الفصل الثامن والثلاثون

خطبة المؤلف في تحية من كرموه بالنجف

أيها السادة

أبدأ كلمتي بالتحية الإسلامية التي يحرص عليها علماء النجف فأقول: السلام عليكم.

ثم أعتذر عن نفسي، فأنا أرتجل هذا الخطاب، والارتجال غير مأمون العواقب، وقد أطال خطباؤكم وشعراؤكم في الثناء عليّ، وهنا وجه الخطر، فلا بد من كلمة تشعر هذا الجمهور بأني خطيب، وأن من كرموني كانوا في حسن ظنهم صادقين، على أني سأعرف كيف أنقلكم إلى جو آخر يصرفكم عني، ويشغلكم بأنفسكم، وهذا الجو هو محادثة الشبان بواجب طالب العلم في النجف، فقد قرأت في مجلة الحضارة كلمات يراد بها التشكيك في قيمة الأنظمة القديمة، وهو تشكيك أوحاه الروح السائد في العصر الحديث.

ويهمني أن أحارب هذا التشكيك في مدينة النجف، فقد اتفق لي أن أحارب المناهج الأزهرية زمنًا غير قليل، ولذلك شواهد ترونها في كتاب «البدائع» ثم علمتني الأيام أني كنت من المخطئين.

علمتني الأيام أن طلبة الأزهر سرقوا كلمة «المستقبل» من طلبة المدارس، وأخشى أن يقع هذا لطلبة العلم بالنجف.

علمتني الأيام أنه لا بد لنا من رجال يعيشون للعلم وحده فلا يكون لهم مستقبل ولا معاش، ولا يكون لهم مصير غير الفناء في خدمة الحق.

وبفضل هؤلاء الزاهدين كان للنجف تاريخ، وكان للأزهر تاريخ، ولو شئت لضربت المثل بنفسي، فأخوكم الدكتور زكي مبارك هو في الأصل شيخ أزهري كانت له عمامة أضخم من عمامة الشيخ اليعقوبي، ثم سما به الإخلاص حتى وجد من يقيم له حفلات التكريم في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد والنجف، وحتى أنشئت في الثناء عليه عشرات الخطب والرسائل والقصائد، وحتى نشرت عنه رسالة باللغة الهولندية وتحدث عنه العلماء في المشرقين والمغربين.

وقد درست نفسي حق الدرس، فرأيت ذلك كله نعمة إلهية هي جزاء الإخلاص، فقد كنت أيها السادة طالب علم يتوكل على الله، وكان يضايقني أن أجد من يسألني عن مستقبلي، وأنا إلى اليوم لا أعرف مستقبلي، وإن كنت سمعت أني رجل له في مصر والعراق مكان مرموق.

وحفلات التكريم التي ظفرت بها مرات كثيرة من رجال في مثل كرمكم وإخلاصكم لا تنسيني أعظم كرامة رأيتها في حياتي، وهي كرامة وقعت في لحظة من لحظات البؤس يوم كنت طالبًا في الأزهر الشريف، فقد كنت في ذلك العهد أحفظ زادي في المحفظة، محفظة الكتب، وكان زادي في كل يوم رغيفًا جافًا يابسًا متجهم الملامح، واتفق مرة أن ضاق الوقت فدخلت عند أحد الفوالين لأغمس ذلك الرغيف في مرق الفول النابت، فهرست الرغيف بين راحتي مسرعًا، ثم نظرت فرأيت يدي تفيضان بالدم القاني، دم الشاب المسكين الذي يريد أن ينتهب الوقت ليحضر درس التوحيد بعد المغرب.

ولكن الله عز شأنه رفع ذلك الشاب المسكين فنقله من الأزهر إلى الجامعة المصرية، ومن الجامعة المصرية إلى جامعة باريس، وجعله من كبار المؤلفين، وكتب له أن يكون في الطبقة الأولى بين كتاب اللغة العربية، لغة القرآن.

فأستحلفكم بالله ألا تذكِّروا طلبة العلم بالنجف بحاضرهم ومستقبلهم فتكدروا عليهم نعمة الفناء في خدمة اللغة والدين.

أرجو أن تذكروا دائمًا أن الفقراء أحباب الله، وأن الأنس بالكتاب الجيد أنضر وأشرف من الأنس بالقصر المنيف.

أرجو أن تأخذوا العبرة من موقع مدينة النجف، فهي في الواقع مدينة صحراوية، وكان لها مع ذلك شأن في حياة اللغة والدين.

أرجو أن تذكروا أن النعيم الحق هو نعيم النفس، وأن الربيع الحق هو ربيع القلب. أرجو أن تذكروا أن أسلافكم لم يكن لهم مستقبل إلا في الفردوس.

وما أوصيكم يا شبان النجف إلا بما أوصيت به نفسي، وسأعيش ما أعيش ثم أموت وليس لي ذخيرة في غير عالم المعاني.

•••

وأنتقل إلى الكلام على كتاب (عبقرية الشريف الرضي) وقد عده خطباؤكم وشعراؤكم من حسناتي.

وأقول بصراحة إن هذه نعمة من نعم الإخلاص، وإلا فمن هو الدكتور زكي مبارك حتى يكون من حظه أن يقال إنه أعظم مؤرخ للشريف الرضي، وتلك كلمة قالها رجل نبيل لا تنفرج شفتاه عن لفظة إلا بعد أن يديرها في قلبه عدة أسابيع، هي كلمة معالي الأستاذ الجليل محمد رضا الشبيبي الذي أتذكر به حين أراه مقام الوزير العظيم أبي الفضل بن العميد.

من أنا وما شأني حتى أكون أعظم مؤرخ للشريف الرضي؟

هي نعمة أقدم شكرها لله بدمعي ودمي.

وقد تمت هذه النعمة على أجمل وجه، فكتاب (عبقرية الشريف الرضي) هو أسلوب من البحث لم يسبق له مثال، وسيكون باعثًا على نهضة شعرية ستعرفون خطرها بعد حين.

ولكن لا بد من تذكيركم بقيمة الشريف الرضي، وهذا التذكير قد يؤذيني، لأنه سيدعو المئات والألوف والملايين إلى منافستي، وأنا أرحب بذلك، وأقول إن صحبتي للشريف الرضي كانت السبب في أن يقوي روحي فأكتب نحو خمسة آلاف صفحة في أشهر معدودات بحيث شغلت جرائد مصر ولبنان والعراق، وأرجو أن يدوم هذا النشاط فيما بقى من حياتي.

كنت أشرع في قراءة قصيدة من شعر الشريف فأحس نفسي تستفحل وتستأسد فأعود إلى موضوع آخر فأصوغه أجمل صوغ، وكذلك نظمت خمسة مجلدات في زمن قليل.

وبهذه المناسبة أذكر كتاب (نهج البلاغة) وهو كتاب حامت حوله شبهات، وناضلت في سبيله جماعة من المستشرقين يوم كنت في باريس، وتجدون شواهد ذلك في كتاب (النثر الفني) وكانت حجتي أن التشكيك في نهج البلاغة نشأ في بيئات أموية كان يسوؤها أن يشتم معاوية على لسان علي بن أبي طالب، ويسرها أن يكون ذلك الشتم مخترعًا، فلما طالت صحبتي للشريف في هذا العام تأكدت أن الشريف الرضي أعظم نفسًا وروحًا وقلبًا من أن يكذب، ولو جاز الكذب على الشريف الرضي لجاز الكذب على جميع الناس، وكان من واجبنا أن نعتقد أن التاريخ ضلال في ضلال.

والذين اطلعوا على (عبقرية الشريف الرضي) يرون أن ذلك الرجل عاش في دنياه بلا صديق، ولو أنه كان اخترع كتاب «نهج البلاغة» لزلزلت الأرض تحت قدميه، ولكان أخوه نفسه أول من يذيع عنه الأراجيف.

عاش الشريف في بلية من غدر الأهل والأصدقاء، ومن كان في مثل تلك الحال لا يجد من يستر عيبه حين يزور كتابًا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

فأريحوا قلوبكم من التفكير في هذه المسألة فهي ليست من المعضلات.

إن كتاب «نهج البلاغة» أعظم ثروة في اللغة العربية فإن كان الشريف اخترعه اختراعًا فأهلًا وسهلًا، وهو إذن شاهد جديد على تلك العبقرية.

ولكني مع الأسف غير مستعد لتصديق ذلك الاتهام الظريف، فقد صح عندي أن الشريف كان اتخذ الشعر أداة للتعبير عما في نفسه من الصور والمعاني.

وستدور الدنيا ثم تدور ويعرف الناس أن الشريف كان أعظم مما يظنون، وقد عجب ناس من أن أهتم بالشريف الرضي، فليعجبوا كيف شاءوا، فنحن لا نترك العناية بأسلافنا مراعاة للحوادث اليومية، وقد شاء الله أن يقرن اسمي بالشريف الرضي، وسأحتمل في سبيل هذه الصحبة الشريفة جميع المصاعب والأرزاء.

وإقتران اسمي باسم الشريف هو نعمة لا أستحقها، ولكن الله أراد ذلك، فإليه أوجه أصدق آيات الشكر والثناء.

أيها السادة

تحدث خطباؤكم وشعراؤكم عن غرامي بالعيون السود.

وأعترف بأني مفتون بالعيون السود والعيون الخضر والعيون الزرق، أنا أيها السادة تلميذ الشريف الرضي، وهو رحمه الله تغزل بالعيون السود وهو في مكة، فكيف يفوتني التغزل بالعيون السود وأنا في النجف؟

إن لي قصيدة همزية هي أعظم ما نظمت، وهي تقع في أكثر من مائة بيت وفيها هذان البيتان:

خذوني إليكم يا رفاقي فإنني
أحاذر في بغداد حتفي وإصمائي
أخاف العيون السود فليرحم الهوى
فجيعة أهلي يوم أقضي وأبنائي

وقد أنشدت هذه القصيدة في نادي القلم العراقي برياسة معالي وزير المعارف، فهل تظنون أني أتهيب إعلان هيامي بالعيون السود بعد أن صرحت بهذه اللوعة في حضرة ذلك الوزير الجليل؟

قولوا ما شئتم: فأنا من كبار المفتونين بالحق والخير والجمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤