الفصل الرابع والعشرون

بين الآباء والأبناء

١

قد يعتقد الكثيرون أنني عندما أكتب عن أبي أو أتحدث عنه، إنما أكتب ما أكتب وأقول ما أقول متأثرًا بما بين البنوة والأبوة من صلات، ولكنني في الواقع إذا كتبت اليوم عن أبي فإنما اكتب عن صدق، فأنا الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يتحدث عن الدكتور زكي مبارك كرجل من رجال التربية والتعليم.

نشأ أبي نشأة ريفية في وسط عائلة قوية الجانب، لا تعرف غير القوة والجبروت، فاكتسب صلابة الرأي، وقوة الإرادة، وبعد النظر، وسلامة الذوق … ثم تحول إلى المدنية الحديثة في إبان شبابه، فلم يتأثر إلا بأصولها الحقيقية، فجمع مع سلامة العقل، سلامة الجسم، وقوة الروح، وصفاء الضمير، فكان لذلك أثر كبير في تربيته وتعليمه، وقد راضنا أبي على القوة، فنشأنا بفضل الله أقوياء، وقد كتب عن ذلك يقول:١ «أترونني أبكي على أطفالي؟ هيهات! لقد ورثتهم خير ميراث حين ربيتهم على العنف والقسوة، وحين أفهمتهم أن العالم لا يسعد فيه غير الأقوياء، فإن تسلحوا بالقوة فقد انتفعوا بما ورثتهم، وإن استسلموا للضعف فعليهم ألف لعنة، وأنا منهم بريء.

وقد عودت أطفالي أكل اللحم في كل يوم لينشئوا على قسوة الحيوان المفترس، فإن لانت نفوسهم بعد ذلك فعلى أنفسهم جنوا، وللضعيف الضيم والهوان.

وقد نشأت في قوم أقوياء، وكان أبي أشجع رجل رأته عيني، وكان أجدادي وأعمامي من نماذج القوة والبطش، ولم يكن فيهم رجل مظلوم، وإنما كانوا دائمًا ظالمين، فإن شاء أبنائي أن يكونوا لأبيهم وأجدادهم وأعمامهم، فالدنيا أمامهم واسعة الأرجاء، وإن ضعفوا فليذهبوا غير مأسوف عليهم … وفيهم بحمد الله فتيان يقرءون هذا الكلام، فليعرفوا أن أباهم عاش عزيز الجانب لأنه كان قوي النفس، وليتذكروا أنا أباهم لن يموت يوم يموت إلا وهو أشجع الرجال».

وقد يدهش الكثيرون إذا عرفوا أن أبي مع قوته وجبروته رجل كله كتلة من الإخلاص والوفاء والكرم، فطالما ظللنا بسحائب العطف وسقانا أكواب الشهد وغمرنا بكرمه وحنانه، وأقسم صادقًا أن أبي لم يجرح إحساسي مرة واحدة في حياتي وإن كنت مخطئًا؛ بل كان يعاملنا معاملة تدل على حسن التصرف وبعد النظر، فهو يدفعنا إلى بحر الحياة لنجرب حلوها ومرها، ثم يراقب أعمالنا عن بعد، فإن أخطأ أحدنا أعاده إلى الصواب بكل شفقة ورأفة قائلًا: «أنا لا أرضى لكم بغير التفوق المطلق؛ لأن الرجل والمتسط لا يستطيع العيش في العصر الحديث»، وكان لهذه التربية أثرها في أنفسنا، فأنا لا أذكر يومًا عبث فيه أخي الصغير في حضرة أبي مع أن أبي يعامله معاملة كلها عطف وحب وإخلاص، ويخيل إليّ أن هذه الطريقة من طرق التربية تبعث في نفس الطفل أصدق آيات الإخلاص والولاء لأبيه، وأروع صور الوفاء لوالديه، وتعوده الاعتماد على النفس والشعور بالشخصية.

وقد راضنا أبي كذلك على العمل وهو رجل عمل بمعنى الكلمة فقد يقضي في أيام فراغه وفي إجازات الصيف ثلاثة أيام متواصلة لا يغادر خلالها مكتبه؛ بل يظل ساهرًا ليصل الليل بالنهار في العمل والتحصيل، ولعل القارئ يوافقني على ذلك إذا اطلع على كتاب النثر الفني، ورجل هذه أخلاقه يبعث في روح أولاده حب المثابرة والكفاح بكل تأكيد. وكان من جراء ذلك أن ورثت عنه هذه العادة، فلا أكون مبالغًا إذا قلت إنني كنت في التعليم الثانوي أقوم بجانب دراستي المدرسية بالكتابة في الصحف، ودراسة الهندسة اللاسلكية والكهربائية والميكانيكية بجانب الشعر والقصص والموسيقى.

وقد عودنا أبي الصبر ومواجهة الحقائق، فهو رجل قلما ييأس، وإنما يواجه الحقائق بالحقائق فلا أنسى مطلقًا مساء يوم وفاة جدي رحمه الله فقد عاد أبي من سنتريس في مساء ذلك اليوم يحمل إلينا الخبر المشئوم ويبدي أسفه بقوة جبارة تغلب بها على حزن نفسه، وكبت بها عواطفه.

وقد سافر أبي إلى العراق ولا أنسى ساعة وداعه، فقد وقفت أبكي كالطفل بينما راح هو يبتسم.

وبعد فهذه صورة سريعة صادقة عن أبي رجل التربية، فإليه وحده أبعث بأصدق تحية، وإليه أرفع آيات الحب والإخلاص.

ابنه الوفي
سليمان زكي مبارك

٢

صديقي

لقد شاء لك وفاؤك أن تمتعني بخطاب خاص تبدد به ما في صدري من ظلمات، وكأنك لم تكتف بالأفراح التي يذيعها الصباح يوم وصوله إلى بغداد.

وقلت في خطابك:

أهنئك بأن لك خليفة في الأدب والعلم والذوق والأسلوب الإدراك هو سليمان زكي مبارك.

فهل تدري أيها الصديق أن هذا الخطاب أزعجني؟

هل تعلم أنه ساءني أن أعرف أنك ستنشر له كلمة عني؟

أنا أشهد غير مخدوع ولا مفتون أن هذا الشاب عنده بوارق من الفكر والذكاء، ولكني أنظر إلى مصيره نظر الخوف والجزع، لأنه يسارع إلى الشهرة كما يصنع أكثر الشبان في هذا الجيل، والشهرة المبكرة تفتن الشباب أشنع الفتون، وتصرفهم عن التخلق بأخلاق الأبطال.

فإن كنت في ريب من ذلك فتذكر أن في مصر شبانًا تعجلوا الوصول إلى الشهرة فوصلوا إليها قبل الأوان، ولكنهم سيعيشون أطفالًا ويموتون أطفالًا، وسيكون مصيرهم مصير الصحفي الذي اشتغل بالتحرير في الجرائد المصرية أربعين سنة ثم مات قبل أن يشهد القراء بأنه صار من الكتاب.

وكان عندك في جريدة «الصباح» محرر أنقذته أنا من هذا المرض، فقد كان أخرج ديوانًا شعريًا منذ سنين، وطنطنت به الجرائد والمجلات، ولكني أبيت أن أشير إليه في مقالاتي بجريدة البلاغ، فلما عاتبني قلت له: لن أعرفك إلا يوم تظفر بالدبلوم من كلية التجارة، ومن حقي أن أعتز بأنني أنقذت هذا الشاب من جنون الشهرة، فكانت النتيجة أن يظفر بدرجة عالية من درجات الجامعة المصرية، ولعل من واجبي أن أتجاهل مكانته الأدبية إلى أن يصبح من رجال الاقتصاد.

لقد ذهب ابني سليمان منذ أعوام إلى جريدة البلاغ لينشر بعض اختباراته في اللاسلكي فرحبت به الجريدة، ولكني تدخلت لوقف مقالاته، فكيف جاز أن تشجعه في غيبتي؟ أنا يا صديقي أبغض هذا النوع من التشجيع.

إن هذا الشاب يريد أن يتشبه بأبيه، ولكن في أي باب؟ إنه يريد أن ينشر مقالات وأقاصيص في الصحف والمجلات كما يصنع أبوه، فهل يعرف هذا الشاب المفتون أن أباه أحرز خمس شهادات عالية أصغرها شهادة الليسانس في العلوم الفلسفية والأدبية؟

وهل نسى هذا الشاب المفتون أنه رسب في البكالوريا وهو يعيدها وقد يكون الجري وراء الشهرة الكاذبة سببًا في أن يرسب مرة ثانية؟

قد يراجعني هذا الشاب فيقول: وأنت أيضًا يا أبت رسبت في امتحانات الليسانس مرتين!!

وهذا حق، ولكن اللجنة التي أسقطتني مرتين في امتحانات الليسانس كانت مؤلفة من إسماعيل رأفت ومنصور فهمي وطه حسين.

فمتى يكون من حظك أيها الشاب المفتون أن تسقط في امتحانات الليسانس أمام لجنة مؤلفة من أمثال هؤلاء الرجال؟

ومتى يكون حظك أن تظفر بإجازة الليسانس كما ظفر أبوك وهي مذيلة بأسماء كهذه الأسماء؟

إن هذا الشاب عمل بالمثل الذي يقول: «غاب القط فالعب يا فار» فهو قد انتهز غيبتي بالعراق وأهمل دروسه ومضى يركض بين المطابع لينشر كتابًا في اللاسلكي، ولو كان من أصحاب القلوب لعرف أني أقوم مفزوعًا من نومي في كل ليلة، لأني لا آوى إلى فراشي إلا وأنا مشغول البال عليه، فمن أي الصخور صيغ قلب هذا الشاب المفتون؟

صديقي

ما كنت أحب أن ينشر مثل هذا في جريدتك لولا يقيني بأنه يحارب نزعة خبيثة يعانيها الشبان في هذه الأيام، وقد يكون في قرائك من يعاني من الألم بعض ما أعاني، فالذين في مثل حالي يتمنون أن يكون لهم أبناء نجباء، وأنا أخشى أن يخونني الحظ فيكون أبنائي غير نجباء.

كنت أتمنى أن يصنع أبنائي بعض ما صنعت مع أبي، فما أذكر أن أبى بات ليلة وهو مؤرق الجفن بسببي، وقد هتف باسمي مئات المرات وهو على فراش الموت.

أما بعد، فقد هذبت ألوفًا من التلاميذ، وأدخلت النور على ملايين العقول في المشرقين والمغربين، وأنا مع ذلك أتشهى أن يكون لي من صلبي ولد نجيب.

فإن صح رجائي في بعض أبنائي أو في جميع أبنائي فتلك نعمة من الله، وإن خاب رجائي في بعض أبنائي أو في جميع أبنائي فتلك أيضًا نعمة من الله.

ألم يجرب الله إيماني فابتلاني بأخطر الأرزاء والخطوب؟

لقد طوفت بالشرق والغرب في الدفاع عن لغة القرآن.

لقد ابتدعت مئات الأقاصيص لأحبب الناس في لغة القرآن.

لقد تفردت بالزهد في الوصولية لأقيم الشاهد على أن الواثق بربه لا يضيع.

لقد وفيت لكل من عرفت لأخلق لوطني أصدقاء، فقد كنت أسمع أن حب الوطن من الإيمان.

لقد أدخلت البهجة على جميع ما عرفت من القلوب، فكيف يصل الحزن إلى قلبي عن طريق بعض الإخوان أو بعض الأبناء؟

رباه!

أنت تعلم كيف خلقتني، وكيف سويتني، فاكتبني عندك من الشهداء.

١  في مقاله المشهور الذي عنوانه (عند ما يوافيني الموت).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤