مصطفى محمود بين الماركسية والإسلام١
من المؤكَّد أنَّ الدكتور مصطفى محمود إنسان سعيد الحظ، فهو، بوصفه كاتبًا ومُفكرًا، قد اكتسب شعبيةً واسعةً أتاحت لكُتبه أن تكون من أوسع الكتب انتشارًا على مستوى العالم العربي كله.
وهو في شعبيته هذه يتخذ أمام الجماهير الواسعة مظهر المُفسر الديني، والحكيم الفيلسوف والعالم المطلع. صحيح أنَّه في مجال التفسير، لا يُرضي معظم رجال الدين المتخصِّصين، سواء أصحاب وجهة النظر المحافظة أو المتحررة، وأنَّه في مجال الفلسفة هاوٍ يسهُل على أيِّ مشتغل في هذا الميدان أن يكتشف نقص معلوماته وضعف منطقه، وأنَّه في ميدان العلم قد توقَّف، على ما يبدو، عند السنوات الأولى من فترة دراسته الطبية، مضافًا إليها قراءات سريعة لكُتب مُفرِطة في التبسيط.
أيْ إنَّه بالاختصار لا يُرضي المتخصِّصين في أيِّ ميدان من هذه الميادين الثلاثة. ولكنْ فيمَ يُهمُّ رضاء المتخصِّصين إذا كانت الجماهير الواسعة قد أصدرَت حُكمها لصالحه، وأصبحَت تتخذ منه مصدرها الأوثق، وربما الأوحد، في فهم حقائق الدين والفلسفة والعلم؟
إنَّ القارئ المتديِّن ينبهر حين يقرأ لدى الدكتور مصطفى محمود تفسيرًا دينيًّا مُطعَّمًا بعبارات فلسفية ومصطلحات علمية. والقارئ الباحث عن حكمة الحياة وفلسفتها ينبهر حين تُقدَّم إليه الفلسفة في إطار ديني وعلمي. والقارئ الذي يستهدف حقائق العلم ينبهر حين تُعرض عليه هذه الحقائق مُرصَّعةً بحِكَم فلسفية ومؤيَّدة بنصوص دينية. وهكذا يُقدِّم الدكتور مصطفى محمود إلى قُرَّائه «توليفة» فكرية تُرضي جميع الأذواق.
وآخر ما طلعَت به علينا «عطارة الفكر» هذه هو كتاب عن «الماركسية والإسلام»، ظلَّ فترةً طويلةً يحتلُّ المكانة الأولى بين الكتب الأوسع انتشارًا في القوائم التي تنشرها صُحف هلَّلَت لهذا الكتاب وتلقَّفَت ظهوره بالترحيب وزيَّنَت صفحاتها مرارًا بمقتطفات منه. وأنا لا أشكُّ لحظةً واحدةً في أنَّ هذا الانتشار الواسع حقيقة مؤكَّدة، ولكنْ هل يُعبِّر هذا الانتشار عن قيمة حقيقية للكتاب، أم إنَّه من نوع انتشار فيلم «بمبة كشر» على حساب «المومياء»، أو انتشار روايات «أجاثا كريستي» البوليسية بالقياس إلى روائع شكسبير؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في السطور القادمة.
•••
من كلمة للدكتور مصطفى محمود نفسه ستكون نقطة بدايتي. إنَّه يقول: «لم يكُن ضعفًا في القرآن أنَّه لم يُحدِّد منهجًا سياسيًّا، ولم يرسم دستورًا محدَّدًا، وإنَّما كان ذلك أحد أدلة قُوَّته وإعجازه، فقد أراد الله أن يفتح سبيل الاجتهاد والأخذ بالعلوم واستنباط المناهج والأحكام من الظروف المتغيرة دون تكبيل بمنهج سماوي جامد مُحدَّد، واكتفى القرآن في موضوع السياسة والحُكم بإصدار توصيات عامة لها صفة الأزلية وعدم التغير عبر العصور. وقال إنَّ هذه التوصيات يكون بها الحُكم مثاليًّا» (ص١٨).
هذا ما قاله الدكتور مصطفى محمود في فقرة اقتبستُها كاملةً حتى لا يُقال إنَّني قد اقتطعتُ أقواله من سياقها، ومن هذه الفقرة أودُّ أن أبدأ مناقشتي لكتابه، وهي كما سيرى القارئ مناقشة مُستمَدَّة من منطق الكتاب نفسه، فلستُ أودُّ أن أُقدِّم إلى القارئ رأيًا خاصًّا لي في الموضوع، وإنَّما تنحصر مهمَّتي في كشف ما قد يكون في الكتاب من جوانب التناقض والضعف.
إنَّ أيَّ كاتب يذهب إلى أنَّ القرآن لم يُحدِّد منهجًا سياسيًّا، ولم يرسم دستورًا محدَّدًا، يقف معارضًا لرأيٍ آخر يؤكد أصحابُه — وهم في بلادنا كثيرون — أنَّ في القرآن دستورًا مفصَّلًا ومنهجًا سياسيًّا كاملًا، ومذهبًا اقتصاديًّا شاملًا. وأنا لا أودُّ أن أُفاضل بين الرأيَين، وإنَّما أردتُ أن أسجل، في البدء، معارضة الدكتور مصطفى محمود لهذا الرأي الأخير، وانحيازه إلى صفِّ القائلين بأنَّ النَّص الديني يحتوي على مبادئ عامة. على حين أنَّ تفاصيل أمور الدنيا والسياسة والاقتصاد متروكة لاجتهاد البشر.
ويترتَّب على ما يقوله المؤلِّف في الفقرة السابقة نتيجة لا مفرَّ منها؛ وهي أنَّ تفاصيل الأحكام الدينية نسبية الطابع، وأنَّ ما هو أزلي هو المبادئ العامة فقط، وأنَّ من الضروري أن تتغيَّر تلك التفاصيل بتغيُّر العصور والبيئات، مع الاحتفاظ بالإطار الذي تُشكِّله المبادئ العامة. وهذا ما جعل الكاتب يؤكد أهمية «الاجتهاد والأخذ بالعلوم واستنباط المناهج والأحكام من الظروف المتغيرة»، بل إنَّه حمل على الفكرة القائلة بثبات الأحكام السماوية في الأمور التفصيلية حملةً قاسية، تجلَّت في استخدامه عبارات شديدة اللهجة، مثل وصف المنهج السماوي الثابت بأنَّه «جامد»، ووصف التقيد بتفاصيله بأنَّه «تكبيل».
هذا هو رأي الدكتور مصطفى محمود نفسه، لم أزِد عليه أو أنقص منه شيئًا. ولكن مثل هذا الرأي لا بدَّ أن يثير سؤالًا هو: إذا كانت الأحكام الدينية تقتصر على العموميات، وتترك التفاصيل والجزئيات لاجتهاد العقل البشري وفقًا لظروف الإنسان المتغيرة، فمن أيِّ مصدر نستمدُّ هذه التفاصيل؟ لا بدَّ أن يكون ذلك من مصدر دنيوي، ولا بدَّ أن يملأ الناس ذلك الإطار العام الذي تُحدِّده الأحكام الدينية، بمضمون أو محتوًى مُستمَد من واقع حياتهم المتغيرة، ومُستلهَم من فكر إنساني واجتهاد بشري.
وبعبارة أخرى فإنَّ نصَّ كلام الدكتور مصطفى محمود نفسه يؤدِّي إلى القول بأنَّ العقيدة الدينية، من حيث هي مصدر للتشريع الاجتماعي، ليست مكتفيةً بذاتها، بل هي في حاجة مستمرة إلى مذهب إنساني يكملها ويملأ ما تتركه من فراغات، وهذه نتيجة ثانية لا مفرَّ منها تترتَّب على كلام المؤلِّف.
فإذا كانت الماركسية لا تُرضي الدكتور مصطفى محمود كمذهب اجتماعي وسياسي، وإذا كان الإسلام، كما يؤدِّي إليه كلامُه، في حاجة إلى تكملة بشرية نملأ بها التفاصيل التي لا ينبغي للنصِّ الديني أن يشغل نفسه بها، فمن أين نأتي بهذه التكملة؟ وما هو المذهب الذي نستطيع، وفقًا له، أن نستنبط تلك الجزئيات التي لا ينبغي أن «يُكبِّلنا» فيها «منهج سماوي جامد محدَّد»؟ هذا ما لم يُجِب عنه مؤلِّف الكتاب، بل ترك في تلك المسألة الحيوية فراغًا ضخمًا، لا يدري القارئ كيف يملؤه، ولا في أيَّة وجهة يسير، أو بأيِّ مذهب يسترشد، إذا شاء أن ينظِّم شئون حياته جملةً وتفصيلًا.
•••
ولقد أفاض الدكتور مصطفى محمود في نقد الماركسية، وصوَّب إليها كل ما يملك من أسلحته الهجومية، واستخدم في وصفها أقوى الألفاظ تعبيرًا عن الكراهية. وإذا كان ذلك رأيه في الماركسية، فإنَّ أحدًا لن يستطيع أن ينكر عليه حقَّه في مهاجمتها، بشرط ألَّا يتناقض مع نفسه في هذا الهجوم، وألَّا يرتكب أخطاءً فادحةً في فهم ذلك المذهب. ولكني أزعم، بعد قراءتي للكتاب الذي اكتسح الأسواق العربية، أنَّ مؤلِّفه وقع في تناقض شديد من جهة، وأساء فهم الماركسية بطريقة مؤسفة من جهة أخرى.
(١) ولنبدأ أولًا بالتناقض …
«ولو نظرنا إلى الإسلام لوجدنا فيه نبعًا من الأفكار والحقائق تسبق النظَّامين تقدُّمًا ومعاصرة. ولوجدنا كل ما حسبناه جديدًا في الاشتراكية العلمية هو أمر قديم قِدَم ثلاثة عشر قرنًا في الإسلام. فقد جاء الإسلام من البداية مُقرِّرًا مبدأ المساواة في الفُرص، وضمان حدٍّ للكفاية للفرد، وتحقيق التوازن بين حرية الفرد في الربح وحقوق المجتمع، ومبدأ الملكية الخاصة والملكية العامة (القطاع العام والقطاع الخاص)، ومبدأ تدخُّل الدولة في الاقتصاد، وهو ما نُسمِّيه اليوم بالاقتصاد الموجَّه، ومبدأ مصادرة أموال المستغلين لصالح الفقراء والمظلومين» (ص٦٧).
ثم يُعدِّد الدكتور مصطفى محمود ما يتضمَّنه الإسلام من مبادئ نظنُّ في عصرنا الحاضر أنَّها من ابتداع الاشتراكية العلمية؛ فالإسلام لا يسمح بالطبقية، والإسلام يرفض التفاوت الفاحش في الثروات، وثروة الغني لا تكون مشروعةً إذا كان في المجتمع فقيرٌ واحدٌ لا يجد القوت، بل إنَّ الإسلام، في رأي الكاتب، قد عرف المنطق الجدلي أو الديالكتيكي واستخدمه (ص٧٠-٧١).
كل هذا كلام جميل … ولكنْ ألم يفكر الدكتور مصطفى محمود أبدًا فيما يؤدِّي إليه كلامُه هذا؟ إنَّه يجعل حملته الضارية على الماركسية أمرًا لا معنى له، بل أمرًا متناقضًا مع إيمانه الديني الذي يتدفَّق على صفحات كُتبه ومقالاته؛ ذلك لأنَّه إذا كان الإسلام قد تضمَّن كل هذه المبادئ التي دعَت إليها الماركسية بعده بزمان طويل، فلا معنى للحملة على الماركسية ووصفها بأقبح الصفات، بل إنَّ أقصى ما يمكن أن تُتهم به في هذه الحالة هو أنَّها ليست مذهبًا جديدًا كما تتصوَّر، وإنَّما سبقها الإسلام في كثير من مبادئها الأساسية. وهذه — كما نرى — هفوة لا تستحقُّ أقذع الشتائم.
بل إنه، إذا صحَّ ما يقوله الدكتور مصطفى محمود، فإنَّ مهاجمته للماركسية تصبح مظهرًا من مظاهر ضعف الإيمان وتزعزُع العقيدة؛ إذ إنَّ المذهب الذي يتضمَّن كثيرًا من المبادئ الدينية السامية لا يصحُّ أن يُهاجَم، بل إنَّ من الواجب — عند أيِّ متديِّن سليم العقيدة — أن يشفع للماركسية وجود هذه المبادئ فيها، لأنَّها اتفقَت مع الإسلام في نقاط أساسية، ثم اختلفَت معه بعد ذلك في نقاط أخرى. وما دام الكاتب قد أثبت أنَّ القضايا الرئيسية في الماركسية قد سبق أن دعَا إليها الإسلام، فإنَّ هذا وحده كافٍ لأن يبعث في نفسه احترامًا لها، ما دامت قد اقتربَت إلى هذا الحدِّ من عقيدته التي يؤمن بها من أعماق قلبه.
على أنَّني أودُّ أن أسجل هنا، للإنصاف، أنَّ هذا التناقض ليس مقتصرًا على الدكتور مصطفى محمود وحده، بل لقد شهدَت السنوات الأخيرة سيلًا من الكتب التي ظهرت في مصر وفي بلاد عربية متعددة، تتحدَّث عن اشتراكية الإسلام، وتستمدُّ كل المبادئ الرئيسية في الاشتراكية من مصادر إسلامية، ثم تهاجم الماركسية بكل عنف. وهذا ما لا أفهمه، لأنَّ المنطق السليم لا يسمح لأصحاب هذه الكتب إلَّا بأحد أمرَين؛ إمَّا أن يهاجموا الماركسية (وهذا حقٌّ مشروع لهم إذا شاءوا) ويؤكدوا أن الإسلام مخالف لكل مبادئها ولا يتضمَّن شيئًا ممَّا تدعو إليه، وإمَّا أن يؤكِّدوا اشتراكية الإسلام ويحترموا الماركسية لأنَّها تضمَّنَت على الأقلِّ بعضًا ممَّا سبق أن دعَا إليه الإسلام. أمَّا أن يجمعوا بين محاربة مبادئ الماركسية بضراوة وتأكيد سبق الإسلام إلى مبادئها الأساسية، فهذا ما لا يَقبَله عقلٌ ولا منطق.
•••
ولننتقل في المناقشة خطوةً أخرى، ونتساءل: أكان من الممكن للدكتور مصطفى محمود، أو أيِّ كاتب آخر يسلك هذا الطريق، أن يكتشف في الإسلام مبادئ مثل عدم السماح بالتفاوت الطبقي، أو تدخُّل الدولة في الاقتصاد، لو لم يكُن ماركس نفسه، وغيره من المُفكرين الذين دعَوا إلى هذه المبادئ قد ظهروا بالفعل؟ لقد اهتدى إليها الدكتور مصطفى محمود ﺑ «أثر رجعي»، وبدَا له أنَّها كانت موجودةً هناك، في انتظار مَن يكتشفها. غير أنَّ وقت اكتشافها لم يحِن إلَّا بعد أن توصَّل إليها مُفكر عادي من عباد الله الفقراء أمثالي وأمثالك، وعندئذٍ فقط «وجدها» الدكتور مصطفى محمود وأمثاله من الكُتَّاب في النَّص الديني، والدليل على ذلك أنَّ أحدًا لم يتحدث عن الاشتراكية في الإسلام إلَّا بعد أن ظهرَت الاشتراكية بالفعل، وبالطريقة العادية، كما أنَّ النَّص الديني، في المجتمعات الإسلامية التي تكره الاشتراكية لأسبابٍ «دنيوية» خالصة، لا يُفسَّر أبدًا على أنَّه يحمل معنى إلغاء الطبقات أو مصادرة أموال الأغنياء لصالح الفقراء أو تدخُّل الدولة وتوجيهها للاقتصاد.
إنَّنا لا نقول جديدًا إذا ذهبنا إلى أنَّ كل عصر «يقرأ» النَّص الديني بروح مختلفة مُستمَدَّة من ظروفه ومن المرحلة التي وصل إليها تطوُّرُه. ولو كان النَّص الديني قد أُودع كل شيء، من ماضي البشر وحاضرهم ومستقبلهم، لَمَا عاد البشر في حاجة إلى جهد أو فكر أو علم، ولاكتفَوا بقراءة النَّص وتطبيقه حَرفيًّا. ولذلك فإنَّ الاعتقاد بوجود كل ما يحتاج إليه الإنسان حاضرًا ومستقبلًا في النَّص الديني معناه قعود الإنسان عن الحركة وعن التطور والتطلع إلى المستقبل.
وأنا في هذه النقطة أتفق كل الاتفاق مع ما قاله الدكتور مصطفى محمود في أول فقرة اقتبستُها من كتابه في هذا المقال، ولكن الذي أؤكِّده، وأختلف فيه معه ومع أصحاب المحاولات الكثيرة التي تسير في هذا الطريق نفسه، هو أنَّه، ما دامت الحكمة الإلهية قد أرادت من النَّص الديني أن يكون حافزًا للإنسان إلى العمل وإلى المزيد من الارتقاء، فإنَّ الاجتهاد البشري في كل عصر من العصور هو الذي يُمكِّن الإنسان من أن يهتديَ إلى معانٍ متغيرة ومتطورة في النَّص الديني الواحد، ومن ثَم فإنَّ وجود النَّص لا يحُول دون سَير البشر في تفكيرهم سَيرًا مستقلًّا. وبالاختصار فإنَّ الدكتور مصطفى محمود يستحقُّ الثناء على الجهد الذي بذله، والذي سبق أن بذله عشرات غيره، لكي يهتديَ في النَّص الديني إلى مبادئ أساسية في الاشتراكية، ولكنَّه لا هو ولا غيره كان سيتمكَّن من تفسير هذا النَّص بطريقة اشتراكية لو لم تكُن الاشتراكية قد ظهرَت بالفعل في مكانٍ ما من العالم، وعلى يد إنسان عادي مثلي ومثلك.
•••
وأخيرًا، أصِل إلى الملاحظة التي ربما كانت أهمَّ ما استلفَتَ نظري في هذا الكتاب؛ وهي هبوط المستوى الذي نُوقِش به موضوع الماركسية، وترديد المؤلِّف لمجموعة من «الكليشيهات» المحفوظة التي لا تليق بأيِّ باحث يريد أن يتعمَّق الموضوع. وهنا أصِل إلى النقد الثاني الذي كنتُ قد أشرتُ إليه من قبل، وهو سوء فهم الماركسية، بعد أن فرغتُ من الكلام عن النقد الأول، وهو التناقض في معالجة الموضوع.
ففي الكتابات السوقية عن الماركسية، شاع القولُ إنَّها مذهب يجعل الإنسان عبدًا للمادة، وشاع انتقادُها بالقول إنَّ في الإنسان ما هو أسمى من المادة، وأنَّه لا يحيا بالخبز وحده، وإنَّ الفكر الماركسي لا يعترف إلَّا بالماديات، ويُسقط من حسابه كل العوامل الرُّوحية والقِيَم الخُلقية والمبادئ المعنوية. والقائلون بهذا التفسير المُبتذَل، إمَّا أُناس يُردِّدون ما سبق أن قرءوه في كُتب رخيصة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الموضوع بطريقة علمية، وإمَّا أُناس لهم مصلحة في هذا التشويه. ومن المؤسف أنَّ الدكتور مصطفى محمود قد انساق في كتاباته وراء هذا الاتجاه ولم يحاول أن يتعمَّق بحث هذا الموضوع الحيوي، بل إنَّ من المُستبعَد أن يكون قد قرأ مرجعًا أصليًّا واحدًا في الماركسية، لأنَّه لو كان قد فعل لَمَا امتلأ كتابُه بتلك الأحكام المتسرعة التي تتردَّد على ألسُن السُّذَّج أو أصحاب الأغراض.
وكما قلتُ من قبل، فإنَّ من حقِّ المؤلِّف أن ينقُد الماركسية كما يشاء، ولكنْ إذا لم يكُن هذا النقد مبنيًّا على دراسة متعمِّقة فإنَّه يتحوَّل إلى سلاح يرتدُّ إليه ليصيبه هو ذاته. وكم في بلاد الغرب من نُقَّاد للماركسية يناصبونها أشدَّ العداء، ولكنهم يناقشونها على مستوًى متعمِّق يدعو إلى الاحترام. أمَّا قصة جري الماركسية وراء الماديات فلم يعد أحدٌ يُردِّدها إلَّا في البلاد المتخلفة، ولم تعد تُوجَّه إلَّا إلى الشعوب ذات المستوى الثقافي الهابط، والتي آمُل ألَّا نكون من بينها.
فماركس، في نظر الدكتور مصطفى محمود، يقول ﺑ «بهيمية التاريخ» (ص٣٠)، وفي «المجتمعات الاشتراكية» لا يفهمون أنَّ الإنسان ليس مجرَّد بطن وغرائز (ص٧٤)، كما أنَّ «خطأ الفكر المادي أنَّه تصوَّر أنَّ ثلاث وجبات دسمة ومصروف يد وكساء ودواء يمكن أن تكون عزاءً كافيًا لإنسان يعلم أنَّه وُلد ليموت» (ص١١).
وفي كل صفحة من صفحات الكتاب يُردِّد المؤلِّف الخلط الشائع بين لفظ «المادية» الذي يطلقه ماركس وإنجلز على مذهبهما في الفلسفة والمجتمع والتاريخ، وبين السعي إلى الماديات والانقياد إلى الحياة البهيمية والحرص على إشباع البطن والغرائز.
ومع اعترافي بإمكان انتقاد الماركسية في نَواحٍ كثيرة، فإنَّ هذا النقد بالذات أبعد ما يكون عن روح الماركسية. بل إنَّ الماركسية لم تظهر أصلًا إلَّا لكي تحارب السعي وراء الكسب والمال، ولم تكُن لها قوةٌ دافعةٌ سوى مهاجمة الجشع الرأسمالي الذي أحال الإنسان إلى حيوان يقتنص اللقمة من فم أخيه. ولا يوجَد تشويه أبعد عن الحقيقة من استغلال اسم «المادية»، الذي أطلقَته الماركسية على نفسها، من أجل نشر الاعتقاد بأنَّ الماركسية تدعو الإنسان إلى الجري اللاهث وراء المادة، لأنَّ هذا بالضبط ما تعيبه الماركسية على الرأسمالية، وهو الذي جعل الماركسية تسعى إلى القضاء على النظام الرأسمالي وإحلال نظام اشتراكي أكثر إنسانيةً محلَّه.
ما رأيك، يا دكتور مصطفى محمود في العبارة الآتية: «الإنسان يصبح ثريًّا بقدْر ما يكون، لا بقدْر ما يملك»؟ أتدري مَن قائلها؟ إنَّه كارل ماركس، وفي كتابه الأكبر «رأس المال». وما رأيك في العبارة الآتية، التي تصِف حالة العامل في المجتمع الرأسمالي: «إنَّ العامل في عمله لا يؤكد ذاته بل ينفيها، ولا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، ولا يُنمِّي بحريةٍ قُدراته الجسمية والذهنية بل يُدمِّر جسمه ويُدمِّر ذهنه … ونتيجةً لذلك فإنَّ الإنسان لا يعود يشعر بأنَّه يسلك بحرية إلَّا في وظائفه الحيوانية … أيْ في الأكل والشرب والتناسل. أمَّا في وظائفه الإنسانية (أي العمل والإنتاج) فإنَّه لا يشعر إلَّا بأنَّه حيوان. فما هو حيواني يغدو إنسانيًّا … وما هو إنساني يغدو حيوانيًّا.» أتدري مَن قال ذلك؟ إنَّه كارل ماركس في «المخطوطات الفلسفية والاقتصادية».
هل سمعتَ عن نقد ماركس لفكرة الربح في النظام الرأسمالي؟ وهل تعلم أن أول ما تدافع به الرأسمالية عن نفسها في عالم اليوم هو أنَّ دافع الربح (أي الكسب المادي) أساسي لدى الإنسان؟ إنَّني لا أودُّ أن أدافع أو أهاجم، ولكني فقط أُقرِّر حقيقةً عامةً هي أنَّ الماركسية لم تظهر أصلًا إلَّا لمحاربة مبدأ الربح المادي، بوصفه حافزًا لعمل الإنسان، في النظام الرأسمالي.
هل سمعتَ عن تحليل ماركس لفكرة «التشيُّؤ»؟ في هذا التحليل يقول ماركس إنَّ الإنسان قد أصبح، في النظام الرأسمالي، «شيئًا» يُباع ويُشترى، ويعلو ثمنُه وينخفض في سوق العرض والطلب، وانعكس ذلك حتى على الانفعالات والعواطف البشرية، فأصبحَت بدَورها أشبه بالسلع التي تُعرض في السوق، وأصبحَت مُبتذَلة، يغلِّفها الجشع وتتحكَّم فيها الأغراض والمنافع. لقد استغرق تحليل هذه الظاهرة جزءًا كبيرًا من كتاب ماركس الرئيسي، فهلَّا تعتقد أنَّه كان من واجبك أن تقرأ شيئًا من ذلك قبل أن تنشر بين الناس كُتبًا عن الماركسية؟ وإذا كنت قد قرأت، فكيف أبحتَ لنفسك أن تُردِّد الأحكام المُبتذَلة عن دعوة الماركسية إلى إشباع البطون وملء الجيوب، في الوقت الذي امتلأَت فيه كتابات ماركس بالدعوة إلى استرداد إنسانية الإنسان، وتخليصه من تحكُّم عوامل السوق التي تمتهن كرامته وتحُول بينه وبين تحقيق ذاته؟
إنَّ التفسيرات السوقية الشائعة مبنية على فهم سطحي لتعبيرات مثل «المادية الجدلية» و«المادية التاريخية» و«التفسير الاقتصادي للتاريخ». ولكن هذا التفسير الاقتصادي للتاريخ له حدوده التي لا يعرفها أصحاب هذه التفسيرات. فالتاريخ، عند ماركس، ظلَّ حتى اليوم تاريخًا «طبقيًّا»، وفي مثل هذا التاريخ لا بدَّ أن تكون العوامل الاقتصادية والمادية هي المُتحكِّمة في البشر. ولكن عندما يتجاوز الإنسان المرحلة الطبقية، ويبدأ التاريخ «الحقيقي» الذي يتمُّ فيه القضاءُ على كل مظاهر استغلال الإنسان للإنسان، فعندئذٍ لا يعود هناك مجالٌ لتفسير الظواهر الإنسانية تفسيرًا ماديًّا، لأنَّ الإنسان سيكون قد تغلَّب على سيطرة العوامل المادية وأصبح هدفه هو الارتقاء بمَلَكاته وقُدراته الإنسانية. وفي عهد كهذا لن يعود للتاريخ المادي أيُّ معنًى.
وبعبارة أخرى، فإنَّ المرحلة التي تحلُم بها الماركسية، وتكافح بكل قوة من أجل تحقيقها، هي مرحلة لن يسريَ عليها التفسير المادي للتاريخ. أمَّا في المرحلة الماضية والحاضرة، التي يشيع فيها استغلالُ الإنسان للإنسان، فإنَّ العوامل المادية ستظلُّ هي التي تتحكم في سلوك البشر، وفي فلسفاتهم وآدابهم وفنونهم، أيْ ستظلُّ الروح مُكبَّلةً بقيود المادة.
هذا الكلام معناه أنَّ التفسير المادي يسري على مرحلة «سقوط» الإنسانية، إذا جاز لي أن أستخدم هذا التعبير الديني، أمَّا في مرحلة «النجاة والخلاص» فلن يعود لهذا التفسير معنًى، لأنَّ الأساس الذي يرتكز عليه، وهو التقسيم الطبقي للبشر، لن يكون له وجود.
قد يكون هذا الرأي الماركسي مُسرفًا في الخيال، وقد يكون فيه كثيرٌ من الخطأ، أو من التنبؤات التي لم تتحقَّق … هذا كله ممكن، وأنا أول مَن يعترف بأنَّ الماركسية ليست مُنزَّهةً عن الخطأ، وبأنَّ مَن نظروا إلى تعاليمها كما لو كانت مُنزَّلةً أساءوا إليها أبلغ الإساءة، كما أني أول مَن يعترف بأنَّ كثيرًا من تطبيقات الماركسية قد تضمَّنَت قدْرًا غير قليل من التشويه. ولكن هذا كله شيء، وتشويه الحقيقة العلمية للمذهب شيء آخر. ومن المستحيل على مَن قرأ، ورجع إلى المصادر الأصلية، أن ينقاد إلى مثل هذه التفسيرات المُبتذَلة.
إنَّ واجب الكاتب الأمين نحو قُرَّائه الذين يُولُونه ثقتهم، ويتخذون منه مرجعًا في الأمور التي لا يمكن أن يطَّلعوا عليها بأنفسهم، هو أن يصدُقهم القول ويتحمَّل عنهم عبء البحث والتنقيب، ولا يستغل حاجتهم إلى المعرفة من أجل فرض آراء ناقصة أو مشوَّهة، أو من أجل المسارعة إلى كتابة أيِّ شيء يخطر على البال، اعتمادًا على أنَّ المطابع في الانتظار، والقارئ مضمون.
هذا واجبك يا دكتور مصطفى محمود بوصفك كاتبًا، وبوصفك مثقفًا، وبوصفك مسلمًا؛ أن تصدُق قُرَّاءك الكلمة، وتنقُلها إليهم أمينةً من مصادرها الحقيقية، وبعد ذلك فلتنقُد الماركسية كما تشاء، ما دُمتَ قد اطلعتَ عليها بالقدْر الذي يكفيك لكي تُعبِّر عن آرائها تعبيرًا صادقًا.
وأخيرًا، فإنَّ لديَّ أمنيةً أطمع في أن تُحقِّقها لي، ولقُرَّائك الكثيرين، هي أن تؤلِّف يومًا ما (وخير البرِّ عاجله) كتابًا عن «الرأسمالية والإسلام»، حتى تكتمل لدى القارئ صورتك بوصفك مُفكرًا يناصر الإسلام وحده، لا هذا المذهب أو ذاك. وسأكون في انتظار كتابك هذا بشوقٍ بالغ، وكل ما أرجوه، في هذه الحالة بدَورها، هو أن تُعطيَ الفكر الرأسمالي فرصةً كاملةً لكي يُعبِّر عن نفسه من خلال مصادره الأصلية، حتى لا يتَّهمك أحدٌ بأنَّك ظلمتَ الرأسمالية كما ظلمتَ الماركسية!