التربية ومراحل المعرفة

(١) التربية للحراس فقط

على الرغم من أهمية البحث في التربية بالنسبة إلى سائر الأبحاث التي عالجتها محاورة الجمهورية — مما دفع كثيرًا من الشرَّاح إلى جعلها موضوعًا رئيسيًّا للمحاورة — فمن الواجب أن ننبه منذ البداية إلى أن أفلاطون لا يقدم إلينا في هذه المحاورة نظريةً شاملةً في التربية، بل يقدم إلينا منهاجًا لتربية فئة مختارة من المواطنين فحسب. والفارق بين الحالتين كبير؛ إذ إن المُثل التربوية العليا التي تهدف إلى تنوير المواطن بوجهٍ عامٍّ لا بدَّ أن تختلف عن تلك التي تهدف إلى تثقيف صفوة مختارة منهم: فالأولى ديمقراطية شاملة، والثانية أرستقراطية انتقائية. ولا شكَّ أن كتابات أفلاطون تفتقر إلى نظرية متعلقة بالنوع الأول من التربية، ولكنها تُبدي اهتمامًا بالغًا بالنوع الثاني.

ولو حاولنا أن نستنتج رأي أفلاطون في طريق التكوين الذهني لعامة الناس، لاتضح لنا أنه لا يعترف بفكرة التكوين المتكامل بالنسبة إليهم، بل إن المبدأ السائد في تنشئة عامة الناس، أو الطبقة الثالثة، هو مبدأ التخصص الدقيق؛ فالنجار ينبغي أن يظل نجارًا فقط، والتاجر تاجرًا، وهكذا الأمر في كل المهن الأخرى. وأية محاولة للخروج عن نطاق التخصص تؤدي إلى بعث الاضطراب في المجتمع، أما إذا كانت هذه المحاولة تهدف إلى تجاوز الفرد لطبقته الاجتماعية وتطلعه إلى أعمال طبقة تعلو عليه، فعندئذٍ يختل نظام الدولة أشد الاختلال. ولا جدال في أن هذا المبدأ يخالف الأسس التربوية الحديثة مخالفةً صريحة، فعلى الرغم من أن حياتنا الحديثة أعقدُ كثيرًا مما كانت عليه الحياة في عصر أفلاطون، مما يستتبع أن يكون مبدأ التخصص ألزم لعصرنا الحالي من أي عصر سابق، فإن اتجاهاتنا الحديثة في التربية تحبذ تكوين إنسان متكامل، ذي نشاط متنوع، إلى جانب النشاط الرئيسي في العمل الذي يتخصص فيه، أمَّا أفلاطون فيريد أن يكون «النجار نجارًا» فحسب، أي يعيش ويفكر ويأكل ويشرب بوصفه نجارًا، دون أية محاولة لتحقيق أي نوع من التكامل في حياته.

وعلى أية حال، فليس لنا أن نلوم أفلاطون على آرائه في تكوين أفراد الطبقة الثالثة؛ لأن هذه الطبقة لم تكن موضوعًا لاهتمامه على الإطلاق، وإنما كان مدارُ بحثِه هو كيفية تكوين الطبقتَين الرفيعتَين، أو طبقة الحراس بفئتَيها من الجنود والحكام. فالمُثل العليا للتربية عنده كانت محدودةً في نطاق تطبيقها، ولم يكن يُقصد منها أن تسريَ إلا على أولئك الذين سيكون منهم جيش الدولة أو حكامها.

ولا بدَّ لنا أن نُنبِّه في البداية إلى أن اهتمام أفلاطون المفرط بطبقة الحراس، واعتقاده بأن الدولة ينبغي أن تركز جهودها في تكوين شخصيات أفراد هذه الطبقة تكوينًا سليمًا، يتناقض مع مبادئ أخرى عبَّر عنها في كتاباته تعبيرًا صريحًا. فهو عندما يعرض رأيه في منشأ الدولة يتحدث عن نوعين من الدول يظهران في مرحلتَين متعاقبتَين: مرحلة الدولة البسيطة الصحيحة، حيث لا توجد إلا المهن الأساسية الضرورية التي تحقق الحاجات الحيوية للإنسان فحسب (٣٧٢)، ثم مرحلة الدولة المُترفة التي يصفها بأنها مريضة أو معتلَّة، والتي تتعقد فيها المهن والوظائف إلى ما يتجاوز الحاجات الضرورية. والدولة الثانية وحدها هي التي تنشأ فيها أطماع تؤدي إلى إثارة المنازعات ونشوب الحروب، التي يقدم لها أفلاطون تفسيرًا اقتصاديًّا يدعو إلى الإعجاب؛ إذ «تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكفيهم … وعندئذٍ، ألا نُضطر إلى أن نتعدى على أرض جيراننا، إن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألا يُضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا استسلموا، بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟ … وإذن فسوف نشن الحرب … وفي وسعنا أن نؤكد أننا قد اهتدينا إلى أصل الحرب في ذلك الميل الذي هو أصلُ كل بلايا الدول والأفراد» (٣٧٣).

في مثل هذه الدولة المترفة إذن تنشأ الحاجة إلى تكوين جيش من أفراد متخصصين في مهنة الحرب، مثلما يتخصص كلُّ فردٍ آخر في مهنة لا تؤدي غيرها. ومما له دلالته أن أفلاطون قد استخدم لفظ «الحراس» لأول مرة في سياق هذا الحديث عن حاجة الدولة المترفة إلى جيش متخصص يحقق لها أطماعها ويصد عنها أطماع الآخرين (٣٧٤)، وأنه أعقب ذلك مباشرة بالحديث عن تعليم الحراس (ابتداء من ٣٧٦). ومعنى ذلك أن أفلاطون يربط بين ظاهرة الحرب وبين اعتلال الدولة وإغراقها في الملذَّات، ويراها مظهرًا من مظاهر الطمع والجشع، وبالتالي فإن الطبقة التي تحترف مهنة الحرب ما كانت لتظهر إلا نتيجةً لهذه الأطماع، ولأن الدولة قد اعتلت وانحرفت عن أصلها السليم. فإن كان هذا هو وضع الحراس في فلسفته، وإذا كانت الظروف التي يمارسون فيها عملهم شرًّا لا بدَّ منه، بل شرًّا قد يكون من الممكن تجنُّبه، فكيف إذن جاز له أن يتخذ من تكوين المحاربين الأكْفاء هدفًا رئيسيًّا للتربية؟ ألم يكن من الواجب — تمشيًا مع مقدماته السابقة — أن يجعل لتكوينهم مكانة ثانوية في نظام التربية، على أساس أن المهنة التي يحترفونها لا تمارس إلا عندما تكون الدولة مترفة، ولا تكون لها ضرورة إلا بسبب المطامع غير المشروعة التي تنتاب هذه الدولة؟

ومن جهة أخرى، فمن الواجب ألا ننسى أن أفلاطون يشيد دولته المُثلى منذ بدايتها، أي إنه كان يستطيع أن يضع لها من الدعائم والأسس ما يشاء، وهو بالفعل قد أدخل على بناء دولته الفرضية تغييرات جذرية كالمساواة المُطلَقة بين الرجل والمرأة، وإلغاء الأسرة، وشيوعية التملك … إلخ. فلماذا إذن لم يضع لها دعائم أفضل من تلك التي تجعل مهنة الحرب ضرورية؟ ولماذا لم يغير مركز المحاربين ويضعهم في موضعهم الصحيح — أعني موضع أولئك الذين يقومون بعمل لا مجال لممارسته إلا عندما تكون الدول مريضة أو معتلة؟ إن «يیجر» يقول، في صدد الكلام عن الحراس، إن الفكرة المسيطرة على ذهن أفلاطون هي «محاولة الإفادة بقدر الإمكان من طبقة الجند التي أصبحت الآن لا مفر منها».١ ولكنه نسي أن أفلاطون لا يتحدث عن دولة قائمة، وإنما عن دولة فرضية، مثالية، يستطيع أن يبنيَها كما يشاء، وليس فيها شيء «لا مفر منه». وقد اعترف «يیجر» ذاته، قبل العبارة السابقة بصفحات قلائل (ص١٩٩)، بأنه «لا يبدأ من أمَّة تاريخية فعلية مثل أثينا أو اسبرطة». وإذن فهو لم يكن ملزمًا بأن يحاول الإفادة من وضع سيئ موجود بالفعل، أو مواجهة الأمر الواقع على خيرِ نحوٍ ممكن، وإنما كان يمكنه لو شاء أن يجعل للحراس المكانة التي يستحقونها بوصفهم أناسًا يقومون بعمل لا تكون له ضرورة إلا إذا ساد الطمع والجشع مجتمع البشر — وعندئذ كان ينبغي عليه ألا يركز أهدافه التربوية حول تنشئة هذه الطبقة وضمان حسن أدائها لأعمالها، وإنما كان يستطيع أن يركز اهتمامه على تربية المواطنين الذين يؤدون للدولة أعمالًا إيجابية، ويكتفي بإشارة بسيطة إلى طريقة تكوين الحراس الذين تقتصر مُهمَّتهم على عملٍ سلبي هو دفع العدوان عن الدولة.

ونستطيع أن نمضيَ في نقد أفلاطون أبعد من ذلك، فنقول إن مجرد إدماجه تعليم حكام المستقبل في برنامج تكوين الحراس، واختياره هؤلاء الحكام من بين أكفأ الحراس، هو في ذاته أمر يتناقض مع مقدمات فلسفته؛ ذلك لأنه كان يهدف إلى أن يجعل الحاكم فيلسوفًا، أو الفيلسوف حاكمًا، ولكن هل يحقُّ لأحد أن يجزم بأن التنشئة الحربية هي أفضل وسيلة لإعداد الفيلسوف؟ ألا يوجد في التحول من حياة الحرب إلى حياة الحكمة والفلسفة نوع من الانتقال المفاجئ الذي يصعب تصوره؟ أليست معظم المهن الأخرى أجدر بأن تكون أساسًا يمهد لظهور الفيلسوف، من مهنة ممارسة الحرب؟ وهل يُعَد من قبيل الفهم السليم لأصول التربية، أن يمزج أفلاطون بين تربية حكام المستقبل وتربية الحراس، ويضع للفئتين برنامجًا واحدًا يظل منطبقًا عليهما حتى مرحلة الانتقاء النهائي للحكام من بين أكفأ الحراس؟ ومن جهة أخرى، فإذا كان أصل الحاكم الفيلسوف بالضرورة جنديًّا محاربًا، فهل هناك ما يضمن أنه سيجعل سلطته مرتكزة على الحكمة والعقل، بدلًا من القوة التي يستمدها من انتمائه إلى فئة المحاربين؟

كل هذه أسئلة تفرض نفسها على الذهن بالضرورة عندما يفكر المرء في دلالة اهتمام أفلاطون البالغ بطبقة الحراس. فمن الواضح أنه لم يكن مضطرًّا في مدينته «الخيالية»، إلى أن يجعل تكوين الحراس هدفًا رئيسيًّا للتربية في الدولة. وهو لم يكن مضطرًّا إلى أن يجعل طبقة الحراس هي المصدر الوحيد الذي يستمد منه حكام البلاد. وهو إذا كان قد فعل ذلك، فلا بدَّ أن يكون هذا تعبيرًا عن اختيارٍ إراديٍّ وتفضيلٍ ذاتيٍّ؛ أعني أنه كان يعجب بالرُّوح العسكرية إلى حد إبداء كل هذا الاهتمام بها في نظامه التربوي. وأغلب الظن أن إعجابه بالنظام السائد في اسبرطة هو الذي دفعه إلى تفضيل النمط العسكري على كل الأنماط الأخرى للحياة، ودعوته إلى أن تركز الدولة اهتمامها — في مجال التربية — على تنشئة أفضل الأفراد ليكون منهم حراس الدولة وحكامها. ومع ذلك، فسيظل الربط بين الطبيعة الحربية والطبيعة الفلسفية أمرًا مستغربًا، ولا سيما حين يأتي من مفكر طالما دافع عن استقلال العقل والرُّوح مثل أفلاطون!

(٢) المرحلة الأولى في التعليم: التربية البدنية والموسيقى

عالج أفلاطون، في محاورة الجمهورية، نظم التعليم على مراحلَ ثلاث، تُناظر الأولى منها مرحلة التعليم الابتدائي في العصر الحديث، وقِوام هذه المرحلة هو تدريب البدن والموسيقى؛ أي تنمية الجسم والرُّوح في الوقت الذي يكونان فيه قابلين للشكل.

ومن الواجب أن نذكر أن ما يسميه أفلاطون بالموسيقى يناظر ما نطلق عليه اليوم اسم «العلوم الإنسانية» أو «الآداب» بوجهٍ عام. ففي هذا النوع من التعليم توجد بالفعل دراسة للموسيقى، ولا سيما الموسيقى المصاحبة للشعر، غير أن أهم ما يتألف منه هو دراسة القراءة والكتابة ثم استخدامها في حفظ الشعر، وفي بعض الدراسات الأدبية والفنية البسيطة. أما التربية البدنية، فهي تدريب الجسم على التحمُّل وتحقيق الصحة والقوة للفرد عن طريق تنمية بدنه وتنظيم غذائه، ومع ذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن التربية البدنية تهدف إلى رعاية الجسم وحده؛ إذ إن هدفها الأهم هو رعاية النفس في جزئها الغضبي، أعني تنمية صفات الشجاعة والإقدام في الفرد (٤١٠). وبعبارة أخرى، فالدراسات الأدبية والتدريبات البدنية تهدفان معًا إلى تحقيق خير النفس، ولكن بطريقتَين مختلفتَين؛ ذلك لأن المحارب ينبغي، في رأي أفلاطون، أن يجمع بين الحس الرقيق المرهف من ناحية، والشجاعة والإقدام من ناحية أخرى — وهذا الجمع لا يتحقق إلا بتحقيق التناسب الصحيح بين نوعَي التعليم: البدني والرُّوحي، وترجع أهمية فكرة «التناسب الصحيح» هذه إلى أن الإفراط في أحد النوعين يؤدي إلى فساد طبيعة المحارب؛ فإذا اهتم برعاية جسمه أكثر مما ينبغي، أصبح العنف غالبًا على طبيعته، وإذا أفرط في تهذيب روحه بالموسيقى والآداب على حساب العناية بجسمه، كانت النتيجة هي طراوته ونعومته إلى الحد الذي لا يتلاءم مع مقتضيات الرُّوح العسكرية. وإذن فلا بدَّ أن تكون نفس المحارب مزيجًا متوازيًا من حساسية الرُّوح وشجاعة القلب وقوة الجسم.

ولهذه المرحلة التعليمية الأولى جانب سلبي، هو ذلك الذي يرفض فيه أفلاطون أساطير الشعراء ويدعو إلى أبعاد تأثيرها عن أذهان النشء. وسوف نعرض لموقف أفلاطون في هذا الموضوع بالتفصيل عند معالجتنا لآرائه الفنية والأدبية. ولكن الذي يهمنا في هذا الموضع هو أن نلاحظ الطابَع التربوي البحت لنقده لأساطير الشعراء. فقد يبدو لأول وهلة أن هذا النقد ذو طابع ديني؛ إذ إن ما يعيبه أفلاطون على الشعراء هو أنهم يصورون الآلهة بصورة لا تليق بمقامها (٣٩١). ومع ذلك فإن قليلًا من التفكير في أسباب انتقاد أفلاطون للشعراء في هذا الصدد، كفيل بإقناعنا أن انتقاداته في حقيقتها ذات طابع أخلاقي أو تربوي. فالآلهة ترمز لمُثل عليا ينبغي احترامها. وحين يفقد الناشئ احترامه للآلهة — نتيجة لأوصاف الشعراء المخزية لهم — يكون معنى ذلك أنه فقد احترامه للقيم والمبادئ الأخلاقية التي يُفترض أن هذه الآلهة ترمز لها.

وعلى أية حال، فمهما كان رأينا في طبيعة القيود التي أخضع لها أفلاطون دراسة الشعر، فمن الواجب أن نذكر أن آراءه في هذا الصدد ما زالت لها قيمتها من الناحية التربوية الخالصة؛ ذلك لأن معظم الأطفال يتعرضون، حتى في عصرنا الحاضر، لمؤثرات قد تكون ضارة بهم في فترة تنشئتهم الأولى، نتيجة لما يُلقى على مسامعهم من قصص عن الجن والعفاريت، أو من حكايات بعضها ينطوي على معانٍ لا أخلاقية. وفي هذه الحالة نجد أن مذاهبنا التربوية الحديثة بدورها تدعو إلى إبعاد الطفل عن هذه المؤثرات الضارة، وتنادي بتنمية شخصيته بطريقة سوية لا يؤثر فيها الخيال المريض، وبالتالي فهي تطالب بفرض نوع من الرقابة على ما يُلقى على مسامع الطفل من أقاصيص، حتى لا تنموَ في نفسه روح الخرافة اللاعلمية، أو أحاسيس الرعب أو مبادئ الانحلال. وبعبارة أخرى، فالرقابة التي يدعو أفلاطون إليها في هذا المجال لا تبدو بعيدةً كل البعد عما تدعو إليه المذاهب التربوية الحديثة في ميدان القصص التي تُروى على مسامع الأطفال.

(٣) المرحلة الثانية: الرياضيات والعلوم

يمكن القول، بوجهٍ عام، إن المرحلة الثانية في برنامج أفلاطون التعليمي تناظر المرحلة الثانوية في النظام التعليمي الحديث، وإن كانت السن التي حددها أفلاطون لهذه المرحلة — وهي ما بين العشرين والثلاثين — تتجاوز بكثير نطاق المرحلة المناظرة لها في عالمنا الحديث. ولمَّا كانت الرياضيات هي المحور الذي يدور حوله التعليم في هذه المرحلة، فسوف نتحدث في هذا القسم عن موقف أفلاطون من الرياضيات كما تكشف عنه، بوجهٍ عام، محاورةُ الجمهورية.

فمن الكتَّاب مَن يرون أن أفلاطون قد توصَّل إلى التفسير الرياضي للطبيعة، أو استبق هذا الاتجاه قبل عودة ظهوره عند ديكارت بأكثر من ألفَي عام.٢ ولكن الأصح من ذلك أن نقول إنه حاول أن يجعل للرياضة قيمة أساسية في تفسير الكون، بحيث تغني عن الدراسة الفيزيائية كما يعرفها العالم الحديث. فمن الصعب أن نتصور أن أفلاطون قد اهتدى إلى ذلك الأساس الهام من أسس المنهج العلمي الحديث، وهو دراسة الطبيعة دراسة رياضية، بل إن الرياضة عنده تمتد وتتسع وتزداد أهميةً إلى حد لا يقف معه إلى جوارها أي علم آخر من تلك العلوم التي تبحث في موضوعات الطبيعة المادية. والواقع أن بحث أفلاطون للرياضيات يتسم بطابَع مزدوِج؛ فالرياضة تترفع عن كل موضوع متعلق بالعالم المحسوس، ولكنها من جهة أخرى تهيئ الذهن أفضل تهيئة للصعود إلى العالم المعقول. وهي بالنسبة إلى العالم الأول غاية في ذاتها، ينبغي أن تحتفظ باستقلالها الكامل عن كل موضوعاته، أما بالنسبة إلى العالم الثاني فهي وسيلة لتدريب العقل على التعامل مع عالم الأفكار المجردة. وسوف نبحث كلًّا من هاتَين الصفتين على حدة، على ألا تغيب عن أذهاننا الصلة الوثيقة التي تجمع بينهما.
كانت الرياضة بالنسبة إلى أفلاطون، تعني عادة الحساب والهندسة، ولا سيما هندسة المسطحات، وإن كان قد أبدى بعض الاهتمام بهندسة الحجوم، كما أضاف إلى مجال الرياضة نظرية التوافق الموسيقي وعلم الفلك (أو علم الحركات السماوية). ومع ذلك فقد كانت هذه العلوم في حالة متخلفة في أيامه، بحيث إن اهتمام أفلاطون قد تَركَّز على الحساب والهندسة، التي كانت تعني بالطبع الهندسة الإقليدية بنظرياتها المعروفة، وهي النظريات التي كان معظمها قد صيغ في عصر أفلاطون.٣ ولكي نفهم طبيعة رأي أفلاطون في العلم الرياضي، ينبغي أن نرجع إلى ما قاله عن هذا العلم في تشبيه «الخط» الذي ختم به الباب السادس من محاورة الجمهورية. فبعد أن شرح فكرة التشبيه، وهي تقسيم خط إلى جزأين غير متساويَين يناظران العالَم المعقول والعالَم المحسوس، ثم تقسيم كل جزء إلى جزأين داخليين بينهما نفس النسبة، وبعد أن أوضح أن الجزأين الداخليَّين، في القسم الأول، يناظر أصغرهما عالم الظلال والأشباح والانعكاسات، ويناظر أكبرهما الأشياء المادية الواقعية التي تعكس الأولى صورها، بعد ذلك كله انتقل إلى الجزء الداخلي الأول من القسم الثاني (أي المعقولات) وأوضح رأيه في طبيعة الرياضيات وعَلاقتها ببقية الأبحاث الأخرى التي يتخذها العقل البشري موضوعًا له. فالرياضيات في رأيه تتصف بالصفات الآتية
  • (١)

    إنها تبدأ من مُسلَّمات تُعَد في غير حاجة إلى إثبات؛ لأنها واضحة بذاتها.

  • (٢)

    وهي استدلالية متدرجة؛ أي إنها تحتاج إلى سلسلة من المراحل المتسقة التي توصل إلى البرهان المطلوب.

  • (٣)

    وهي تحتاج إلى صور مُتخيَّلة يستعين بها الرياضي في فَهْم مشكلاته: «فأنت تعلم أيضًا أنهم يستخدمون الأشكال المنظورة، ويقيمون استدلالاتهم عليها، وإن لم يكن تفكيرهم منصبًّا عليها هي ذاتها، وإنما على الأصول التي تُعَد هذه الأشكال صورًا لها. فهم لا يقيمون استدلالاتهم على هذا المربع أو ذاك القطر، وإنما يقيمونها على المربع في ذاته. والقطر في ذاته، وكذلك الحال في الأشكال الأخرى. فالأشكال التي يرسمونها والنماذج التي يصنعونها هي أشياء واقعية، قد تنعكس ظلالها أو صورها على صفحة الماء، ولكنها تستخدم هنا وكأنها هي بدورها صور، ليصل الباحث إلى تلك الأشياء الأرفع التي لا تُدرَك إلا بالفكر» (٥١٠).

وإذن فالرياضيات — تبعًا لهذا النص — لا تعتمد على المنطق الاستدلالي الخالص، بل على فهم مضمونات الأشكال التي ترسمها بالفعل في صورة منظورة. ويعلق «روس» على هذا النص قائلًا: «لقد كان أفلاطون مخطئًا دون شك عندما ذكر أن عالم الهندسة يرسم أشكالًا بالضرورة أو يضع لها نماذج. فقد فاته أن أي شخص لديه خيال تصويري حي يستطيع أن يستخدم أشكالًا مُتخيَّلة. غير أن إدراك هذه الحقيقة لا يقلل من صحة مبدئه العام، وهو أن عالم الهندسة يكتسب معرفته عن طريق الالتجاء إلى تصوير جزئي؛ إذ إن الشكل المُتخيَّل لا يقل في طابعه الجزئي عن الشكل المرسوم والمنظور.»٤ ومع ذلك فمن الواجب أن نذكر، ردًّا على ذلك، أن هذا النص لا يُعبِّر عن رأي أفلاطون الحقيقي في طبيعة الرياضيات بقدر ما يُعبِّر عن النظرة الشائعة للرياضيات في عصره. فهو يريد أن يفرق، على أساس هذه النظرة الشائعة، بين الرياضيات بوصفها تعبيرًا عن المرحلة الثالثة للعلم (وهي مرحلة الفهم dianoia) وبين المعرفة الظنية doxa (التي تُعبِّر عن المرحلتَين الأوليَين) من جهة، وبينها وبين الديالكتيك، أو مرحلة العقل nous وهي أعلى مراحل المعرفة جميعًا، من جهة أخرى. فالرياضيات تظل، في استخدامها الشائع، مرتبطةً ولو من بعيد بعالم الجزئيات، من حيث إن الخيال الذي يصور للذهن أشكالًا جزئية هو الوسيلة الأساسية التي يلجأ إليها الرياضيون في الوصول إلى استنتاجاتهم.
ومع ذلك، فهناك شواهد قاطعة على أن أفلاطون لم يقنع بهذا الاستخدام، وإنما أراد أن تكون الرياضيات علمًا يعلو على كل ما هو جزئي وكل ما هو محسوس. وقد أورد «شول» رواية لبلوتارك ذكر فيها أن أفلاطون قد غضب من آخوطاس ويودوكس Eudoxe لأنهما قاما بحل بعض المشكلات الهندسية، مثل مضاعفة المكعب، مستعينَين بأجهزة ميكانيكية، ورأى في ذلك إفسادًا للهندسة وتشويهًا لما هو رفيع فيها؛ إذ هبطا بأشياءَ عقلية ولا جسمية إلى مرتبة الأشياء الجسمية والمادية.٥ «ومن جهة أخرى، فقد سخِر أفلاطون، في الكتاب السابع من الجمهورية، من الطريقة الشائعة التي يلجأ إليها علماء الهندسة في عصره»؛ ذلك لأنهم يستخدمون لغةً غريبة مضحكة، ولا تعنيهم إلا المسائل العلمية وحدها، وهكذا يتحدثون دائمًا عن «التربيع» و«التطبيق» و«الجمع» وما إلى ذلك، وكان الهدف هو «عمل» شيء، على حين أن الهدف الحقيقي للموضوع كله هو المعرفة (٥٢٧) فهو يريد من علم الهندسة إذَن أن يكون أقرب إلى الرُّوح الفلسفية الخالصة، وأن يبتعد عن التعبيرات التي توحي بوجود عمليات حسية في الرياضة، كالتربيع والتطبيق … إلخ؛ إذ إن الموضوعات الرياضية أزلية لا يمكن أن تؤثر فيها فاعلية الإنسان. وبعبارة أخرى، فالمربع موجود بصورة أزلية، وهو لا ينتظر عملية «التربيع» البشرية، وكذلك الحال في كل مفهوم هندسي آخر.

ومن هذه الفكرة الأخيرة نستطيع أن ننتقل إلى الوجه الآخر من بحث أفلاطون في الرياضيات، وأعني به ذلك الذي تكون فيه الرياضيات تهيئةً للذهن من أجل إدراك الحقائق الأزلية التي هي موضوع الدراسة الديالكتيكية. فالدراسة الرياضية تنمي ملكات التعميم والتجريد التي يستخدمها العقل في بحث أرفع موضوعاته. ومن هنا كانت الرياضة عنصرًا أساسيًّا في تكوين الفيلسوف؛ إذ إنها هي التي تعلو به فوق عالَم التغيُّر، وتنقُله إلى عالَم الوجود الأزلي، وهي التي تنمي فيه القدرة على استخدام العقل والانصراف عما تأتي به الحواس من معارفَ باطلة. وهي فضلًا عن ذلك تساعد على إدراك العَلاقات التي تجمع بين العلوم بعضها وبعض. وتُقدم إلينا هذه العلوم في صورة جامعة شاملة تحدد عَلاقتها بالوجود الحقيقي.

والحق أنه ليبدو في بعض الأحيان أن حماسة أفلاطون لدراسة الرياضيات لم تَكُن ترجع إلى تعلُّقه بالرياضيات ذاتها، بقدر ما كانت ترجع إلى قدرة الرياضيات على تكوين «الطبع الفلسفي» في النفس، أعني تحويل الذهن من الاهتمام بالمحسوسات إلى الاهتمام بالمعقولات، ومن عالم التغيُّر إلى عالم الثبات. وقد أيَّد «دانتسج» هذا الرأي إذ قال: «على الرغم من الادعاءات المبالغ فيها لأتباع أفلاطون والأفلاطونية المحدثة، فإن أفلاطون لم يَكُن رياضيًّا، فالرياضة عند أفلاطون وأتباعه كانت إلى حدٍّ بعيد وسيلةً لغاية، والغاية هي الفلسفة. فهم ينظرون إلى الجوانب الفنية من الرياضيات على أنها مجرد وسيلة لتقوية الذهن، أو — على أكثر تقدير — برنامج دراسي تدريبي يُمهِّد الطريق لمعالجة المشاكل الفلسفية الأهم. وينعكس ذلك في لفظ mathematica ذاته، الذي يُترجَم حرفيًّا بعبارة «مقرر دراسي» أو «منهج». وبهذا المعنى كانت الرياضة تستخدم في أكاديمية أفلاطون، ولم تصبح الرياضيات اسمًا لعلم العدد والشكل والامتداد إلَّا فيما بعد.»٦

وإذَن، فمن الممكن القول إن اهتمام أفلاطون كان ينْصَب أساسًا على المعاني الميتافيزيقية التي تكمن من وراء التصورات الرياضية. وفي هذا كان متأثرًا دون شكٍّ بالتراث الفيثاغوري الذي تشبَّع أفلاطون بتعاليمه. ومع ذلك، فكما أن حرص الفيثاغوريين على إضفاء دلالة كونية على الرياضة لم يَحُل بينهم وبين الوصول إلى مجموعة من أروع الكشوف الرياضية في العالم القديم، فكذلك كانت حماسة أفلاطون للدراسة الرياضية قوة دافعة إلى الأمام لهذا العِلم، أدت إلى نهوضه في الأكاديمية بوجهٍ خاص. صحيح أن أفلاطون ذاته لم يهتدِ إلى جديد في مجال الرياضة، ولكنه جعل ممارسة الهندسة عملًا إلهيًّا، وشرطًا ضروريًّا لدخول الأكاديمية. وكان ذِكر الرياضيات في محاوراته مقترنًا على الدوام بالاحترام، بل كان يُحيطها بهالةٍ من التقديس، تؤدي قطعًا إلى بث الإعجاب بهذا العلم في نفس كلِّ مَن يستمع إلى دروسه أو يقرأ محاوراته.

ومع ذلك، فإن حرصَه الشديد على الفصل بين الرياضيات وعالم المحسوسات قد جنى على الرياضة، وعلى التفكير العلمي بوجهٍ عام. صحيح أننا نعترف اليوم للرياضة البحتة بأهميتها القصوى، ولكنَّا لا نجد غضاضةً في تطبيق مبادئها من أجل حل مشكلات العلم الفيزيائي، ولا نعترف — حتى في حالة الاحتفاظ لها بطابَعها البحت — أنها تكون عالمًا مستقلًّا يترفَّع على العالَم الطبيعي. أما في حالة أفلاطون، فقد انفصلت الرياضة عن العِلم الطبيعي انفصالًا تامًّا، وكان لا بدَّ من مُضيِّ ما يزيد على ألفَي عام لكي يعود العقل الإنساني إلى بحث الرياضة بالطريقة السليمة؛ أعني بوصفها عِلمًا لا يفقد شيئًا من مكانته إذا اتصل بالعالم الطبيعي وساعدنا في حل مشكلاته. وخلال هذه الأعوام الطويلة كان هناك انفصال قاطع بين الرياضيات وبين عالم الإنسان المادي، وبالتالي كان البحث في أي عِلم له شأن بالطبيعة المحسوسة يُعَد انتقاصًا من قدر العقل. فما نُطلق عليه اليوم اسمَ العلم الطبيعي — سواء أكان فيزياء أم كيمياء أم بيولوجيا — كان مستبعدًا من مجال العلم الصحيح عند أفلاطون؛ لأنه وثيق الارتباط بعالم التغيُّر والحركة والتحول، ولأنه ينتمي إلى صميم العالَم المادي المحسوس. وما نسميه بالمنهج التجريبي كان عند أفلاطون يدخل في باب «المعرفة الظنية doxa» لأن استخدام طريقة التجربة والملاحظة يؤدي إلى الحط من قدر الباحث، ويدل على أن ملكاته الذهنية لم تصل إلى القدر المطلوب من التجديد. والعلم الوحيد الذي أبدى له أفلاطون قدرًا من الاحترام — من بين علوم الطبيعة — هو عِلم الفلك، وذلك لعدة أسباب: أولها أن ذلك العلم يتعلق بموضوعات ذات طبيعة «إلهية» أزلية، هي النجوم السماوية (وفي ذلك كان أفلاطون مسايرًا للاتجاه الفيثاغوري الذي كان يؤله النجوم)، وثانيًا لأن للرياضيات الدَّورَ الأكبر في دراسة هذا العلم، أما الملاحظة فلا جدوى منها في هذا المجال (٥٢٩)، وثالثًا لأن هذا العالم يرتفع فوق مستوى عالمنا الأرضي المحسوس. ولا جدال في أن الإقبال على دراسة عِلم الفلك على أساس مقدمات كهذه لا بدَّ أن يؤديَ إلى نتائج باطلة. وبالفعل أكد «سارتون» أن نجاح أفلاطون في هذا الميدان كان راجعًا إلى سلسلةٍ من سوء الفهم؛ فقد كان الفلاسفة يعتقدون أنه وصل إلى نتائجه بفضل عبقريته الرياضية، ولم يشأ الرياضيون أن يناقشوا نفس هذه النتائج لأنهم نسبوها إلى عبقريته الفلسفية. فقد كان يتكلم بالألغاز، ولم يجرؤ أحد على الاعتراف بأنه لم يفهمه خوفًا من أن يُتَّهم بأنه رياضي فاشل أو ميتافيزيقي فاشل.٧

وهكذا يمكن القول إن المنهج التجريبي، وكذلك العلم الطبيعي ذاته، قد أصابه تخلُّف كبير نتيجةً لحرص أفلاطون على إيجاد فاصلٍ قاطع بين عالم المفاهيم الرياضية المجردة وعالم المحسوسات. وعلى تصوير التجريد الرياضي بأنه «ترفُّع» عن الطبيعة. وقد ظلَّت البشرية طويلًا تعاني آثار هذا التخلف، وظلت آراء أفلاطون هي المسيطرة على أذهان الباحثين في هذه الميادين حتى مطلع العصر الحديث، حين أمكن لأول مرة استخدام الرياضيات — التي كانت هي ذاتها علمًا يدين لليونانيين بالكثير — في حل مشكلات هذا العالم الطبيعي، وتحقق ذلك الامتزاج الذي كان أفلاطون يراه جريمةً لا تُغتفَر.

(٤) المرحلة الثالثة — دراسة الديالكتيك

أما هذه المرحلة الأخيرة فتوازي — في نظامنا التعليمي الحديث — مرحلةَ التعليم الجامعي، وإن كانت تبدأ في سن الثلاثين. ومن الواضح أن هذه هي مرحلة الانتقاء النهائي، وأن أولئك الذين ينالون هذا النوع من التعليم هم خلاصة عملية الاختيار التي تتم طَوال المراحل السابقة. ولنكرر هنا ما قلناه من قبل، في صدد مبدأ الاختيار هذا، من أن عملية الانتقاء ذاتها تكاد تكون مستحيلةً من الوجهة العملية. فالحراس يوضعون منذ طفولتهم حتى شيخوختهم في رقابة مستمرة، لكي تختبر قدرتهم على تحمُّل الشدائد، وعلى التجريد الرياضي، وعلى التأمُّل الفلسفي، فضلًا عن اختبار أخلاقهم ومدى إخلاصهم لأنفسهم ولوطنهم. ولا جدال في أن هذا يقتضي وجود جهاز قوي للرقابة يَصعُب أن نجد له نظيرًا في أشد نُظُم الحكم صرامةً في القرن العشرين، فضلًا عن أن استخدام الوسائل المتاحة في ذلك العصر، من أجل وضع الفرد تحت رقابة دائمة، لا بدَّ أن يجعل حياة هذا الفرد جحيمًا لا يطاق. ومن جهة أخرى فلا بدَّ من عدد هائل من الرقباء من أجل تسجيل تفاصيل حياة كل حارس واستخلاص النتائج اللازمة من تصرفاته، ولا بدَّ أن يكون لدى هؤلاء الرقباء من الحكمة ومن رجاحة العقل ما يُتيح لهم أن يطبقوا بنزاهة تلك المعايير اللازمة لتقدير تصرفات كل حارس. والحق أن أفلاطون يكرر دائمًا قوله: سنختار الحارس الصالح، ونستبعد غير الصالح … إلخ، ولكن من هم أولئك الذين تمثلهم «نون الجماعة» هذه؟ أهناك في الدولة التي رسم معالمها طبقة بهذه الكثرة، وبهذا السمو العقلي والأخلاقي، ولديها الفراغ والإمكانات التي تتيح لها القيام بعملها الشاق في الرقابة الدائمة لسلوك الجميع؟ وإذا كان في الدولة كل هذا العدد الهائل من الرقباء الفضلاء، الذين يملكون معايير الصواب والخطأ ويطبقونها، فيكفي وجود هؤلاء بهذه الكثرة لكي تكون المدينة الفاضلة قد قامت بالفعل — أي إن في العملية كلها نوعًا من الدَّوْر المنطقي.

وعلى أية حال، فإن الدولة تختار أصلح الحراس، ممن اجتازوا مرحلة التعليم الرياضي، لتنتقل بهم إلى أسمى مراحل التعليم — مرحلة مشاهدة «الخير» في ذاته، ومعاينة سر الكون، وكشف الحقيقة العليا عن طريق «الديالكتيك».

والأمر الذي يعنينا بحق، في هذا الفصل الذي نخصصه لموضوع التربية عند أفلاطون، هو تحديد أفلاطون لسن الدراسة الفلسفية، وللمرحلة التي ينبغي فيها أن تُدرَس الفلسفة. فدراسة الفلسفة تأتي عنده بعد دراسة العلوم — أو ما يوازيها في برنامج أفلاطون التعليمي، وهو الرياضيات والأبحاث المرتبطة بها — ولا تأتي بوصفها «بديلًا» لدراسة العلوم. وبعبارة أخرى، فلا بدَّ لكي يكون المرء فيلسوفًا بحق من أن يكون قد استوعب أكبر قدر يستطيع استيعابه من العلوم. ومن جهة أخرى فلا بدَّ أن يكون دارس الفلسفة إنسانًا ناضجًا، بل في قمة النضوج؛ لأن هذه الدراسة الرفيعة تحتاج إلى استخدام ملكات العقل على أوسع نطاق ممكن، وبأشد درجة ممكنة من التركيز.

والواقع أن أفلاطون لا يملُّ تأكيد فكرته القائلة إن لدراسة الفلسفة في سنٍّ مبكرةٍ أضرارًا جسيمة. وهو في أحد المواضع يقول: «من أهم الاحتياطات أن نمنعهم من دراسة الديالكتيك وهم لا يزالون في حداثتهم. ولعلك قد لاحظت من قبل أن المراهقين الذين تذوَّقوا الديالكتيك لأول مرة يُسيئون استعماله، ويتخذونه ملهاة، ولا يستخدمونه إلَّا للمغالطة. فإذا ما قام أحد بتفنيد حُجَجهم، فإنهم يحاكونه ويُفنِّدون حُجج الآخرين على نفس النحو، شأنهم في ذلك شأن الجرو الذي يجد لذَّة في جذب كل من يقترب منه وتمزيق ملابسه» (٥٣٩). وهو يزيد فكرته إيضاحًا في موضع آخر، فيقول: «إن على الدولة أن تعامل الدراسة الفلسفية بطريقة مضادة تمامًا لتلك التي تعاملها بها الآن … إن دارسي الفلسفة في الوقت الحالي صبية لم يكادوا يتجاوزون مرحلة الطفولة. وهم لا يكرسون لها سوى الفترة السابقة على تلك المرحلة التي يمكنهم فيها كسبُ المال وإدارة شئون بيتٍ خاص بهم. وحتى أولئك الذين يشتهرون بأنهم أقرب الجميع إلى الرُّوح الفلسفية، يسارعون إلى الهروب من الفلسفة حالما يقتربون من أعقد أجزائها، وأعني به الديالكتيك. أمَّا في حياتهم التالية، فإنهم يظنون أنهم فعلوا الكثير حين يقبلون دعوة توجه إليهم لسماع مناقشة كهذه؛ إذ إن الفلسفة عندهم ليست سوى وسيلة للتسلية فحسب» (٤٤٧–٤٩٨).

والحق أن أفلاطون يكاد يشير إلى دارسي الفلسفة غير الناضجين — ممن تحفل بهم جامعات القرن العشرين — حين يتحدث عن أولئك الذين لا يعرفون إلا «كلمات مرصوصة بعضها إلى جانب البعض على نحوٍ مصطنع، دون أن تجمعها وحدة طبيعية …» (٤٩٨). فهو من أقوى الناس شعورًا بضرر البداية المبكرة في هذا النوع من الدراسات. ومع ذلك فإن من المؤسف أن الفلسفة تدرس اليوم — في العالم أجمع — لفتية مراهقين يظنون أنهم بدراستهم هذه قد اكتملت لديهم كل عناصر الحكمة، ما داموا يستخدمون في دراستهم تعبيرات توحي لهم بأنهم قد أصبحوا حكماء بالفعل. هؤلاء الفتيان الذين يُعَدون للتخصص في دراسة الفلسفة وهم ما زالوا في سنٍّ لا تسمح لهم بإصدار أي حكم من الأحكام تؤدي وظيفتها الصحيحة في سياق الذهن الذي يصدرها — هؤلاء الفتيان لا بدَّ أن يُسيئوا فَهْم وظيفة الفلسفة، ولا بدَّ أن يتصوروها نوعًا من القدرة السحرية على إيجاد الأشياء أو إعدامها، وأن يباهوا أقرانَهم بهذه القدرة، ويستخدموا معلوماتهم الفلسفية في صياغة ألاعيب لفظية يظنون أنفسهم بفضلها أوسع عقلًا ممن عداهم من الناس؛ ذلك لأن الفلسفة بطبيعتها قد تعطي مَن يدرسها شعورًا بالغرور؛ إذ تجعله يطلق أعم الأحكام عن مصير الحياة الإنسانية والكون بأكمله، وهي أحكام لا يَجسُر باحثٌ آخر في أي فرع من فروع العلم على إصدارها. ولا بدَّ لمواجهة تأثير هذا الشعور بالغرور من قدرٍ كبير من النضج العقلي، لكي يضع دارس الفلسفة معلوماته في موضعها الصحيح، ولا يتوهم أنه قد أصبح بفضلها أحكمَ من الناس جميعًا. ولكن أين هؤلاء الفتية الصغار الذين يدرسون الفلسفة اليوم من هذا النضج العقلي؟ أليسوا خليقين، كما قال أفلاطون، بأن يصبحوا أشبه بالجرو «الذي يجد لذةً في جذب كل من يقترب منه وتمزيق ملابسه»؟

ومن جهة أخرى، فقد أكَّد أفلاطون ضرورة تَزوُّد دارسي الفلسفة بقدرٍ كبير من المعرفة العلمية قبل أن يُقبِلوا على دراستهم هذه. أي إنه أدرك خطر ممارسة الفلسفة في فراغ عقلي، كما يحدث بالفعل للطلاب «المتخصصين» في الفلسفة في أيامنا هذه. وصحيح أننا لن نستطيع أن نطلب إلى دارسي الفلسفة أن يستوعبوا العلم كله؛ لأن هذا أصبح الآن مستحيلًا، ولكن لا بدَّ من وجود أساس علمي — أيًّا كان — للدراسة الفلسفية، بدلًا من أن نتخذ من هذه الدراسة «بديلًا» يُغني عن كل تخصص آخر.٨ ولا شك أن هذا المطلب قد أصبح في عصرنا هذا أشد إلحاحًا مما كان في عصر أفلاطون؛ ذلك لأن الفلاسفة القدماء كانوا على الأقل يؤمنون بقدرة العقل الخالص على بلوغ الحقيقة بقواه الخاصة. أمَّا نحن فلم نَعُد نؤمن بمثل هذه القدرة. ولكن من الغريب مع ذلك أن الفيلسوف الذي جعل المعرفة «تذكرًا»، وأكد أن أسمى معرفة هي تلك التي يحصلها العقل بقدرته الديالكتيكية وحدها، دون مساعدة من الحواس أو من العالم الخارجي — هذا الفيلسوف هو الذي جعل دراسة الفلسفة مرحلةً نهائية تكون قمة وتتويجًا للإعداد العلمي الطويل، أما نحن الذين أصبحنا ندين للعلم بأعظم الفضل في حياتنا، فقد أصبحنا نخالف شرط أفلاطون، ونجعل من الفلسفة «تخصصًا» لشبان صغار يفتقرون إلى التكوين العلمي وإلى النضج النفسي والتهيؤ الذهني، بدلًا من أن نجعلها معرفة ترتكز على أساس متين من العلم، ولا تغرس إلا في تربة ناضجة مهيأة لاستقبالها.
١  Paideia, Vol. II, p. 208.
٢  Abel Rey: La maturité de la Pensée scientifique en Grèce Paris (Albin Michel), 1939, pp. 273–275.
٣  Anders Wedberg: Plato’s Philosophy of Mathematics, Stockholm (Almqvist & Wiksell), 1955, p. 29.
٤  W. D. Ross: Plato’s Theory of Ideas, p. 49.
٥  M-M. Schull: Machinisme et Philosophie, Paris (P.U.F.), 1947, p. 15.
٦  Tobias Dantzig: The Bequest of the Greek, New York (Scribner), 1955, p. 25.
٧  Sarton: A History of Science, Vol. 1, p. 451.
٨  انظر للمؤلف مقال «الفلسفة والتخصص العلمي»، مجلة الثقافة، العدد ٢٦ (يناير ١٩٦٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤