الفصل السادس والأربعون

كيف رأيت الرصافي

كانت شواغلي في دنياي أضاعت عليّ كثيرًا من الفرص النوادر، فأنا لم أر إسماعيل صبري شاعر الحب والوجدان، وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، وأنا لم أر الموسيقار سيد درويش وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، والشاعر جميل الزهاوي زار مصر، وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، وأنا لم أر الكاتب الشاعر محمد السباعي مع شوقه الشديد إلى أن يراني، ولما كثر سؤاله عني ذهبت إلى جريدة البلاغ لأخذ عنوانه فنعوه إليّ في ذلك اليوم، وكانت فجيعة طار لها صوابي.

ولما قدمت بغداد كنت أنتظر أن يبدأ الرصافي بزيارتي، ولكنه لم يفعل، ثم علمت أنه لا يقيم في بغداد، وإنما يقيم في الفلوجة، وهي قرية على شاطئ الفرات.

وتحدث المتحدثون بأنه عليل فرأيت من الذوق أن أبدأ أنا بالسؤال عنه، وتفضل الصديق الكريم السيد ثابت عبد النور فصحبني إلى الفلوجة مع رفيقين كريمين، ورأينا أن تكون الزيارة فجائية حتى لا يتكلف الرصافي نحر الذبائح على الطريقة العربية.

دخلنا على الشاعر وهو شيخ جليل يقارب الخامسة والستين، وكان في أعقاب علة أقام من أجلها أشهرًا يستشفي في لبنان، فالتفت إلى السيد ثابت عبد النور، وقال: كيف جئتم على غير ميعاد؟ أما تعرف أنه كان يجب أن نحتفل بقدوم الدكتور زكي مبارك إلى الفلوجة؟ فقال السيد ثابت: نحن ما جئنا لزيارتك، وإنما جئنا لمشاهدة مطار «سن الذبان» ورأينا الفرصة سانحة للتسليم عليك.

وكانت حيلة طريفة هربنا بها من كرم الرصافي.

وبدأ الشاعر فتحدث عن المازني، المازني العظيم، فأنشدنا أبياتًا قالها فيه، وهو يشبه أدبه بشراب التوت، وما أدري ما شراب التوت، ولكن هكذا قال.

ثم أمر الشاعر فتاه بأن يحضر كتابه عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وألح الشاعر في أن ألقي نظرة على ذلك الكتاب، وهو مخطوط في عشرة كراريس، وكنت قضيت ساعة في هدوء، فلما وقع بصري على بعض فقرات الكتاب ثرت ثورة عنيفة، وانطلقت أجادله بلا ترفق ولا تلطف.

وقابل الشاعر ثورتي بأدب رائع دلني على أنه من أقطاب العقل، ثم قال: انتظر فسنلتقي بعد عشرة أيام في بغداد.

وكان معنى ذلك أنه سيفارق الفلوجة يوم ينتخب عضوًا في مجلس النواب.

•••

وبعد أيام أقام لي أفاضل الأدباء في بغداد حفلة تكريم، وفي طريقي إلى مكان الحفلة اشتريت جريدة الاستقلال فرأيت في صدرها قصيدة رائعة أراد بها الرصافي أن يسبق أهل بغداد إلى تكريمي، وكذلك يكون الذوق في إكرام الضيف.

ولم يقف الرجل عند هذا الحد؛ بل تجشم الانتقال إلى كلية الحقوق ليسمع إحدى محاضراتي، ثم جاء للسؤال عني في منزلي مرتين، وعرض عليّ أن أقرأ كتابه عن الرسول وأدون ما أشاء من الملاحظات، فاعتذرت بضيق الوقت، وبالغ في اللطف فدعاني إلى التشرف بزيارته كلما شئت، ولكن شواغلي حرمتني من لطفه فلم أزره في منزله غير ثلاث مرات، ثم يئس من وفائي فلم يعد يسأل عني.

فمن هو الرصافي؟

هو مجموعة طريفة من العقل والأدب والذوق والذكاء.

هو صورة صادقة للروح البغدادي، الروح المرح الطروب.

هو عنوان الرجولة الصريحة التي تمقت الكذب والرياء.

هو بالتأكيد من أثمن ذخائر العراق.

والعراقيون يعزون شاعرهم كل الاعزاز، ولما قدم لسماع محاضرتي بكلية الحقوق قابله الجمهور بتصفيق الإعجاب، ويكفي أن يكون سعادة الأستاذ طه الراوي من رواة شعر الرصافي، وطه الراوي إمام من أئمة اللغة العربية، أعزه الله ورعاه.

وللرصافي ديوان يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير، ولكن أي ديوان؟ هو جذوات من الفكر والمنطق والوجدان، وسيعيش هذا الديوان على التاريخ.

•••

والرصافي متبرم بالعراق، وهذا كل ما عنده من ضلال، وقد أملاني هذين البيتين:

قد كان لي وطن أبكى لنكبته
واليوم لا وطن عندي ولا سكن
ولا أري في بلاد كنت أسكنها
إلا حثالة ناس قاءها الزمن

وقد اتفق له أن يقول منذ أعوام طوال:

عتبت على بغداد عتب مودع
أمضته فيها الحادثات قراعا
أضاعتني الأيام فيها ولو درت
لعز عليها أن أكون مضاعا
لقد أرضعتني كل خسف وإنني
لأشكرها أن لم تتم رضاعا
وما أنا بالجاني عليها وإنما
نهضت خصاما دونها ودفاعا
وأعملت أقلامي بها عربية
فلم تبد إصغاء لها وسماعا

وأن يقول:

ويل لبغداد مما سوف تذكره
عني وعنها الليالي في الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعها
على جوانب واد ليس يسقيني
أفي المروءة أن يعتز جاهلها
وأن أكون بها في قبضة الهون
وأن يعيش بها الطرطور ذا شمم
وأن أسام بعيشي جدع عرنيني١

وأن يقول:

إلى كم أستغيث فلا مغيث
وأدعو من أراه فلا يجيب
أقمت ببلدة ملئت حقودًا
عليّ فكل ما فيها مريب
أمر فتنظر الأبصار شزرًا
إليّ كأنما قد مر ذيب
وكم من أوجه تبدي ابتسامًا
وفي طي ابتسامتها قطوب
سكنت الخان في بلدي كأني
أخو سفر تقاذفه الدروب
وعشت معيشة الغرباء فيه
لأني اليوم في وطني غريب

والرصافي شاعر يسخر من أوهام الناس وهو الذي يقول:

لقد خامرتني في الزمان وأهله
شكوك عليها يعذر المنزندق
أرى الدهر في أمرين يعمل دائبًا
صناع اليدين فيهما يتأنق
يجدد للموتى مناقب لم تكن
لديهم وللأحياء يبلى ويخلق
فكم من قبور عظم الناس أهلها
بما لم يكن عند النهي يتحقق
ورب امرئ قد عاش يستقطر الثنا
فلما قضى سال الثنا يتدفق
فما كتب التاريخ في كل ما روت
لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
وما صدقتنا في الحقائق أعين
فكيف إذن فيهن يصدق مهرق٢

وديوان الرصافي على عظمته ليس كل شعر الرصافي، فله شاعرية لم يحوها الديوان، هي ذلك الروح الطروب الذي يهزأ من أحداث الزمان.

والرصافي مؤلفًا غير معروف، ولكن كتابه عن النبي محمد كتاب هائل جدًا، وترجع أهميته إلى ما فيه من نقد الأخبار والأحاديث وقد لا تتسع الصدور لظهور هذا الكتاب، وهذا هو الشاهد على أن أسلافنا كانوا أوسع صدرًا وأعلى مقامًا.

أما بعد، فما كتبت هذه الكلمة لأفي الرصافي حقه من الثناء، فذلك يحتاج إلى مؤلف ضخم تحدد به نواحي هذه العبقرية.

ما هذا بحثًا مفصلًا عن الرصافي، وإنما هي كلمة موجزة أردت أن أشرف بها نفسي فأقول إني زرت بغداد ورأيت الرصافي، ولعلها تكون كفارة عن تقصيري في مودة هذا الشيخ الجليل، وأقسم ما انصرفت عن مودته طائعًا، وإنما صرفني عن مودته ما ألقاه القدر على كاهلي من أعباء وتكاليف.

١  العرنين — بكسر العين — هو الأنف.
٢  المهرق: هو الصحيفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤