الفصل الثامن

اللحاق

في الوقت الذي عبست فيه الحياة لدوني، كان لوور أوفر حظًّا. ويبدو أنه كان راضيًا عما اعتبره تقدمًا بطيئًا لكن منتظمًا في نقل الدم للحيوانات، وأنه كان متطلعًا لفهم تفاصيل الدم وتعقيدات نقله أكثر من تحويله إلى علاج طبي. إلا أن لندن كانت تستحثها أخبار التطورات في القارة الأوروبية. وكانت الأخبار هي خطاب دوني هذه المرة. ربما كتب أولدنبرج مقالًا يشكو فيه تجاهل دوني للتفوق الإنجليزي في هذا المجال، لكن لا يسعه إنكار أن دوني سبقهم خطوة بإخراج نقل الدم من المعمل إلى ميدان الطب. فحسبما يقول دوني، كانت عمليات نقل الدم ناجحة وكل الدلائل تشير إلى أنه سيستمر ويكرر ذلك. وكانت إنجلترا تواجه مخاطر التأخر في سباق النجاحات الطبية.

كان التحرك ضروريًّا؛ وبسرعة. كان زملاء الجمعية الملكية بحاجة لشخص فقير بدرجة كافية ليجد في مبلغ صغير من المال إغراءً كافيًا للمشاركة في تجربتهم، لكن ليس فقيرًا لدرجة عدم حصوله على تعليم؛ إذ كان الاحتمال أضعف في حالة الشخص غير المتعلم أن يعطيهم بيانًا دقيقًا بما يشعر به مع نقل الدم إليه، ومن ثم فلن يمكن تدوين سجل دقيق لأي من آثار العملية. كانوا بحاجة لشخص غير معتلٍّ بدنيًّا، حيث إن تلك العلة في حد ذاتها قد تُفسد التجربة، إلا أنه لن يكون ممكنًا رؤية أي آثار إيجابية في شخص سليم تمامًا.

وفي النهاية وجدوا شابًّا يعاني درجة طفيفة من الجنون. كان حاصلًا على بكالوريوس اللاهوت من جامعة كامبريدج. اعتُبِرت حرارة مخه «مرتفعة قليلًا»، كان يُدعى آرثر كوجا وتحدد أجره ﺑ ٢٠ شلنًا. مرة أخرى كان الحضور يثرثرون كعادتهم وكان قلم بيبيس يسجل:

٢١ نوفمبر ١٦٦٧

خرجت وركبت العربة إلى أرونديل هاوس حيث انفض اجتماع كلية جريشام (الجمعية الملكية)؛ لكنني بعد أن قابلت السيد كريد هناك ذهبت معه إلى الخان الواقع في ساحة كنيسة سانت كليمنتس.

كانوا يتحدثون مثل غيرهم عن رجل مضطربٍ قليلًا أشبه بقس، ويقول الدكتور ويلكنز إنه قرأ له في كنيسته، وأن هذا الرجل الفقير الفاسد الذي استعانت به كلية جريشام لقاء ٢٠ شلنًا سيُنقل إليه بعض الدم من خروف؛ ومن المقرر أن يتم ذلك السبت القادم. وقد اقترحوا أن ينقلوا إليه ١٢ أوقية؛ وهو ما قدروا أنه سيدخل إليه خلال فترة تُحسب بالساعة. وهم يختلفون في رأيهم عن آثار العملية؛ إذ يرى البعض أنه سيكون لها أثر جيد عليه بصفته مضطربًا بتبريدها لدمه، بينما يرى البعض الآخر أنها لن تؤثر إطلاقًا. لكن الرجل يتمتع بالصحة، وبهذا سيكون قادرًا على التحدث عن أي تغيير يجده في نفسه إن وُجِد، وهو ما قد يكون مفيدًا …

وبدون توقف، انتقل بيبيس إلى ظروف أخرى كانت موضعًا للنقاش بينما جلسوا في الخان. وتكشف المفارقة عن مسار تفكيرهم؛ فقد كانت الأسئلة التي خطرت بأذهانهم أقل ارتباطًا بأي بيانات علمية عن الدم، بل انصب اهتمامهم على أمور أكثر روحانية وغموضًا. فقد كان الاعتقاد العام أن أي سائل ينشأ عن الإنسان يجب أن يصطبغ بروحه. وإن دخل إلى إنسان آخر، فهم يتوقعون ظهور أثر ما على روح المتلقي:

وبهذه المناسبة روى الدكتور ويسلر قصة جميلة حكتها مافِت — وهي مؤلفة جيدة — عن الدكتور كايوس الذي أنشأ كلية كِي. تقول القصة أنه حين تقدم به العمر، كان يعيش في تلك الفترة على لبن النساء وحده، وكان يتناول لبن سيدة حانقة عبوس، فكان هذا حاله أيضًا؛ وبعدها نُصح بتناول لبن امرأة حليمة جيدة الطباع، فصار كذلك هو الآخر، وهو ما يختلف عن الطباع المعتادة لسنِّه. وهكذا لاحظوا أن وفرة التغذية قد تؤدي الغرض.

وفي ٢٣ نوفمبر ١٦٦٧، وقف لوور وكينج أمام الأعضاء الذين وقع عليهم الاختيار من الجمعية الملكية في أرونديل هاوس. وكان هدفهم هو مواكبة دوني ونقل الدم إلى البشر. ووصف أولدنبرج التجربة ونشر التفاصيل في عدد دورية «مداولات فلسفية» الصادر في ٦ ديسمبر ١٦٦٧:

عن تجربة نقل الدم، التي أُجرِيَت على رجل في لندن

أجريت هذه التجربة في ٢٣ نوفمبر ١٦٦٧، على السيد آرثر كوجا في أرونديل هاوس بحضور عديدٍ من الوجهاء والنبهاء وتحت إشراف الطبيبين العالميين واختصاصي التشريح البارعين الدكتور ريتشارد لوور ودكتور إدموند كينج، وقد ألقى الثاني البيان التالي للتجربة:

لقد أجرينا تجربة نقل الدم إلى وريد إنسان بهذه الطريقة. فبعد تجهيز الشريان السباتي في خروف صغير، أدخلنا أنبوبًا فضِّيًّا في الإبر لنسمح للدم بالجريان من خلالها إلى صحن. وخلال دقيقة تقريبًا، انساب نحو ١٢ أوقية من دم الخروف عبر الأنبوب إلى الصحن؛ وهو ما أرشدنا إلى كمية الدم التي سيجري نقلها إلى الرجل. بعد ذلك، عندما أخذنا نجهز الوريد في ذراع الرجل، كان الوريد أصغر من الأنبوب الذي كنا ننوي إدخاله فيه؛ لذلك استخدمنا أنبوبًا آخر أصغر بنحو الثلث عند الطرف. بعدها شققنا الوريد اتباعًا للطريقة المنشورة سلفًا في العدد ٢٨؛ وهي الطريقة التي اتبعناها دون أي تغيير إلا في شكل أحد الأنابيب الذي رأينا أنه أنسب لأداء الغرض الذي نريده. وبعد فتح الوريد في ذراع الرجل بالقدر نفسه من السهولة المعهودة في طريقة الفصد التقليدية، أخرجنا نحو ٦ أو ٧ أوقيات من الدم. ثم زرعنا أنبوبنا الفضي في الشق المذكور، وأدخلنا الإبر بين الأنبوبين اللذين أُدخلا بالفعل إلى الرجل والخروف لنقل الدم الشرياني من الخروف إلى وريد الرجل. لكن هذا الدم استغرق نحو دقيقة خلال مروره في الأنبوبين والإبر إلى الذراع، ثم تدفق بحرِّية إلى وريد الرجل في خلال دقيقتين على الأقل؛ لذا شعرنا بنبض في الوريد المذكور في الجزء المجاور لطرف الأنبوب الفضي؛ رغم أن المريض قال إنه لم يشعر بالدم، لكن (كما ذُكر عن المريض في التجربة الفرنسية) هذا يُعزى إلى طول الأنابيب التي يعبر الدم من خلالها، حيث يفقد كثيرًا من حرارته ليصبح متلائمًا مع الدم الوريدي. أما كمية الدم التي دخلت وريد الرجل فقد قدرنا أنها من ٩ أو ١٠ أوقيات تقريبًا، لأن هذا الأنبوب أقل من نظيره الذي مرت عبره ١٢ أوقية في دقيقة واحدة من قبل، فقد افترضنا أنه سيستغرق دقيقتين لنقل نفس كمية الدم إلى الوريد، كما نقل الأول الكمية إلى الصحن في دقيقة واحدة؛ بافتراض أن الدم مع كل ذلك لم يتدفق بقوة في الدقيقة الثانية كما كان في الأولى ولا في الثالثة كما كان في الثانية إلخ. لكن الدم تدفق طوال الدقيقتين، ونستنتج ذلك بسبب شعورنا بنبض خلال هذا الوقت. وكذلك لأنه بعد تعبير الرجل عن اكتفائه سحبنا الأنبوب من وريده وفاض دم الخروف خلالها سائلًا؛ وهو ما لم يكن ليحدث إن كان هناك ما يوقفه من قبل خلال هاتين الدقيقتين؛ نظرًا إلى أن الدم يميل بشدة إلى التجلط في الأنابيب مع أي توقف، ولا سيما في حالة الأنابيب الطويلة بطول ثلاث إبر.

شعر الرجل بعد هذه العملية — وكذلك في أثنائها — أنه على ما يرام، وروى ما يحدث له حرفيًّا، مسهبًا في الحديث عن الفائدة التي عادت عليه — كما يظن — منها بدرجة تتعدى ما نراه مناسبًا في الوقت الحالي. وطلب منا أن نُكرر إجراء هذه التجربة عليه في خلال ٣ أو ٤ أيام. لكننا رأينا أنه من الأفضل أن نؤجلها لمدة أطول. وفي المرة المقبلة، نأمل أن نكون أكثر دقة، خاصة في قياس وزن الحيوان المانح، قبل العملية وبعدها، لتتوفر لنا معرفة أفضل بكمية الدم التي فقدها.

تبدو التجربة في رأي أولدنبرج ناجحة وإن كانت مملة إلى حدٍّ ما؛ فقد نجا الرجل لكنه لم يتغير، وليس من المؤكد ما إذا كان كوجا قد تلقى كميةً كبيرةً من الدم؛ نظرًا لاهتمامهم بطول الأنبوب الموصل بينه وبين الخروف، والعلامات الأولية على تثاقل حركة الدم عبره حتى قبل إدخاله إلى ذراع كوجا. علاوة على ذلك، لم يذكر كوجا أي شيء عن إحساسه بأي حرارة؛ وهي ملاحظة تكررت في التجارب الفرنسية وعَرَضٌ يظهر على الأغلب نتيجة استثارة الدم الغريب لرد فعل شديد في دم المتلقي مع دخوله إلى الأوعية.

من الصعب تحديد الأثر الحقيقي لعمليات نقل الدم إلى كوجا. ومن المؤكد أن بيبيس كان إيجابيًّا بدرجة كبيرة، رغم أنه لم يذكر أن كوجا ربما كان يعاني من اختلال عقلي بسيط، وبذلك يصعب التأكد من أي نتيجة:

سررت لرؤية الرجل الذي أُخذ منه دمه؛ إنه يتحدث جيدًا، وقدَّم للجمعية تعليقًا على التجربة باللاتينية، قائلًا إنه يشعر بتحسن من بعدها، وإنه صار رجلًا جديدًا، إلا أنه يشعر بصداع خفيف في رأسه رغم أن كلامه منطقي وجيد جدًّا. لم يتقاضَ سوى ٢٠ شلنًا لقاء الخضوع لتلك التجربة، ومن المقرر أن يخضع لذات التجربة مرة أخرى؛ هو أول رجل سليم يخضع لها في إنجلترا، لكننا نسمع عن آخر في فرنسا.

لذ اتفق مجموعة العلماء، بعد انبهارهم بأدائهم الأول، على تكرار التجربة. مع اطمئنانهم إلى أن محاولتهم الأولى بيَّنَت أنهم لم يكونوا على شفا كارثة. ففتحوا الأبواب أمام مجموعة أكبر من المشاهدين، وبعد أقل من شهر، في الرابع عشر من ديسمبر ١٦٦٧، أجرى لوور وكينج ثاني تجربة لنقل الدم أمام الجمعية بالكامل، ومعها — كما أخبر أولدنبرج بويل — «حشد غريب من المحليين والأجانب».
لكن هذه المرة، لم ترد عملية نقل الدم في «مداولات فلسفية». والسبب؟ من الممكن جدًّا أن يكون ذلك بسبب أنها كانت عادية جدًّا. في الواقع، كتب السير فيليب سكيبون إلى جون راي — عالم البيئة الرائد وعالم اللاهوت وقتئذٍ — قائلًا: «لم تُرَ آثار نقل الدم؛ فقد تكفلت المقاهي بإفساد أخلاق الرجل، ومن ثم بإحراج الجمعية الملكية وجعل التجربة سخيفة.»1 من الواضح، أن الحضور المُهَمْهِم قد أُصِيب بخيبة أمل لأنهم لم يروا علاجًا ولا شخصًا معتوهًا، وطردوا الرجل المصاب ببعض الخرف.
وأتت الكلمة الأخيرة تقريبًا عن هذا العلاج الخاضع للتجربة في خطاب للجمعية الملكية من أجنوس كوجا، وهي إما والدة المريض أو زوجته، ولم تكن متفائلة بالمسألة بجملتها. وباستنباط مضمون الرسالة، يبدو أن آرثر قد أصبح في فقر مدقع، ومُحتَقَرًا إلى حد ما، وعاجزًا عن الحصول على عمل. يمكن أن يُنظر لهذا باعتباره «خطاب استعطاف» تقليديًّا يتوسل للحصول على المال، لكن بالنظر إلى الحالة المالية المزرية للجمعية الملكية، لم يكن هناك ما يؤدي لاعتقاد قدرة الجمعية على إرسال المال:

إلى علماء الجمعية الملكية وكل أعضائها الموقرين، إليكم خطاب أجنوس كوجا المتواضع

إن كائنكم (إذ إنه كان إنسانًا قبل أن تحوِّله تجربتكم إلى نوع آخر) من بين التغييرات التي وجدها وقد طرأت على حالته، والتي تتبدى واضحةً عليه، يجد جيوبه بالية كما بَليَ جسده، واستجماع قواه يعني إجباره على فقدان أعصابه — والأمر نفسه ينطبق على المال — سواءً كان هادئًا أو مضطربًا. إنه لمن البؤس أن تجرده الحاجة إلى حرارة طبيعية من حرارته الظاهرية كذلك: لكن تلك هي حالته؛ فلمداواة جروحه (جروحكم؛ لأنكم من أوجدها) يرهن ملابسه؛ لقد اشترى بثمن باهظ دم خروفكم؛ إذ خسر سلامة وعائه الدموي الذي دمره دم الخروف؛ لقد باع لكم نفسه ليشتري منكم الصوف الذهبي — مثلما فعل أرجوس. لقد كان يرى أنه من الضروري لمعاليكم — من أجل التحول الكامل — أن تغيروه من الخارج كما غيرتموه من الداخل. وإن أجبرتموه على ذلك، فلا يزال في أوعيته بعض من دماء تحت إمرتكم، بشرط أن يكون دمه كي تكون التضحية أنبل.

خادمتكم المتواضعة
أجنوس كوجا.2
وكما هو الحال في أغلب الأحيان، كانت الكلمة الأخيرة للطبيب، وتعطي كلمات لوور في كتابه «علاج القلب» انطباعًا عن خيبة أمله في كوجا. فمن وجهة نظر لوور تلقى كوجا تعويضًا سخيًّا لخدماته، خاصة بالنظر إلى أنه تلقى المال لقاء تلقي علاج رائد. من الواضح أن لوور أراد تكرار نقل الدم عدة مرات أملًا في علاج الجنون الطفيف لدى كوجا تدريجيًّا، لكن كوجا على الجانب الآخر «راجع غريزته بدلًا من مصلحته الصحية، وخيب توقعاتنا بالكامل». وبهذا نزل كوجا عن مسرح التاريخ، ولم يُسجَّل أي شيء آخر عن حياته.

عند هذه المرحلة توقفت أبحاث نقل الدم في إنجلترا هي الأخرى. في الواقع، لم يكن هناك أي مجهود حقيقي في هذا الصدد إلا حين بدأ الطبيب الإنجليزي جيمس بلانديل تجاربه لنقل الدم بين الكلاب فيما بين عامي ١٨١٧ و١٨١٨ قبل أن يبدأ نقل الدم إلى ١٠ مرضى كانوا قد عانوا من نزوف حادة. إلا أن الفجوة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر كانت ناتجةً بصفة رئيسية عن الاضطراب الذي كان على وشك الانفجار في باريس.

الادعاءات الأوروبية

أوحت الطريقة التي كتب بها دوني عن عمله بأنه ما من أحد غيره قد سبق وفكَّر في نقل الدم قط، لكن من الصعب الاعتقاد بأنه تصور ذلك فعلًا. فقد كان هو وإميري متحمسَين جدًّا لتحدي المعتقدات القديمة عن الكيفية التي يعمل بها الجسم، لكن لا بد أن دراستهم للطب قد جعلتهم يصادفون حتمًا بعض الكتب التي عرفوا منها أن هناك آخرين في أوروبا قد دونوا أفكارًا مشابهة كتابةً. علاوة على ذلك، وخلافًا للادعاءات في إنجلترا، يبدو من المدهش أن بويل كثير الأسفار بجانب أصدقائه رين ولوور قد عجزوا عن استيعاب أهمية بعض النصوص التي يعود تاريخها إلى بداية ذلك القرن. لكن يتضح من ذلك أنه لم يكن هناك أي وسيلة رسمية لنشر المعرفة في أنحاء أوروبا في ذلك الوقت، ووجد كثيرون أنفسهم يعملون في عزلة. وحدُها مزية كوننا ننظر إلى الأمر برمته بعد قرون من حدوثه، تسهل لنا تكوين صورة أفضل عمن فعل ماذا أولًا.

بدايةً، كانت هناك محاولة غريبة لنقل الدم في روما؛ مرض البابا إنوسنت الثامن؛ إذ كان يعاني سكتة دماغية، ورغم أنه كان قد تحسن قليلًا، لكنه لم يستعد كامل عافيته مرة أخرى، بل إن صحته سرعان ما أخذت تتدهور؛ حتى ظن أحد مساعديه في يوم من عام ١٤٩٠، أنه قد مات. لكنه قاوم، وفي العامين التاليين تولى طبيب يهودي (ذكرت بعض الروايات أن اسمه أبراهام ماير من بالمز) الإشراف على حالته، واقترح علاجًا. كان اقتراح الطبيب أن ينقل كل الدم القديم في جسم الكهل إلى شاب، وفي المقابل يُنقل دم الشاب إلى البابا البالغ من العمر ٥٨ عامًا؛ من المفترض أن يعيد هذا التبديل للبابا عافيته بتجديد دمائه تمامًا بجرعة من دم يافع.

يُحتمل أن يكون هذا الطبيب قد بنى فكرته على عمل نُشر عام ١٤٨٩ للفيلسوف الإيطالي ورئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا مارسيليو فيسينو. كان فيسينو أحد أبرز الأسماء التي قادت النهضة، كذلك أشار إلى أن شرب دم الشباب اليافعين الأصحاء قد يكون طريقة جيدة للتخلص من الوهن والأمراض المرتبطة بالتقدم في السن.

أما ما حدث بعد ذلك بالضبط، فقد ضاع عبر السنين، لكن هناك أدلة قوية تشير إلى استدعاء ثلاثة صبية في العاشرة من عمرهم، وإعطاء كلٍّ منهم دوكات (العملة في ذلك الوقت) وأخذ كمية كبيرة من دمائهم، إلا أن أيًّا من الروايات المعاصرة لا تبين إذا كانت قد أُجريت أية محاولة لنقل هذا الدم إلى البابا، سواءً بخلطه بوصفة علاجية، أو بإدخاله في أوردته، لكن النتيجة كانت واضحة. فقد مات الصبية الثلاثة وكذلك البابا، وهرب الطبيب اليهودي لينجو بحياته. لم تمر الحادثة بسلام في الجوار، حيث أثير الشغب والاضطرابات بعد أن أخذت الشائعات عن وفاة الصبية الثلاثة في الانتشار. ربما لم تحقق هذه المحاولة النجاح، لكنها لم تقضِ على كل التفكير في هذا الشأن.

لكن قبل أن نفزع، علينا أن نذكِّر أنفسنا بالتصور المعاصر عن الدم. فإن الدم الوريدي لم يكن إلا سائلًا مغذِّيًا يفرزه الكبد، فمن المنطقي الاعتقاد بإمكانية إخراجه من شاب أو صبي وبأنه سرعان ما سيفرز كمية أخرى. سيكون الصبي سليمًا معافى؛ إذ سيتناول وجبة دسمة، وربما يأخذ فترة راحة قصيرة لكيلا يُجهِد نفسه بينما يُهضم الطعام الذي سيُنقل إلى الكبد، ومنه إلى القلب حيث يمكن تحويله إلى دم. وكان إخراج الدم الشرياني للشخص خطوة أكثر جرأة؛ إذ إن هذا سيستنفد جوهره الحيوي بشده ويمكن لهذا أن يهدد حياته. كان كل ذلك يجري بالطبع قبل قرن من أن يُثبت أي شخص أن الدم الوريدي والشرياني هما شيءٌ واحد، وقبل نحو قرنين من معرفة أن الدم لا يقتصر على توزيع العناصر الغذائية على الجسم بل والأكسجين كذلك. في الواقع، لم يكن أحد يعلم في ذلك الوقت بوجود الأكسجين أساسًا.

وكأن حادثة البابا لم تكن مريعة بالقدر الكافي، فالتاريخ يسجِّل الأسوأ؛ إذ شهدت المجر عام ١٥٦٠ مولد فتاة تزوجت في ٨ مايو ١٥٧٥ من الكونت فيرينسز ناداسدي وأصبحت تُعرَف بإليزابيث كونتيسة باثوري. تقول الأسطورة إنه ذات يوم جذبت خادمةٌ شعر الكونتيسة بغير قصد؛ فكان رد إليزابيث أن صفعتها بقوة لدرجة أنها نزفت. وبعد انتهاء الحادثة، صارت الكونتيسة مقتنعة بأن الجزء الذي غطاه الدم من بشرة الخادمة قد لان؛ فقد كان أكثر نعومة ورقةً. بالنسبة إليها، كانت الخصائص السحرية لهذا السائل قوية جدًّا.

لسوء الحظ، أدى هذا الاستنتاج إلى سلسلة من الأحداث البشعة؛ فقد استدرجت إليزابيث الفتيات القرويات الصغيرات إلى قلعة تشاختيتسة بحافز الحصول على وظيفة وكسب المال. وكانت ثلاث من المتواطئات مع الكونتيسة وهنَّ دوروتيا سينتيز ودارفولا وممرضتها ليلونا جو يستخرجن دم هؤلاء الفتيات ويستخدمن هذا السائل الدموي لتجهيز حمامات لسيدتهن. يبدو أن إحدى الضحايا المحتملات تمكنت من الهرب، وذهبت إلى ملك المجر ماتياس الثاني الذي أمر بالتحقيق. وفي ٣٠ ديسمبر ١٦١٠، اقتحم الجنود القلعة، وخلال المحاكمة التي تلت، اعترفت إليزابيث بقتل نحو ٦٥٠ فتاة من أجل «حمامات تجميلها».

كانت العقوبات مقززة بقدر الجرائم ذاتها وهو طابع ميز هذا العصر؛ فقد تعرضت المساعدات للتعذيب، وقُطِعَت رءوسهن، وحُرقت جثثهن. أما الكونتيسة نفسها، فاعتُبِرَت أرقى من تلك المعاملة، وحُبِست بدلًا من ذلك في غرفتها التي أُغلقت عليها بجدران حجرية ليس بها إلا فتحة صغيرة يمكن من خلالها إدخال الطعام، وماتت بعد ثلاثة أعوام.

جاء أول ذكر جدِّي لنقل الدم على لسان الكيميائي الألماني المَولد أندرياس ليبافيوس الذي نشر في عام ١٦١٥ وصفًا دقيقًا للطريقة التي رأى أنه ينبغي استخدامها. وذكر في كتابه «ملحق الطريقة الغامضة اللازمة للخيميائيين» باللاتينية وما يلي ترجمة تقريبية:
ائت بشاب سليم قوي غني بالدم الزاخر بالحياة، وكهل واهن لا قوة له يمكنه بالكاد أن يتنفس. فإن أراد الطبيب أن يعيد للثاني حيويته فعليه أن يصنع أنبوبين فضيين يمكن إدخال أحدهما في الآخر، ثم يفتح شريان الشاب السليم ويُدخل أحد الأنبوبين فيه ويثبته في الشريان. ثم يمكنك بعد ذلك فتح شريان الشخص المريض، وتثبيت الأنبوب الآخر ذي الطرف الغائر به. بعدها يمكن توصيل الأنبوبين أحدهما بالآخر. وسيرى عندها أن الدم الشرياني للشاب السليم وهو حار ومُفعم بالروح يندفع إلى الكهل المريض ويُمده فورًا بنبع الحياة ويُذهب عنه الوهن.3

وبالدراسة الواعية لما ورد، نجد أن هناك علامات واضحة تذكر بأن ليبافيوس كتب ذلك قبل انتشار أي معرفة بأفكار هارفي عن الدورة الدموية. فهو، على كل حال، قد كتب ما سبق قبل أكثر من عقد على نشر هارفي لفكرته عن دوران الدم في أرجاء الجسم في كتابه «حركة القلب». مع ذلك كان هذا هو الوقت الذي كان هارفي سيبدأ فيه مناقشة أفكاره مع كثيرين وتنتشر أفكاره في الأوساط الأوروبية.

كانت فكرة ليبافيوس هي توصيل شريانين معًا. لكن لماذا شريانين؟ كان ليبافيوس يعمل على وضع نظرية ترى أن هناك نوعين من الدم: الوريدي والشرياني. من الواضح أنه لم يهتم بالتعويض الغذائي للكهل، بل أراد أن ينقل خلاصة الحياة للشاب إلى هذا المريض الذي شاخ. وكانت النظرية القديمة تقول إن الروح كامنة في الدم الشرياني. (من الممكن أن ليبافيوس كان سيوصي بتوصيل وريدَيِ الرجلين إن أراد أن ينقل المواد الغذائية.) ولا يوجد دليل على أن ليبافيوس قد جرب هذه الخطوة قط، ولا سبب يدعو إلى افتراض نجاحها إن كان قد فعل؛ إذ إن الضغط في شرايين كلا المريضين سيتعادل، ليمنع الدم من التدفق عبر الأنبوب. ولم يكن ليبافيوس ليعلم بهذه المشكلة المحتملة، بل كان سيتوقع أن يسحب جسم الكهل الفقير الدم من الشاب المتمتع بالصحة الوافرة.

رغم اهتمام بويل بالكيمياء، ورغم الاتصالات المتقدمة نسبيًّا في أوروبا، لم يعترف أي شخص في إنجلترا بمعرفته بأفكار ليبافيوس إلى أن كتب مراسل إيطالي — باولي مانفريدي — إلى أولدنبرج وأشار إلى الكتاب في عام ١٦٦٨. لكن من الممكن أن يكون السبب هو أنهم استبعدوا أي شيء فيما قبل هارفي باعتباره غير ذي صلة على أساس أن أي أفكار غير مبنية على فكرة الدورة الدموية كانت معيبة من الأساس.

كتب الأستاذ يوهانس كول في أثناء عمله في بادوفا بإيطاليا كتابًا يطرح وسائل جديدةً لإطالة العمر. وذكر كتاب كول الذي بعنوان «الطريقة السهلة في إعداد علاجٍ جديد آمن» والذي نُشر بعد عمل مانفريدي ببضع سنوات فكرة نقل الدم بالفعل، وإن لم يرد فيه أنه جرب تلك الطريقة فعلًا.

كما زعم كلٌّ من العلماء الفرنسيين والإنجليز عدم علمهم إطلاقًا بمزاعم الطبيب الإيطالي فرانشيسكو فولي هو الآخر؛ إذ أكد فولي أنه في ١٣ أغسطس ١٦٥٤، وبحضور الدوق العظيم فرديناند الثاني، استخدم جهازًا مصنوعًا من أنبوب فضي وجزء من شريان وأنبوب مصنوع من قطعة عظم لنقل الدم بين الحيوانات.

وفي عام ١٦٨٠، نشر فولي كُتيِّبًا زعم فيه أنه مبتكر نقل الدم:
لقد أشرت إلى هذا في كُتيبي عن ثقافة الحياة الذي لم أنشره إلا لأُعرِّف الجميع أنني مبتكر نقل الدم بنهاية عام ١٦٥٤، وشرحته لمعالي فرديناند الثاني دوق توسكانا العظيم صاحب الذاكرة التي لا تشيخ. وقد سرَّته حداثة الفكرة أو عبقريتها الباهرة أو شرحها التجريبي اللافت.4
على عكس ليبافيوس، تمتع فولي بميزة الاطلاع على عمل هارفي، وبنى ادعاءه لاستحقاق الشهرة على أنه لما قرأ «حركة القلب» عام ١٦٥٢، خطر بباله على الفور المزايا المحتملة لنقل الدم. وزادت قوة الفكرة بملاحظته لتوءمين ملتصقين يشتركان في الكبد ومتصلين عند الأمعاء. وكما هو الحال في أغلب الأحيان، كان أحد التوءمين مشوهًا بشدة وغير قادر على تناول الطعام أو الشراب، ومن ثم كان معتمدًا على توءمه لإمداده بالغذاء والسوائل. لقد كان هذا في ذهن فولي المحب للاستطلاع مثالًا «طبيعيًّا» على نقل الدم.
ودفعه حماسه إلى القول إن الأطباء عليهم أن يُعدُّوا قوائم تضم ٢٠ شابًّا يمكنهم أن يكونوا سلسلة من المتبرعين، حيث يُعطون جرعة يومية من الدم لمستقبِل. ويعرض كتابه صورًا للأدوات المصنعة من الأنابيب الفضية والذهبية وأقماعًا مصنوعة من معادن أقل تكلفةً تتصل بشرايين مأخوذة من عنزة. لكن السؤال هو: لماذا لم يعرف أحد بهذه التجربة إذا كانت مثيرة وناجحة إلى هذا الحد؟ والأرجح على ما يبدو أن فولي ناقش إمكانية إجراء مثل هذه العملية مع ضيفه الكريم لكنه لم يُنفذها قط؛ إذ لم يرد الحدث في أي سجل للبلاط. يقدم فولي تفسيرًا بديلًا:

لم أعرض فكرتي على أحد آخر؛ إذ رأيت أنه إن كان هذا الابتكار ناجحًا فالملوك وحدهم هم من يستحقونه.

وحتى في توضيحه هذا لرغبته في السرية، يوجد أكثر من تلميح بأنه لم يتمكن من إتمام العملية بصورة كاملة، حيث تطلَّع إلى وقت يكون فيه «هذا الابتكار ناجحًا». لكنه في نهاية الكتاب يعترف بكل شيء.

في النهاية، أعرف أنني ذكرت كثيرًا من التفاصيل عن طريقة إجراء العملية وليس عن إجراء التجربة … لكنني أجريتها وحدي حتى يمكن لأي شخص — مهما كان بسيطًا أو جاهلًا — أن يفهم وأن يتحمس وأن يُجري التجربة بأقل كُلفة ممكنة، ولهذا السبب وحده كتبت باللغة العامية.

بجانب هذه الكتب التي حاولت ادعاء السبق، شهد القرن ظهور بضعة كتب طبية تناولت نقل الدم كما لو كان جزءًا طبيعيًّا من الطب المتقدم. فقد سجل يوهان سيجيسموند إلشولتس الطبيب الألماني الخاص ببارون براندنبرج تجاربه في كُتيبه «الطريقة الحديثة لحقن الأدوية في الدم». وأورد فيه رسومًا تشريحية لتكميل الوصف الوارد في النص، لكي يتمكن القراء من نقل الدم من قدم خروف إلى ذراع إنسان، أو نقل الدم بين ذراعي شخصين بدلًا من ذلك.
fig16
شكل ٨-١: يبدو أن دوني كان يشارك فولي تصوره عن التوائم الملتصقة كما يبدو من هذا الرسم المُبيَّن في التقارير المنشورة عام ١٦٧٢ عن اجتماعاته في باريس. نُسخت بتصريح من مكتبة كليندينينج لتاريخ الطب، المركز الطبي لجامعة كانساس.

وطبقًا لإلشولتس، كان الأمل الأكبر معقودًا على قدرة نقل الدم على علاج الأمراض الناتجة عن اختلال الأخلاط. فإن كان الشخص مصابًا بمرض لا أمل من شفائه، ينبغي للطبيب أن يعطيه دمًا من شخص ذي مزاج مرِح. بالمثل، من المفترض أنَّ تلقي دم بلغمي (بارد الطبع) يعالج شخصًا صفراوي المزاج (سريع الغضب). كما يقول إلشولتس إن نقل الدم ينبغي له أن يحل الخلافات الزوجية. فمشكلة الزيجات التي تفشل — على حد قوله — هي أن الزوجين مختلفا الطبع. وبما أن طبيعة الإنسان موجودة في دمه، فإن الحل واضح؛ ألا وهو خلط دم الزوجين. أراد إلشولتس أن يُجري تجارب نقل دم تبادلي بين الأزواج والزوجات، لكن لا دليل على أن الفرصة أتيحت له ليجرب هذه الطريقة الثورية في تقديم النصائح الزوجية.

نُشر كتاب إلشولتس عام ١٦٦٧ — وهو العام الذي تمت فيه تجربة دوني — وكان أكثر اهتمامًا بحقن السوائل العلاجية من اهتمامه بنقل الدم؛ ويحق أن يقال إنه أول كتاب يحتوي على رسومات توضيحية للحقن باستخدام إبرة طبية. وكانت تعليقاته على نقل الدم مبنية بدرجة أكبر على الأمل والحس التَّنَبُئِي من الواقع العملي، رغم أنه زعم أنه أجرى نقل الدم مرة واحدة على الأقل.

ثمة طبيب ألمانيٌّ آخر اتبع المنهج الفكري نفسه؛ ففي عام ١٦٧٩، نشر جيورج أبراهام ميركلينو كتابه «العلاج الطبي وغرائب بزوغ وأفول نقل الدم» الذي تضمن رسومًا توضيحية تبين مدى بساطة نقل الدم من كلب إلى إنسان أو فيما بين البشر.5
fig17
شكل ٨-٢: أول رسم توضيحي للحقن بالإبر. نُسخت بتصريح من المكتبة الوطنية الأمريكية للطب.

ونشر سكلتيتوس كتابه «العلاج الجراحي» بعد ٢٦ عامًا. وعرض هو الآخر كيفية نقل الدم، لكن هذه المرة بربط الحيوان المتبرع بحبل مشدود يمتد من الأرض إلى السقف. ويذكر الكتاب بالكاد الفوضى التي تنجم عن مثل هذه العملية. وكذلك كتاب جوتفريد بورمان المنشور عام ١٧٠٥ «إكليل الغار أو طب الجروح».

وتضمن الكتاب — الذي نُشر في فرانكفورت — رسمًا لحمَل يجلس في هدوء على منضدة بينما يتبرع بدمه الحي في كرم لمتلقٍّ يجلس مستسلمًا هو الآخر؛ وهو شخص يجلس بارتياح على كرسي. ويزعم بورمان أن أفكاره قد خطرت له بعد أن شهد نقل الدم من حمل إلى شاب في فرانكفورت عام ١٦٦٨، لكنه لم يذكر من أجرى العملية ولا نتائجها.

ويزعم بورمان أنه في أثناء عمله مع بالتاسار كاوفمان قد عالج السيد فيلسلاين من الجذام بنقل الدم إليه من حمَل سليم، لكنه فشل في علاج «جنديين مصابين بالإسقربوط» وصياد يعاني من «طفح جلدي متفشٍّ». لكن، بصفة عامة، استنتج بورمان أن نقل الدم لا يؤثر كثيرًا في المتلقي عادةً؛ ربما لأن جهاز نقل الدم لم يكن فعالًا بدرجة حالت دون حصول الشخص على كمية كبيرة من الدم.

كان انعدام الفائدة الملموسة يعني أنه مع أوائل القرن الثامن عشر لن يكون هناك في أوروبا من يواصل إجراء تجارب نقل الدم. إلا أن هذا لم يمنع الناس من وصف كيفية إجرائه في كتاباتهم. ففي عام ١٧٦٣ — مثلًا — أورد الجرَّاح الألماني لورنس هايستر — الذي لم يكن قد وُلِد إبان تجارب نقل الدم في القرن السابع عشر — سلسلة من الرسومات في كتابه بعنوان «الجراحة».

وفي هولندا — عام ١٦٦٨ — أجرى الطبيبان رينييه دي جراف وفان هورن تجارب نقل الدم باستخدام حيوانات، لكنهما لم يتحمسا للتقنية، وسرعان ما تخليا عنها.

وعلى مسافة أبعد، حيث إسبانيا، وردت روايات تقول إن الدكتور فابريتيوس طبيب دانتزيك كان يدرس إمكانية حقن سوائل طبية في أوردة البشر. ففي رسالة ترجمها أولدنبرج إلى الإنجليزية ونُشرت في «مداولات فلسفية» في ٩ ديسمبر ١٦٦٧ وصف فابريتيوس ثلاث محاولات أُجريت على ثلاثة أشخاص مختلفين. كان الأول «جنديًّا شهوانيًّا» أصيب بعدوى خطيرة لمرض تناسلي وظهرت لديه «نتوءات خطيرة في عظام ذراعيه». وبحقن مُليِّن في أوردة ذراعيه، شكا الجندي من ألم شديد وتورمت أوردة ذراعيه إلى حد بالغ. وبعد أربع ساعات من التدليك بعناية، اختفى الورم من أوردته، وفي اليوم التالي تبرَّز خمس مرات بكمية جيدة — وهو ما يعد دائمًا علامة على الصحة الجيدة. علاوة على ذلك، اختفى المرض التناسلي والتكتلات التي كانت في ذراعه دون مزيد من العلاج.

أما عمليتا الحقن الأخريين فكانتا لامرأتين؛ كانت الأولى متزوجةً وبالغةً من العمر ٣٥ عامًا، والثانية خادمة شابة في العشرين من عمرها. وكانتا تعانيان من نوبات صرع طوال حياتيهما، وقد فقدتا الأمل في إيجاد علاج. حقنهما فابريتيوس بمُليِّن مذاب في «محلول روحي مضاد للصرع». تغوطت السيدة ذات الأعوام الخمسة والثلاثين برازًا ليِّنًا بعد الحقن مباشرة، ومنذ ذلك الحين قلَّت لديها حدة نوبات الصرع وتكرارها، لتختفي تمامًا في النهاية؛ لقد شُفيت المرأة. أما الفتاة فكان علاجها أقل نجاحًا. فقد تبرزت أربع مرات بعد العملية، وهو ما أتاح لفابريتيوس أن يستنتج ضمنًا أن العملية أصابت قدرًا من النجاح. إلا أنها خرجت بعدها وأصيبت ببرد وعجزت عن الالتزام بنظامها الغذائي. وأدت النتيجة الإجمالية لهذه الأحداث إلى موتها.

وفي ختام تقريره يقول فابريتيوس: «من اللافت أن القيء مباشرةً بعد العملية وبشدة وبصفة متكررة كان عاملًا مشتركًا في الحالات الثلاث؛ ويُترك للأطباء العباقرة تحديد السبب وراء ذلك.» لقد أصبحنا نعلم الآن أن حقن كثيرٍ من السموم في مجرى الدم يُمرِض الإنسان بشدة.

بالعودة إلى إيطاليا، حيث أجرى سنيور فراكاساتي أستاذ التشريح في بيزا سلسلة من التجارب عام ١٦٦٧، بحقن السوائل في الأوردة. في البداية، حقن ماء النار (حامض النيتريك) في كلب، فنفق، وكشف تشريح الجثة عن أن عديدًا من الأوعية في الرئتين قد تلفت. ووجد فراكاساتي أن الدم كان متجلطًا، واستنتج أن أي شيء يذيب الجلطات قد يكون علاجًا لأمراض معينة.

وأدى حقن خلاصة الزاج (حامض الكبريتيك) في كلب آخر إلى نوبات صرع، وسبب له معاناة كبيرة قبل نفوق الكلب المسكين. وبفحص الكلب من الداخل، اكتشف فراكاساتي أن الدم كان «متصلبًا في الأوردة ومتخثرًا ويشبه السناج». أما زيت الكبريت (يشبه حامض الكبريتيك) فلم يكن له أثر مميز، وإنْ سبب زيت الطرطير (أحد مكونات مساحيق الخبز) الشعور بألم قبل أن يقتل الكلب.

وبيَّن مقال نُشر في «مجلة الأدباء» — وهي النظير الإيطالي لدورية أولدنبرج — أن ثمة تجارب نقل دم كانت تُجرى في جنوب القارة. ففي ٨ مايو ١٦٦٧، نقل سنيور كاسيني الدم من الشريان السباتي لحمَل إلى الوريد الوداجي لحمَل آخر. وكان قد أخرج من الحمَل المتلقي قبلئذٍ كمية كافية من الدم ليفسح مجالًا للدم الجديد. وبانتهاء العملية كان قد ربط الوريد الوداجي وقطَّب الجرح وترك الحمَل ينزل من فوق المنضدة. تعافى الحمل وراح ينمو طوال ثمانية أشهر إلى أن نفق فجأة في ٥ يناير ١٦٦٨. من الواضح أنه مر بعملية نقل الدم بسلام، وليس من المرجح على ما يبدو أن موته كان نتيجة مباشرة للتجربة.

وكما كان الحال في إنجلترا، أثارت أخبار عمليات نقل الدم الاهتمام، وسرعان ما استُدعي كاسيني لعلاج كلب سنيور جريفوني السبنيلي الأصم البالغ من العمر ١٣ عامًا. وكان هذا الكلب متوسط الحجم، ومصابًا بالصمم قبل ثلاثة أعوام، وكان شبه كسيح. وعندما رأى الكلب سيده بعد نقل الدم، قفز عن المنضدة، وجرى إلى خارج الحجرة بحثًا عن سيده. وبعد مرور يومين كان الكلب قادرًا على المشي وخلال شهر لم يعد أصمَّ. ولا يبدو أن هناك تفسيرًا منطقيًّا لهذا الشفاء المذهل.

في مجمل الأمر، يبدو أنه ليس هناك شك في أن دوني وإميري من أوائل الناس الذي أجروا نقل الدم إلى إنسان، وأن الإنجليز كانوا أول من أجرى العملية بين الحيوانات. وكذلك كان العلماء الألمان والإيطاليون أول من فكر جديًّا في الفكرة. ودائمًا ما يُقال إنه لا تتم تجربةٌ على نحو جيد من المرة الأولى!

المعارضة الفرنسية

كما يبدو أن هناك قاعدة تاريخية أساسية تقول إن الناس إما يقبلون التكنولوجيا الجديدة على مضض أو يعارضونها بقوة. ففي أغلب الأحيان، لا يمكن الحكم على السلامة والمصداقية في الادعاءات والادعاءات المضادة للفريق «المناصر للتغيير» أو فريق «بقاء الحال على ما هو عليه» إلا بالنظر إلى الوراء على الموقف بأكمله والمزية المعتادة للنظر إلى الأمور بعد حدوثها بسنوات.

في الوقت الذي كان فيه بعض الأطباء الذين يؤلفون الكتب يعبثون بفكرة نقل الدم، ارتعدت فرائص الغالبية العظمى للعاملين بالمجال الطبي بسبب الفكرة. لسوء حظ دوني، كانت إحدى أكثر المجموعات المعارضة له تأثيرًا هي كلية الطب في باريس. وجاء الهجوم في صورة خطابات وكُتيبات مطبوعة أخذت تظهر بحلول عيد الميلاد عام ١٦٦٧. ورد مؤيدو دوني، إلا أن أطباء باريس كانوا يتمتعون بنفوذ سياسي كبير؛ رغم أن حججهم كانت عن غير علم ومخطئة في التقدير إلى حد كبير، وكانت الحياة تزداد صعوبة على دوني. ففي وقت ما كان ممتنًّا لمونتمور وأصدقائه على رعايتهم له، والآن أصبح في حاجة إليهم ليحموه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤