الفصل السابع والثلاثون

إلى صديق ليلى الباريسية

أخي وغريمي …

كنت أحب أن أسأل من أنت، فقد كان لي في باريس كثير من الغرماء، ولكني عرفتك في لحن القول، كما يعبر القرآن المجيد.

وكيف أنسى الصديق الذي خشى أن أسرق معشوقته في باريس فانتقل إلى ضاحية بعيدة لينجو بها مني، وكان مع ذلك يدعوني للعشاء من وقت إلى وقت ليذوق حلاوة العيش، فقد كانت تلك المعشوقة تبالغ في التعطف عليه حين تراني، فتمسح جبينه وتسوي شعره برفق وحنان، والله يعلم ما كانت تصنع بعد أن أنصرف فلعلها كانت تتجنى عليه لحسنها في الصدود.

إن هذا الغريم يعرف أننا كنا قسمنا الحي اللاتيني إلى مناطق صيد، ويعرف أيضًا أني لم أكن من أهل الفجور وإنما كنت أتخذ الحب مادة نفيسة أغذي بها الأدب والبيان.

وكتاب «ذكريات باريس» والطبعة الثانية من كتاب «البدائع» يشهدان بصدق ما أقول، ففي هذين الكتابين ثروة فلسفية وروحية تصور كيف عطرت الأدب بأنفاس الحياة، وأنت نفسك تشهد — والله يحفظك ويرعاك — بأني كنت في أدبي من الصادقين.

ولكن هل تسمح بأن أذكرك بقول الشاعر:

وما سمى الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب؟

فلو لم تكن ممن ينسون — لأنك إنسان — لتذكرت أنه ما كان يجب أن تداعبني في هذه الأيام، فهي عندي أيام حداد، حداد أسود مظلم فتاك: لأني فقدت غريمًا من غرمائي في باريس، فقدت غريمًا كان أرق من الزهر، وأكثر إشراقًا من الصباح، وكان هذا الغريم صديقًا عزيزًا ثم حملني سوء الأدب وسوء الطالع على أن أسرق معشوقته في باريس؛ فبلغ به الحقد كل مبلغ وذهب به الغضب كل مذهب؛ فدبر مؤامرة لاغتيالي في باريس، ولعل وجه العجب عند ذلك الغريم أنه كان من النوادر في عالم الشباب والجمال وأنه كان يملك من الثروة ما يستطيع به اشتراء بلد جميل مثل سنتريس.

كان وجه العجب أن أسرق معشوقته وأنا فقير دميم، وهو غني وسيم.

أما المؤامرة التي دبرها لاغتيالي فهي الشاهد على ما كان عنده من ذكاء رائع.

كان هذا الغريم — أسكنه الله فراديس الجنان — ينوي قتلي في صبيحة اليوم الذي أؤدي فيه امتحان الدكتوراه بالسوربون.

ولكن (عمر الشقي بقي) كما يعبر المثل المصري، فقد وصلت أخبار المؤامرة إلى اثنين من أصدقائي هما الأستاذ محمد حلمي والأستاذ محمد عبد الحميد مندور فطافا بأعضاء بعثة الجامعة المصرية وتحدثا إليهم بما يجب من حراستي يوم الامتحان.

وفي صبيحة ذلك اليوم حضر عشرة من أصدقائي ومعهم عصيهم ومسدساتهم، حضروا إلى بيتي لأخرج في حمايتهم، وقد ساءني ذلك، وحاولت منعهم من صحبتي فلم أفلح، ثم علمت مع الأسف أن مدير البعثة المصرية في باريس وصلت إليه أخبار تلك المؤامرة فجشم نفسه حضور امتحاني، وكان امتحانًا قاسيًا دام ثلاث ساعات ولم يشأ ذلك المدير أن يخرج قبل أن يطمئن على نجاتي من شر الاغتيال.

وكان في باريس معرض دولي هائل ستفتح بعد أسبوع واحد فحرمت منه نفسي، ولم أقم في باريس بعد امتحان الدكتوراه غير ليلة واحدة قضيتها في حماية الأمناء من أصدقائي.

وبعد عامين من ذلك التاريخ عاد غريمي إلى مصر، عاد وهو يضمر ما يضمر من الحقد، وهاله أن يعجز وهو في مصر عما كان يقدر عليه وهو في باريس، والأمن في القاهرة أضمن من الأمن في باريس.

فهل يعرف ذلك الغريم وهو في قبره أنني سكبت عليه الدمع في بغداد؟

لقد كان — رحمه الله — صورة من النسيم المطلول، وكانت له أنغام عذبة يجود بها لسانه وهو يتحدث، وكان له قوام رشيق هو الشاهد على براعة مصر في صياغة الجمال، لقد مات غريمي قبل أن أموت؛ لأن الأعمار بيد الله لا بيد الناس.

مات غريمي وهو يظن أنني ألأم من عرف، ولعل روحه رأت بكائي عليه فشهدت بأنني أكرم من عرف.

رحمك الله يا إبراهيم وطيب مثواك.

رحمك الله يا إبراهيم فقد نبعت من أرومة هي مثال الذوق والإحساس.

رحمك الله يا إبراهيم وعزى أهلك، فإن الذين أصيبوا بثكلك خليقون أن يبكوا عليك طول الحياة.

رحمك الله يا إبراهيم ورحم نصيبي من ودادك، فلولا ما جنيت من سوء الأدب معك لكان لي في رعايتك أيام وليال أطيب من العافية وأنضر من الشباب.

يا إبراهيم

لا تجزع لفراق الدنيا، فأكثر من فيها لهم أخلاق مثل أخلاقي، أنا الصديق الذي أضعت حظي منك في سبيل فتاة لعلها عرفت بعدي وبعدك مئات الشبان.

إبراهيم

أنا محزون عليك، أنا حافظ للعهد، أنا آسف على ضياع الفرصة التي كانت تشفي صدرك باغتيالي يوم أداء امتحان الدكتوراه بالسوربون، ولك فضل عليّ لن أنساه، فقد حببتني في وطني لأن أولئك الأصدقاء العشرة الذين حموني من شرك بعصيهم ومسدساتهم أقنعوني بأن الشهامة المصرية لم تضع ولن تضيع.

إبراهيم

هل تغفر لي ذنبي وقد غفرت لك ذنبك؟

لقد دامت عداوتنا سبع سنين، فإن عشت بعد اليوم سبع سنين فسأقضيها في حفظ عهدك، إن لم أقضها في البكاء عليك.

إبراهيم

إن الموت الذي عصف بشبابك لظلوم، وإن الرجل الذي يبكي عليك وأنت عدوه لرجل كريم، فهل تعرف أن ما وقع بيني وبينك لم يكن إلا نزوة شباب يغفرها العقلاء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤