الفصل التاسع والثلاثون

أول الحرب كلام

أخي

أنت سمعت وقرأت أني لا أحب الاشتباك في معارك قلمية بالجرائد العراقية، وما كان ذلك خوفًا من وهج الحرب، وإنما كان ذلك لأن رؤسائي في مصر تمنوا أن تكون أيامي في العراق سلامًا في سلام، وقد حفظت العهد حتى خشيت على نفسي مصير المتنبي حين تعقب طبيبه فقال:

وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام

ولعلي أسأت بعض الإساءة في حفظ ذلك العهد، ففي العراق صحفيون نبلاء شاء لهم الكرم واللطف أن يثنوا على أدبي، فحبست نفسي عن الرد عليهم مراعاة لذلك العهد.

واليوم أراني مضطرًا إلى الرد عليك، لا دفاعًا عن نفسي، ولكن دفاعًا عن العراق.

أنا لا أدافع عن نفسي، أيها الصديق، لأن دعابتك لم يقع فيها ما يؤذيني من وجهة شخصية، وإنما وقع فيها ما يؤذيني من وجهة قومية.

وإليك البيان:

أنت أردت أن تفهم قراءك أن الفطنة تنقصني، والفطنة هي العنصر الأول من عناصر القوة في الأديب.

وكانت الفطنة تعوزني لأني اقترحت عدة مقترحات منها:
  • (١)

    إنشاء جائزة النحو بالبصرة.

  • (٢)

    إنشاء جائزة الصحافة للوراقين.

  • (٣)

    إنشاء الجامعة العراقية.

تلك مقترحاتي، وهي جنايتي عندك، أيها الصديق.

فهل لي أن أسألك ما الذي كنت تنتظر من الدكتور زكي مبارك حين يتشرف بخدمة العراق؟ أكنت تنتظر أن أكون مدرسًا لا يعرف غير إلقاء الدروس وتصحيح الكراريس؟ إن كان ذلك ما كنت تنتظر فاسمح لي أن أنشدك قول ابن الفارض:

إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي

فأنا يا صديقي رجل يحملني الفتون على الظن بأن لي من حياتي غاية غير الغرض الضيق الذي يحبسني بين التلاميذ والكراريس، وقد حملني هذا الفتون على الظن بأن الحكومة العراقية لم تدعني لأكل بفضلها العيش، وإنما دعتني لما تعرف من عواطفي النبيلة نحو العراق، والعراق لا يخدمه رجل في مثل كسلك ويأسك، وإنما يخدمه رجل في مثل نشاطي وإيماني، وسأخدم العراق بعد فراق العراق، سأخدمه وأنا بعيد، وأخشى أن تخذله وأنت قريب.

ولا تؤاخذني في هذه الحدة، فأنا أريد أن أكسبك للعراق، فعندك وعند أمثالك عواطف غافيات أحب أن أوقظها لخدمة العراق.

فإن كان يسيئك أن أتعصب للعراق هذا التعصب، فأنا أدعوك إلى أن تتعصب لمصر مثل هذا التعصب، فالأمة العربية — ولا أقول الأمم العربية لئلا يغضب سعادة الأستاذ ساطع الحصري — الأمة العربية في شوق إلى أن يعطف بعض أعضائها على بعض.

ما الذي يضرك أيها الصديق من إسرافي في المقترحات لخدمة العراق؟

أحب أن أعرف ما الذي يضرك وأنا لا أجرح بمقترحاتي أحدًا من الناس؟

اسمع أيها اليائس!

أنا اقترحت جائزة النحو في البصرة.

فمن أي الأحجار صيغ قلبك لتنكر جائزة النحو في البصرة؟

هل يصعب على الحكومة العراقية أن ترصد ثلاثين دينارًا في كل سنة للمتفوقين في النحو من شبان البصرة؟

من العجيب والله ألا يكون في البصرة نحويون متفوقون، وباسم البصرة أكل النحويون الخبز في مختلف الأقطار العربية!

من العجيب والله أن يكون أعظم شارح لكتاب «الكامل» للمبرد رجل مصري هو أستاذي وصاحب الفضل على عقلي وأدبي، الأستاذ سيد بن علي المرصفي!

من العجيب والله أن يطبع كتاب «الكامل» في أوروبا، ولا يطبع في البصرة!

من العجيب والله أن تطبع مؤلفات الجاحظ في مصر قبل أن تطبع في البصرة!

من العجيب والله أن يستغرب رجل مثلك أن تقام للنحو جائزة في البصرة!

اتق الله يا رجل واعترف بالحق.

اسمع أيها اليائس!

أنت تستكثر جائزة الصحافة للورّاقين.

فهل لك أن تدلني ما هي مهمة الصحافة في العراق؟

أتكون مهمة الصحافة نشر الأخبار والقصائد والأقاصيص؟

إن الذي وجهني إلى هذا الاعتراض هو ما عانيته مع تلاميذي، فقد كنت أفرض عليهم واجبات يعجزون عن أدائها؛ لأن المصادر غير موجودة في مكتبات العراق.

هل تصدق أن تلاميذي لم يجدوا ديوان ابن خفاجة في أسواق بغداد؟

هل تصدق أن أكثر المؤلفات الحديثة لا تعرفها مكتبات بغداد؟

هل تصدق أن أعمالي مع تلاميذي تعطل في أحيان كثيرة بسبب قلة المراجع؟

كان في مقدوري أن أجعل «جائزة الوراقين» من عمل الحكومة، ثم رأيت أن أكلها إلى همتكم؛ لأن الحكومات لا تقوم بجميع الواجبات إلا في الأمم الضعيفة، والشعب العراقي ليس شعبًا ضعيفًا وإن ضعفت أنت.

وجائزة الوراقين لن تكلفكم شيئًا، أعني أنها لا تكلفكم مالًا، ويكفي أن يكون فيكم خمسة أو سبعة يراقبون النشر والتوزيع ثم يقيمون حفلة بسيطة يعلنون فيها اسم الفائز بجائزة الوراقين.

اسمع أيها اليائس!

هل يدهشك أن أقترح إنشاء جامعة عراقية؟

هذا فيما يظهر أعظم ما اقترحت، وفي كلامك ما يشير إلى أني أخطأت، والخطأ في هذه المرة أقبح، لأنه متصل بمشروع هائل تنوء به الجبال.

أعترف بأني أخطأت حين اقترحت إنشاء جامعة عراقية، ولكن يعزيني أن هذا الخطأ الفظيع وجد من يشاطرني حمل أوزاره الثقال.

فقد وجدت ناسًا لا يقلون عني رعونة وطيشًا، أقسم لك إنني وجدت ناسًا يستصوبون هذا الخطأ الشنيع، فليذهبوا معي إلى جهنم إن كنت من المخطئين.

أنا أذكر أيها الرجل الفطن العاقل أن جميع الجرائد العراقية زكتني وأيدتني حين دعوت أول مرة إلى هذا المشروع الجليل.

وأنا أذكر أيها الرجل الفطن العاقل أن فريقًا من الأدباء استحثني للمضي في الدعوة إلى هذه الفكرة، وكان ذلك فيما أذكر على صفحات البلاد والهدف والحاصد والزمان والاعتدال والعقاب.

والذين تحلو لهم مداعبتي في بعض الجرائد والمجلات لم يقولوا إني أخطأت حين دعوت إلى إنشاء جامعة عراقية.

فكيف كنت عندك وحدك رجلًا غبيًا؟

أيها الرجل الفطن العاقل اسمع ثم اسمع،

إن العراق يعتز بأن عنده قوة برية وقوة جوية.

وأنا أدعوه إلى أن يعتز إلى جانب هاتين القوتين بقوة علمية، وهذه القوة تحتاج إلى ثكنات، هي الكليات، كليات الجامعة العراقية التي أراها رأى العين، وإن أنكرها خيالك الوثاب.

أيها الرجل الفطن العاقل

أنا أحب أن أكسبك وأكسب مليونًا من أمثالك لخدمة العراق.

فهل تراني أفلح؟

هل تراني أفلح في اجتذابك لإنشاء خمسين مقالة في الدعوة للجامعة العراقية؟

هل تراني أفلح في دعوة الشعب العراقي إلى الصوم يومًا واحدًا لتكون أثمان طعامه في يوم واحد كافية لإنشاء جامعة تنافس الجامعة المصرية؟

أنا أنتظر اليوم الذي يتحقق فيه التعاون العلمي بين مصر والعراق.

أنا أنتظر اليوم الذي تصنعون فيه بدجلة والفرات ما صنعنا بالنيل.

وهل أتاك حديث النيل؟

إن النيل لا يصل إلى البحر إلا وهو أوشال بفضل ما أقمنا عليه من القناطر والخزانات.

أما دجلة والفرات فيذهبان لمصافحة البحر بلا رقيب ولا حسيب.

اسمع أيها الفطن العاقل

لقد حضرت حفلة توزيع الجوائز بكلية الحقوق، وسمعت الخطبة الفصيحة التي ألقاها أحد المتخرجين، الخطبة التي قرر فيها أن مصر حين تخدم العراق من الوجهة التشريعية إنما تؤدي دينًا قديمًا: هو الفقه الذي نقله الشافعي، وكان رحل إليها بعد التفقه بالعراق.

إن هذه الكلمة أثارت أشجاني، فقد تذكرت أننا فرطنا في ماضينا العلمي والأدبي، وتناسينا ربط الحديث بالقديم.

ولك أن تذكر أن فقه الشافعي الذي تعرق ثم تمصر لا يجد من رجال القانون عندنا أو عندكم من يعرف الفروق بين مذهبه القديم ومذهبه الجديد.

وأغلب الظن أن كتاب «الأم» الذي ألفه البويطي في فقه الشافعي لا يوجد بمكتبة الحقوق في بغداد، وإن كانت تلك المكتبة تعرف طوائف من المؤلفات في الفقه الروماني.

أيها الصديق

احذر أن تنخدع بالظواهر فتظن أن التعاون العلمي قائم حقيقة بين مصر والعراق، قد نكون صنعنا شيئًا، ولكن هذا الشيء لا يزيد عن حفر الأساس، إنما يتم التعاون العلمي بين مصر والعراق يوم نعرف تبادل الأساتذة وتبادل الطلاب، كما يفعل الفرنسيس والإنجليز والألمان، ويومئذ تتأصل المودة الحقيقية التي لا تزعزعها كلمة وشاية أو كلمة بهتان.

وهذه الآمال قد يعجز عن تحقيقها مصري مثلي، أو عراقي مثلك فهذه آمال لا ينهض بتحقيقها غير رجال لهم صبر الأنبياء.

أما بعد، فأنا أومن بأن الأمم العربية، أو الأمة العربية، شبعت من النضال السياسي وهو في أغلب أحواله نضال أثيم، فلم يبق إلا النضال الأشرف، وهو النضال العلمي والأدبي.

أنت تعرف أيها الأخ أننا لم نعرف البطولة في غير الميادين السياسية، وهي بطولة محترمة، فمن حق من أوذى في سبيل الوطن أن يقول إنه من رجال التضحية، وأن يطلب من المناصب ما يشاء، ولكن يبدو لي أن الوقت حان للبطولة العلمية والأدبية.

حان الوقت الذي نحرر فيه بلادنا من السيطرة الأوربية في العلوم والآداب والفنون، وما أدعو إلى غض أبصارنا عما في أوربا من آثار العقول، فهذا كلام لا يقوله رجل متخرج في السوربون.

وإنما يجب أن نروض أبناءنا على الشعور بأن لهم أدبًا وعلمًا وفنًا، يجب أن نروض أبناءنا على الشعور بأن لنا عقولًا وأذواقًا وأحاسيس.

يجب أن يفهم أبناؤنا أننا صالحون لبناء مجدنا الأدبي والعلمي بأيدينا.

يجب أن يكون مفهومًا أن العرب صلحوا مرة للأستاذية العالمية نحو ثلاثة قرون.

يجب أن يكون مفهومًا أن اتخاذ اللغات الأجنبية لغات تدريس في المعاهد والكليات هو اعتراف خطر بأن لغتنا فقيرة وأننا فقراء، وقد حاربت هذه النزعة في مصر وأنا اليوم أحاربها في العراق.

أيها الصديق

تلك كلمتي إليك، وما يهمني أن أنتصر عليك.

وإنما يهمني أن تفكر في الموضوعات التي طفت بها طوافًا في هذا المقال، وأن تحاول بقلمك أن تخلق لها أنصارًا من أهل الأدب والبيان.

لقد لقيتك وفي يدي سيف وأنا أعرف أنك ستلقاني وفي يدك غصن من الزيتون.

وسبحان من لو شاء لهدانا جميعًا إلى سواء السبيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤