الفصل السابع والعشرون

إلى ليلى المريضة في الزمالك

سيدتي

أشكر لك مرة ثانية ما تفضلت به من الكلمات الطيبات التي عطرت بها صفحات الصباح، وليتك تعرفين كيف تقع كلماتك على قلبي، إنها يا مولاتي تفعل به ما يفعل الندى بالزهر الظمآن، وهو قلب مفطور مجروح، عافاك الله مما يعاني!

ليتك تعرفين كيف أتنسم العافية كلما قرأت كلمة لسيدة لها قلب مثل قلبك، فما تمثلت القلم في أناملك اللطاف وأنت تصوبينه إلى صدري إلا طار صوابي وانتشيت.

وليتك تعرفين مرة ثالثة أنني لا أملك في مجازاتك على ما تبدين من رفق ولطف غير الاعتراف بأني المذنب، وأن إليك غفران الذنوب.

سيدتي

أتأذنين للعبد المذنب أن يحاسب سيدته الكريمة بعض الحساب؟ إن أذنت فأنا أسأل: كيف جاز لك أن تدافعي عن الأستاذ محمد؟ ألم تقرئي ما كتب في الصباح؟ ألم تنظري كيف أهان الحب فجعله ضربًا من اللهو والمجون؟

أنا يا سيدتي لا أجهل فضل هذا الصديق، ولن أنسى مروؤته ما حييت، ولكني أراه في حاجة إلى تقويم وتثقيف، وسأدخل في دمه شيئًا من الحديد، وسيذكرني بالخير يوم يعرف أني أنشأته خلقًا جديدًا.

ما هذا؟ أراني أخطو إلى مكاشفته بما في نفسي، لا، اسمحي لي أن أحبس قلمي، فعندي صواعق سأصبها فوق رأسه إن حدثته النفس بمصاولتي، وأرجوك أن تأذني بطرده نهائيًا من جنة الحب، فلا يعود إليها إلا إن تاب وأناب، ولست باليائس من أن يتوب وينيب، فعطفك عليه خليق بأن يغمر قلبه في كوثر الصفاء.

لا تؤاخذيني يا سيدتي، فقد امتلأ قلبي بالحقد على هذا الصديق، لا تؤاخذيني فقد كنت أظن أنني رفعت قدر الحب بعد أن شغلت قلبي وقلمي بالحديث عنه عشرين عامًا أو تزيد، ثم عرفت واأسفاه أن في مصر كاتبًا اسمه الأستاذ محمد يستبيح لنفسه أن يقول إنه زار معشوقة الدكتور زكي مبارك وإنها أطلعته على الخطابات المعطرة التي يرسلها من بغداد.

ألم تقرئي هذا الكلام يا سيدتي؟ ألم تعجبي من الجرأة التي زينت له أن يكتب خطابًا على لساني ليزعم أنه خطاب كتبته في بغداد إلى ليلاي في الزمالك؟

أرجو أن تعرفي أن هذا المزاح لا يضايقني لأنه لا يفضحني أمام أحد، فكل كاتب يمكن أن تزور باسمه رسائل الحب، إلا زكي مبارك؛ لأن لي أنفاسًا حرارًا يعرف الناس بها أدبي، ولا يستطيع الأستاذ محمد ولا ألف من أمثاله أن يلفقوا على حسابي ما يشتهون.

ولكن لا بأس، فهذا صديق يثق بالسلامة من شر غضبي، ولو كنت في القاهرة لأدبته بيدي، فإن سمعت في الصيف المقبل أنني قتلت رجلًا فسيكون ذلك الأفاك الأثيم.

أما الدكتور سعيد عبده فلا يهمني من أمره غير الاطمئنان على صحته الغالية، فقد رأيته يتوكأ على عصا، والدنيا سخيفة كل السخف حين تسمح بأن يتوكأ الدكتور سعيد عبده على عصا، ذلك الفتى البسام الذي جاد قلمه بأجود الرسائل وأطيب الأقاصيص.

ثم ماذا يا سيدتي؟

ثم تدلينني على منزلك في الزمالك فتقولين: «فإذا سرت يمينًا ثم شمالًا تجد بيتي في مواجهتك ينهض على أعمدة من البلور وتصعد إليه على درجات من المرمر، فإذا سرت في أبهائه فأنت مسحور مأخوذ مبهور الأنفاس».

الله، الله!

هذا صحيح، وإني لأتذكر أني زرتك يا سيدتي في ذلك البيت، ولكني أنكر أني أسير يمينًا ثم شمالًا، فقد كنت أسير إليه شمالًا ثم يمينًا، ولكن قولك أصدق، فقد أكون نسيت لطول العهد، ولكثرة ما يحمل القلب من هموم وأحزان، عافاك الله مما أعاني.

ثم تقولين: «طالما تركت لك يدي لتقبلها، وهذا لم يمنع من أن تأنس روحي إلى روحك».

فأنت تشهدين بأنني قبلت يدك الكريمة وأن روحك أنست بروحي.

فهل تعرفين معنى ذلك؟

معناه يا مولاتي أنني ظفرت منك بطيف من الحنان، وهذا يزيد في وقدة الشوق، فما وردت موردًا من موارد الحب إلا طال وجدي به وشوقي إليه، ولا رشفت ثغرًا إلا بقى عطره في فمي، ولا استروحت ظلًا من ظلال الحسن إلا بقى روحه في فؤادي، ولا رفعت بصري إلى وجه مشرق إلا بقى ضياؤه زادًا شهيًا تقتاته عيناي، ولا لعبت أناملي في الجدائل المعطرة إلا بقيت صورة هذا العبث الظريف مدار أوهامي وأحلامي.

سيدتي

إن خطابك لا يخلو من مزاح.

ولكن هل يؤذيني هذا المزاح؟ وكيف وهو يشهد بأنك كتبت ما كتبت وأنت تبسمين، ولو كانت البسمات مما تدفع فيه كرائم الأموال لبعت عقلي لأشتري لك بسمة أو بسمتين، أنا المحب الصادق الذي يبذل الدمع والدم في سبيل الملاح، وهل أبقى لي الهوى عقلًا يشترى أو يباع؟

سيدتي

كيف أنت الآن؟ ألا يزال وجهك الجميل يشع بذلك النور الوهاج؟ كيف أنت بين وسائد الدمقس والحرير؟ كيف أنت فوق تلك الأريكة التي تختال حين تحوى جسمك الفينان؟

ثم تقولين يا سيدتي إنك ما أعطيت ميعادًا لأحد، وإنك إنما تخرجين وحدك لتنسم الهواء العليل، ولتشرفي على الدنيا الصاخبة من وراء حجاب.

وهو كذلك، ولكن ما رأيك إذا حملني الطيش فقلت إنني قادر على الظفر منك بألف ميعاد وميعاد؟ لا تعجبي يا سيدتي، فسيأتي يوم يشتاق فيه قلبك النبيل إلى صحبة قلب نبيل، سيأتي يوم تعرفين فيه أن شمائلك العالية في ظمأ إلى شمائل عالية، سيأتي يوم تعرفين فيه أن الكبرياء على رجل مثلي لا ترضاه حرائر القلوب.

لقد صرحت بأنك تشتاقين أحيانًا إلى رؤية الدنيا الصاخبة، إن صح ذلك فسيحملك الشوق إلى رؤية قلبي، ففيه يا مولاتي مواكب للأفراح والأحزان، في قلبي يا مولاتي نعيم وجحيم، وفيه وديان وأنهار وبحار وجبال، وفيه الشهد والصاب، والهدى والضلال.

في قلبي يا مولاتي ما يشوق الأعين وما يفزع القلوب، والفرجة على قلبي يدخل إليها الملاح بالمجان، وهو قلب خطر هرب من شره الكرام الكاتبون، فتعالي أنت للتفرج عليه فالمرأة أجرأ من الملائكة وأجرأ من الشياطين!

أما الشاب الظريف الذي تزعمين أنه شفاك فأنا أسمح له بأن يقطف من روضك ما يشاء، لأني أعرف أنه لا يزحزحني عن مكاني، وأفهم أنه في حاجة إلى رعايتي، ويسرني يا مولاتي أن يكتوي بنار الحب كما اكتويت، ليصير فيما بعد من كبار الرجال.

أما غيرتك من المرأة العراقية فسأعود إليها في غير هذا الخطاب، والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤