ منها. سواء أردنا أم لم نُرد، حتى في صميم الحكم المرتكز على المصدر الديني. وإذا لم يكُن الاستبداد الذي يسود الأوضاع في «باكستان» مثلًا، حيث يُقال إنَّ مصدر الحكم هو الشريعة وحدها، إذا لم يكُن ذلك «علمانية» تعكس رغبة حاكم فرد في استمرار سيطرته على بلاده، أعني علمانيةً بأسوأ معاني هذا اللفظ، فماذا تكون؟ أمَّا لو قِيلَ إنَّنا قد انتقينا مَثَلًا سلبيًّا، عن عمد، لنُثبت القضية التي نقول بها، فإنَّ الردَّ الواضح على ذلك هو أنَّ الأمثلة الإيجابية بدَورها تؤدِّي بنا إلى النتيجة ذاتها؛ أعني أنَّ النصوص لا بدَّ، قبل أن تصبح واقعًا متحقِّقًا، أن تمرَّ بذهن «إنسان» يفسِّرها ويطبِّقها، وهو في هذه الحالة الأخيرة إنسانٌ صالح.

(٣) دَور الفلسفة

والآن، ما الذي تستطيع الفلسفة أن تفعله في موقف كهذا؟ إنَّ هناك اختلافاتٍ أساسية، عرضناها في الجزء السابق، بين الطريقة التي يعرض بها المُفكرون الدينيون تفسيراتهم للعقيدة، وبين المنهج الفلسفي الأصيل. ويستطيع هذا المنهج أن يجد عيوبًا أساسيةً في طريقة تفكير أولئك المُفكرين، ولكن هناك من جهة أخرى عامل لا يمكن تجاهلُه؛ لأنَّ له في مجتمعاتنا المعاصرة دَورًا يستحيل إنكارُه، وأعني به عامل الخوف. فنطاق المشكلات المسموح بمناقشتها عقليًّا وفلسفيًّا في الميدان الديني، يضيق يومًا بعد يوم، ويسير في اتجاه معاكس لذلك الذي سلكَته أوروبا منذ عصر النهضة حتى اليوم. وهكذا يشعر الفيلسوف بأنَّ المناطق المحرَّمة تزداد على الدوام اتساعًا.

ولكن ما نودُّ أن نبيِّنه هو أنَّ هذه المناقشة الفلسفية، لو سُمح لها أن تتم بحرية، لن تضرَّ بقضية الدين، على عكس ما يتصور المتزمتون، بل إنَّها ستُعمِّق الفكر الديني وتزيده ثراءً. والأهمُّ من ذلك أنَّ عقول الأجيال الجديدة، التي خرجَت إلى النور في عصر الحاسبات الإلكترونية والصواريخ، لا بدَّ أن تدور فيها أسئلة لا تكفي المواقف التقليدية المحدودة الأفق لتقديم إجابة مُقنِعة عنها. وقد تكفُّ هذه العقول عن التساؤل إذا ما شعرَت بأنَّ في ذلك حرجًا أو خطرًا، ولكن الأسئلة ذاتها لن تسكت في داخلها إلَّا إذا تلقَّت إجاباتٍ يدعمها المنطق السليم، ويقبلها التحليل الفلسفي.

إنَّ فلسفة الدين، في المجتمعات المتقدمة، فرع هام من فروع الفلسفة، يشارك فيه رجال الدين بقدْر ما يشارك فيه الفلاسفة، ولم يزعم أحدٌ هناك أنَّ هذا الفرع يستهدف النَّيل من العقيدة، بل إنَّه في نظر المشتغلين به يستهدف تعميق العقيدة وإثراء التفكير في مشكلاتنا. وهذا الفرع يتناول مسائل مثل طبيعة التجربة الدينية وأهميتها والسمات المميزة للإيمان الديني بالقياس إلى أنواع الإيمان الأخرى، ومكانة الدين في الثقافة الإنسانية، وطبيعة الرمز الديني، واللغة الدينية، كما يُلقي ضوءًا على المفاهيم الأساسية، كالوحي والقداسة … إلخ، ولن يستطع أحد أن يزعم أنَّ هذه الموضوعات لا تُهمُّ الإنسان المؤمن؛ لأنَّها تجعله بالفعل أكثر وعيًا وتفتُّحًا في إيمانه. ومع ذلك فنحن لم نقترب منها في عالمنا العربي المعاصر، ولم نحاول أن ندرسها دراسةً منهجيةً منظَّمةً تُقنع العقول المتطلعة إلى الفهم. وإذا كان علماء الكلام، منذ قرون عديدة، قد خاضوا في مشكلات عقلية أثارتها الحياة الدينية في عصرهم، فإنَّ أحدًا لم يعد يجرؤ اليوم على مناقشة المشكلات المعاصرة التي تثيرها التجربة الدينية من الزاوية الفلسفية، ولا يوجَد تجديد عصري بالمعنى الصحيح لذلك الجهد الذي كان يبذله علماء الكلام، بل إنَّ أقصى ما نجده هو ترديد لنفس المشكلات التي أثاروها في ظروف مختلفة عن ظروفنا كل الاختلاف، كمسألة الجبر والاختيار، وقِدَم العالم وحدوثه، والذات والصفات، والعلم والقدرة الإلهية … إلخ، فإذا تساءلنا عن السبب في هذا القصور، كان الجواب الواضح هو أنَّه حاجز التحريم المنيع.

وفي اعتقادي أنَّ البحث العلمي، بروح عصرية، في المشكلات المرتبطة بالدين، كان ينبغي أن يحتلَّ مكانةً هامةً في أيَّة «صحوة إسلامية» تُريد أن تكون حقًّا جديرةً بهذا الاسم؛ ذلك لأنَّ هذه الصحوة تدعو إلى أن يكون للدين دَور هام في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن ثَم كان من الواجب أن تضع أيديها في أيدي الفلسفة من أجل القيام بالتحليلات المُتعمِّقة التي يستلزمها أداء الدين لهذا الدَّور الهام في الحياة المعاصرة. لكنَّها، بدلًا من ذلك اكتفَت بالشعائر والشكليات، وركَّزَت جهودها على المظهر والملبس والحجاب، وأبدَت أعظم اهتمام بالجنس، متمثلًا في منع الاختلاط، وأحيانًا منع السلام باليد بين الجنسين … إلخ، في الوقت الذي تظلُّ فيه الأسئلة العميقة المُلحَّة بلا جواب.

ولا شكَّ أنَّ نقدًا كهذا الذي أُقدِّمه لن يكون له معنًى إلَّا إذا استطعتُ أن أقدِّم نماذج لهذه المسائل التي تثيرها الحياة الدينية للإنسان العربي المعاصر، والتي تستطيع الفلسفة أن تُلقي ضوءًا باهرًا عليها، إذا ما سُمح لها بممارسة نشاطها في هذا الميدان بقدْر معقول من الحرية، وبغير خوف من التأثيم والتكفير.

  • (١)

    أول مسألة أساسية بالنسبة إلى الفكر الديني المعاصر، ينبغي أن تُطرح على الفكر الفلسفي لكي يشارك في تحليلها وإلقاء الضوء عليها، هي تلك التي أشرنا إليها منذ قليل، وأعني بها العلاقة بين ألوهية التشريع وبشرية القائمين بفهمه وتطبيقه. فإلى أيِّ مدًى تؤثر ذاتية القائم بالتفسير على الحياد والأمانة في تطبيق النص؟ والأهمُّ من ذلك، ما هي العوامل التي تؤدِّي إلى تلك الاختلافات الهائلة في الاتجاهات بين مجتمعات وحركات إسلامية تؤكِّد كلها أنَّها تُطبِّق الشريعة الإسلامية تطبيقًا مباشرًا؟ هل ترجع هذه الاختلافات إلى مصالح دنيوية توجِّه التفسير والتطبيق في اتجاهات تخدم هذه المصالح؟ أم إنَّها ترجع إلى الأفكار المسبقة التي يحملها كل مُفكر وكل مُفسر في ذهنه، والتي لا بدَّ أنَّه قد استمدَّها من مصادر أخرى، ثم أسقطها على تفسيره للنصِّ الديني، أم هي ترجع إلى نوع أنظمة الحُكم التي ينتمي إليها المُفسرون؛ تلك الأنظمة التي استطاعت، في مصر الناصرية مثلًا، أن تستخلص من كبار المُفكرين الدينيين تفسيراتٍ «اشتراكيةً» للدين، ثم عادت فاستخلصَت منهم في العهد الساداتي، تفسيرات تُبرِّر التفاوت بين طبقات الناس والسعي إلى الربح بغير حدود؟

    ومن جهة أخرى، فإنَّ التحليل الفلسفي هو الذي يجنِّبنا، ويجنِّب أجيالنا الشابَّة بوجه خاص، خطر الانقياد لأيِّ رأي، قد يكون مُخطئًا أو مُغرضًا، بزعم أنَّه هو وحده المُعبِّر عن وجهة النظر الحقيقية للدين؛ ذلك لأنَّ كثيرًا ممَّن ينتمون إلى الحركات الدينية يتعمدون الخلط بين المصدر الإلهي للنص، وبين أشخاصهم، فيُضفون على آرائهم الخاصة قداسةً لا تستحقُّها، ويُطالبون الشباب بأن يُبدوا لهم نفس القدْر من الطاعة والإذعان الذي يُبدونه لتعاليم الدين الأصلية، ويصل بهم الأمر إلى حدِّ أن يجعلوا من أنفسهم «أمراء» على الجماعات، لهم السمع والطاعة في كل شيء، وهكذا يحتمي هؤلاء بقداسة النَّص الديني، ويدفعون عقول أتباعهم إلى الانزلاق لا شعوريًّا من كلام الله إلى كلام الإنسان، فتسلك تجاه الثاني كما تسلك تجاه الأول. وممَّا يساعد على ذلك بالطبع أنَّ موقف «الإيمان»، الذي هو أساسي في كل عقيدة، يمكن أن يمتدَّ بحيث يسري على البشر المرتبطين بالدين أيضًا، ما دام يُحلِّق في الأذهان حالة نفسية مستعدة للتصديق، وسرعان ما يتحوَّل هذا الإيمان إلى «طاعة» تُضفي على كلام إنسان مُعيَّن قيمةً مُستمَدة من ارتباطه في أذهانهم بالكلام الإلهي، وتجعل لهذا الإنسان تأثيرًا رهيبًا في عقول أتباعه، يمنعهم من اكتساب المعرفة من أيِّ مصدر آخر، ويجعلهم قابلين للتشكُّل بالشكل الذي يريد.

    هناك إذَن مجال هام للفلسفة كي تقوم بعملية نقدية تعمِّق فيها الفكر الديني في هذا المجال، وتردُّ بها على كثير من التساؤلات التي قد لا تجرؤ كل الأذهان على طرحها، والتي قد تولِّد في النهاية شكًّا مُدمِّرًا لو تُرِكَت بغير إجابة. وأهمُّ هذه التساؤلات، كما رأينا، هو: ما مدى تأثر النَّص الإلهي بالذهن البشري الذي ينبغي أن يمرَّ من خلاله النَّص كيما يؤدِّي دَوره في حياتنا؟ وأين يقع الحدُّ الفاصل بين مقاصد النَّص وأهدافه وبين تفسيرات البشر ومستوى فهمهم وأغراضهم الجزئية المحدودة؟ إنَّها مشكلة لن يمكن خوضُها إلَّا بمنهج فلسفي قد لا يقول فيها الكلمة الأخيرة، ولكنه سيكشف، بغير شكٍّ، الكثير من أبعادها، ويُلقي عليها أضواءً تحتاج إليها حاجةً مُلحَّةً في حياتنا العربية المعاصرة على وجه التحديد، حيث يبدو لكل عين فاحصة أنَّ فئاتٍ كثيرةً من الشباب الصادق المتحمِّس توجَّه إلى خدمة أهداف وأطماع بشرية ضيِّقة عن طريق استغلال إيمانها الذي لا يتزعزع بالنَّص الإلهي، بعد أن يُفسَّر وفقًا لما يُحقِّق هذه الأهداف.

  • (٢)

    ولا تقلُّ عن ذلك أهميةً مشكلة «الصلاحية لكل زمان ومكان»؛ وهو الوصف الذي يُطلقه المُفكرون الدينيون، بسهولة وبغير تحليل في معظم الأحيان، على الأحكام الواردة في النصوص الدينية.

    ذلك لأنَّ فكرة «الصلاحية لكل زمان ومكان» تبدو متعارضةً مع التغير، الذي لا يستطيع أن ينكره أحد، في أحوال البشر، ممَّا يجعل إطلاق هذا الوصف على الأمور المتعلقة بالظواهر الإنسانية أمرًا شديد الصعوبة من الوجهة العقلية.

    والواقع أنَّ جدلًا كثيرًا قد دار حول هذا الموضوع في حياتنا الفكرية المعاصرة، وتركز هذا الجدل، على استحياء شديد، حول الحدود التي يمكن في إطارها تطبيق صيغة الصلاحية لكل زمان ومكان. وكان هناك ما يُشبه الاتفاق بين المُفكرين المستنيرين على أنَّ الاجتهاد في تفسير النصوص أمر لا غَناء عنه لمواجهة تغيرات العصر، وهذا الاجتهاد معناه إضافة تفسيرات مُستمَدة من روح العصر نفسه، تعمل حسابًا لظروفه المميزة. وكلما اتسع نطاق التغير كان من الطبيعي أن يتسع نطاق هذه الاجتهادات، ولمَّا كان معدَّل التغير يزداد بسرعة رهيبة في عصرنا الحالي، ويتسارع على نحوٍ متزايدٍ في كل عقد زمني بالقياس إلى العقد الذي يسبقه، فيبدو أنَّ الأمر لا بدَّ أن ينتهيَ بنا، في حالات كثيرة، إلى أن نكتفيَ بأن نأخذ من النصوص توجهاتها العامة، ونحوِّر جميع التطبيقات والتفاصيل وفقًا لتغيُّر الظروف، ويظل المسار العام لهذه الحركة، إذا شاءت أن تُجاريَ الزمن المتغير، هو أن تزداد الأحكام المأخوذة من النَّص عمومية، ويتسع نطاق الاجتهادات البشرية في كافة التفاصيل.

    ومع ذلك فإنَّ هناك فئةً هامةً من المُفكرين الدينيين لا تدرك هذه المشكلة على حقيقتها، وتتجاهلها إلى حدِّ الإصرار على صيغة «الصلاحية لكل زمان ومكان» بلا قيد ولا شرط. والمأزق الذي تواجهه هذه الفئة هو أنَّها إذا تمسَّكَت بحَرفية النصوص دون تصرُّف (هذا إذا افترضنا أنَّ هناك إنسانًا قادرًا على التمسك بحَرفية النصوص)، كان عليها أن تتجاهل أوضاع الواقع وظروف العصر. أمَّا إذا أرادت أن تعمل حسابًا لهذه الأوضاع (وهو أمر لا مفرَّ منه في حياتنا المعاصرة)، فلا بدَّ لها من أن تقصر دَور النصوص على المبادئ والتوجيهات العامة.

    ويمكن التعبيرُ عن هذا الإشكال من خلال مقارنته بصيغة أخرى تُتداول بدَورها دون تحليل مُتعمِّق، وهي «الإسلام دين ودنيا»؛ ذلك لأنَّ مفهوم «الدنيا»، في هذه الصيغة، يشمل السياسة وتنظيم المجتمع والمعاملات … إلخ، وكلها أمور يسري عليها التغير والتطور الذي يتسارع معدَّله يومًا بعد يوم. فإذا شئنا أن نعمل حسابًا لهذه «الدنيا» السريعة التغير، التي تزداد المسافة تباعدًا بينها وبين «الدنيا» التي نزل فيها الوحي، وجدنا تعارضًا لا مفرَّ منه بين هذه الصيغة والصيغة السابقة؛ «الصلاحية لكل زمان ومكان»، بحيث يبدو لنا أنَّنا لو أخذنا بالأولى اضطررنا إلى التنازل عن الكثير ممَّا في الثانية، والعكس بالعكس. أمَّا حين يجمع الفكر الديني المعاصر بين الصيغتَين معًا دون أيَّة محاولة لفهم العلاقة العكسية بينهما، أو لبيان الطريقة التي يمكن بها الجمعُ بينهما دون تناقض، في ظروف عصر دائم التغير، فإنَّه يتجاهل بذلك مشكلاتٍ كثيرةً لا يملك العقل الحديث ترف الهروب منها.

    ولا بدَّ للفكر الديني هنا من أن يدرس بعمق تجربة المسيحية في أوروبا، ومع علمنا بالفارق الكبير بين التجربتَين، فهناك الكثير ممَّا يمكن تعلُّمُه في هذا الصدد؛ ذلك لأنَّ الكاثوليكية كانت بدَورها في العصور الوسطى، دينًا ودنيا، وليس بصحيح ما يتداوله كثير من المُفكرين الإسلاميين من أنَّ المسيحية دين فقط، لا شأن له بتنظيم كافة جوانب حياة الإنسان اليومية، فقد يكون هذا شأن مسيحية العصر الحديث، أمَّا في العصور الوسطى فقد كوَّنَت المسيحية لنفسها، كما هو معروف، مؤسَّسة رسمية تتدخَّل في شئون الدنيا لدى الفرد والمجتمع والدولة تدخُّلًا كاملًا، ووجود هذه المؤسَّسة الرسمية يُعَدُّ خطوةً تتجاوز كل ما تمَّ تحقيقُه في الإسلام من أجل جَعْل العقيدة «دينًا ودنيا». ولكن الكنيسة منذ عصر النهضة أخذَت تتراجع شيئًا فشيئًا عن التدخل في تفاصيل حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، ولم يتمَّ ذلك إلَّا بعد معارك حامية راح ضحاياها الكثيرون، ففي البدء كانت آيات الكتاب المقدس التي تتعارض مع دوران الأرض وتؤكد أنَّ الأرض مركز للكون وأنَّ السموات «فوقها» … إلخ، تُستخدَم سلاحًا لمقاومة كشوف العلم الحديث، وكانت هذه المقاومة رمزًا للنظرة المتوسِّعة إلى وظيفة الدين. ولم يُكتَب الاستقرار للمجتمع الأوروبي، ولم يبدأ العلم الأوروبي في تحقيق إنجازاته الجبارة، إلَّا بعد أن تراجعَت هذه النظرة المتوسِّعة، وترك رجال الدين مهمَّة تفسير العالم وظواهره الطبيعية (وهي أحد جوانب مفهوم «الدنيا») للعلماء.

    هذا الدرس ينبغي التفكيرُ فيه، لا لأنَّ الظروف متطابقة بيننا وبينهم، بل لأنَّه يُقدِّم نموذجًا هامًّا للتصادم الذي لا مفرَّ من حدوثه في أيِّ مجتمع. بين النظرة التوسُّعية إلى وظيفة الدين، وبين مقتضيات التغير والتطور في هذا المجتمع، وفي هذا الإطار وحده أعتقد أنَّ من المفيد لفكرنا الديني المعاصر أن يُحلِّل ما حدث في تجربة انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وهي التجربة التي يبدو أنَّ بعض عناصرها آخذة في الظهور في مجتمعنا المعاصر.

    ومن الجائز أنَّ المعركة التي تدور في أرضنا العربية لا تتخذ طابع الصراع حول قبول نتائج الكشوف العلمية أو رفضها؛ وذلك لسبب واضح هو أنَّ الموقف الذي نواجهه اليوم يقع في عصر لم يعد فيه العلم يبحث لنفسه عن موطئ قدم، كما كان يفعل في عصر النهضة الأوروبية، بل أصبحَت له مكانةٌ يصعُب أن تنال منها أيَّة قوة أخرى. ولكن من الأشكال الهامة التي تتخذها هذه المعركة في حياتنا المعاصرة، الصراع بين الشكل والمضمون في العقيدة الدينية. فإذا كان من المُحتَّم، كما رأينا من قبل، أن نأخذ من النَّص الديني توجيهاته العامة في عصر سريع التغير كهذا الذي نعيش فيه، فهل تدخل الأحكام المتعلقة بالملابس، واللحية، والحجاب … إلخ، ضمن هذه التوجيهات العامة، أم إنَّها — شأنها شأن أحكام الحروب والأسرى والرق … إلخ — من باب التفاصيل التي وردَت لتنظيم حياة الناس في عصر مُعيَّن، ولا بدَّ من إخضاعها لسُنن التغير؟

    قد لا تكون هذه هي المشكلة الجوهرية في حياة المسلمين المعاصرين، ولكنَّها أصبحَت للأسف تحتلُّ في حياتنا دَورًا هامًّا، وأُعطِيَت حجمًا أكبر ممَّا تستحق، نتيجةً لممارسات كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة. وعلى أيَّة حال فإنَّها في رأينا نموذج معاصر للتضادِّ بين النظرة التوسُّعية إلى وظيفة الدين، وبين مقتضيات عصر سريع التغير. وفي موضوعات كهذه يستطيع المنهج الفلسفي أن يُعِين الفكر الديني على تحليل عناصر المشكلة أولًا، ثم تأمُّلها في نظرة تركيبية شاملة تحيط بكافة جوانبها وعلاقتها.

  • (٣)

    ونستطيع أن نتأمَّل المشكلة السابقة من زاوية أخرى، غير زاوية الشكل والمضمون، وأعني بها زاوية التضاد بين النظرة الشمولية والنظرة الجزئية إلى الإنسان. ففي الجانب العملي، جانب الأخلاق والسلوك الاجتماعي، نرى تركيزًا متزايدًا من جانب جماعات دينية معاصرة أصبحَت لها في السنوات الأخيرة أهميةٌ كبرى، على نواحٍ جزئية ثانوية في السلوك الأخلاقي والاجتماعي للإنسان.

    إنَّ سلوك الإنسان كل متكامل، وهذه حقيقة تُثبتها لنا الفلسفة نظريًا، ويُثبتها علم النفس عمليًّا، وتؤكدها تجربة الحياة ذاتها على الدوام. ومع ذلك، ففي الوقت الذي تتمسَّك فيه بعض الاتجاهات الدينية المتطرفة، التي أصبح لها في الآونة الأخيرة تأثير كبير في عقول الشباب، بأنَّ «الإسلام دين ودنيا»، وتستهدف بذلك تأكيد شمولية النظرة الإسلامية، نراها تُركِّز دعوتها بين جموع الناس على أداء الشعائر الدينية بغضِّ النظر عن سلوك الإنسان عمليًّا، وعلى شكليات كالتحجُّب وإطلاق اللِّحَى والاختلاط بين الرجل والمرأة. وقد تكون لهذه الشكليات أصول دينية — هذا جائز، وإن كان مَثارًا للجدل — ولكن، ما قيمة هذه الأمور بالقياس إلى مجموع التحديات التي تواجه الإنسان المعاصر في مجتمعاتنا الإسلامية؟ ما قيمتها بالقياس إلى التحدي الصهيوني والتحدي الأمريكي، والعجز عن حلِّ المشكلة الاقتصادية والانهيار الاجتماعي، وسيادة القِيَم الأنانية التي لم يبقَ معها للقضايا العامة أيُّ وزن في سلوك الإنسان العربي؟ كيف نترك هذه الأساسيات ونركز جهدنا وكفاحنا على الشكليات؟ لقد كانت مصر، على سبيل المثال، تشهد محاكماتٍ ضدَّ طبقة فاسدة امتصَّت الملايين من دماء الشعب وقُوْته الضروري، ومع ذلك فإنَّ الاهتمام الذي حظيَت به قضية حيوية كهذه، في كتابات الجماعات الدينية وخُطَبها وأحاديثها، كان أقلَّ بكثير من اهتمامها بنشر الحجاب بين الفتيات ومنع الحفلات المشتركة في الجامعات. ألن يستطيع الفكر الفلسفي، وفي هذه الحالة، أن يساعد المُفكرين الدينيين على أن يعيدوا التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، وينظروا إلى الإنسان نظرةً متكاملة، تضع كل عناصره في موضعها الصحيح، وتعطيها حجمها الحقيقي؟

    ومن جهة أخرى، فإنَّ التفكير الفلسفي يستطيع، بالاستناد إلى حقائق علم النفس، أن يجد مجالًا واسعًا للبحث في دلالة هذا الاهتمام المفرط بالجنس في دعوات الجماعات الدينية المعاصرة؛ فمشكلة الحجاب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحريم الجنسي، وبنظرة جنسية متطرِّفة إلى طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، تبلغ أقصى مداها، وتُعبِّر عن عناصر الكبت فيها بوضوح صارخ حين يُحرَّم السلام باليد بين الرجل والمرأة بوصفه «تلامسًا» يؤدِّي، شأن أيِّ تلامس آخر، إلى الإثارة. ومثل هذا يُقال عن منع الاختلاط، الذي يفترض دائمًا وجود أفكار شريرة في ذهن الرجل والمرأة، لا يمكن حلُّها بالتربية ولا بالسعي إلى أهداف اجتماعية تعلو على النزوات الفردية، بل إنَّ الحلَّ الوحيد الممكن (الذي هو في الواقع «لا حل») هو الفصل القاطع بينهما!

    إن الفلسفة تبحث أساسًا في الكليَّات، ولا جدال في أنَّ نظرتها الشمولية إلى الإنسان ومشكلاته كفيلة بأن تُقدِّم عونًا كبيرًا للفكر الديني حتى لا يبالغ في تضخيم عنصر واحد على حساب بقية العناصر، وحتى يدرك الدلالة الحقيقية لهذا التضخم.

  • (٤)

    وأخيرًا، فإنَّ في استطاعة الفلسفة أن تُلقيَ الضوء على بعض المفاهيم التي يستخدمها الفكر الديني، في معظم الأحيان، دون تحليل مُتعمِّق، أو التي تحتاج إلى إعادة تحديد لمعناها في ضوء المتغيرات العصرية. فمفهوم العدل، كما حلَّله علماء الكلام، يحتاج إلى إعادة نظر شاملة تأخذ في حُسبانها معنى العدالة الاجتماعية من حيث هي مطلب أساسي للإنسان المعاصر. ومفهوم الحرية يحتاج إلى جهد هائل في التأصيل والتنظير من أجل الردِّ على سؤال يتردَّد على ألسنة كثير من دارسي الإسلاميات في الشرق والغرب، وهو: هل يتسع الفكر الإسلامي لمعنى الحرية الفردية، كما صاغته الدساتير الحديثة ونصَّت عليه مواثيق حقوق الإنسان، أم إنَّ الحرية التي عرفها ذلك الفكر هي الحرية بالمعنى الميتافيزيقي فحسب؟ وهل يحتمل هذا المفهوم إعادة تفسيره على نحوٍ عصري؟

    وهناك أمثلة أخرى قد تكون أوضح من هذه، وأوثق ارتباطًا بالتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر؛ ذلك لأنَّ هناك جدلًا قد بدأ بالفعل حول مفهوم الشورى، وعلاقته بالديمقراطية، ولكن هذا الجدل لم يتخذ شكل الحوار الذي يسعى فيه كل طرف إلى فهم موقف الطرف الآخر، وإلى إدراك نواحي الالتقاء والافتراق الحقيقية بينهما. وإذا كان مفهوم الديمقراطية قد قُتل بحثًا في الفكر الغربي، فما زال أمامنا أن نبحث عمَّا إذا كان ظهور هذا المفهوم في الغرب يعني أنَّه لا يقبل التطبيق إلَّا في الغرب، أم إنَّه ينطوي على عناصر وثيقة الصلة بالحضارة التي ظهر فيها، وأخرى يمكن أن تصبح ملكًا للإنسانية جمعاء. ومن جهة أخرى، هل يؤدِّي مفهوم الشورى بالفعل إلى جَعْل الحاكم مركز الثقل في عملية الحُكم، حتى لو كان يتلقَّى المشورة ويحترمها، على حين أنَّ الديمقراطية — حسب معناها الأصلي — تجعل «الشعب» أو «الكثرة» هو المحور الذي تدور حوله عملية الحُكم؟ وما مدى تأثير ما سبق أن أثرناه من مشكلات حول العلاقة بين ألوهية النَّص وبشرية التفسير والتطبيق، في سلوك الحاكم من حيث هو مفوَّض بتطبيق الأحكام الإلهية، أو «خليفة»؟

    هذه كلها أمثلة لمسائل تفتح أبوابًا خصبةً للفكر، وهي مسائل لم أحاول أن أدلي فيها برأي خاص، وإنَّما عرضتُها بوصفها موضوعاتٍ تستطيع فيها الفلسفة أن تُثريَ الفكر الديني بتحليلاتها وتنظيراتها. وأن تُسديَ إليه خدمةً جليلةً في هذا العصر الذي لا يكفُّ الناس فيه عن التساؤل والمناقشة. وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذا المزج الخصب بين الفكر الفلسفي والفكر الديني هو أن يشعر الفيلسوف بأنَّه لا يتعرَّض لتحريف أو إرهاب أو إنهاء بالخروج عن الدين، وأن يُهيِّئ كافةُ المشتغلين بالفكر الديني أذهانَهم لقبول حقيقة أساسية لن يستطيعوا بدونها أن يكون لهم دَور في حياتنا المعاصرة، وأعني بها أنَّ اللغة التي كانت المسائل الدينية تُناقَش بها منذ عشرة قرون لا ينبغي أن تظلَّ هي المستخدمة بالضرورة في هذا العصر، وأنَّ الإطار الفكري للمناقشات الدينية ينبغي أن يتطور، ويتسع، وأنَّ النظر إلى المشكلات المتعلقة بالدين كما لو كانت خارج نطاق الزمان، ومخاطبة إنسان القرن الحادي والعشرين — الذي يقترب منا بأسرع ممَّا نتصور — بأسلوب القرن السابع أو الثامن لن تكون هي أفضل السُّبل للوصول إلى عقل ذلك الإنسان، وكل ما عليهم هو أن يمدُّوا أيديهم إلى الفلسفة، ويفتحوا صدورهم لها، ويُغلِّبوا سماحة العقيدة على جمود الكثرة من مُعتنِقيها المعاصرين.

١  كان هناك مثلًا حاكم عربي يرى في إحدى المراحل أنَّ المفاوضات المباشرة مع إسرائيل استسلام وخيانة، وأنَّ تطبيع العلاقات معها ليس من شأن الجيل الحالي وقد تصل إليه الأجيال المُقبِلة. وكانت تلك هي «الحقيقة المطلقة» كما يُطبِّقها في ممارساته، ولكنه في مرحلة لاحقة، لم تختلف ظروفها كثيرًا عن السابقة، أصبح يمارس بنفسه التفاوض المباشر، ويُطبِّق التطبيع، والأهمُّ من ذلك أنَّ هذه الممارسات أصبحَت هي «الحقيقة المطلقة» التي يحكم من خلالها على الآخرين بالوطنية أو الخيانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤