الفصل العاشر

الجدل الكبير

بينما انتشر الحديث عن تجارب دوني على البشر وعن وفاة موروا، حاول كلٌّ من جهال أوروبا وكبار مفكريها على حد سواء أن يفهموا حقيقة ما كان يحدث. فرأى البعض أن هذا مثال على أن العلم الحديث سيعيد حتمًا تشكيل نظرتهم للعالم ولأنفسهم، أما البعض الآخر فقد اعتبروه نذير سوء بأن هذه النظرة الجديدة إلى الحياة محكوم عليها بنهاية كارثية. فقبلئذٍ آمن الناس بذلك الواقع الذي كشفت عنه الحجج المنطقية لأرسطو وأمثاله والذي حفرته الكنيسة (حرفيًّا) على الحجر. لقد كانت الكاتدرائيات أماكن لشهود عظمة الرب المهيبة، لا للتشكيك في التصورات الموجودة واكتشاف الجديد. لقد كانت نصبًا لا يمكن تحريكها، مما جعل الناس يرون ما يشبه التصور الثابت لعالمٍ غير متغير. وكان العلم الحديث يُحطِّم الثوابت؛ إذ كانت الحجج المنطقية مهمة لكن ليس وحدها. فالخبرة والتجربة قد صارا الحَكم الجديد على الحقيقة.

كانت النقاشات التي تثار عن أي موضوع تقريبًا عبارة عن مزيج لافت من الجهل والبصيرة ومن التقبُّل والتحيز المسبق، ولم يكن نقل الدم استثناء. فما إن انتشر الحديث عن أن دوني عالج رجلًا مختلًّا حتى اعتبره البعض مقاتلًا باسلًا ضد المرض واعتبره البعض الآخر شابًّا متحمسًا لا ينصاع للأعلى منه شأنًا. ولم يزد موت موروا نار النميمة إلا اشتعالًا.

وعلى مدار عامي ١٦٦٧ و١٦٦٨، اشترك كثيرون في أنحاء أوروبا في الجدل الدائر في صورة خطابات وكتيبات منشورة. وانضم معظمهم إما للمعسكر المؤيد لدوني أو المعسكر المعارض له، وإن أبدى قليلون انفتاحًا. وبالنظر إلى صعوبات السفر والطبيعة غير الواضحة للسياسة الأوروبية، لم يلتقِ كثيرون منهم ببعضهم قط، لكن هذا الكتاب على وشك أن يزيل هذه العقبة؛ فخلال عشر سنوات بعد تلك الأحداث، اشتُهِر دوني بعقد المؤتمرات، وقد سمحت لنفسي هنا بأن أعقد مؤتمرًا لم يكن ليُعقد على أرض الواقع وقتها. ورغم أن اللقاء ربما يكون من الخيال، إلا أن هذه الحجج هي ما ساقه كل من شارك في هذا الجدال.

•••

تنعقد اجتماعات دوني في منزله في كيه دي أوجستين، ويجلس قرابة ٢٠ مشاركًا ومراقبًا في مقاعد أنيقة بمساند مرتفعة تنتظم في شكل بيضاوي داخل الغرفة. في هذه المناسبة، جلس الفريق الإنجليزي في جانب، وفيه هنري أولدنبرج وروبرت بويل وريتشارد لوور وتوماس ويليس وصديق لإدموند كينج يحمل اسم هنري سامبسون. كان في مواجهة الفريق مجموعتان من المشاركين الفرنسيين. فقد جاء لويس دي باسريل وكلود بيرو وكلود تاردي ولويس جادروا بعقلية تتسم بالفضول الحذر، بينما أتى بيير مارتين دي لا مارتينيير وجورج لامي وحلاق وطبيب أسنان زميل وهم ينسبون نقل الدم إلى الشيطان معارضين هذا الإجراء بإصرار. ويجلس في ركن الحجرة الأقرب إلى أولدنبرج وبيرو مضيفهم جون باتيست دوني وإلى جانبه زميله بول إميري.

كان أولدنبرج هو أول المتحدثين، وقف يعدِّل من هندام العروات البيضاء الممتدة من ياقته على سترته السوداء؛ وكانت ثيابه تذكِّر على نحو خفي كلَّ من لا يعلم بأنه قد تلقى تعليمًا في اللاهوت: «فلنتذكر سبب وجودنا هنا؛ إن اجتماعنا يدور حول اكتشاف تم على يد من هم أكثر عباقرة العصر ذكاءً وفضولًا. إنهم موهوبو الجمعيات الملكية في لندن وباريس. الوضع كالتالي: حبة الكرز أو الوردة التي لا تنضج مع بقية الفاكهة على الشجرة ثمينة، ليس لأنها تحمل أي قيمة في حد ذاتها، بل لأنها نادرة. فهذا التميز وحده يجعل منها هدية مقبولة للأمراء. وبالصورة نفسها أيها السادة، فإن تجارب العلاج بنقل الدم جديدة ومثيرة للفضول معًا. آمل أن تلقي تأملاتنا الضوء على المواضع الغامضة والشاذة في الطبيعة، لكي نكتشف ربما بعض خفاياها، خاصةً فيما يتعلق بالجسم البشري. لكني أرجو حيثما أمكن أن نتحاشى استخدام الألفاظ الصعبة الغامضة. نعم، توجد مواضع لا بديل فيها وتُضطَر إلى استخدام المصطلح المتخصص للتعبير عن أفكارك، لكني أناشد الجميع أن يبذلوا كل ما في وسعهم لشرح أي اصطلاحات. وذلك ممكن، فعلى كل حال تصير هذه الطريقة أبسط من تلك الطرق التي يطرحها العلماء الرحالة الذين يجنون المال لقاء بيع الأفكار الجديدة.

من المثير حقًّا أننا مجتمعون هنا لنناقش علمًا ربما هو الأهم بين العلوم البشرية، وهو البحث عن وسائل توفير الراحة والحفاظ على الصحة. فقد سعت إليها كل الحضارات القديمة، ورأى الكثير من الملوك في الطب قيمة أكبر من المجوهرات. ورغم أن جهل الكيميائيين الزائفين وتفاخرهم الجامح أدى تقريبًا إلى ازدراء المجال في هذا العصر، فلا شك أن بعض رواد الطب مؤخرًا مثل يان باتيست فان هيلمونت وباراسيلسوس تمكنوا من قهر كل الأمراض التي ظن أهل الطب الجالينوسي أنها بلا علاج.»

يدرك أولدنبرج وهو يتابع حديثه أن هذا سيكون اجتماعًا ساخنًا. فقد زاد ذكر فان هيلمونت وباراسيلسوس من سخونة الجلسة، حيث كان لا يزال عدد من الأطباء المجتمعين يعارضون أي شخص يتحدى مفاهيم الطب الجالينوسي. من الواضح أن الوقت قد حان لينهي أولدنبرج حديثه: «لكن عمل السيد دوني أيها الأصدقاء المثقفون قد أدى لعقد هذا الاجتماع، وأتاح لنا الفرصة لنطرح ملاحظاتنا المتعلقة بالصحة وإطالة العمر. فمن دواعي سروري أن أعلن بدء الاجتماع.

قبل أن ننشغل بالتفاصيل الدقيقة لهذا العلاج المرتقب، فإن لي أنا أيضًا رجاءً.» كانت الكلمات لبيرو. كان بيرو — مثل رين — قد بدأ مسيرته بالتركيز على الأبحاث البيولوجية والطبية، لكن اهتمامه بعد أن تقدم به العمر تحول من الكائنات الحية إلى الاشتغال بالعمارة. إلا أن هذا لم يمنعه من الاشتراك في النقاش حول نقل الدم؛ إذ كان مهتمًّا بفهم العلم المبني عليه، وبمعرفة تسلسل الأحداث التي انتهت بدوني في قاعة المحكمة: «لقد جعلت همي في الأشهر الماضية أن أقرأ وأدقق في كل الأخبار والكتيبات ذات الصلة التي نشرها المجتمعون هنا اليوم، وأنا أتحقق حاليًّا من معلومات واردة في خبر ستنشره الأكاديمية الملكية للعلوم عام ١٦٨٨. ولدي رسام في هذه اللحظة يشتغِل بلوحتين مائيتين رائعتين تصوران طريقة نقل الدم. ورجائي ما يلي: التزموا بالحقيقة دونما مبالغة أو انحراف، فهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق أي تقدم.»

توقف لبرهة، وأخذ يتفقَّد الحضور ممررًا نظراته بين وجوههم ومتحديًا أيًّا منهم أن يختلف معه. لم ينبس أحد ببنت شفة. لم يُرِد أحد — خاصة في عهد العلم الحديث ذاك حيث يُنظر إلى الملاحظات المسجلة بعناية باعتبارها شيئًا ثمينًا — أن يعترض على هذه النقطة.

يتابع بيرو: «نحن أمام خطر داهم يتمثل في قلب الرأي العام ضدنا. ستنتهي محاكمة دوني قريبًا، ويعم اللغط بالفعل بين الناس الذين لديهم الرغبة من جديد لأن يرووا تعطشهم للفضائح والمؤامرات بالافتراء والتشهير الوفيرين. وتزخر الملتقيات بأحاديث عن الرشوة والفساد، وأن دوني على وشك رفع دعاوى مقابلة ضد خصومه، وكلهم أطباء أكفاء. وهذا يكسب مهنة الطب سمعة سيئة.»

ينادى أولدنبرج: «صحيحٌ تمامًا.»

يستكمل بيرو: «ليس الأمر كما لو كنا قادرين على تحمل هذا الهجوم! من السهل أن تنجرفوا مع عملكم الحماسي في المعامل والمكتبات وتنسوا أهمية استمالة المعرفة والرأي العام إلى جانبكم في الوقت ذاته. فكل معرفتكم الرائعة قد حجبت رؤيتكم، فلا تدركون أن الناس لا يزالون يفضلون الذهاب إلى الدجالين الهواة على الذهاب إلى الأطباء المدربين. قد تظنون الأمر غريبًا، لكن منطقهم يبدو سليمًا لأول وهلة؛ فالرأي العام يقول إن الناس يموتون على أيدي الأطباء أكثر من الدجالين. وقد يكون ذلك صحيحًا. لكن فكروا في الأمر؛ فالأطباء لا يُستدعون إلا من أجل الحالات المرضية الحرجة. إن هذا يشبه قولنا إن علينا أن نتخلص من البحارة لأن معدل غرق السفن يكون أعلى إن كان على متنها بحار، دون الأخذ في الاعتبار أنه يتم الاستعانة ببحار فقط إذا كانت تبحر في أمواج عاتية. أجل، إن نقاش اليوم يتمحور حول العلم. لكن القضية الأوسع نطاقًا هي مهنتنا؛ فلنحافظ على العلم نقيًّا كي يتسنى للطب أن ينتصر على الرأي العام.»1

ينتفض دوني واقفًا ويقول: «إن سمحتم لي بالرد، توحي تعليقات السيد بيرو، بأنني بالغت وربما كذبت. وأنا أرفض هذا الادعاء بشدة؛ فلم أفعل، وعملي الأولي كان ناجحًا جدًّا، وقد بذلت كل ما في وسعي لوصف حالة المرضى بالتفصيل. تذكروا القول المأثور: لا شيء أجمل من الحقيقة، والحقيقة وحدها تكفي.»

من القرن السابع عشر، وحتى القرن العشرين، لم يُغضِب العلماء شيء أكثر من اكتشاف أن زملاءهم قد بالغوا أو حتى زيفوا تقاريرهم. وفي حال اكتشاف أي أكاذيب فهناك فضيحة، تدمر وظائف في أغلب الأحيان، وتترك المؤسسات تقاتل في حملة علاقات عامة عصيبة. وهناك نقطة أخطر. فالتقارير المزيفة تدمر العلم أيضًا، لأن الباحثين الآخرين يبنون أعمالهم على أرضية غير صلبة في أحسن الأحوال. وفي مجال الصحة يمكن للتأثير أن يكون فوريًّا؛ إذ تؤثر التقارير المغلوطة في القرارات العلاجية. وقد يصل الأمر لأن يكون البحث المزور لشخص ما حكمًا بالإعدام على آخر.

كان دوني قلقًا كذلك من أن يشكك أحد في صدق كلمته. فقد كان بحاجة لأن تكون صورته أنقى من النقاء إن أراد أن يفوز بالقضية القادمة.

إلا أنه كان من الواضح أن بيرو كان مهتمًّا ببعض التقارير عن عمليات نقل الدم: «توجد أسباب كثيرة تدفع للاعتقاد بأن عمليات نقل الدم لا يمكن أن تنجح لدرجة تفرض عليك التشكيك في حقيقة بعض الروايات وخاصة تلك الواردة من إنجلترا.»

وجاء دور بويل ليرد، فصاح وقد انفجر غاضبًا في لحظة: «إنَّ لدينا بيانات تدعم كل ما نقول.»

قال بيرو: «آه … ربما ربما»، وقد بدا عليه أنه يفكر فيما يُقال بجدية: «إن مشكلتي إذا سمحت لي هي أنني أجريت تجارب مشابهةً، وخرجت بنتائج ناجحة قليلة جدًّا. فحتى الحيوانات التي تلقت الدم وظلت حية، كانت أضعف وأتعس وأكثر اكتئابًا من الحيوانات التي أعطت الدم. وأؤكد لك أن هذا ليس لأن التجارب أجريت بصورة سيئة.»

فيسأل دوني مشيرًا بسبابته نحو بيرو: «لكنك لم تستخدم أنابيب نقل دم دافئة، أليس كذلك؟»

ويرد بيرو، وقد نفد صبره: «إنني لا أظن فعليًّا أن ربط الأنابيب بقطع دافئة من القماش يمكن أن يحدث فارقًا. فانظر على سبيل المثال إلى التقرير الذي كتبه دوني إلى الجمعية الملكية بعد أن تُوُفي مريضه.2 إليكم ما ورد عنه في تقريره: «لقد نجح نقل الدم لدرجة أن المريض شوهد بعد شهرين من العمليات في حالته السليمة وفي صحة ممتازة.» لكن كيف ذلك وقد تُوُفِّيَ المريض بعد أن مر أكثر من الشهر بقليل على عملية نقل الدم الثانية. من الواضح أن دوني يبالغ في مزاعمه للنجاح، ولا يلتزم بالمتطلبات الصارمة للتسجيل الدقيق الضروري في العلم الحديث.»

سادت موجة هرج عامة في أرجاء الغرفة مع صياح الموفدين كل برأيه حول هذا الأمر.

وقف بيرو رافعًا يده إلى أن عاد الهدوء. وقال مدافعًا عن وجهة نظره: «ربما تكونون مقتنعين شخصيًّا بأثر هذه الطريقة، لكن المشكلة أنكم لن تقبلوا النصح؛ النصح بالتزام الحذر.»

قال دوني وصوته يتقطع بعض الشيء: «الحذر! لست بحاجة إلى الحذر الزائد؛ إن نتائجنا كانت مقنعة لدرجة أن إميري وأنا سنكون مخطئين إن لم نؤكد للعامة أن نقل الدم آمن وفعال. وإن لم نفعل فسنكون كاذبين. وسيُترك الأمر للآخرين في البلاد الأجنبية ليتولوا زمام القيادة.»

رد بيرو «فعلًا. من الخطأ فعلًا أن نلوم دوني وحده، لأن هناك غيره، وخاصة من الأجانب» وانتقلت عيناه من دوني إلى بويل ولوور اللذين جلسا متجاورين على الجانب المقابل من الطاولة «ممن واصلوا تجارب نقل الدم. لكن من المخزي أن أولى التجارب لم تُجرَ بعناية ودقة أعلى. فمثلًا، من المستحيل معرفة كمية الدم الذي انتقل من حيوان لآخر فعلًا. ونتيجة لذلك عندما يموت الحيوان نظل نختلف حول ما إذا كان قد تلقى كمية زائدة أم ناقصة من الدم. ولا يقتصر التسرع على الإيقاع الذي تُجرى به التجربة، بل يصل إلى غياب العناية بالتفاصيل التي ستكون مفيدة جدًّا عند استرجاع الأحداث. ربما لم تكن لتصل إلى قاعة المحاكمة، لو كنت حللت هذه المشكلة في الحيوانات قبل الانتقال إلى التجارب على الإنسان.»3

تحدث دوني ببطء وبقوة ليظل مسيطرًا على انفعاله: «لم نرَ إطلاقًا أننا كنا متسرعين في الاستمرار والانتقال إلى التجارب على الإنسان. لقد قاومنا في الواقع الضغط الذي تعرضنا له من بعض الناس لنعمل بسرعة أكبر، بل إن البعض اقترح استخدام مجرم مدان لإجراء أول تجربة عليه. لقد كانت فكرةً مثيرةً للاهتمام، لكنها لم تكن فكرة جيدة. فكر فيها للحظة. فحالة المدان ستكون مضطربة بالفعل بسبب الخوف من الموت. ومن الممكن أن يَنظر إلى هذه التجربة باعتبارها صورة أخرى من الموت، وهذه المقارنة البعيدة ربما تفقده الوعي أو تقتله. وعندها سيشير الناس بأصابع الاتهام إلى نقل الدم بأنه أضرَّ به وهو ما سيكون مؤسفًا وغير صحيح. إن من شأن إدانتنا بقتل شخص أن تعرضنا للخطر، وهذا سيزعج حتمًا جلالة لويس الرابع عشر الذي كان يتابع عملنا باهتمام بالغ.»

عم الضحك المتحفظ مع استيعاب الحاضرين للتصريح المُلطَّف؛ إذ إن إزعاج الملك يعني التوقيع على الحكم بالإعدام.

وفور أن عاد الحضور إلى الإنصات مجددًا قال دوني: «بعد النظر في كل الآراء، كنا أميَل إلى إجراء التجربة أولًا على شخص يثق فينا وفي نظرياتنا. كان هذا يعني أن علينا الصبر قليلًا لكن النتيجة تستحق؛ لذا وفي هذا الإطار تم تعريفنا بالشاب المريض ذي الخمسة عشر ربيعًا الذي يعرفه كثيرون منكم جيدًا لأنه استعاد صحته الآن ويخدم في منزلي. فكما ترون كنا حذرين، ولم نتعجل، بل انتظرنا اللحظة المناسبة.»

أولدنبرج: «نحن أيضًا كنا حذرين ونحن نجري التجارب على البشر، بل إن حذرنا هذا هو ما أتاح الوقت لدوني لاقتناص الجائزة بإجراء أول عملية نقل دم إلى إنسان.»

وختم بيرو: «رغم مخاوفي، أتطلع إلى فعاليات اليوم آملًا أن توضح الأمور. وأظن فيما يخصني أن غياب النجاح يمكن أن يضع حدًّا لعمليات نقل الدم وليس للمعارضة العامة للعلاج. ولفهم السبب في ذلك، عليكم أن تبدءوا بالتخلص من أي تحيز مسبق سببه السعادة بإمكانية إيجاد علاجٍ طبي بهذه القوة.»

ظل قلق بيرو من أن الدعاية لا ينبغي أن تسبق الواقع يثير المشكلات. وفي عصر أحدث، اختلف العلماء والساسة حول الاستمرار في البحث في مجال «الاستنساخ لأغراض العلاج». فإن نجحت الطريقة، فسيؤدي ذلك إلى أخذ خلية من المريض ودمجها في بويضة بشرية مجهزة تجهيزًا خاصًّا. وفي ضوء الظروف المناسبة، يمكن أن تنمو في صورة جنين — مستنسخ من المريض. وتكمن الفكرة في التدخل في نمو الجنين ليتمكن العلماء من استخراج خلايا مفردة، بدلًا من تركها لتنمو مكونة طفلًا. وإن كنت تصدق أكثر العلماء حماسة، فهذه الخلايا يمكنها أن تعالج كل الأمراض المزمنة تقريبًا وكذلك إصلاح الأضرار العصبية التي يمكن أن تنتج من الحوادث القوية، مثل كسور الظهر. وكالحضور في غرفة دوني، يحتاج صناع القرار في الوقت الحاضر إلى التمييز بين الدعاية المبالغ فيها والأمل الصادق، وهي مهمة ازدادت صعوبة لأن العديد من مقدمي المعلومات لهم مصالح راسخة؛ إذ يأمل بعضهم — مثل دوني — أن يستفيدوا على الصعيد المهني والمادي من العمل. أما الآخرون — مثل أعضاء كلية الطب — فيسعون إلى حماية المبادئ القائمة منذ وقت طويل؛ وفي حالة الاستنساخ العلاجي فإن المبادئ المدافع عنها هي حق الإنسان في الحصول على الحماية، منذ أن يكون جنينًا في بطن أمه إلى موته.

إلى يسار دوني مباشرة، جلس لويس دي باسريل وهو طبيب من خارج المدينة وقد تنحنح قائلًا: «هل لي أن أعبر عن مدى سروري بأن دُعيت إلى هذا المحفل وأن أستغل الفرصة لأشكر السيد دوني على استضافته لهذا المؤتمر في منزله الرائع؟ فمشهد نهر السين خلاب. مع ذلك أثق أننا لن نضيع وقتًا كبيرًا في المناقشات المملة المتعلقة بحالة موروا المسكين. فأنا من ناحية منزعج من هؤلاء الذين يقضون وقتهم محاولين بدافع الغيرة أو الجهل أن يُثبطوا عزم الرواد من أمثال السيد دوني. فلنلقِ نظرة على الذامِّين للحظة، فما الصورة التي نراها لعملهم؟ لقد حاولوا أن يستخدموا الكلمات الواهية بدلًا من الحجج الواضحة ليفوزوا في هذا السجال، وكان هدفهم الدفاع عن كلية الطب بدلًا من السعي لتحقيق الاكتشافات الجديدة أو تقييمها. ويبدو أنهم يظنون أنهم أفضل وأن رؤيتهم أبعد من كل المتعلمين المجتمعين هنا اليوم.»

ترددت الأعين فيما بين دي باسريل وثلاثة أعضاء من الكلية قدموا إلى الجلسة. ولم يكن جلوسهم في أطراف متقابلة من الغرفة بالأمر المثير للدهشة.

تابع باسريل: «لذا أرى أنه من المحزن أن الكلية لم ترَ من المناسب أن توفد عضوًا رفيع المرتبة، بل اختارت أن تتخفى وراء حلاق ينتزع الأسنان، بجانب الدكتور جورج لامي ودكتور بيير مارتين دي لا مارتينيير وهما اسمان تألفونهما إن تابعتم سلسلة الكتيبات المسيئة التي كُتبت مؤخرًا. اسمحوا لي بأن أذكركم قبل أن تبالغوا في أخذهم على محمل الجد بأن الدكتور لامي هنا هو طالب يدرس الطب يبلغ من العمر ٢٠ عامًا جاهد ليجتاز اختباراته، وبأن دي لا مارتينيير، وإن حمل لقب طبيب الملك، فإنه أكثر شهرةً بين رعاع بو نيف منه في أي صرح تعليمي. آسف أيها السادة، لكن مجرد نطق أسمائهم يُخلِّف أثرًا كريهًا في فمي. على كل حال نحن نرحب بكم؛ فربما تتعلمون شيئًا.»

كانت الاتهامات قاسية جدًّا، لكن المنطق كان يتراجع أمام البيان.

انحنى دي باسريل انحناءة ساخرة في اتجاههم.

قال الطبيب الباريسي جادروا الذي شارك مؤخرًا في كتابة بحث مع دوني: «هل تنتظر الكلية فعلًا أن نصدق أن لامي الصغير هنا هو أحد أفضل مفكريها؟ لا أظن.»

انتفض الثلاثة واقفين. فقال دي باسريل ملوحًا لصديقيه في هدوء ليجلسا متصنعًا سيماء السلطة: «سنتجاهل هذه الفورة حاليًّا.» وتابع كالمحامي الذي يترافع في قضية: «يا سيد بيرو، لقد ذكرت الحقيقة قبل قليل. أرى أن هؤلاء «الفلاسفة»، قد سلموا أنفسهم لحواسهم وهم غير مهتمين أبدًا بالحقيقة في حد ذاتها. فقد أعلنوا أنفسهم عدوًّا لدودًا لكل من يكتشف الجديد، أو هم بالأحرى أناس سلَّموا أنفسهم لحواسهم ولا يبالون بالحقيقة.»

طبيعة الدم

قال لوور مقاطعًا الجدل الدائر: «قبل أن ننسى سبب عقد هذا الاجتماع، لنتذكر أننا جئنا إلى هنا اليوم لنتحدث عن العلم والتطبيقات المحتملة لنقل الدم. نعم، لقد كانت أفعال دوني المتهورة وما تلاها من مشكلات شخصية جزءًا من الحافز، لكن لنحاول أن ننحيها جانبًا إن أمكن. هل لي أن أقترح أن نبدأ باستعراض ما نعرفه عن الدم؟ فهو محوري في هذه القضية على ما أظن، أليس كذلك؟»

أومأ الحاضرون برءوسهم في إشارة إلى إمكانية المتابعة، لكن دوني جلس محدقًا ببيرو. وكان قد جلس بالقرب منه، منتظرًا أن يحظى بدعمه، وانزعج من أن الشخص الذي رآه محايدًا في الجدال، سرعان ما اندفع إلى توجيه النقد.

كان لوور يتحدث في موضوعه المفضل: «أرجو أن يكون بمقدورنا افتراض أن كل من في الغرفة مقتنع الآن بوجود نوعٍ واحدٍ من الدم في الجسم، وهو ما أقصد به أن الدم الشرياني والوريدي متماثلان.» فقد كان في خضم عملية تأليف كتابه عن الدم والقلب الذي بعنوان «علاج القلب»: «وبذلك، يصبح السؤال الذي يجب أن نطرحه عما يُكسب الدم الشرياني لونه الأحمر القاتم. تبين تجاربي الأخيرة أن هذا يجب أن يُعزى بالكامل إلى الرئتين. فقد وجدتُ أن الدم عندما يدخل الرئتين يكون دمًا وريديًّا تمامًا ولونه داكنًا؛ وعندما يعود منهما يكون دمًا شريانيًّا زاهيًا. وكذلك بَيَّنت أن وجود الهواء في الرئتين هو ما يؤدي إلى ذلك التغيير. ولديَّ أدلة على هذا الاستنتاج، وليس مجرد حجة جدلية. وينبع الدليل من تجربتين: في الأولى، منعت الهواء من الدخول إلى رئتي الكلب. وبالنظر إلى داخل صدره رأيت أن الدم الذي يغادر الرئتين قد ظل على لونه الوريدي؛ وتحول إلى الأحمر الزاهي في اللحظة نفسها التي سمحت فيها للهواء بالدخول مجددًا إلى الرئتين. أما التجربة الثانية، فقد شققت فيها عن صدر الكلب ووخزت الرئتين بإبرة لأسمح للهواء بالدخول من خلالها. وبعدها أخذت أضخ الهواء باستمرار إلى الرئتين باستخدام زوجين من الأكيرة متصلين بالقصبة الهوائية. وعندما قطعت الوريد الرئوي بالقرب من النقطة التي يدخل فيها إلى القلب، وجدت الدم الذي يتدفق منه ذا لون أحمر زاهٍ. فلم يعد دمًا وريديًّا، بل أصبح دمًا شريانيًّا. وإن أوقفت ضخ الهواء يظل الدم وريديًّا داكن اللون. لدينا الآن دليل واضح على أن الدمين الأزرق الداكن والأحمر هما الشيء نفسه كما يتضح. وقد بين لنا هارفي أن الدم يجري في دورة، والآن نعرف أن لونه يتغير. وقد صَدَّقتُ في مرحلةٍ ما النظرية التي تقول إن تغير اللون يحدث في القلب، لكنني الآن أعلم أنه يحدث في الرئتين؛ وأعلم ذلك لأني رأيته.»4

قال بويل وهو ينهض واقفًا ومسرورًا لأن الحوار انتقل إلى العلم الجاد: «نعم لكن لا تزال طبيعة الدم غير واضحة أمامنا. فأنا من أول من أقروا بأن العديد من الأطباء قد بيَّنوا بقدر كبير من المعرفة والمهارة محاسن الدم. فمن الواضح أنهم يبينون أن الدم سائل رائع وممتاز، لكني أستميحهم عذرًا، لأني أخشى أن تكون كتاباتهم قد تغنَّت بمحاسن الدم دون أن تقدم أي شيء يبين لنا طبيعة الدم. مؤكدٌ أن الفضول المعاصر قد عرَّفنا بأشياء عدة لم يكن يعرفها القدماء، إلا أن المعروف بصفة عامة عن دم الإنسان، إن لم أكن مخطئًا، لا يزال ينقصه الكثير، وهو يقوم على ملاحظات أكثر مما يقوم على التجارب. فنحن لا نعلم سوى ما جادت به الطبيعة من تلقاء نفسها، ولدينا قليلٌ من المعلومات المستمدة من تجارب تهدف إلى اكتشاف خواص هذا السائل التي اختارت الطبيعة أن تبقيها خفيةً.

سأقول إن خبراء التشريح — وإن كانت عباراتي قاسية — يركزون في الغالب على الأجزاء الصلبة من الجسم، وينسون دراسة سوائله، وخاصةً الدم. وهذا، يا أصدقائي، يشبه تاجر خمر يهتم ببنية براميله الخشبية لكنه يتجاهل النبيذ الذي تحويه. ورغم استبعاد إطلاقي لهذا الاتهام، انظروا على أي حال إلى أهمية الدم في جسم الإنسان؛ فعندما يكون الدم سليمًا ويتحرك بانتظام ينقل الغذاء والطاقة في مختلف أجزاء الجسم. فهو يُحرِّك الجسم، ويوزع — باختصار — الصحة على بقية الآلة الحية. وأي تلوث أو اختلال في هذا الدم يقف وراء معظم الأمراض، ويعتمد علاج المريض بالدرجة الأولى على تنقية الدم. ومن ثم، دفعني النظر إلى أهمية الدم إلى إدراك أن نقص معرفتنا إهمال كبير؛ وهو إهمال أخذت في معالجته. فبدايةً، هل علمتم أن الدم أثقل من الماء؟ لن تستنتجوا ذلك من الفلسفة لأن القياس الدقيق وحده هو ما يمكنه كشف معلومات مهمة كتلك.»

شجعه لوور قائلًا: «إذن أخبرنا …»

لم ينتظر بويل الطلب، وتابع حديثه قائلًا: «لحسن الحظ كنت في وضع سمح لي بتجميع الكمية الكلية لدم إنسان واحد سليم. وكانت كمية وفيرة لكنني تمكنت من إيجاد وعاء زجاجي كبير بدرجة كافية لاستيعابها. وبعد رج الدم وتركه يستقر لتفريغه من فقاعات الهواء حفرتُ علامة على الزجاج باستخدام قطعة ألماس عند مستوى الدم ووزنتها بعناية. وبانتهاء هذه الخطوة، فرغت الوعاء من الدم وغسلته ووزنته مرة أخرى. وأعطاني طرح الوزن الأخير من الأول وزن الدم. ثم أعدت ملء الوعاء بالماء حتى بلغ مستوى العلامة التي وضعتها سابقًا ووزنته للمرةِ الثالثة. وعندها تمكنت من حساب وزن الماء، وجدت أن الدم أثقل من الماء بنسبة ١ / ٢٥ وهي ملحوظة هامة، لكن العلم السليم يقتضي تكرار الملاحظة.»

بينما لم يرَ كثيرون أهمية معرفة وزن الدم بالنسبة إلى الماء، إلا أن أغلب الحاضرين أومئوا برءوسهم ليظهروا بمظهر الأذكياء. ومع انطلاق بويل في حديثه، لم يكن هناك ما يوقفه.

«لكن الأهم بالنسبة إلى كثيرين منكم هي التجارب التي أجريتها لاختبار حرارة الدم.» توقف بويل. وكان محقًّا، فقد برز الجالسون من مقاعدهم، حيث إن حرارة الدم قضية ترجع إلى العصور الإغريقية القديمة، فهو شيء يعرفونه جميعًا ويفهمونه: «ولدراسة هذه القضية وضعتُ كرة مقياس حرارة الطقس في مجرى دم يتدفق من شابة ومن كهل. وفي كلتا الحالتين، ارتفع مستوى الكحول في المقياس فوق العلامة القصوى. فقط تفكروا في الأمر. هذا يعني أن الدم أعلى حرارة من أي درجة حرارة مسجلة للطقس. وكان هذا في أشخاصٍ أصحاءٍ، وليس أشخاصًا مصابين بالحمى الناتجة عن المرض.»

صاح الحلاق طبيب الأسنان: «إذن ما سبب تلك الحرارة؟ هل يمكن لعلمك أن يلقي الضوء على هذه النقطة؟»

رد بويل متطلعًا لشرح مزيدٍ من عمله: «أظن أن ذلك ممكن. لا يزال القلب يبدو لي المصدر الأرجح لحرارة الدم، لكن الدم نفسه يحتوي على زيتٍ؛ لذا فهو مفعم بطاقة قابلة للاشتعال.» استحوذ بويل على اهتمامهم، وكان مستمتعًا بذلك: «لقد جففتُه وطحنته ووضعته على شمعة. فاشتعل بلهب أصفر و«طقطق» كملح البحر الملقى على النار. كما أخذت ورمًا ووضعته وسط قطع فحم ساخنة. فاحترق بلهب أصفر وتحول إلى مخلفات سوداء. وتسبب نفخ الدم المطحون نحو النار في انفجار. وكانت النتيجة عجيبة جدًّا لدرجة أني جربتها عدة مرات، وكان الشيء نفسه يحدث في كل مرة. ربما لا يحتاج الدم أي مصدر خارجي للحرارة، فمن الواضح أنه يحتوي على مادته الخاصة لتوليد الحرارة.»

الصبغة الفردية

«رائع، رائع.» هكذا جاءت كلمات بيرو «لكنني أقترح أن نركز على نقل الدم. وأرغب أنا أيضًا — مثل السيد بويل صديقنا من أعالي البحار — أن أبيِّن ما تعلمناه من الطبيعة ثم أطرح أسئلة إضافية.»

صاح السيد مارتينيير: «لقد علَّمتنا الطبيعة والتجربة كلتاهما بالتأكيد أن نقل الدم عمل مَقِيت. فالسيد دوني متحمسٌ للحديث عن مرضى نجوا بحياتهم، لكن تذكروا الوجيه السويدي؛ إذ تُوفي بعد ساعات من تلقي الدم. والآن موروا. فهل نحتاج لدليل آخر على أن تلك عملية شنعاء؟»

تابع بيرو: «العلم الجيد يبدأ غالبًا بالفشل أيها الشباب. فلننظر إلى الجنين، لأنه بالتأكيد وضع يتم فيه نقل الدم. وأريد أن أسأل: لماذا إن كان نقل الدم بهذه البساطة توجد المشيمة لدى الجنين في رحم الأم؟ أليس من المؤكد أن دم الأم يمكن أن يمر إلى الطفل النامي دون الحاجة إلى العبور من هذا العضو الضخم؟»

كان الرأي المستنير يقول إن القلب يضفي صبغته على الكيلوس ويحوله إلى دم. وهذا يعني أن دم الأم مصطبغ بقلبها، لكن بيرو ذكر أن الجنين يحتاج إلى دم يحمل صبغة قلبه هو. وبينما يبدو دم الأم ودم الجنين متشابهين، قال بيرو إن من المؤكد أنهما مختلفان قطعًا؛ لذا يجب أن توجد آلية لإزالة صبغة الأم واستبدال بصمة الجنين بها. وكان اقتراح بيرو أن الإجابة تكمن في المشيمة. فهذا العضو لا يوجد إلا في أثناء الحمل، وهو غني بالأوعية الدموية؛ لذا من المنطقي أن أوعيتها الدموية المتخصصة «تعيد الدم إلى طبيعته»، قبل أن يتدفق إلى الجنين. واختتم بيرو: «إذن تستطيع الأوعية الدموية الخاصة الموجودة بالمشيمة أن تجعل دم الأم آمنًا للجنين، لكن في نقل الدم لا توجد أي مشيمة، ومن ثم لا يمكن لنقل الدم أن يتم. فهذا الدم المنقول لا يمكن أن يكون آمنًا للمتلقي. ومن هذا أستنتج أيضًا أنه إذا كان دم الأم بحاجة إلى أن يتغير ليصبح متوافقًا مع طفلها، فما من سبيل لنجاح نقل الدم بين الحيوانات المختلفة في النوع أبدًا.»5

قال دي لا مارتينيير: «لكن هذا التشبيه غير موفق، لأن الأم والجنين هما في النهاية لحم واحد.»

فرد دوني: «غير صحيح. ففي كثير من الأحيان تغلب بذرة الأب نصيب الأم. ومن ثم يكون تركيب الطفل مختلفًا كثيرًا عن الأم، حتى وإن تغذى الطفل على دم الأم.»

كان هذا طرحًا مشوقًا وأقنع كثيرًا من الحاضرين. واللافت أنه كان صحيحًا لكن لأسباب مختلفة. فدم الأم غريب تمامًا عن دم طفلها الذي ينمو، بل إن دم الاثنين لا ينبغي أن يختلط أبدًا. فالمشيمة لا تُحيِّد دم الأم، بل تمثل حاجزًا يفصل بين دم الأم ودم الجنين تمامًا ويسمح للغازات والمواد الغذائية بالمرور من الأم إلى الجنين. وإن اختلط الدم فهناك خطر حدوث رد فعل شديد على التنافر الدموي.

سأل بويل: «أفكار رائعة، لكن هذا حدس وطرح لأفكار؛ فأين الدليل المادي القاطع؟ أين البيانات التي تبين أن الدم من شخصين لا يكون متوافقًا؟»

فرد بيرو: «إن أردت دليلًا، فانظر إلى كل التجارب التي ورد فيها تجلط الدم في أوردة الحيوان المتلقي؛ أليس هذا دليلًا على أن الدمين متنافران؟»6

أطبق بويل شفتيه واتسعت مقلتاه وأومأ ببطء: «ربما … ربما.»

شارك جايانت في النقاش قائلًا: «إن لديَّ دليلًا آخر.» وأخبر أعيان العلم المجتمعين بأنه ذات مرة أفرغ ثلاثة أطباق من دم كلب قبل أن ينقل الدم إليه من كلب آخر. ورغم نجاته من العملية، فقد مات الكلب المتلقي بعد خمسة أيام. وهذا كما أوضح يرجع إلى كبر كمية الدم التي نُقلت في عملية واحدة. وكان جوهر قضيته أن الدم يحتوي على «جوهر الحياة»، وأن هذا الجوهر أُودع في الكلب الذي كان يجري الدم في عروقه. ومن ثم ارتبط الحيوان ودمه برباط جوهري. وعندما نُقل الدم إلى حيوان آخر، تمزق هذا الرباط، وكان الأمر سيستغرق بعض الوقت ليتكون رباط جديد في الحيوان المتلقي: «فالدم فُصل عنه جوهر الحياة في الحيوان المانح لكنه لا يزال يخلو من الصبغة اللازمة ليحيا حياة الحيوان المتلقي. وفي هذه الحالة، نُقِل كثير من الدم في آن واحد بحيث لم يتوافر للكلب وقت كافٍ ليستعيد رباط الحياة قبل أن يموت.»

قال الحلاق الجرَّاح: «أليس الاحتمال الأوضح أن الكلب مات بسبب الجرح الذي أُحدث في رقبته؟ فهذه مشكلة كبيرة للكلب لأنه لا يستطيع لعق رقبته ومن ثم لم يكن لديه سبيل لمساعدة جرحه على الالتئام.»

رد جايانت «أختلف معك؛ فقد أجريت عمليات أكثر قسوة على رقبة الكلاب دون أن أراهم يموتون في الأيام التالية.»7

أطرق بويل للحظات قبل أن يقود المناقشة من جديد: «وهناك بالتأكيد قضية أخرى. فكل عمليات نقل الدم التي أجريت حتى الآن أخذت الدم من الحيوانات ونقلته إلى الإنسان. فهل لدى أي شخص دليل على أن هذا النقل من نوع إلى آخر يسبب أي مشكلات أخرى؟»

كان أول من رد على هذا السؤال هو سامبسون، وهو صديق جيد لأخصائي نقل الدم إدموند كينج. كان سامبسون قسًّا مستقلًّا غادر إنجلترا بعد عودة الملكية في ١٦٦٠ ودرس الطب في مونبيلييه وبادوفا ولايدن في هولندا: «أخشى أن نقل الدم لن يكون له استخدام عملي لصعوبة الحصول على دم شرياني بشري. فلن يبلغ كرم أحدٍ بجاره العجوز المريض إلى أن يقطع شريانه. فقد يقدم دمًا وريديًّا لكنه لن ينفع، لأن فائدته قد ضاعت في تغذية أعضاء الجسم التي مر بها. وفي النهاية لا أومن بأن دم الوحوش يناسب جسم الإنسان.»

دوني: «كثيرون بالتأكيد لديهم هذا الرأي. فبعض الذين شهدوا تجاربنا لنقل الدم في الحيوانات بجانب العديد ممن سمعوا عنها وحسب كانوا مقتنعين أنها إن نجحت على الحيوانات فستفشل على البشر، لكن …»

قاطعه دي لا مارتينيير. فقد كان واضحًا لديه أن دم الإنسان السليم يختلف كثيرًا عن دم الإنسان المريض؛ فالأول نقي والأخير ملوث. ولا يمكن أن يؤدي خلط الاثنين إلى إنتاج دمٍ نقي. فالاثنان في الواقع متضادان، ومحاولة خلطهما ستولِّد حرارة: «والنتيجة ستكون بالتأكيد تدمير الحالة التي تلقت هذا الخليط المشئوم»؛ قال دي لا مارتينيير كلماته هذه مقتنعًا أنه وجه ضربة قاضية.

رد دوني في حسم: «لكنك يا سيدي بكل تأكيد تبدي جهلك بقولك هذا؛ إذ لا أرى أي سبب يمنع الدورة المستمرة التي يمر بها الدم بصورة متكررة على الحرارة المنقية في بطيني القلب من أن تطهر المزيج، وتزيل أي خواص ضارة للدم.»

صاح بويل «الدليل يا سادة، أين الدليل؟»

رد دوني «لدي تجارب تدعم وجهة نظري في هذا الجدل. فلقد رأيتها تنجح، رأيت الامتزاج يحدث. فقبل بضعة أيام فقط حقنت ربع لتر من اللبن في أوردة حيوان. وعندما سحبت دمًا من الحيوان بعد ساعات لم يكن للبن أي أثر. فمن الواضح أن اللبن امتزج بالدم ونُقِّي في القلب. وإن تأثر الدم فقد صار أفضل من المعتاد لأنه زاد سيولة وأصبح أقل عرضة للتجلط.»

لم يتوقف دي لا مارتينيير وشن هجومًا آخر: «إذا اختلط الدم النقي بالدم الملوث، فإن الدم النقي سيفقد نقاءه. فبمجرد وصول الدم النقي المنقول حديثًا إلى الكبد، سيُجرَّد من كل مميزاته ويتحول في لحظة ليكون كباقي الكتلة الفاسدة في الشخص المريض. فالكبد على كل حال هو عضو تكوين الدم الأكبر، فهو المكان الذي يكتسب فيه الدم كل خصائصه. وفقدان صفات الدم سيجعل العملية عديمة الفائدة.»

رد دوني: «فكرة لافتة، لكنها مغلوطة جدًّا. فأنت تزعم أن الدم يتكون في الكبد، لكننا علمنا من التجارب الأخيرة أن الدم يتكون في الجنين وهو ينمو قبل وقت طويل من ظهور أي علامة على وجود الكبد أو الكيلوس. فالواضح أن الدم يتكون في عدة أماكن أخرى من الجسم. وعليه فلا أعتقد أن هذه النقطة تستحق مزيدًا من المناقشة.»

قال بيرو: «أنا متيقن أن هذا رائع، لكنني بدأت أتساءل وأنا جالس هنا عما إذا كنا نبالغ في قيمة الدم؟ إن صح أنه يمكنك التخلي عن دمك وتلقي بعض الدم من متبرع، فسيمكنك أن تقول إن الدم ليس سائلًا مهمًّا. فهو يشبه من عدة أوجه القميص الذي يمكنك تغييره وقتما شئت، بل هو في الحقيقة ليس بأهمية القميص، لأن هناك مواقف يمكن أن تموت فيها إذا كنت بدون قميص، لكنك يمكن أن تعيش وقد فقدت بعض دمك!»8

لم يرد أحد.

وسأل أولدنبرج معيدًا المناقشة إلى موضوعها: «أليس أبقراط هو من قال إن الدم يفسد حتمًا إن خرج من العروق؟»

رد دوني: «إن خير طريقة للدفاع عن شرف هذا الرجل العظيم هي فهم المعنى المقصود من وراء كلماته بدلًا من حملها على معناها السطحي. لقد أشار أبقراط إلى أن الدم يفسد لأنه عندما يخرج من الأوعية الدموية يفقد حرارته وطاقته الحركية الطبيعية، والدم يحتاج هذا المزيج من الحرارة والحركة لينقي نفسه باستمرار. نعم، إن وضعت دمك في طبق فستتوقف حركته ويتجلط. وبعد عدة دقائق يتغير تركيبه. وهذه عملية شهدناها عدة مرات. لكن على عكس القول إنه «أيًّا كان ما يفسد فهو يفسد عند نقله من شخص لآخر» يمكن للدم أن يفسد حتى داخل أوعيته. فلتمنع تدفق الدم داخل وريد وانظر ما سيحدث؛ سيتجلط الدم بسرعة.»

كان دوني يستمتع بوجوده في بؤرة الاهتمام ولم يكن ليستسلم: «في نقل الدم، يتحرك الدم بعملية طبيعية من حيوان لآخر. أعترف أن الأنابيب التي يمر الدم من خلالها غير طبيعية، لكن إن أبقيناها دافئة ومنعنا فقاعات الهواء من دخولها فلن تسبب أي تغير في الدم أكثر من الذي يحدث في الشرايين أو الأوردة. إن وقتي لا يتسع لمن يقولون إن العملية تسبب الجلطات حتمًا وإن هذه الجلطات بمجرد وصولها إلى القلب تسبب خفقانًا مميتًا، لأنني لم أرَ هذا يحدث أبدًا. قد تكون الفكرة مثيرة للاهتمام من الناحية النظرية، لكن ليس لها أساس في الواقع العملي. وإن شئتم، يمكنني أن أريكم حيواناتٍ وأشخاصًا كُثُرًا جرى نقل الدم لهم ولا يزالون على قيد الحياة.»

تدخل بيرو مرة أخرى: «حتى مع افتراض أن الدم لا يفسد من الناحية المادية عندما يدخل جسمًا غريبًا، فإن من المؤكد أن عنف التغيير وفجائيته وحركة الأخلاط والخلاصات المصاحبة أشد مما يتحمله الجسم. فالطبيعة لن تسمح بذلك. فهي تحمي حقها في الإشراف على أي تغير في الأخلاط ولن تتحمل أن يحاول أي شخص الاستيلاء على سلطتها. إن كنت تشك في ذلك فانظر إلى المشاعر التي يمكن أن تقتل صاحبها؛ إذ تتسبب الأزمة في اضطراب حركة القلب الطبيعية ما يؤدي إلى حدوث اختلال في الأخلاط وبذلك تحدث الوفاة، لأن أسس الحياة والصحة قد اختلت.»9

هبَّ لامي للمشاركة في الحوار قائلًا: «أتساءل عما إذا كان المرض أو التقدم في العمر يضر بشرايين الإنسان وأوردته وقلبه ضررًا لا يمكن إصلاحه. ففي هذه الحالة ستنقل هذه الأوعية والأعضاء المتضررة على الأرجح صفات خبيثة إلى أي دم يجري في داخلها. وأعجب من أن الفكرة تؤيدها أمثلة مناظرة من التجارب. فالمثال الذي أُحسِن استخدامه بالطبع هو البرميل الصغير الذي كان يحوي الخل. فأي سائل يوضع به في أي وقت مستقبلًا سيتأثر بحموضته. والدليل التجريبي أعقد، إلا أنه يتضح في خير صورة في التجربة الإنجليزية التي أجراها توماس كوكس والتي نقل فيها الدم من كلب أجرب إلى كلب سليم. وأدى إدماء الكلب الأجرب إلى شفائه، لكن الكلب السليم لم تُصبه العدوى.»

قال أولدنبرج محاولًا إعادة بعض النظام إلى الاجتماع: «لنتناول كلًّا منها على حدة. وأقترح أن تكون البداية ببرميل الخل.»

قال بيرو: «إنها حقيقة. وقد أشار عدد من الفلاسفة فعلًا إلى أن بعض الحاويات لا تقتصر على حفظ المواد بل تُحسِّنها كذلك في بعض الحالات. لكن الدم يتغير بصورة نشطة مع مروره في الأوردة أو الشرايين. في بعض الحالات يمكن أن يكون التغير مفيدًا، وفي البعض الآخر، يكون ضارًّا. وفي حين أن أبقراط كان أول من قال إن الدم يفسد دائمًا عندما يخرج من الجسم، يقول الفلاسفة إن الدم قد يفسد وهو لا يزال داخل الجسم. فانظروا مثلًا إلى أوردة الدوالي. ففيها نجد الدم الفاسد والمتجلط داخل الوعاء.»10

قال دوني: «أولًا لا أعتقد أن الدم قد يفسد بسبب المرض لدرجة لا يمكن بعدها إصلاحه. وإن كان هذا يحدث فهو نادر بالتأكيد فليس علينا أن نقلق بشأنه. وسيتطلب الشيء غير المعتاد منا أن نبحث عن وسائل علاج جديدة لحل المشكلة، وأتطلع للبحث عنها. أما وجهة النظر المقابلة فهي أن الفساد الإجمالي هذا شائع جدًّا. والمشكلة التي أواجهها هي إيجاد أي فائدة من ذلك؛ إذ يشوه التشبيه على أي حال تصورنا كله عن آلية عمل الجسم.»

قال بيرو: «أنا أيضًا أشك في صحة التشبيه لكنني أردت أن أعرف آراءكم. فأي فكرة تقول إن طبيعة الدم تتغير عندما يدخل جسم حيوان آخر غير صحيحة بالتأكيد. فنحن جميعًا نعلم — على أية حال — أن الماء لا يتحول إلى نبيذ بمجرد سكبه في برميل ممتلئ بالنبيذ. فليس أبعد عن الفلسفة الحقيقية من فكرة إمكانية تحويل الأشياء بطرق لا تعرفها الطبيعة. فتغير الدم بعد نقله خرافة ترقى لقصص تحول القمح إلى عشب ضار أو تحول الحبل الشوكي إلى حية أو الرصاص إلى ذهب أو تحول الإنسان إلى ضفدع. فالماء لا يتحول إلى نبيذ إلا إذا عالجته الكرمة. وكذلك الكيلوس يحتاج إلى أن يُعالج داخل جسم الحيوان المستهدف لكي يتحول إلى الدم المناسب.»11

جفل بويل الذي أنفق كثيرًا من الوقت والمال على الخيمياء مع قرار بيرو بجمع كل مفاهيم التحول معًا في فئة مذمومة، لكنه اختار ألا يلتقط الطُّعم.

خيم الصمت على المشاركين لوهلة. فقد كانت قدرة الدم على تغيير طبيعته موضع تساؤل. ووجد دوني نفسه أمام حجج متعارضة. فإن كان بإمكان الدم أن يغير صبغته فإن الدم الجديد يمكن أن يفسد في العروق وسيصبح نقل الدم عديم الفائدة. أما إن لم يمكنه التغير، إذن فلا يمكن أبدًا للدم المنقول أن يتوافق مع جسم المتلقي. كما سيكون غريبًا ومن غير المحتمل أن يؤدي وظيفته بكفاءة.

وبعد أن فكر دوني للحظة، رد بفكرة حاولت حل الإشكاليتين معًا. فقد أمل بحقنه الدم في الوريد الوداجي أن يتفادى المشكلة، لأن هذا الدم سيمر مباشرةً بالقلب. وبذلك يتفادى كل الأوعية الملتفة التي يمكن أن يفسد الدم فيها، ويصطبغ فورًا ﺑ «جوهر» الجسم ذاته. ولا يمكن للدم المرور عبر باقي أجزاء الجسم إلا بعد تطبيعه.

وتابع دوني: «أرى أن عديدًا من الأطباء يتفقون معي في هذه النقطة. وحتى إن لم يتفقوا، فإن فكرة «برميل الخل» لن تغير رأيي؛ إذ إن الحموضة هي آخر صفة يتصف بها النبيذ، ولأن حلاوته الأولى لا يمكن استرجاعها فإن هذا التغير يعني فساد حالته. لا يمكنني أن أرى أي تغير يمكن حدوثه في الدم ولا يمكن معالجته. فالدم يمكن تنقيته دائمًا إلا — حسبما أفترض — في عددٍ صغيرٍ من الأمراض الاستثنائية التي ليس منها شفاء، ولسنا في حاجة لأن نتناولها الآن.» وأطرق للحظة. ثم تابع: «لكن النبيذ يمكن أن يكون مثالًا جيدًا. فكلنا يعلم أنه من الممكن تحلية أشد أنواع النبيذ اللاذعة، وتنقية أكثرها تلوثًا وتركيز أضعفها وإزالة الدهون من أكثرها شحومًا. بصفة عامة، إن كنت على دراية بما تفعله، يمكنك أن تضيف الكحوليات المناسبة إلى النبيذ لتحل أي مشكلة تقريبًا. بالصورة نفسها، من المنطقي الاعتقاد بأن خلط الأنواع المناسبة من الدم باستغلال فن نقل الدم يمكن أن يُحسِّن ويُخفف الدم ذا الكثافة الزائدة أو يرفع حرارة الدم شديدة الانخفاض.»

وحتى في هذه الحالة أوضح دوني أنه لا يتوقع أن يُفيد نقل الدم المرضى الذين أصبح دمهم «فاسدًا أو ملوثًا بصورة كبيرة أو … مشبعًا تمامًا بخمائر وسموم غريبة». فهو لم يتوقع أن ينجح العلاج في شفاء أي شخص قد تناول السموم أو تلوث جسمه وأنهكه مرض الإسقربوط أو الزهري أو الجذام أو غيرها من الأمراض المزمنة التي توهن الأنسجة. فقد كانت المشكلة لدى دوني أنه مع تكرار دورة الدم الملوث عبر الجسم تُفسِد ردود الأفعال الحية التي تحدث في الأعضاء المفردة. وأي دم جديد سيصيبه الضرر من هذه البيئة المسمومة قبل أن يُتاح له الوقت الكافي لإعادة الأمور إلى طبيعتها.12

إن استبعاد دوني لقدرة نقل الدم على علاج الزهري رأي طريف في ضوء النظرة المعاصرة لحالة موروا. فمن بين أعراض الزهري الجنون الشديد، وتاريخ موروا الذي تضمن زيارات متكررة لبيوت الدعارة يتماشى مع الموقف. ونعلم الآن أن مرض الزهري يسببه نوع معين من البكتيريا الحلزونية — البكتيريا اللولبية الشاحبة — ومن بين الآثار المدمرة لهذا الميكروب المنقول جنسيًّا أنه يسبب تلف الدماغ؛ إلا أنها تتأثر كثيرًا بالحرارة؛ لدرجة أن المريض أحيانًا يمكن علاجه بوضعه في غرفة بخار لبضع ساعات في المرة الواحدة؛ لذا يبرز احتمال أن تكون الحمى التي تلت عمليتي نقل الدم اللتين أُجريتا لموروا في منزل دوني قد قتلت البكتيريا وعالجته من مرضه الأساسي، وأنهت جنونه. ومن ثم يمكن لنقل الدم أن يُعالج الزهري، لكن تلك كانت طريقة خطرة جدًّا للعلاج.

تدخَّل لامي الذي لم يكن ليجلس في هدوء مستمعًا للأكبر منه سنًّا وقال: «المشكلة الثانية كما أرى هي انخفاض التركيز؛ فأي كمية منقولة من الدم تجري عبر الوريد الوداجي ستلتقي بكتلة الدم في الوريد الأجوف وتضيع وسطها قبل أن تدخل إلى القلب. سوف تفقد بالتأكيد نقاءها قبل أن يكون لها أي فائدة. انظر إلى حجم الوريد الوداجي مقارنةً بالأوردة الأخرى. إنه أحد الأوردة القليلة التي تصب في قناة مشتركة قبل الدخول إلى القلب. سوف تستنتج — دون خوف من التناقض — أن الكمية الصغيرة المنقولة من الدم ينخفض تركيزها أمام كمية دم المريض الكبيرة.»

مسألة الجرب

سأل أولدنبرج «والكلب الأجرب؟ هل من أخبار عن هذه التجربة التي أجراها صديقي الغائب توماس كوكس؟»

تطوع دوني بالرد: «نعم. لست مقتنعًا بأن دم الكلب الأجرب كان فاسدًا بالضرورة في عروقه؛ ربما نُقِّي الدم في جسم الكلب لأنه أخرج كل ما يلوثه عبر مسام الجلد. وتظهر هذه السموم في صورة جرب على جلد الكلب، لكن الدم ظل من ثم نقيًّا. أليس من المؤكد دائمًا أن وجود الجرب في أثناء المرض علامة جيدة، لأن هذه علامة على أن كل السموم تخرج من الجسم ولا تستمر في الدورة الدموية حيث يمكنها أن تضر بأحد أجزاء الجسم «الثمينة» وتسبب أضرارًا شديدة؟»

وقف أولدنبرج من جديد قائلًا: «أنا أيضًا كنت أتساءل كيف أنه عندما حقن كوكس الدم من الحيوان الأجرب إلى السليم شُفي الكلب الأجرب دون نقل المرض إلى الكلب السليم. لكن عندئذٍ تكون التجربة محيرة أكثر لأن الكلبين لم يكونا من النوع نفسه. فالأمر يتطلب مزيدًا من الدراسة، لكني أعتقد أن السيد دوني قد أخطأ؛ فهو يتساءل عما إذا كان دم الكلب الأجرب قد تعفن وفسد في أوردته، وكأن تعفن الدم بالضرورة هو السبب وراء المرض. إلا أن هذه الفكرة تتعارض مع المعروف في التشريح وهو أن الدم لا يتعفن في العروق حتى بعد الموت بعدة أيام. ويقل احتمال تعفن الدم في عروق الحيوان الحي، لأن الدوران المستمر للدم يمنع التجلط وهو ما نعرف جميعًا أنه بداية التعفن.»

بدا على دوني أنه على وشك الرد، لكن أولدنبرج رفع يده طالبًا السكوت. وتابع: «أما المرض ذاته فيبدو لي أن الجرب إخراج لنوع من الأملاح الحمضية من الدم. وإخراج هذا الملح إلى الجلد لا يكون في صورة متطايرة لذا يبقى ويتحول إلى جرب. يبدو لي أن الكلب السليم سيكون أكثر عرضة للإصابة بالمرض إن ظل متصلًا بالكلب الأجرب لمدة تكفي لفرك بعض الملح عما إذا تلقى كمية ضئيلة من الدم.»

قاطع دوني متجاهلًا كل ما قاله أولدنبرج: «أختلف معك؛ فحتى إن كان دم الكلب الأجرب فاسدًا، هل نضمن انتقال المرض إلى الكلب المتلقي؟ لا، مرة أخرى أؤكد أنني لا أظن ذلك. فماذا يمنع الدم المتضرر من أن يُنقَّى عند اختلاطه بالدم السليم للكلب المتلقي؟ من السهل أن نرى كيف للحرارة المعتدلة في الكلب الثاني أن تُلطِّف الحرارة العالية التي سببت ظهور الجرب في الكلب المريض. وعندها لن يتفشى المرض.»

شن أولدنبرج هذه المرة هجومًا لطيفًا: «لكن حتى بمنطقك، من الأرجح أن تبريد هذا الدم الحامل للمرض سيقتل الكلب. فحجتك هي أنه — في عملية أشد من النار — تكون حرارة الدم ضرورية لإضعاف العناصر الضارة وإجبارها على الخروج عبر مسام الجلد. وإن انعدمت الحرارة انعدمت التنقية، وإن انعدمت التنقية انعدم الشفاء. يجب أن يضع كلامك كل الدلائل في الاعتبار.»

تابع دوني وقد جعل التوتر صوته جافًّا جدًّا: «إذا كنتُ متهمًا بعدم وضعي كل التفاصيل في الاعتبار، فأود أن أشير إلى الدليل الناقص في رواية كوكس لتجربته. فما الدليل على أن المرض لم ينتقل إلى الكلب السليم؟ لم يرد في الرواية أي شيء يقول إن من أجروها فتحوا جسم الكلب ليُلقوا نظرة على أعضائه بعد نقل الدم؛ لذا لا أرى أنه يمكنهم إثبات ادعائهم بأن نقل الدم لم ينقل المرض للكلب المتلقي.»

تطعيم النباتات

قال لوور مستأنفًا الاجتماع بعد استراحة لمدة خمس دقائق: «إنني أتطلع لأن أعرف آراءكم بخصوص مثال آخر. فقد ذكر بعض المراقبين أن حقن الدم يشبه تطعيم أشجار الحمضيات بالفروع. ففرع شجرة البرتقال المُطعَّم به ساق يُنتج البرتقال، بينما يُنتج فرع الليمون في الساق ذاتها ثمار الليمون. فالساق في هذه الأشجار تُصفِّي العصارة التي تستمدها من الجذور لتنتج الثمرة المناسبة.»

وخز بويل صديقه لوور وسأله: «ما رأيك؟»

رد لوور وقد أُخِذ على غرة «أنا؟ لا أرى أي عملية «ترشيح» مكافئة يمكنها تصفية الدم والسماح بتغير طبيعته. يبدو من المنطقي افتراض أن حقن الدم لن يغير طبيعة الحيوان المتلقي، وإن كان الأمر يستحق الاختبار من خلال بعض التجارب التي تُجرى بعناية.»

سأل بيرو: «ولكن ألا يمكننا أن نتعلم من الطبيعة؟ فالأشجار على كل حال تقبل التطعيم بطبيعتها، وروى بعض الناس مواقف جرت فيها خياطة أجزاء مبتورة من الجسم والبقاء على قيد الحياة. فالطبيعة دائمًا ما ترنو إلى الكمال ومن المشكوك فيه حتمًا أنها قد ترفض هدية قيِّمة مثل نقل الدم.»13

سأل أولدنبرج: «هل تتحدث عن المزاعم الإيطالية المبالغ فيها بزراعة الأنوف والآذان والأسنان؟»

رد بيرو: «لا، لكن الناس الذين يصعب عليهم تصديق تلك الروايات سيصعب عليهم تصديق أن هناك أي شيء حقيقي في الأحاديث القائلة إن الطبيعة ستسمح بنقل الدم.»14

نفث لوور الهواء من بين شفتيه في تعبير عن الضيق وسأل «الطبيعة الطبيعة! ما هذه الطبيعة؟»

تدخل أولدنبرج قائلًا: «يشعر بعض الناس بالقلق من الفرق الشاسع بين تكوين الدم من خلال تناول اللحم، والحصول على الدم من خلال نقله؛ إذ يقولون إن الطبيعة رتبت الأمور بحيث يتغير الدم المتكون من اللحم ليناسب كل حيوان، لكن إذا جرى نقله فلا يمكن أن يحدث له هذا التحول.»

صاح دي لا مارتينيير: «هذا مربط الفرس؛ فنقل الدم شيء يثير الاشمئزاز، فهو يعادل أكل لحوم البشر. فأصله من الشيطان.»

وأضاف لامي ساخرًا: «بحسب ما أرى ذهب كتيب السيد دوني لما هو أبعد من ذلك؛ إذ يذكر قولًا خياليًّا باحتمال وجود ميزة لاستقبال الدم الغريب على تكوين الجسم للدم من خلال هضم الطعام. فهذا العلاج الصناعي — كما يريدنا أن نصدق — خير من الطبيعة ذاتها.»

رد دوني «هذا صحيح؛ فتحول الطعام إلى دم طريق محفوف بالمصاعب، وسيقي نقل الدم من بعض أسباب فساده. لنكن صرحاء، يحمل الدم المنقول المواد الغذائية مباشرة من جسم لآخر، ويوفر على جسم المتلقي عناء تحويل الطعام إلى دم. فاللحم على كل حال يحتوي على عصارات ضارة كما يحتوي على عصارات مفيدة، لذلك يلزم وجود العصارات الحمضية في المعدة لتنقية الخليط كي يُدفع الكيلوس المنقَّى وحده إلى العروق. إن نقل الدم ما هو إلا وسيلة بسيطة لإعطاء مزيدٍ من الدم لشخص، وتفادي كل هذه العمليات التي تستهلك الجهد والوقت.»

قال بيرو: «يقول بعض الناس إن تصنيع الدم يستهلك كثيرًا من حرارة الجسم ومعنوياته. فمن المنطقي افتراض أنه من الأفضل استغلالهما لدى الشخص الضعيف في أجزاء أخرى من الجسم؛ لذا يمكن لاستبدال الدم السليم بالدم الرديء أن يؤدي إلى استغلال طاقات الجسم على نحو أفضل.»15

في هذه المرحلة بدأ دوني يسترخي قليلًا. ربما كانت بداية بيرو عدائية، لكن اتضح أنه كان على الأقل مستعدًّا للتفكير في تلك المسألة. وزاد هذا من احتمال أن يُقدم رواية متوازنة عندما ذهب بعدها إلى الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا.

وقف أولدنبرج بهيئته المهيبة مرة أخرى قائلًا: «لمعرفة مآلات هذه القضايا علينا أن نفهم أن في الجسم ثلاث عمليات أساسية للهضم: تتم الأولى في المعدة وهي العملية الصغرى. وتحوِّل العمليتان الأخريان هذه المادة المهضومة إلى الكيلوس والدم، وتجريان في الأغلب في الكبد والقلب على التوالي. ويفيد المثال الذي سقناه المتعلق بالتطعيم في توضيح هذه المشكلة؛ فانظروا إلى الأشجار: إن عصارات الأشجار فيها خليط من عصارات الأرض والجذر والجذع، لكن الثمرة التي تنتجها الشجرة تعتمد على الفروع التي تمر بها العصارات في النهاية، فإن تم تطعيمها بفرع شجرة تفاح فستتخلل العصارات الألياف الصغيرة في هذا الفرع لتنتج التفاح. وإن تم تطعيمها بجزء من شجرة كمثرى فستتخلل العصارات ذاتها لكي تنتج الكمثرى هذه المرة. أما في حالة نقل الدم من الحيوان إلى الإنسان، فمن الصحيح أن الدم لن يخضع لعملية الهضم الأولى، إلا أنه سيجري في دورته في الجسم ويُصفَّى ويتحوَّل في الكبد والقلب إلى مادة بشرية. فالمرحلة النهائية — التي تناظر التخلل في الفروع المطعَّمة — هي التي لها أكبر الأثر.»

قاطع بيرو قائلًا: «لكن مثال الأشجار لا يجدي؛ فمن الممكن أن السوائل في النباتات المُطعَّمة تمتزج جيدًا، لكن هناك فارقًا كبيرًا بين النباتات والحيوانات؛ فليس ثمة مبرر لافتراض اشتراك النباتات والحيوانات في هذه الصفة إلا إذا افترضنا أن الخيول لها نفس ذكاء البشر. وهناك قاعدة واضحة تقول إن الطبيعة تولي رعاية أكبر للحيوانات مقارنة بالنباتات؛ فالتغذية في النباتات — على سبيل المثال — أقل إتقانًا من الحيوانات؛ إذ تعمل الجذور في النبات عمل الفم والمعدة، وربما القلب كذلك. لكنها تُستبدل بسهولة، فإن قطعت فرعًا وغرسته في الأرض فستنمو له جذور جديدة. لكن هذا لا يمكن عمله في الحيوان؛ فعملية التغذية في الحيوانات متقنة جدًّا بحيث إن تلف شيء يكون إصلاحه أصعب كثيرًا. وقياسًا على ذلك، يمكنك أن تبني كوخًا باستخدام أحجار متناثرة أو بحجارة من مبنًى آخر متهدم، لكن إن أردت أن تبني قصرًا فستحتاج لأحجار مقطَّعة بعناية لكلٍّ منها دور محدد. وبالمثل، لا يمكن للحيوان أن يتغذى إلا عن طريق الدم المخلوق خاصة لتغذية هذا النوع البيولوجي، أو الأرجح أن الحيوان لا يمكن أن يتغذى إلا من خلال دمه الذي كَوَّنه جسمه. فنقل الدم سيكون مثل إعطاء مهندس معماري أحجارًا قُطِّعت لبناء جدار مائل بينما قد طلب أحجارًا لبناء جدار قائم دون اعوجاج.»

تابع بيرو قائلًا: «إذن هذه هي الصورة البديعة التي يحيا بها الحيوان. فأعضاء الجسم المختلفة تعمل معًا بكل الصور داخل كل فرد لتُحقق فائدتها العامة وتتضافر لتُكوِّن شخصية كل فرد؛ فليس من الممكن أن يلبيَ عضوٌ تَكَوَّنَ في فردٍ ما احتياجات شخصٍ آخر؛ فالقلب يمكن أن يطبع روحه على الكيلوس ويجعله نافعًا لجسمه، لكنني لا أزال مقتنعًا؛ لن يكون الدم الذي أعده القلب ذا فائدة كبيرة لجسم حيوان آخر.»16

تدخل دوني في الحديث قائلًا: «أتفق تمامًا.» أراد أن يبقي بيرو في صفِّه قدر الإمكان: «يتعين للدم أن يكون متوائمًا مع الفرد خاصة، وسيكون نقل الدم خطرًا إن وُضع دم غريب في عروق هذا الفرد، وعُجز عن تحويله ليناسب احتياجاته الفردية. من المرجح أن يستغرق هذا التحول بعض الوقت، وأُسلِّم بأنه لا تتوافر الشجاعة الكافية لدى أحد ليستبدل دم شخص ما بالكامل في عملية واحدة، بل ينبغي لنا أن نُجري عمليات نقل دم جزئية، وعندها لن نجريها إلا إذا كان جسم الشخص قويًّا بدرجة كافية. فنقل الدم الجزئي يتيح لروح المتلقي ودمه أن يتغلبا على الدم المنقول ويحولانه إلى طبيعتيهما من خلال الغليان الخفيف.»

تابع دوني: «من المعلوم أنه إذا زاد التوافق بين المتبرع والمتلقي قل المجهود الذي يبذله الدم ليصبح متوافقًا مع المتلقي. رغم أني واثق بأننا سنكتشف مادة يمكن نقلها دون الحاجة لتحويلها. وسيكون هذا الدم الصناعي إعجازًا بحق.»

لكن وبينما اكتشف الناس بعد عدة قرون كيفية نقل الدم بأمان وإعطاء سوائل صناعية ترفع من مستوى الدم، فإن تعقيد الدم يعني أن الإحلال الكامل له هدف بعيد المنال إلى يومنا هذا.

دماء مختلفة

قال دوني: «مع احترامي، سيد بيرو، لا أظن أن مخاوفك تضيف كثيرًا، لكن اسمح لي بأن أطرح عليك أحد أقوى الأسباب التي سمعتها للتشكيك في نقل الدم. يقول بعضهم إن خصائص الدم تتباين لدى الحيوانات المختلفة لدرجة أن الدم يكون سامًّا إذا نُقِل إلى حيوان آخر. وأنا أقر باحتمال وجود خصائص مختلفة للدم، لكن إن وصل بنا الأمر أن نعتبر الدم سامًّا، فإن هذه مبالغة بكل تأكيد. فإن تبنينا هذه الفكرة فسندين اللحم كذلك. فالدم على كل حال هو جوهر أو خلاصة هذا اللحم، وإذا كان مصدر اللحم حيوانًا مختلفًا، فمن المفترض أن يُنتج دمًا لا يناسب الشخص الذي يأكله. وفي المقابل، نعلم أنه يمكننا استخدام اللحوم المُبرِّدة وأدوية معينة لمنع الدم من الغليان في العروق، أو استخدام الطعام الساخن وعلم الطب لنزكي شعلة الحيوية لدى كبار السن أو المرضى. إن اللحوم ليست سمومًا بل هي مفيدة لك؛ لذا فإذا كان خلط اللحوم صحيًّا فمن المنطقي افتراض أن خلط الدماء مفيد للصحة حتمًا. فلمَ لا يؤدي نقل الدم الساخن إلى تقوية شخص قد برد دمه؟

إنني لا أشك في أن ثمة اختلافات شديدة بين الدماء التي ترجع لحيوانات مختلفة وأنها لن تختلط بسهولة؛ إلا إذا خضعت للتخمر.»

صاح لوور: «التخمر؟ الدكتور ويليس، أظن أن هذا اختصاصك؛ هل ترى أن التخمر يوفِّق بين الدماء المختلفة؟»

رد الدكتور ويليس — صديق لوور وزميله المدرس السابق — وهو ينتصب واقفًا وينفض بعض الغبار من فوق عباءته الزرقاء: «لم أتناول مسألة نقل الدم في كتابي «التخمر».» كان متوسط الطول، يشوب شعره الأحمر القاني بعض الخصلات الرمادية، وكان يتلعثم في حديثه: «لكن لنفكر في العملية وننظر إذا ما أمكن ذلك. ﻓﺎﻟﺘﺨ… اﻟﺘﺨ… التخمر محور الوجود. وفهم التخمر ضروري لفهم أي عملية فسيولوجية، بما في ذلك حياة الدم وأثار ﻧﻘ… نقله من حيوان إلى آخر.

بالعودة إلى الأساسيات في بعض الوقت، نجد أن كل شيء يتكون من جسيمات صغيرة، ويمكن تقسيم هذه الجسيمات إلى خمس فئات. فهي إما روح أو كبريت أو ملح أو ماء أو تراب. ولغرض مناقشة اليوم سنركز على الطبيعة الملتهبة ﻟﻠﺠﺴ…» توقف برهة وأخذ نفسًا واستنطق الكلمة التالية: «للجسيمات الكبريتية، لأن هذه الجسيمات هي ما يتحكم فيما نسميه عرضًا بالحرارة. فإن كانت الجسيمات الكبريتية في مادة تتحرك بسرعة، فستظهر عليها الحرارة. وإن زادت سرعتها فسيشتعل الجسم. أما عندما تتحرك ببطء فستنضج اﻟﻤ… المادة وتُصبح «سائغة».»

استطرد ويليس في شرحه لنظريته عن تغير طبيعة المواد عندما تجتمع الجسيمات التي تنتمي لفئات مختلفة. فالملح قد يصبح متطايرًا إن اختلط بالكبريت أو الروح، والملح نفسه يمكن معالجته إن اتصل بجسيم ترابي. إذن، وضَّح هذا التصور البدائي كيف يتغير لون الدم من الأزرق القاتم في الأوردة إلى الأحمر الزاهي في الشرايين. فالسبب كان «عملية تخمر» تختلط فيها الجسيمات الكبريتية في الدم بجسيمات الملح والروح لتنتج ملحًا أكثر تطايرًا. كانت هذه هي العملية التي تصبغ الدم بصبغة الحياة والطاقة والتمايز الفردي.

سأل ويليس وهو ينظر حوله ليرى إن كان يحظى باهتمام الحاضرين: «وأين يحدث هذا التخمر؟ في القلب، بالطبع، هذا العضو اﻟﻨ… النبيل الذي يعطي الدم الحياة والحرارة. ففي القلب يُصنَع الدم في عملية اختمار تكوين الدم الكبرى تلك. أُدرك تمامًا أن أخصائي الفسيولوجيا والتشريح الإنجليزي جورج إنت يعتقد أن حرارة القلب سببها أن جسيمات ملح البارود في الهواء تُذكي لهبًا داخل ألياف القلب، وأن ديكارت قبل موته السابق لأوانه قد خلُص إلى أن هذه الحرارة تنتقل إلى الدم. لكني أعتقد أن القلب هو الوعاء الذي يحتوي العملية وليس مصدر الحرارة ذاتها. وفي بطيني هذا العضو العظيم تتحرك الجسيمات الروحية والكبريتية لتملأ الدم بالحرارة؛ تلك الحرارة التي تُنقل بعدئذٍ في مختلف أجزاء الجسم.»

سأل دوني قائلًا: «وما التطبيقات العملية لهذه النظرية؟»

فاختتم ويليس بقوله إن النظرية أدت إلى فهم المرض من ناحية أن الأمراض التي تسبب الحمى هي التي يكون فيها التخمر زائدًا وتكون فيها الجسيمات الكبريتية أو الروحية في حركة عنيفة. وبالطريقة نفسها التي ينظم بها صانع النبيذ الخبير عملية التخمر في برميل النبيذ الخشبي، يجب على الطبيب أن يكون قادرًا على التحكم في التخمر الذي يحدث في دم مرضاه. وقال: «المطلوب هو الفهم الأشمل للطبيعة الكيميائية للد… للدم لكي نكون في وضع أفضل يسمح بالسيطرة على سلوكه.» وشعر بالارتياح بانتهائه من الحديث.

وتوقف عن الكلام بعدما لفت صوت صرير كرسيٍّ على الأرض انتباهه. وجاءت كلمات لوور الذي وقف: «أتذكر كتابك جيدًا يا صديقي العزيز وأقر أنني حتى وقت قريب كانت لي الأفكار ذاتها. لكن كما قلت قبل قليل، لقد علمتني التجربة أن أفكر مرة أخرى؛ إذ إنه من الواضح لي أن طبيعة الدم لا تتغير في القلب، بل في الرئتين. فإن كان التخمر هو ما يتم، فهو يحدث في الرئتين بالتأكيد.» وأومأ بويل الجالس على يساره بحكمة قائلًا: «إن الرئتين وليس القلب هما المكان الذي يتعرض فيه الدم للهواء ليتغير من اللون الوريدي القاتم إلى اللون الشرياني الزاهي. فإن كان التخمر هو ما يتم، فإنه يحدث في الرئتين.»

رد ويليس قائلًا: «إنني على دراية تامة بتجاربك سيدي الفاضل، وأتابعها باهتمام. ربما تكون على صواب.» وأومأ كلٌّ منهما بابتسامة نحو الآخر.

فوائد نقل الدم

سأل أولدنبرج محركًا وقائع الاجتماع: «هل لنا أن ننتقل من النظرية إلى التطبيق؟»

رد لوور: «سأسرد بإيجاز بعض أنواع المرضى الذين يمكن إفادتهم من نقل الدم. فإن فقد شخص معافى كمية كبيرة من الدم فإن تعويضه من مصدر آخر قد يؤدي إلى فوائد واضحة. علاوة على ذلك، أرى أن نقل الدم قد يفيد مرضى التهاب المفاصل والمصابين باختلال عقلي ما دامت أجسامهم سليمة بالدرجة الأولى ولم تتضرر أدمغتهم ولم يتعفن الدم. وعلى كل حال، لنقل الدم فرصة في العلاج كما الحال مع فصد الدم.»17

دوني: «بحسب ما أرى، يبدو أن الأطباء ينتمون لواحدة من ثلاث فئات. فهناك الذين يؤيدون الاختراع، ويرون أنه يمكن وصفه لعلاج مجموعة كبيرة من الأمراض. وينظر آخرون إليه باعتباره بدعة لا نفع منها، بينما لم يحسم الفريق الثالث موقفه بعد ويقول إنه ينتظر المزيد من الشواهد بطريقة أو بأخرى. أما أنا فلا أرى غضاضة في أن أنسب نفسي للفريق الأول. فأنا مقتنع بفوائد نقل الدم ومنافعه. فالكل يعرف أن فقدان الدم والنزيف يسببان وفاة كثيرين ويحكمان على آخرين بالشيخوخة المبكرة. فنقل كمية معقولة ومُعتبرة من الدم يمكن أن يطيل حياة كثير من هؤلاء المرضى. وبالإمكان التنبؤ بقدرة هذه الوسيلة الرائعة على رفع المعاناة عن كاهل المصابين بالتهاب الجنبة والجدري والجذام والسرطان والتقرح والحمرة والجنون والخرف وغيرها من الأمراض التي يجري فيها الخبث في الدم. أتوقع تمامًا ظهور دليل على هذا في المستقبل القريب.»

أضاف لوور: «ربما يكون لنقل الدم دور في دعم شخصٍ مريض جدًّا بإعطائه بعض الوقت ليُشفى. ففي بعض تجاربي لنقل الدم أوضحت أنه إن أردت حقن دم شرياني قرمزي زاهٍ في حيوان يلهث في حاجة إلى الهواء فإن الحيوان المختنق يسترخي وتتوقف معاناته في التنفس. فالواضح أن الدم الجديد ينعش الحيوان بما أنه أُمِدَّ بدم مشبع بالفعل بالهواء.»

وبهذا القول، تنبأ لوور بما يطلق عليه الآن جهاز أكسجة الأغشية من خارج الجسم، وهو جهاز طبي يُستَخدَم في جراحات المجازة يمكنه تزويد الدم بالأكسجين وتنقيته في الوقت ذاته من ثاني أكسيد الكربون.

دوني: «هناك احتمال جيد أن يكون حقن هذا الدم المفعم بالحيوية أفضل من الفصد. فلا يمكن أن ينكر أي طبيب يحضر معنا هنا أن الدم محوري في معظم الأمراض. ونعلم على أي حال أن الكثير من الحالات — إن لم يكن معظمها — يُعالج بفصد الدم. لكن عليكم الاعتراف بأنه بينما قد يؤدي الفصد إلى التخلص من الدم الفاسد فهو يُضعف المريض. ربما تُعالَج الحمى لكن العملية قد تترك المريض عرضة للإغماء.»

صاح لامي: «لكن لا يمكنك معالجة الحمى بنقل الدم — بالقطع — إن أخذت الدم من شريان؛ فالدم الشرياني مُحمَّلٌ بالحرارة، وبدلًا من إنعاش دم المريض أعتقد أنه سيرفع حرارته بدرجة أكبر. هذا بالتأكيد السبب الذي جعل الرجال الذين استقبلوا الدم يشعرون بحرارة شديدة في أذرعهم.»

استطرد دوني متجاهلًا مقاطعة الشاب الصغير: «يمكن للإدماء الزائد أن يسبب الوفاة. ومن ثم يلتزم العديد من الأطباء بالحذر المفرط في استخدام هذه الطريقة. لكن الذين يُجرون فصد الدم سيجدون نقل الدم مفيدًا لأنه سيمكِّنهم من استبدال الدم السليم بالدم المتضرر المفقود على الفور، أما من لديهم مخاوف من فصد الدم فسيجدون أن نقل الدم وسيلة فعالة لتقوية المريض بدم جديد.»

«أتفق مع هذه النقطة.» قالها لوور الذي بيَّن أنه طالما شعر بأن نقل الدم على الأرجح سيُستخدم بحيث يمكن للحيوانات التي تحتاج للدم أو التي فسد دمها أن تحصل على الدم من غيرها. ورأى أن تلك العملية ربما كانت أقل فعالية مما يمكن لأن الدم القديم المريض اختلط بالدم الجديد السليم، لكن حتى في هذه الحالة يوجد حل ممكن. ماذا عن نقل الدم من اثنين أو ثلاثة حيوانات إلى المستقبِل، مع سحب دمه في الوقت ذاته؟ ذلك سيطرد الدم القديم ويترك الدم الجديد وحده.

سأل دي باسريل الذي بدأ يلين للإمكانيات التي أتاحها نقل الدم: «لكن السؤال عندها سيكون: ما أفضل مصدر للدم؟»

فرد دوني: «من المنطقي في البداية استخدام دم الحيوانات؛ وهو يحتوي على شوائب أقل من الإنسان لأن الحيوانات لا تمارس البغاء أو الأكل والشرب غير المنتظمين. كذلك فإن المشاعر والعواطف مثل الحزن والحسد والغضب والكآبة والقلق تفسد مادة الدم لدى الإنسان، بينما حياة الحيوانات أكثر انتظامًا وتمر بقدرٍ أقل من المآسي الناتجة عن خطيئة آدم في الجنة. إن التجربة تبيِّن أنه كما من النادر جدًّا أن نجد دمًا رديئًا في الحيوانات، فمن النادر أيضًا أن نجد دم إنسان غير ملوث. فحتى الرضيع لا يخلو من النقص من بعض الأوجه، لأنه بتغذيه على لبن أمه يمتص منها المفاسد مع امتصاصه الغذاء.»

قال إميري، الذي ظل صامتًا حتى تلك اللحظة، مقاطعًا: «كما يمكننا أن نكون أكثر جرأةً في استخدام حيوان. فهناك أدلة جيدة على أن الدم الشرياني أقل عرضةً للتلوث وأنه يمر بانسيابية أعلى في الأنابيب من حيوان لآخر. لكن فتح الشريان في الإنسان خطر؛ فهو كما نعلم يمكن أن يؤدي دون قصد إلى نزيف المتبرع حتى الوفاة. ولن يسبب هذا مشكلةً إذا كان المتبرع حيوانًا.»

قال دوني: «للحيوانات ميزة أخيرة، فنحن نسيطر عليها ويمكننا أن نتحكم فيما تأكله قبل أيام من نقل الدم. ونعلم أن لحم العجول يختلف مذاقه عند العناية بتربيتها، وأن من الممكن التأثير في مذاق اللبن وصفار البيض بإعطاء الحيوانات طعامًا معينًا. ومن المنطقي افتراض أن تغذية الحيوانات تُنتج دمًا أغنى يناسب غرض نقل الدم بصورة أكبر.»

جهر بيرو بأفكاره، وقد أصبح يسعى بصورة نشطة لإيجاد حلول لبعض المشكلات، قائلًا: «أتساءل عما إذا كان من الممكن أن تكون الوفاة والآثار المرضية في بعض العمليات سببها نقص كمية الدم المستنزف من الحيوان قبل إجراء العملية؟»

رد إميري: «هذا مبعث قلق دائمًا.»

استطرد بيرو: «هل يحل المشكلة استخدام أنبوبين؟ في هذه الحالة يمكن لكل حيوان أن يتدفق دمه إلى الآخر ويمتزج دمهما ويتحدان بطريقة طبيعية أكثر.»

اتفق إميري: «واردٌ جدًّا، لكنه غير ممكن إلا في الحيوانات الكبيرة؛ بسبب الصعوبات الفنية التي تعوق وضع أنابيب كافية في مساحة ضيقة.»

الخوف

قال أولدنبرج وهو يقلِّب في بعض خطابات كانت قد وصلته: «يوجد اعتراض يرتبط مباشرةً بعملية نقل الدم التي أُجريت للرجل الباريسي؛ إذ يقول بعض الناس إن الخوف من العملية هو السبب وليست العملية ذاتها هي ما أفاقته من حالة البلادة.» فكان الادعاء هو أن القلق أثار روحه وجعلها تندفع سريعًا لدرجة أنها أزاحت كل ما كان يعترض مسارها حول الجسم. فقد كان تنظيف الممرات الروحية وليس نقل الدم هو ما عالج الفتى.

لم يترك دوني أي وقت ليجيب غيره قبل أن يرد قائلًا إن الفكرة لم ترقَ للدراسة. فإن كان القلق والخوف سببين رئيسيين في علاج الشاب فمن المفترض أن يكون قد شُفي قبلها بيوم. والسبب هو أنه قبل لقائه بدوني بيوم سقط الرجل من فوق الدرج ولا بد أن هذا أخافه. أضاف دوني قائلًا: «لقد كان الصبي أبعد ما يكون عن القلق لدرجة أنه بدا على غير درايةٍ أصلًا بأننا كنا ننقل الدم إليه، بل لقد ظن على ما يبدو أن الحمَل موصلٌ به ليكون بمثابة علقة ضخمة تسحب الدم منه.»

الفلسفة أم التجربة؟

قال بيرو: «بالنظر في المسالة برمتها، أتساءل فعلًا عما إذا كان أي من عمليات نقل الدم تلك قد تم بالفعل.» قال ذلك متراجعًا إلى الخلف في كرسيه وراح يحك صدغيه علامةً على التفكير: «فانظر مثلًا إلى الكلب الذي رقد على ظهره طوال ساعة بينما يُفرغ من دمه ويحل محله دمٌ من كلب آخر. من المفترض أن نصدق أن الكلب بعد عملية نقل دم كبيرة اكتفى بتحريك أذنيه ولم يعانِ بعدها. يدهشني أن التفسير الأرجح هو أنه بمجرد بدء العملية تجلط الدم في الوريد مانعًا دخول أي دم آخر. واستفاد الحيوان على الأرجح من فقدان بعض دمه لأن جسمه كان به دم زائد من البداية. للأسف، لم يكن هناك أي محاولة جدية — إن وُجدت — لقياس كمية الدم التي مرت من أحد الكلبين للآخر بدقة؛ لذا فما من سبيل للتأكد من الرواية الأصلية ولا التفسير البديل.»

أولدنبرج: «إنني حزين — وإن كنت غير مندهش — من عودة نقاشنا اليوم إلى الفلسفة بهذه الدرجة بدلًا من أن يقوم على أسس الأدلة التجريبية. فكثيرًا ما يُفنِّد معارضو نقل الدم التجارب باستخدام المنطق وبمنظومة من الحجج المُعدَّة بعناية التي تُدرَّس في المدارس الأكاديمية، معتقدين كما يتضح أن هذا هو كل ما هو ضروري لصياغة جدلٍ يؤيد أو يعارض أي أفكار. لكن التجارب خير من أي جدال، وينبغي أن يترك للبيانات الحكم والكلمة الأخيرة، خاصةً في مسائل الفلسفة الطبيعية والطب.»18

دي باسريل: «فعلًا. وعلى زميلنا المتعلم أن يسترجع شيئًا من التاريخ. فمثلًا منذ مائة سنة اكتشفت كلية الطب أن بعض المواد الكيميائية تسبب المرض وأدرجتها ضمن السموم.»

سأل أولدنبرج: «هل تقصد الأنتيمون؟»

رد دي باسريل: «نعم، والزئبق والراوند. لكن بعدها شفي الملك باستخدام الأنتيمون، وعليه أصدر مرسومًا ملكيًّا معارضًا للكلية يقول فيه إنه علاج فعال وإنهم تسرعوا في استبعاده.»

تولى أولدنبرج زمام المناقشة: «والآن يُعد ملينًا فعالًا وحلًّا في جُعبة الطبيب. ولا يقتصر الأمر على سماح الكلية باستخدامه، بل إنهم يصفونه كدواءٍ. فما السبب في تغير تلك النظرة؟ البيانات. فعندما رُؤي أنه عالج كثيرين، بمن فيهم الملك الأشد التزامًا بالمسيحية، اقتنع الجميع، ورُفضت كل الحجج البارعة في العالم التي تخالف ما سبق. وكذلك الحال مع العلاجات التي يستخدمها الأطباء. ففي مراحل مختلفة حظر باقي أهل المهنة واحدًا منها. إن الإنسان العاقل هو الذي يسترشد بالتجربة.

لكن نقل الدم شيء جديد، وحسبما نعلم لم يُجرَ في العصور السابقة. وفي هذه الحالة لا يمكن للعباقرة وللراغبين في رؤية البشرية في رخاء إلا أن يقدموا قليلًا مما يعرفونه لكي يتمكن غيرهم من الأطباء الكرماء غير المتحيزين من تجربته. وبهذه الطريقة نبني خبرتنا وسنكون في موضع أفضل، يسمح لنا بأن نحكم بما إذا كانت تناسب جسم الإنسان. لكن الوضع ليس بهذه البساطة؛ فمن ناحية يقول الناس إنه بما أن الأمر يرتبط بالصحة وحياة البشر فلا يمكن لأي قدر من الدراسة أن يزيد عن الحد. ومن الناحية الأخرى يرفض هؤلاء المتكبرون …» وأشاح أولدنبرج بنظره في اتجاه ممثلي الكلية الثلاثة «… أي حقيقة أو برهان لم يفكروا هم فيه. فخير الناس هو من لا يأتي بحكم مسبق، بل يجري التجارب الكثيرة بعناية ويكوِّن رأيه. ولهذا السبب أطلب ممن في السلطة أن يأمروا عددًا من الأطباء والجرَّاحين المنفتحين والموثوق فيهم بإجراء تجارب كثيرةٍ تهدف إلى معرفة الإمكانيات الحقيقية لهذه الطريقة.»19

بيرو: «لكن لا تتجاهل أيًّا منهما؛ فالمنطق والتجربة يتضافران معًا كأداتين ثمينتين، ولا يسلم كلٌّ منهما من الخطأ. فعليك أن تصحح التجربة بالمنطق وتصحح المنطق بالتجربة. هذا يتطلب دقة وتطبيقًا أعظم — في رأيي — مما استخدمه هؤلاء الذين لا يشكون مطلقًا في الفوائد التي يجلبها نقل الدم من حيوان لآخر؛ إذ يمكنك من التجارب الموجودة حتى الآن استنتاج أن نقل الدم مفيد، لكن في الوقت ذاته من الخطأ — على الأرجح — أن نصف تلك التجارب بالبغيضة أو الخبيثة. على كل حال، يبدو من الأرجح أن الحيوانات تتحمل معاناة نقل الدم لا أنها تتعافى بمساعدته. ربما تصل الحيوانات للنتيجة نفسها إذا جرى حقنها بماء كدر أو سائل غريب آخر.»

قال لامي آملًا في تلخيص رأيه قبل انتهاء الاجتماع: «أيها السادة، إن نقل الدم اختراع جديد تمامًا. فإذا نجح فسيشرِّف قرننا باكتشاف وسيلة بسيطة وسريعة للتخلص من الأمراض المستعصية التي تؤرق مضاجعنا وتمنعنا من الاستمتاع بطيب الحياة. للأسف، لا أزال مقتنعًا بأننا إذا نظرنا لنقل الدم جيدًا فسنجد أن فوائده قليلة. فربما ينتهي بنا المطاف بقتل الناس بدلًا من علاجهم.»

قال دوني وعيناه تجوبان الغرفة بحثًا عن الإلهام ومحاولًا أن يستشف ما إذا كان هذا اليوم سيخدم أم يمنع وقوفه المرتقب أمام القاضي: «لا يمكنني أن أتفق معك.» كان دوني سعيدًا نسبيًّا على المستوى العام؛ إذ لم ينقض المفكرون الذين امتلأت بهم الغرفة تصوره؛ لذا فلن تكون المحكمة قادرة على توجيه أي ضربات له: «لا شيء مما سمعت أو رأيت يثنيني عن أن أرى أن نقل الدم وسيلة نافعة، بل ربما تشكل العلاج المطلق لكل الأمراض.»

ضغط بيرو: «لكن يجب عليك يا صديقي العزيز أن تُقر بوجود مساحةٍ للشك، أليس كذلك؟ فبعض هذه المزاعم يصعب جدًّا تصديقه. فلتنظر مثلًا إلى علاج الجنون؛ فإذا كان الدم السليم أو الدم الفاسد يمنح أو يسلب الإنسان عقله وقواه العقلية، فإن إعطاء دم عجل لشخص لا بد وأن يورثه غباء هذا الحيوان!» لم يشارك دوني في الضحكات التي تلت هذه الكلمات.20

فقال دي باسريل: «لكن لا يمكنك كذلك أن تستبعد فائدته تمامًا. فهناك عديد من الكلاب الآن عاشت لسنة أو أكثر بدم منقول. فهناك الكلب الذي تلقى دمًا من غزال واستعاد شهيته، وازدادت حيويته بعد ثمانية أيام. وبجانب الرجال الذين تلقوا الدم، أخبرني دوني مؤخرًا عن امرأة شُفيَت من الشلل الذي أصاب الشق السفلي من جسمها، وهي نتيجة مذهلة تمامًا. وما ينبغي لنا هو أن نحذو حذو زملائنا الإنجليز ونوصي بسلسلة من التجارب تُجرى بعناية وتُسجَّل بحرص؛ وعندها قد نرى صورة أوضح للحقيقة. مع ذلك، أرجو من السيد دوني ألا يستسلم لأن لديه أعداء. فلطالما سمعت أن حسد الناس لك خير من الشفقةِ عليك. إنني أشيد به باسم كل الذين يتشوقون لاستمرار اجتماعاته ومشاركة الجماهير البيانات الجديدة التي يكتشفها كل يوم في المسائل الأخرى، وسأظل من جانبي أحد المستمعين الذين يدافعون عن مشروعية اهتمامه بالمواقف من كل الأنواع.»

عند هذه النقطة، بدا إنهاء الاجتماع مناسبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤